المسرحيان عبدالعزيز السريع وسليمان البسام

المسرحيان عبدالعزيز السريع وسليمان البسام

فقدنا خيوط المشروع الوطني المسرحي منذ سنين

تمر هذا العام؛ 2012، تسعون سنة على تقديم العرض المسرحي الأول للجمهور الكويتي، حيث قدّم الشيخ عبدالعزيز الرشيد، وبمناسبة مرور عام على افتتاح المدرسة الأحمدية بالكويت، وأمام حشدٍ من طلاب المدرسة وأهاليهم، نصًّا حواريًّا كتبه الرشيد خصيصًا ليقدم على الساحة التي أصبحت خشبة مسرح، مثلما أصبح ذلك التاريخ ميلادًا جديدًا لفن جديد.

بعد تسعة عقود، مرّت هنا أجيال كويتية وعربية، فأبدعت، وصنعت مسرحًا وطنيًا وخليجيًّا وقوميًّا متميزًا، دعا رئيس التحرير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري شاهدين على هذه المسيرة، الكاتب المسرحي الرائد عبدالعزيز السريع، والمخرج المسرحي الواعد سليمان البسام، اللذين يمثلان جيلين ساهما في تلك المسيرة الناضجة، وكان هذا الحوار في جلسة حميمية شهدها من قسم التحرير أشرف أبواليزيد وإبراهيم فرغلي.

  • عبدالعزيز السريع:

في البداية يهمني التعبير عن سروري بالحضور إلى هذا البيت.. بيت العربي.. وبأن أكون إلى جوار المسرحيّ الموهوب سليمان البسام.. وفي تقديري أن المسرح بدأ في الكويت مثلما حدث في سائر البلاد العربية.. في المدارس.. وبدأ وهو يحمل مشعل التنوير..

كانت البداية في حوارية عبدالعزيز الرشيد التي أصدرها في كتيب عام 1922 وقدمها في الأحمدية عام 1924 على المسرح، وقام طلاب المدرسة الأحمدية بتمثيلها، وكان موضوع الحوارية دعوة للتقدم وللأخذ بأسباب التمدن والرقي، دعوة للانفتاح واللحاق بالعصر ضد التخلف والانغلاق الذي كانت تدعو له مجموعة أخرى بدعوى المحافظة على قيم المجتمع وتقاليده.. وهؤلاء الطلاب الذين حفظوا هذه الحوارية وقاموا بأدائها على مسرح المدرسة وتشبعوا بقيمها وأفكارها هم أنفسهم من صاروا بعد ذلك من أبرز رجالات الكويت وقد أثّروا تأثيرًا كبيرًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويلاحظ هنا القرب بين هذه التجربة والأحداث التي صاحبت حلّ المجلس التشريعي الأول في الكويت الذي تشكّل عام 1921 ولم يستمر طويلًا، وهو ما يعتبره المتابعون للشأن الكويتي أولى إرهاصات التجربة الديمقراطية، أي أن المسرح في الكويت بدأ في المدرسة وأنه كان في صميم الحوار الخلاق بين التقدم والتراجع أو الثبات.

والنقلة الجوهرية الثانية للمسرح كانت عام 1939 عندما قُدِّمت مسرحية «إسلام عمر» في المدرسة المباركية (وهي أول مدرسة نظامية تأسست في الكويت عام 1911)، كانت المسرحية قريبة العهد بالحدث الكبير المتمثل في التجربة الديمقراطية الثانية في الكويت عندما تم حل المجلس التشريعي الثاني وما صاحبه من أحداث.

وقد دار حوار مهم في هذه المسرحية بين شخصية الخليفة عمر بن الخطاب في المسرحية حين قال للناس: «إن أحسنت ساعدوني وإن أخطأت قوِّموني».. فرد عليه أحد الحضور «والله يا ابن الخطاب لو أخطأت سنقوّمك بسيوفنا» .. فكان هذا الحوار سببًا لاختلاف مجلس المعارف.. حيث رأوا أن هذا الحوار خطير قد يحيل إلى الأحداث القريبة ولا يجوز الموافقة عليه.. خشية غضب السلطات المسئولة.. وكانت الأصوات المعارضة لهذا الحوار والداعية إلى حذفه تماثل عدد الأصوات المؤيدة له والداعية إلى الإبقاء عليه.. وعندها طلب الشيخ عبدالله الجابر - وكان وقتها رئيس المعارف (وزارة التربية فيما بعد) - رفع الأمر إلى حاكم الكويت وهو حينها سمو الشيخ أحمد الجابر الحاكم العاشر في تاريخ الكويت (1921- 1950).

فطرح الأمير الحاكم سؤالًا وجيهًا:

هل هذا الكلام موضوع على لسان شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه أم أنه ثابت له نقلًا عن السيرة؟

فأجابوه: إنه مأخوذ نصًا عن السيرة..

فقال: إذن.. لا تتردّدوا .. علينا احترام التاريخ..

وهكذا تم عرض المسرحية في ساحة مدرسة المباركية، وحضر العرض أعداد كبيرة من المشاهدين، وقد أوصى الحاكم بضرورة إتاحته للناس لتعمّ الفائدة، وكان ثمن التذكرة خمس روبيات... وهو مبلغ كبيرٌ جدًا وقتها.. إلا أن المجتمع المدني الكويتي قام بشراء التذاكر ووزّعوها على غير المقتدرين دعمًا للمسرح .. ورغبة في إطلاع الناس على مضمون المسرحية.. وكيف تكون العلاقة بين الحاكم والشعب على ميزان الصواب.. وأن من حق المحكوم مراجعة الحاكم، ذلك ما عرفته من مراجعتي لتاريخ التجربة المسرحية في الكويت وجذورها من خلال القراءة رغم شح المصادر، ومن خلال الاستماع لبعض شهود الأحداث ومنهم المرحوم حمد الرجيب وسمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد - الحاكم الثالث عشر للكويت (1977 - 2006) وسليمان الجارالله، وهؤلاء جميعًا من الذين شاركوا في التمثيل.

وبعد ذلك شاهدت عروض فرقة المسرح الشعبي التي قدمت منذ عام 1957، وكان فيها نقد لاذع على الطريقة الشعبية.. حيث تم انتقاد كثير من الأوضاع وكان المسرح الشعبي حينها يحظى بجماهيرية عريضة. وكنت أحضر جميع هذه العروض.. عدا العروض التي خصصت للنساء.. وكانت العروض بهيّة للغاية.

وجاء زكي طليمات إلى الكويت عام 1958 وذلك لإلقاء محاضرتين عن المسرح ضمن الموسم الثقافي لدائرة المعارف، وطلب منه تلميذه النجيب حمد الرجيب وكان وقتها يشغل وظيفة مدير دائرة الشئون الاجتماعية والعمل، كتابة تقرير عن واقع المسرح في الكويت وإمكان النهوض به، فمكث عدة شهور ثم وضع مدونته الشهيرة في هذا الشأن.. حيث قدّم تقريرًا رائعًا ضمّنه عددًا من النصائح.. ومن أهمها أن تكون هناك إدارة للمسرح المدرسي.. لأن المسرح المدرسي هو مكان تربية الجمهور وكذلك تربية المواهب المسرحية، كما اقترح تأسيس فرقة شبه قومية للمسرح تعنى بتقديم نماذج رفيعة من المسرح العربي وتدعيم فرقة المسرح الشعبي، وإقامة منشآت عصرية للمسرح ومعهد متوسط للتمثيل.

  • سليمان البسام:

في هذا الاستعراض الرائع لتاريخ المسرح.. استوقفتني جملة مواضيع في قراءتك لهذا التاريخ.. أولها.. علاقة المسرح بالمدرسة، والشيء الثاني هو علاقة المسرح بفكرة الديمقراطية وبعلاقة الحاكم بالمحكوم.. حيث ربطت فكرة نشوء المسرح مع المجلس التشريعي الأول.. وما أردت السؤال حوله هو مسألة الترابط بين البعد العربي وما يدور في الكويت.. فكيف كانت صيغة التواصل مثلًا بين نصوص المسرح العربي ونصوص مسرح الكويت على سبيل المثال؟

  • عبدالعزيز السريع:

في عام 1961 بدأ الأستاذ زكي تنفيذ التوصيات والنصائح التي وردت في تقريره الشهير عندما استقدمه تلميذه رائد المسرح في الكويت الأستاذ حمد الرجيب.. للعمل في الكويت على تحويل تقريره إلى واقع.

فأنشأ عام 1961 فرقة المسرح العربي وقدّم من خلالها عددًا من المسرحيات الكلاسيكية لتوفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير ومحمود تيمور وكان الهدف تقديم أنموذج مناسب لتدريب الممثلين والجمهور والفنيين .. وفتح معهدًا صغيرًا لتدريب الهواة - وبنصيحة منه صدر القرار رقم 24 لسنة 1962 لمنح تراخيص للفرق المسرحية الأهلية. وبالفعل صدر القانون وكانت فرقة مسرح الخليج هي أول فرقة مسرحية يتم الترخيص لها بموجب هذا القانون وكان ذلك في مايو من عام 1963.. وكان أن امتدّت عروضنا المسرحية إلى بغداد وإلى القاهرة.

  • د. سليمان العسكري:

هل كانت تجربة المسرح كبيرة على مجتمع الكويت الذي كان صغيرًا وقتها؟

  • عبدالعزيز السريع:

ما من شك في أن هذه التجربة المسرحية كانت تجربة باهرة في هذا المجتمع الصغير، وقامت وزارة الشئون بإيحاء من زكي طليمات بإنشاء وبناء مسارح الدسمة والشامية وكيفان.. وهي مبانٍ جميلة ومناسبة وحديثة .. وكانت تعد بالفعل سابقة لزمانها.. وكنا نقدّم عروضنا في بغداد والقاهرة بداية من عام 1966م، وكانت تلك بداية صلتنا بالمحيط العربي في الستينيات.. وكان عرضنا في القاهرة عام 1966 على مسرح الجمهورية.. وهناك تعرفنا على ألفريد فرج الكاتب المسرحي المصري الشهير ..وبدأت من هنا تتوثق علاقتنا معه.. ومع المسرح المصري.. وكان رد فعل المسرحيين العرب هو أنهم فوجئوا بالمستوى الجيد الآتي من الكويت وكتب عن تجربتنا الأولى للعرض خارج الكويت كل من عبدالفتاح الفيشاوي ونعمان عاشور وعبدالقادر القط وبعدها علي الراعي ونجوم الفن والثقافة والنقد في القاهرة وفي بغداد.

  • سليمان البسام:

ما هي - في رأيك - الروافد التي أنتجت هذا المستوى المسرحي الكويتي الذي استطاع أن يخرج من نطاق مجتمعه الخاص الصغير بحيث يمتد إلى خارج الكويت.. ويتواصل مع المسرح العربي ككل، فكيف حدث أن هذا المجتمع الكويتي الصغير قد وصل إلى هذا المستوى من التحضر بحيث مثل حاضنة لهكذا مستوى مسرحي متميز؟

نريد منك أن تطلعنا كيف تمت عملية الاحتضان والتفريخ هذه.. فمثلًا من المعلوم أن تجار الكويت كانوا على تواصل كبير بما يدور حولهم في المنطقة.. وأنهم لذلك بدأوا في إنشاء المدارس الأهلية من أموالهم وجلبوا لها مدرسين على قدرٍ عالٍ من الكفاءة من مختلف البلدان الأخرى.. وكانت هذه المدارس هي الحاضنة للمسرح الكويتي.

وهذه المسألة تبرز خاصية أساسية في الكويت.. وهي خاصية: الانفتاح على الخارج.. والتي تؤيدها معطيات تاريخية وجغرافية كثيرة في الكويت.

بالنسبة لي بدأت علاقتي العملية بالمسرح منذ أن كنت طالبًا في جامعة أدنبره في بريطانيا.. والتي كان أحد تقاليدها الراسخة أن تقيم أكبر مهرجان مسرحي في العالم.. وفي هذا المهرجان كانت مدينة أدنبره تتحول بكامل عمارتها وأجوائها إلى مسرح كبير.. وكان عمري وقتها لا يزيد على 18 عامًا تقريبًا.. وعندها بدأت أنخرط في المسرح من حيث الكتابة والتمثيل والإخراج.

وعندما رجعت إلى الكويت في عام 2001 كنت أقدم أعمالا مسرحية تنطلق من مسألة التواصل بين الكويت والعالم الخارجي.. وأثناء عملي في المسرح وجدت أن هناك إمكانية هائلة لأن يكون المسرح حلقة وصل مهمة جدًا بين الكويت والعالم الخارجي.. ومن هنا بدأت مشروعي في تقديم نصوص أجنبية باللغة العربية.. بحيث يمكن لها أن تقدّم على أي مسرح عربي.

  • عبدالعزيز السريع:

ازدهرت بعد ذلك العروض وتنافس المخرجون والممثلون والفرق وازدادت أعداد الحفلات من ثلاثة عروض فقط عام 58و1959 للمسرحية الواحدة إلى عشرة عروض عام 1964 ثم عشرين وثلاثين ثم أكثر وأكثر في الأعوام التالية، لكن التراجع بدأ بشكل عام منذ الثمانينيات وتحديدًا في 1984 - 1985، وحدث هذا التراجع في أغلب البلدان العربية وكأن هناك اتفاقًا ، حيث أهمل المسرح وانحسر بل تراجع دور الدولة في دعمه وانصرف الناس عنه وأغلقت دور العرض واستخدمت لغير المسرح.

  • سليمان البسام:

أذكر بمناسبة هذه المسألة حكاية سردها على مسامعي الفنان العم جاسم النبهان، والذي صادفه الأمير عبدالله السالم ذات مرة.. وتعرّف عليه لأنه رأه في إحدى مسرحيات المسرح الشعبي.. وكان أن أفصح له الأمير عن اهتمامه الكبير بالمسرح وحبه له.. وذكر له أن سبب هذا الاهتمام هو أنه: من خلال المسرح أستطيع أن أرى وضع المجتمع. تخيل كيف كان هذا المسرح يمثل فضاءً للحاكم عبدالله السالم، أن يطلع على مجريات الأوضاع في مجتمعه من خلال ما يقدمه المسرح من مشكلات المجتمع وقضاياه.

والسؤال هو: كيف حدث أن المسرح كان يمثل هذا الفضاء المهم الذي يجعل أمير الكويت نفسه يهتم به ويحرص عليه في هذا الوقت المبكر.. ثم كيف تغيرت أحوال المسرح إلى الوضع الذي نحن عليه الآن.. حيث تقلص الاهتمام به كثيرًا بحيث لم يصبح مشروعًا وطنيًا له أولوية لدى المسئولين؟

  • عبدالعزيز السريع:

هنا في الكويت تغير الواقع تمامًا، فقد فقدنا خيوط هذا المشروع الوطني المسرحي منذ سنين.. وذلك لأسباب معقدة وكثيرة .. فإذا استعرضنا جرأة أنماط الخطابات التي كانت تتضمنها المسرحيات الكويتية وكيف أنها رغم ذلك كان الرقيب يسمح بعرضها ويصفق الجمهور لها.. ثم نأتي إلى الوضع المسرحي اليوم.. فنجد أن هناك عروضًا مسرحية تمنع من العرض.. لأسباب واهية مثل كونها توجه النقد للصحافة أو لمجلس الأمة.. بما أصبح يمثل رقابة على المسرح لم تكن معهودة أبدًا في وقت ازدهاره بل إن الرقابة مع الأسف صارت من قبل المكلفين بحماية الحريات والدعوة لها مثل أصحاب الصحف وأعضاء مجلس الأمة.

  • سليمان البسام:

أعود لمثال مسرحية «إسلام عمر».. والتي تمت إجازتها اعتمادًا على تقييم تاريخي وليس على تأويل لما أتى فيها من خطابات وحوارات يمكن أن يساء تفسيرها.. فما أراه أن المسألة هنا كان فيها قدر من الموضوعية.. ربما أصبح بعيدًا ومفقودًا في زمننا الحالي.. وربما سبب هذا أنه كان هناك مشروع مسرحي كويتي كان يراد له أن ينمو ويزدهر.. ويبهر.. وكان المجتمع ككل بما في ذلك السلطة يمثل حاضنة لهذا المشروع الذي أصبح مشروعًا للبلد ككل. لكن الآن لم يعد هناك مشروع للبلد في مجال المسرح. بل لا نجد أن هناك مسارح وفرقًا مسرحية جديدة يتم إنشاؤها.. بل حدث نوع من التراجع في الأداء والازدهار المسرحي.

فما الدروس التي يمكن أن نتعلمها من جيلكم المسرحي.. بحيث نتمكن من تجاوز مشكلاتنا الحالية؟ وأقصد ما الإرث الذي تركتموه لنا والذي يمكننا أن نبني فوقه.. بدلًا من أن ننحدر دونه.. كما يحدث حاليًّا؟

فمثلًا كان جمهور الحضور المسرحي نفسه أكبر من الحالي.. رغم أن عدد السكان كان أقل بكثير من الأعداد الحالية. فما أريد أن أفهمه هو كيف نستعيد «قابلية التطور» التي كانت للمسرح الكويتي وقتذاك.. والتي وصلت حاليًّا نوع من «الجمود».. والذي أصبح مثل مجرد تمثال.. أصبحنا نطل عليه لأنه يذكرنا بمعركة مضت وانقضت.

وكيف يمكن استعادة وتفعيل ممكنات التجربة المسرحية الكويتية في زمن ازدهارها.. بحيث نستكمل عملية التطوير.. دون أن نقف عند حالة الجمود التي وصلنا إليها حاليًا.

  • عبدالعزيز السريع:

سأحكي تجربة شخصية حدثت لنا في فرقة مسرح الخليج.. ذلك أني أذكر أن أوضاعنا المالية في البداية كانت سيئة جدًا.. ولم يعدنا أحد ممن سمحوا لنا بالتأسيس بأي معونات بالمرّة، بل اكتفوا بالترخيص للفرقة وإشهارها.

حينها اكتشفنا أن الحماس وحده لا يكفي، فقد بدأنا بتمويل لا يتجاوز 22 دينارًا فقط .. كنا جمعناها من اشتراكاتنا... حيث تبرع كل فرد بالمبلغ الذي يقدر عليه.. فكان هناك من يدفع نصف دينار ومن يدفع ربع دينار، وهكذا جمعنا 22 دينارًا فقط. وكان أن ذهبنا نشتكي الحال إلى المسئولين في النادي العربي الرياضي حيث كنا نجتمع فاقترحوا علينا أن نقيم حفلة وأن ندعو إليها رجالات الكويت.. بحثًا عن تمويل مناسب للفرقة لكي تبدأ. ولكننا عندما أجرينا دراسة لتكاليف الحفلة، وجدنا أنها تتطلب حوالي 120 دينارًا لنقيمها .. لم نكن نمتلك وقتها هذا المبلغ الكبير نسبيًّا.

فكان أن قرر أحد أعضاء مجلس إدارة النادي العربي أن يقرضنا خمسين دينارًا من جيبه الخاص بحيث نعيدها له بعد الحفلة التي كان هدفها الذي لم يعلن الحصول على تبرعات ودعم لمشروع عمل الفرقة. وأقمنا الحفلة، وحضرها بالفعل عدد من رجالات المجتمع الكويتي. وكان من بينهم الشيخ جابر عبدالله الجابر الذي وافق على دعم الفرقة بخمسمائة دينار. فأخذنا هذا المبلغ وذهبنا إلى سوق الحراج حيث تباع البضائع المستعملة.. واشترينا أثاثًا ومستلزمات لمقر الفرقة بحوالي 110 دنانير بحيث تمكنا من تأثيث المسرح كله تقريبًا بهذا الأثاث واستأجرنا بيتًا قديمًا اتخذناه مقرًّا .. ودفعنا إيجارًا له حوالي ثمانين دينارًا.

وفي موسمنا الأول قدمنا أربعة عروض دون أي معونات أو تمويل.. وكان الجمهور يشتري تذاكر مسرحياتنا بمبالغ تصل إلى ربع ونصف دينار. وكان عدد جمهور الحضور يلفت إلينا أنظار وزارة الشئون وكان وكيلها حمد الرجيب.. وهو أول من درس المسرح في القاهرة.. وكان أحد الممثلين في مسرحية «إسلام عمر».

وبعد ذلك وبناء على نجاحنا في اجتذاب كل هذا الجمهور رصدت لنا الوزارة ثلاثة آلاف دينار، وخلال ثلاث سنوات تطور تمويل الفرقة من ثلاثة آلاف دينار إلى ستة آلاف دينار في العام التالي ثم إلى (16) ألف دينار في العام الثالث. وهذا يمثل تطورًا كبيرًا في أرقام التمويل والدعم الممنوح للفرق المسرحية.

وبقي هذا الرقم (16) ألف دينار على ما هو عليه منذ عام 1966 وحتى اليوم، دون أن يتحرك. والسبب هو أنه في ذلك الوقت كانت هناك شخصيات مثل عبدالعزيز حسين وحمد الرجيب وأحمد العدواني.. ومثل هؤلاء من المهمومين بالثقافة. في ذلك الوقت كان هناك إقبال على المسرح .. حيث كانت أعمدة المجتمع تحرص على حضور المسرحيات لدرجة أننا نتحرج من وقوف هذه الشخصيات في الطوابير على شباك التذاكر. لكن حدث تراجع في جميع هذه المسائل في الثمانينيات وحتى قبل الغزو العراقي للكويت.

  • د. سليمان العسكري:

هل لهذا علاقة ربما بصعود تيارات الأحزاب الدينية الذي تم في العالم العربي كله مرة واحدة في نهاية السبعينيات، التي بدأت تحط من قدر الثقافة؟ وهذا الزحف أثر في الثقافة العربية ككل لأنه أدى إلى زيادة الرقابة على الأعمال الثقافية بحيث تعرض بعضها للمنع والحظر، بشكل لم يسبق له مثيل، قبل بروز هذه التيارات. فهل هذا أحد أسباب تراجع المسرح؟

  • عبدالعزيز السريع:

أذكر هنا نموذجين من العشرينيات، وهما الشيخان عبدالعزيز الرشيد وأحمد الفارسي وكلاهما مخلص ومقتنع بما يراه في خير المجتمع، فقد كان الأول متنوّرًا.. بينما كان الثاني متشدّدًا، يرى أن التعليم النظامي مفسدة.. وبخاصة تعليم المرأة الذي كان يعدّه من الكبائر. وكان عبدالعزيز الرشيد يستخدم المسرح وسيلة للتنوير وطرح الأفكار. وكان أن نجح في هذه المسألة بشكل كبير وحظي بتأييد كبير من الأغلبية حول مسائل التعليم - وتعليم البنات بخاصة. واستمرت الكويت في مسيرة التنوير والتقدم والتعليم، ولم تأبه لدعاة المنع والحظر ومنع تعليم المرأة. وانعكس هذا التقدم على كل شيء في الكويت.

فصحيح أن مهنا كالغناء والتمثيل كانت سابقًا تعدّ مهنًا غير مقبولة من المجتمع، إلا أن هذا الأمر بدأ يتغير تدريجيًّا.. وبدأ الناس يدركون قيمة الفن وقيمة الفنان.. وأصبح للفنان احترام وتقدير ومكانة. وكان أن ساد التيار التنويري وقتها.. بينما انزوى التيار المتشدد.

  • سليمان البسام:

كان يحدث دومًا نوع من الشد والجذب بين هذين التيارين: التنويري والتقليدي.. واليوم بدأ التيار التقليدي المتشدد يستعيد قوته وتصبح له الهيمنة على التيار التنويري. وإذا ما وضعنا إلى جانب ذلك مسألة الطفرة النفطية، حيث أصبح المجتمع الكويتي المعاصر مختلفًا كثيرًا عن المجتمع الذي نشأ فيه المسرح وازدهر.. فسنجد أننا أمام غياب لفكرة «الاستحقاق الثقافي». وقد رأيت بعيني هذا المشهد بالفعل.. حيث وجدت مسارح تستنفد طاقتها في خوض معارك لا قيمة لها أساسًا.. وهي معارك بعيدة عن مجال الثقافة كثيرًا وبذلك اختفى فجأة الإرث الثقافي الذي تأسس في العشرينيات إلى الستينيات. وأصبح العمل الثقافي يتعرض لأنواع غريبة من النقد لا علاقة لها بالثقافة، بل ينجرّ نحو معارك أقرب إلى الشخصية دونما أدنى علاقة بالثقافة أو الفكر.

  • د. سليمان العسكري:

يقال إن المسرح أبوالفنون. فهل ما زالت هذه الرؤية سائدة أم لا؟

  • سليمان البسام:

هناك في الكويت نوع من الانعزال الغريب عن الخارج، مع نوع من الانغماس في المشكلات الذاتية التي لا تستحق الانغماس فيها. مع انحسار دور الكويت في المجال العربي وبالتالي في مجال الثقافة العربية. فأصبح وضع الثقافة في الكويت أقرب إلى مجرد «خط في الرمل». فأين ذهب الإرث الكبير الذي ورثناه عن المسرح الكويتي؟ وأين ذهب دور المسرح؟ وكيف تقلّص دور المسرح إلى هذا الحد؟.

وربما كانت الإجابة هي أنه علينا أن نبحث عن مسارات جديدة للمسرح. فيمكن مثلًا تغيير الجمهور من جمهور المسرح العادي الموجود في الكراسي بالمبنى إلى جمهور آخر ربما يوجد على الإنترنت وعلى اليوتيوب.. دون أن يوجد فقط على كراسي المسرح. وهذا المشروع المابعد مسرحي أظن أنه يحتاج إلى فضاء مسرحي مختلف... بحيث يتجاوز مبنى المسرح نفسه.. ويتجاوز المناسبات الزمنية مثل المناسبات الرمضانية وما شابه ذلك.

  • عبدالعزيز السريع:

أظن في كل فترة يوجد من يقول إن المسرح قد انتهى.. إلا أن المسرح ينهض كالمارد وكأنه يعود إلى الحياة من جديد.. ولذا فإن ما تقوله عن البحث عن فضاء جديد ما بعد مسرحي هو أمر مهم جدًّا.. وربما يمثل خطوة في طريق النهضة المسرحية التي تلائم العصر الراهن. أذكر أنني جلست أخيرًا مع شخصيات أكاديمية مهمة في إسبانيا وكان أن سألوني عن المسرح وعن مخرجات التعليم الجامعي عندنا، فكانت إجابتي بكل صراحة: إنها ليست على ما يرام. ولكنني استغربت عندما قالوا لي: الحال من بعضه.. وهو ما يعني أن حالهم مثل حالنا. فيبدو أن هذه المشكلة تعتري العالم أجمع ولسنا وحدنا في هذا التدهور الحالي في مجال الثقافة والتعليم.

وأذكر في هذا السياق قصة لزكي طليمات وجورج أبيض.. أنهما وجدا أن حال الفنانين في مصر قد صار إلى تدهور في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث ساد الكساد وأغلقت المسارح وتشتت الفنانون وتوزعوا على المقاهي بلا عمل ولا مورد، فكان أن اشتكوا هذه الحال إلى وزير المعارف وقتها، فاقترح عليهم إنشاء فرقة تضم جميع هؤلاء الفنانين.. حتى لا تضيع مواهبهم. وقدّروا أن تكاليف إقامة هذه الفرقة ستكون بحدود خمسة آلاف جنيه مصري في العام. فقال لهما الوزير إنه موافق مبدئيًّا.. ولكنه سيبحث الأمر مع الحكومة ويرى ماذا يستطيع أن يقدم. ومن هنا بدأوا تأسيس الفرقة القومية. وكان أن عرضت هذه الفرقة على الشاعر خليل مطران ليكون أول مدير لها، وبدأوا في إجراء اختبارات للفنانين وتصنيفهم بحيث ينتقون منهم أفضل العناصر. وهكذا تنشأ الفرق العظيمة حتى في أسوأ الظروف.

وأذكر أيضًا أنني قدمت مسرحية «الثمن» لأرثر ميللر وألبستُ الشخصيات ثوبًا كويتيًا، وأعجبت جمهور الحضور كثيرًا. إلا أنه فاجأني أن أحد الحضور قام من مكانه وهو يصرخ ويداه ترتعشان وقال: ليس عندنا في الكويت شخصيات كهذه. ويبدو أنه فهم أن المسرحية تسيء للكويتيين، وهذه طريقة غير صحيحة في مقاربة المسرح.

ومثل هذه القصة صادفني مثلها عندما أتت إلى المسرح سيدات متشحات بالسواد بعد انتهاء أحد العروض، وصرن يسألن: أين هذا اليتيم الذي كان في المسرحية؟ فقلت لهن: هذا كان في العرض المسرحي فقط. فقلن: نحن أتينا لنأويه ونربيه، فأين هذا اليتيم الذي كان يبكي على المسرح؟ وكيف أنتم ترضون أن يحدث له كل هذا الذي حدث على المسرح؟ فجلستُ أحاول أن أشرح لهنّ أن هذا الشخص يمثل دور اليتيم وأن له أسرة وأنه ليس يتيمًا بالفعل.

كل هذه القصص تبرز تأثير المسرح في المجتمع، وكيف ينفعل الجمهور بالشخصيات التي يشاهدها. فوقتها كان المجتمع حيًا للغاية ويتفاعل مع المسرح بشكل حيوي جدًّا. فكان المجتمع حتى حين يرفض الأعمال أو يقبلها، يتخذ منها موقفًا حيويًّا، ويبدأ في طرح التساؤلات وفي إعادة التفكير في عاداته وسلوكياته ويتعلم أمورًا جديدة ما كان له أن يتعلمها لولا المسرح.

  • سليمان البسام:

وأذكر أنا أيضًا موقفًا حدث أمامي، وهو يوضح الفرق بين المواقف السياسية وبين المواقف الفنية التي يتخذها الناس من المسرح.

فأذكر أننا كنا نقدم إحدى مسرحياتنا في إحدى الدول العربية وهي سورية، وحضر رئيس الدولة وزوجته العرض. ووجدته يقود التصفيق والاستسحان للعرض وما يدور فيه طوال العرض، وذلك حتى وصلنا إلى نهاية المسرحية حيث كان دور الممثل أن يسرد أسماء بعض الشهداء. فكان أن ذكر أسماء شخصيات تاريخية. ثم استمر في السرد حتى وصل إلى اسم أحد الشهداء من الدولة نفسها. وعندها تغير وجه الرئيس واختفى عنه استحسانه للعرض وحل محل بسمته مسحة من الغضب على وجهه.

وهذا الموقف يعني أن رئيس الدولة ظل يستحسن المسرحية كاملة، حتى وصل الأمر إلى سرد اسم حقيقي من الواقع، وعندها اختفى استحسانه، وهو ما يعني أن المسرح قادر على أن يصل إلى قلوب الجميع عندما يلتزم بفكرة «المعادل الموضوعي» وبأصول البناء الفني والدرامي. لكنه فور أن يخوض العمل الفني المسرحي في التفصيلات العادية وفور أن يسمي الأشياء بأسمائها، فإن الناس تبدأ في اتخاذ مواقف جذرية منه، وكأنه لم يعد فنًا.

كذلك بالنسبة للعلاقة بين الجمهور والمسرح، أذكر أننا عرضنا إحدى المسرحيات ولم تتوافر لدينا الأموال لعمل تصوير كامل للمسرحية، لأن ذلك كان سيكلّف أموالًا طائلة، ليست بحوزتنا، فكان أن قامت الجهات الرسمية بتسجيل المسرحية. ولكني عندما ذهبت لأخذ نسخة من التسجيلات صادفتني مجموعة من العقبات البيروقراطية التي منعتني من الحصول على نسخة. فكان الحل هو أن ألجأ إلى الجمهور الذي شاهد المسرحية، وذلك من خلال التواصل على الفيس بوك. وبالفعل تمكنا من تجميع كل مشاهد المسرحية من خلال التصوير الذي مارسه الهواة من خلال هواتفهم النقالة أثناء العرض. وبذلك لم نحتج لأي مساعدة من أي جهة رسمية لنحصل على نسخة مصورة من العرض المسرحي. وهذا يوضح كيف أن الجمهور أصبح فاعلًا في الحفاظ على المسرح، وكيف أن علاقته بالمسرح أصبحت أهم من علاقة الجهات الرسمية بالمسرح.

  • د. سليمان العسكري:

أظن أنه حدث نوع من الانهيار المعاصر في قيم المسرح عمومًا. وقد بدأ هذا الانهيار في المسرح المصري عندما بدأ يسود ما يمكن أن نسميه مسرح «التهريج» الذي يقوم على إضحاك المشاهد بإطلاق مجموعة من النكات والطرائف التي لا تحمل أي مضمون أخلاقي أو فكري أو ثقافي بالمرة. ومن هنا حصل الانهيار في المسرح بشكل عام، حيث تخلّى عن مسعاه لتعليم المشاهد، وصار يسعى إلى مجرد إضحاكه والترفيه عنه، لا أكثر.

وكانت البداية في هذا المنحى بعد الصلح مع دولة الاحتلال الصهيوني والتحوّل من الفترة الناصرية إلى الساداتية وما تلاها من تحوّلات، وأصبح المسرح أداة لإشاعة قيم ساهمت في عصر الإفساد والفساد.