سيوة الصراع بين الموت والحياة أحمد عنتر

بين سطوة (الأصفر) المجدب، وتمرد (الأخضر) النبيل قام قانون الصحراء.. قانون الصراع بين (الرمالي/الموت) و (الواحة/الحياة).. وكانت سيوة التي على إحدى ربواتها تم تتويج الإسكندر الأكبر.. استلهمت منه الجسارة فوقفت على حافة (بحر الرمال الأعظم ) ولم يبتلعها الموت أو يطمسها التاريخ..

.. إنها حياة وتاريخ يكتبه النخيل..

.. فكل ما في الواحة يدين للنخيل.. وعيون الماء..

.. وإذا كانت (مصر هبة النيل) كما يقول هيرودوت فإن سيوة هبة عيونها المائية المتفجرة في عطاء وحب. والحياة هنا تقوم على معطيات النخيل. لا يخلو ملمح ما من آثاره. فالبيوت مسقوفة بأخشابه، والمقاعد والكراسي والموائد من جريد النخل، الأواني الخوصية، معلقات المنازل، المدافئ في البيوت تلتهم بقاياه، السلال والحصير.. فضلا عن البلح الذي يقوم الاقتصاد على محصوله، ومعه الزيتون، حتى طرق الواحة الضيقة يقوم النخيل على جانبيها ويحنو السعف فيظللها، وكأنما المرء يمر في نفق أو سرداب مسقوف مكيف بأطيب الهواء وأرق النسيم.

.. قمة الكرم الحاتمي أن يقوم المضيف بذبح نخلة لضيفه. وتقديم (الجمار) إلى زائره، ذروة الحفاوة به. حتى المشروب الشعبي الذي يحتسيه السيويون، واسمه (اللجبي) يستخرج من هذا (الجمار) وهو مشروب سكري، لا يسكر إذا شُرب قبل العاشرة صباحاً، أي قبل أن تتوهج الشمس، أما بعدها فيختمر.. ويذهب ببعض الصواب..

بانوراما خارجية

مع بداية رحلتنا إلى سيوة بدأت رحلة أخرى إليها عبر المراجع والكتب في النصوص القديمة المدونة بمعبدإدفو عرفت باسم " بنتا Penta "، ثم أطلق عليها بعد ذلك اسم "واحة آمون" نسبة إلى معبدآمون القديم الموجود بها. وظلت الواحة تحمل هذا الاسم حتى جاء العصر البطلمي فأطلق عليها اسم "جوبتر Jupiter" وهو اسم أحد آلهة الرومان. أما في العصور الوسطى فقد أطلق عليها اسم، Santarih . وأسماها العرب بعد ذلك "الواحة الأقصى" وقد ذكرها المقريزي في كتبه وقال عنها: "وكان يسكنها جماعة من البربر تسمى (السيوي) وهم يتكلمون السيوية".. ومنذ ذلك الوقت عرفت باسم (سيوة)..

دخلها العرب في القرن التاسع الميلادي، على الرغم من دخول عمرو بن العاص مصر عام 640م إلا أنه لم يصل إليها..، ومر قريباً منها الفاتح العربي موسى ابن نصير متجهاً إلى الشمال الإفريقي والأندلس ولكنه لم يصل إليها..، وبذلك لم تخضع تماماً للحكم الإسلامي إلا في أواخر العصر الفاطمي أي أوائل القرن الثاني عشر الميلادي.

سكنها خليط من المصريين، والبربر النازحين من الغرب، والسودانيين القادمين من الجنوب، وهم يتحدثون- حتى الآن- اللغة السيوية التي هي خليط من اللغة البدوية والبربرية وتختلط بها بعض الألفاظ العربية.

لعل أول ما جذب انتباهنا في اليوم الأول لوصولنا الواحة هو زي الرجال والنساء.. واختلافه عن ملابس أهل الوادي.

قطع داخلي أول

.. فالأغنياء والشيوخ من أهل سيوة يضعون على رءوسهم الطرابيش، أما الفقراء والعمال فيرتدون بنطلونات تصل إلى الركبتين فقط تسمى (الجبة). والفرد العادي يرتدي جلباباً واسع الأكمام من الكتان الأبيض. وكلهم ينتعلون (البلغة) في أقدامهم..

والمرأة تميل إلى لبس الأثواب ذات الألوان الزاهية داخل بيتها، وعند خروجها - ونادراً ما تخرج ويكون ذلك في إطار مناسبة ما - فإنها ترتدي فوق تلك الأثواب عباءة زرقاء أو بيج تسمى (الطرف تنك) تحجب كل جسمها ورأسها، وفي أعلاها فتحة صغيرة تثب خلالها نظرات العينين. ولا ترتدي المرأة هذه العباءة إلا بعد سن البلوغ.

أما البنات الصغيرات فيرتدين أثواباً زاهية، والجزء الأعلى منها، حول رقبة الفتاة كثير الزخرفة بالحرير والخرز. وبنات الأسر يغطين رءوسهن بشيلان صوفية زاهية اللون.

ولفت انتباهنا أن رجال سيوة يحلقون شعورهم بالموسى. (ولعلها عادة فرعونية قديمة كما يروي لنا هيرودوت في تاريخه) أما الأطفال دون سن العاشرة فلا يحلقون رءوسهم بل يتركون خصلة مسترسلة في وسط الرأس. والبنات الصغيرات يتركن شعورهن مسترسلة. حتى إذا اقتربن من سن البلوغ يبدأ الأهل في تصفيف شعورهن وتضفيرها في ضفائر كثيرة رفيعة جداً ( تحفظ لنا النقوش الفرعونية القديمة مثل هذه التسريحة الدقيقة) وحين تبدو الفتاة بهذه الضفائر يتأكد أنها قد بلغت سن الزواج.. فهذه التسريحة تعتبر دعوة إلى العرسان للتقدم إليها وطلب يدها.

بحثا عن الصفاء

كان اختيار بعثة "العربي" لتوقيت الزيارة موفقاً إذ كنا حريصين على أن نصحب القارئ معنا إلى عيد الوئام الذي تحتفل به الواحة.

فعلى مدى ثلاثة أيام، وفي منتصف الشهر العربي المواكب لشهر أكتوبر من كل عام يحتشد أهالي سيوة للاحتفال بعيد الصفاء والسلام. ولعله المجتمع الوحيد على ظهر البسيطة وباتساع أنحاء المعمورة الذي مازال يؤمن ويبجل وينشد تلك القيم السامية. ولهذا العيد قصة عمرها حوالي 150 عاماً كما يروي الشيوخ والمعمرون هنا. وكأي مجتمع قبلي بدائي يقوم على الزراعة كانت تدب الخلافات بين المزارعين حول الري والسقيا، وأحياناً بسبب الأرض المشاع حيث لا حدود ولا مقاييس. وكالعرف المتبع في هذه المجتمعات، كان لا بد من الاحتكام إلى ذوي الرأي والحكمة من الشيوخ الأجلاء عند أي خلاف. وذات خلاف مستحكم قام أحد المتصوفة من الطائفة المدنية الشاذلية وهو الشيخ أحمد مدني بالتصدي لحله. فأمر أن يخرج الرجال إلى ساحة جبل الدكرور لعقد المجلس. وأمر الشيخ المجتمعين أن يبتهلوا إلى الله ليلهم الخصوم السداد والحكمة. وظلوا على حالهم هذا إلى أن عم الوفاق ولم يعودوا إلى منازلهم إلا وقد انقشع الكرب. وبدأ الاحتفال سنوياً على هذا النحو مع عيد الحصاد، وبعد عام من الكد والعمل وما يصحبهما من مشاحنات واحتكاكات. يجيء هذا العيد، وعبر ثلاث ليال قمرية ينتقل الشباب والكهول والصبية من الجنسين إلى ساحة جبل الدكرور (وتبقى النساء في البيوت) ويتم في هذا العيد حل الخلافات ورأب الصدع الاجتماعي كما تتجلى خلال تقاليده أروع صور التكافل الاجتماعي والحرص على التآخي والتآلف.

قطع داخلي ثان

كانت المرائي والألوان والأصوات تتداخل وتجتذب الحواس، حيث تزاحم الناس في الطرقات زرافات. والعربات التي تجرها الدواب تحمل الأطفال والصبية في أبهى زينة يصفقون ويغنون.

هذا هو اليوم الأول من العيد. يتم انتقال الناس إلى الخلاء، ويتم تجهيز أماكن إيوائهم من خيام وأكواخ. كما يتم إعداد الذبائح. وقبل الساعة الواحدة ظهراً يتم تقطيع اللحم وطهوه في طناجر كبيرة على وقود من خشب وجريد النخل. ويشغل الطباخون بإعداد القصع الكبيرة التي تمتلئ بالخبز المفتت ثم يتم إغراقه بمرق الذبائح. وتبدو على سفح الجبل صفوف من القصع وقد امتلأت بالثريد. وتلمح مجموعة أخرى من الطباخين وقد انهمكوا في إعداد (الشوك) ومفردها شوكة وهي عبارة عن قطعة من الخوص المستل من سعف النخيل تشبك فيها قطع اللحم الصغيرة على شاكلة (سيخ الكباب) وهم يمارسون عملهم هذا بإتقان وسعادة. ويرددون ابتهالات وأغاني دينية حتى تحل البركة في الطعام.

في حوالي الساعة الواحدة بدأ شيخ الطباخين وخلفه رجاله في النزول من الجبل، وكل منهم يحمل قصعة فوق رأسه ويضعها أمام أسرة تحلقت حول عائلها في الساحة. ويتم توزيع القُصع، وتلمح شباب الطباخين وكهولهم وهم يتبارون في صعود الجبل وهبوطه بنشاط وهمة غريبين متنافسين في الخدمة متقربين بها إلى الله.

تتحلق الأسر، وتتوسط الحلقات القُصع المليئة بالثريد، ينظر إليها الأطفال والصبية والرجال.. ولا تمتد يد إليها قبل أن تصدر الأوامر.. الويل كل الويل والعقاب الشديد من شيوخ الساحة لمن تسول له نفسه.. الجائعة.. أن تمتد يده إليها قبل أن يصيح (المشير): بسم الله.. وها هو قد أشرف بقامته في أعلى الجبل وبيده مكبر الصوت لينادي: بسم الله.. وهنا فقط تمتد الأيدي في حركة جماعية لتبدأ تناول الطعام. لا أحد يسبق الآخر. إنها المساواة في كل شيء. الجميع يأكلون طعاماً واحداً. الغني منهم والفقير، الكبير والصغير، وفي وقت واحد.. ومعاً جميعاً يأكلون على امتداد أكبر مائدة تستضيفها الصحراء..

على ضوء القمر، بعد صلاة العشاء تتسع حلقة الذكر ليبدأ طقس ديني قمري، وتتردد في عمق الصحراء أصداء الأناشيد والابتهالات شاكرة السماء التي باركت الحصاد وشملت القلوب بالهداية والمحبة.. وربما عانقت هذه الأصوات أصداء أخرى- في غياهب التاريخ- لصلوات صادرة عن كهنة أمون العظيم.

ويأتي اليوم الثاني على شاكله الأول..

أما اليوم الثالث فيختلف قليلاً حيث تضاف إليه لمسة إنسانية جديدة.

يقضي برنامج الاحتفال في هذا اليوم أن يقوم شخصان يرتديان ملابس غريبة يغلب عليها طابع (كرنفالي) بسيط. بالمرور على الخيم والأكواخ والبيوت وخلفهما الصبية يتضاحكون في مرح. ويجمعان من كل كوخ أو خيمة شيئا من الطعام أو الحلوى أعد خصيصاً لهذه المناسبة. ويتم جمع هذه الأطعمة والمأكولات وتوضع في صف طويل، ويمر المجتمعون في الساحة ليتناول كل منهم ما يشتهيه، وربما لا يقدر على صنعه، من طعام أخيه الآخر، وربما أكل الرجل من طعام خصم، كان له بالأمس، إلا أن العيد شملهما معاً بأمنه وصفائه..!!

توجهت بالسؤال، عن مصادر تمويل هذا الاحتفال، إلى الشيخ أحمد سعيد أحد المشرفين على الاحتفال، فأخبرني أن المدينة مقسمة إلى خمسة عشر مسجداً، كل مسجد منها تابع لحي من الأحياء. والمسجد مسئول عن جمع وتحصيل حصة الشوارع والحارات التي تتبعه ويطلب بعدد الأفراد عدداً من (شوك اللحم).. إنه تمويل ذاتي بسيط يعكس روح الأسرة الواحدة.

مع بزوغ فجر اليوم الرابع ينحدر المحتفلون من ساحة جبل الدكرور إلى شوارع البلدة في مسيرة مهيبة تتصاعد منها التكبيرات ويعلو صوت الإنشاد منصرفين عن جبل الدكرور إلى ساحة (سيدي سليمان) حيث يصلون الفجر ثم يتحلقون في جمع حاشد بادئين الذكر مؤذنين بانتهاء العيد المبارك.. ليبدأ عام جديد من الكد والعمل.. في اتجاه عيد حصاد ووفاق آخر..

سيوة.. بورتريه جغرافي

تعتبر سيوة أحد المنخفضات في الصحراء الغربية. فمنسوبها يقع تحت مستوى سطح البحر بحوالي 24 متراً . وتقع على خط طول 30-25 5 شرقا وعلى خط عرض 12- 29 5 شمالاً. وتبعد عن مرسى مطروح حوالي 330 كم في اتجاه الجنوب الغربي. وتبعد عن القاهرة بحوالي. 800 كم. ومناخها دافئ في فصل الشتاء حتى أواخر فبراير، وتأخذ درجات الحرارة في الارتفاع اعتباراً من مارس حتى تبلغ أقصاها في يوليو وأغسطس. أما الأمطار فهي شتوية نادرة.

ومدينة سيوة هي المركز الإداري للواحة. ويتبعها كثير من القرى والنجوع لعل أهمها قرى: (خمسية، المراقي، أغورمي، قريشيت..، أبو شروف، الزيتون، جارة أم الصغير..) وتحتوي كل قرية على عدد من المدارس، ووحدة ريفية، ومركز شباب كما يوجد في مدينة سيوة مستشفى عام كبير.

حتى عام 1960 لم يكن هناك سوى مدرستين تستقبلان عددا محدوداً من التلاميذ. بالواحة الآن خمس عشرة مدرسة للتعليم الأساسي فضلاً عن مدرسة ثانوي عام وأخرى ثانوي تجاري. وتزهو سيوة بـ 59 خريجاً جامعيا من أبنائها تخرج أولهم عام 1972. هؤلاء الجامعيون ممثلون لشتى التخصصات فمنهم طبيب وصيدلي و 3 خريجو تجارة، وخريجة زراعة، 2 آداب وهندسة.. لم يبخل مسئول الوحدة الاجتماعية علينا بهذه التفاصيل.

يبلغ تعداد الواحة (000،30) نسمة. يعملون في الزراعة التي تقوم حول عيون الماء المتفجرة في الصحراء. ومن أهم هذه العيون (عين الزيتون، عين المراقي، عين الدكرور، عين الخريشات..) وبعض هذه العيون يصل إنتاجها من المياه إلى 30.000 م3 يوميا (عين قريشيت)،20.000 م3 يومياً (عين أبوشروف) وهذه المياه صالحة للزراعة حيث لا توجد بها سوى نسبة قليلة من الملوحة.

أجود أنواع التمور تجود بها غابات النخيل الممتدة على اتساع الواحة. فهناك أكثر من مائتي ألف نخلة بين سامقة وقصيرة، ولكنها مثقلة بسباطات البلح المتميز بمذاقه الحلو. كما أن الواحة بها أكثر من 30 ألف شجرة زيتون مثمرة لأطيب أصناف الزيتون متناثرة بين (الحطايا) وهي مزارع النخيل والزيتون.

وتمتاز الواحة بخصوبة التربة. وعيونها تمنحها مياها عذبة وفيرة تكفي- إلى جوار ما يستهلكه سكانها- لري آلاف الأفدنة، ومن العجيب- كما يقول العميد عبدالوهاب طاحون رئيس مجلس مركز ومدينة سيوة- إن الصحراء حولها تشكو من ندرة وجود المياه، على حين نحن في الواحة نشكو من كثرتها. فقليل من مياه العيون يستهلك في الزراعة والكثير الكثير يهدر في الملاحات. بل إن سيوة مهددة من مياه الصرف وارتفاع منسوب المياه الجوفية.. ورحم الله شاعرنا العربي.. إذ يقول:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ

والماء فوق ظهورها محمول

تقاليد وعادات

على عادة الإغريق حين كان أبطالهم يقصدون معبد (دلفي) في جبل (الأوليمب) لاستكناه المجهول من المستقبل، قصد الإسكندر الأكبر معبد آمون في واحة سيوة في بداية عام 331 ق.م. كما يروي المؤرخون، وعلى حد تعبير المؤرخ الفرنسي (جوتييه): (.. كان لوحي آمون شهرة كبيرة قبل ذلك بعدة قرون، وكان هذا الوحي ذائع الصيت في بلاد الإغريق، مما حدا بالإسكندر إلى الذهاب لرؤية آمون رب سيوة ليستلهمه حول مصير العالم..)..

منذ ذلك التاريخ كثر المنجمون والسحرة من الرجال والنساء في سيوة، وأهل سيوة يعتقدون في أهمية الرقي والأحجبة والتمائم التي تقي الإنسان شر الحسد والمصائب. ولديهم لكل مرض حجاب خاص. ولهم أيضا وسائلهم في الطب البدائي. ولديهم ولع شديد بالموسيقى والغناء. وتسمع أغانيهم الشجية في المزارع من مسافات بعيدة خاصة عند صفاء الجو وسكون الرياح.. ويمزجون الرقص بالغناء في احتفالاتهم ويصفقون بأيديهم في وقت واحد لتنظيم وتوقيع حركات الرقص الذي ينتمي إلى فولكلور شديد الخصوصية والتمايز.

ومن أهم العادات والتقاليد ما يتم عند ولادة الطفل، فبعد ولادته بأسبوع يتم عجن الحنة ويضعون نقطة منها ما بين حاجبي المولود. ثم تأخذ البنات جزة مليئة بالماء ويصعدن إلى سطح المنزل، ويتركن الجرة هناك اعتقاداً منهن أن ذلك يُطيل العمر..

وكانت الفتاة تتزوج في سن التاسعة ثم بدأ معدل سن الزواج يرتفع إلى 14، 15 سنة.. والفتاة التي لا تتزوج في هذه السن.. تصبح عانساً..!! وربما يتم تزويجها إلى أرمل.. مثلاً!!

ولا يجرؤ الفتى على خطبة عروسه من والدها مباشرة، بل عليه الرجوع إلى أكبر ذويه سناً ليتقدم إلى والد العروس ويطلب يدها.. وعندما تولد الأنثى تشرع الأم في تجهيز منزلها واحتياجات الزفاف، وبعد عقد القران يعين موعد للزفاف ويدفع العريس المهر- وقد ارتفع في السنوات الأخيرة- ثم يشرع أهل العروس في الاستعداد ليوم الزفاف المتفق عليه.

تبدأ البنات في تطريز (الطُرح السيوي) والتي يبلغ عددها أحياناً- في جهاز العروس- 30 طرحة. ويتم إعداد ثوبين للعروس أحدهما أبيض والآخر أسود.. إنها الحياة بوجهيها..!! وبعد الانتهاء من تحضير ملابس الزواج تتوجه الفتاة في ثلة من رفيقاتها تحت جنح الليل إلى (عين العرائس)- التي يقال إن كليوباترا قد استحمت بمياهها- وتستحم ثم ترتدي ثوبها الأبيض، وتمكث بعد ذلك في غرفة منفردة بحيث لا تراها البنات غير المتزوجات.. ربما يتم ذلك لإيجاد حد فاصل بين حياتها الماضية وما هي مقدمة عليه من حياة تختلف تماماً عن لهو وبراءة الصبا.. إنه إعداد نفسي يتم في صمت.. وفي ليلة الزواج تأتي امرأة محترفة تعادل (الماشطة) التي يعرفها الناس في وادي النيل أو الوصيفة التي تصحبها البنات ممسكات بالفوانيس الملونة، لتقوم بعمل الزينة وتسوية الشعر وعجن الحناء.. (والاهتمام بالحناء شديد وواضح هنا ويتفننون في زخرفة اليد والقدم. وقد كانوا قديما يستخدمون الخيوط والحبال لعمل النقوش. أما الآن وقد تسللت إليهم الحضارة قليلا وعرفت الطريق إلى حياتهم اليومية فإنهم يستعملون (الاستيكرز) الذي يرد إليهم من ليبيا. وبذلك تعددت النقوش والأشكال، واختفت الزخارف والنمنمات البدوية، لقد حلت محلها نقوش وأشكال نمطية.. خلو من الإبداع الفردي المتميز بمسحته الفولكلورية التي تضفي عليها روح الإنسان بُعداً حياً..!!).. تأتي الماشطة وتضع العطور وروح الورد واللمسات الجمالية الأخيرة. ويأتي الزوج ليصحب عروسه إلى منزل الزوجية الذي أثثه بفرش بسيط. لعل أهم ما فيه- كان العريس غنياً أم فقيراً، ورغم التطور اللاحق في السنوات الأخيرة- هذا الصندوق الخشبي المزين بشرائح من النحاس والمطرز بمشغولات يدوية جميلة حيث توضع داخله مقتنيات العروس. ولا بد أن يضم منزل الزوجية (المربوعة) وهي الحجرة التي يلتقي فيها الرجال وتضم مجموعة من المتكآت المحشوة، وكليما زاهي اللون فضلاً عن أواني وأدوات صنع الشاي..

التليفزيون.. والغولة

في الستينيات بدأ رصف الطريق بين سيوة ومرسى مطروح، وانفتحت نافذة على العالم. وفي عام 1986 عرفت الواحة البث التليفزيوني. وكان لهذين الحدثين أثر كبير على الواقع الاجتماعي في الواحة التي بدأت تعرف أشياء.. وأشياء عن العالم الخارجي. يقول العميد عبدالوهاب طاحون رئيسا مجلس المدينة: إن التليفزيون بالذات جعل الفتاة تهتم بزينتها، وجعل اللغة العربية تنتشر بعد أن كانت للغة السيوية اليد الطولى. وانتقلت عادات وتقاليد الوادي إلى مجتمع الواحة. وساعد ذلك على ارتفاع معدل سن الزواج. إلا أن المرأة ظلت بلا رأي في موضوع زواجها. فليس لها أن تختار- وهي على حد تعبير العميد طاحون- قد تبدي رأيها في حذاء تشتريه، ولكنها لا تجرؤ على اختيار أو المشاركة بالرأي في شريك حياتها..!!

ولعل من العادات التي انقرضت، وكانت شائعة لسنوات عشر خلت، ما رواه لي أحد الشيوخ الثقات عن ليلة الزفاف حيث طقوس (فض البكارة) وهو أمر حسّاس بالنسبة لأسرة العروس في تلك المجتمعات.. وربما في غيرها حتى الآن.. فقد كان يتم هذا التقليد في حضور خال العروس أو عمها أو كليهما معاً.. فإذا فشل الزوج أو تقاعس لعدم خبرته كان يصيح به ابن عم للعروس أو ابن خالٍ لها: (وكّلني) فيتم توكيله وإنابته في إنهاء هذه المهمة (باستخدام إصبعه)!! وفي مثل هذه البيئة لم يكن مستغرباً أن تجد شيخاً جاوز التسعين متزوجاً بـ (طفلة) عمرها تسع سنوات..!!

والاعتداد بالبنين وكثرتهم أمر مفروغ منه في مثل هذا المجتمع وهو ما لمسناه في لقاءاتنا مع الشيوخ والشباب على السواء، فهم القوة والسند وهم ذراع الأسرة وزندها القوي في العمل والخصومة. والكل حريص على إنجاب الذكور. حتى أن الزوجة تسمح لزوجها أن يتزوج من أخرى متى أراد.. شريطة أن يقوم الزوج - إذا شرع في زيجة جديدة- بتقديم مهر وهدايا لزوجته الأولى مساو تماماً لما يقدمه لزوجته الجديدة!!.. وإذا تزوج من ثالثة فعليه أن يمهر القديمتين بمثل ما قدم للوافدة العروس!! وهكذا..، بل إنه في ليلة عرسه الجديد، وقبل أن يبني بعروسه عليه أن يبدأ بزوجته الأولى.. هكذا جرى العرف!! وهكذا كانت حواء دائما ما كانت لتدع الفرصة تفلت دون أن تدير دفتها لصالحها.. فالمرأة لا تفرط في حق لها إلا لاكتساب مغنم جديد يضاف إلى رصيدها!!

وتبقى الزاوية الأخيرة في هذه اللوحة الاجتماعية المثيرة.. إنها للمرأة الأرمل.. ويالبشاعتها!!

فعندما يموت الزوج تسير الزوجة في الجنازة حتى المدافن، وعقب دفن الجثة تختفي تماماً.. وتتوارى عن الأنظار وكأنما ابتلعتها الأرض تختبئ عن العيون كي لا يراها أحد.. فهناك اعتقاد راسخ بأن من تقع عيناه عليها تصيبه الكوارث ويلحق به الضُّر.. ويطلقون عليها اسم (الغولة).. تحتجب عن الناس أربعين يوماً.. وعندما تجتاز، وحدها، تلك الفترة العصيبة، يرفع عنها لقب (الغولة) ويصبح لها الحق في أن تبعث من جديد. وتشارك الناس الحياة.. ولكن أية حياة؟!

الجارة.. أم الصغير

هذا هو اسمها.. قرية صغيرة تقع على بعد 130 كم من مدينة سيوة.. والمسافة على قصرها، قطعتها السيارة بنا في ساعات سبع عبر طريق ملتو، سيئ التضاريس، غير معبّد.. ورغم صعوبة الوصول إليها، وعناء الرحلة الذي أشفق علينا منه مرافقنا.. إلا أننا أصررنا على زيارة هذه القرية التي تضم أصغر مجتمع في العالم..

تقع هذه القرية إلى الشمال الشرقي من مدينة سيوة وعلى حافة (منخفض القطارة) وهي مبنية على ربوة مرتفعة يصعد إليها القادم بسلالم منقورة في الصخر ومنزلقة.. ولها مدخل واحد حصين.. (.. ككل القرى التي كانت تتعرض للغزو والنهب من بدو الصحراء وغاراتهم..) ويوجد بالقرية مسجد قديم وبئر يمد الأهالي بالماء. وهم أشد اعتداداً بلغتهم السيوية. وبالقرية آثار لمدينة قديمة وشوارعها حصينة وخفية.. ويمكن للأهالي رؤية القادم الغريب قبل أن يصل إليهم وهو ما زال على مسافات بعيدة..

والقرية كلها خمسون منزلاً.. ويرأسها الشيخ حسن الذي يشيدون بعدالته وديمقراطيته وانفتاحه، فقد رحب بافتتاح مشغل لتعليم الفتيات صناعة وتطريز الأكلمة. وعلى الفور ألقت ثلاثون فتاة بنقابهن وانخرطن في العمل وتفوقن على من قام بتدريبهن. وهو يحاول أن يقود القرية إلى التغيير والانفتاح على القرى القريبة، رغم كبر سنه، خاصة بعد إدخال المياه العذبة والكهرباء إلى القرية.

بالقرية عدد كبير من أشجار النخيل والزيتون. وعلى الزراعة يقوم اقتصادها وتجود الأرض بأجود المحاصيل، وما دام هناك النخيل فإن الصناعات اليدوية المنبثقة من عطائه تزدهر. منهم متخصصون في صناعة (الصاع، المارجونة، المقاطف) من خوص وسعف النخيل. كذلك، وبمهارة فائقة، يصنعون المفروشات الأرضية والأكلمة الزاهية الألوان.

الظاهرة اللافتة للاهتمام في هذه القرية أن تعداد أهلها البالغ 259 نسمة فقط.. لا يعتريه، أي تغيير.. لا يزيد ولا ينقص.. فعندما يختطف الموت أحد الشيوخ يولد بديلاً عنه طفل جديد!!.. وكأنما يخلي الراحل مكانه للوافد الجديد.. موازلة قدرية.. ومعادلة محسوبة بدقة تثير الدهشة والاستغراب والتأمل..

لم يعكر صفو هذه (المحمية) أو المجتمع البكر إلا ظهور بعض حالات شلل الأطفال والتخلف العقلي، الناتجة عن زواج الأقارب.. مما حدا بالمسئولين إلى توجيه الأهالي لاتساع حلقات الإصهار إلى الأسر الأخرى والزواج من البيئات القريبة تلافياً لتلك الأمراض، وأملا في جيل جديد ينعم بالصحة والبنيان السليم...

ظلال تاريخية.. وآثار

يروي المؤرخ نيقولا جريمال في كتابه (تاريخ مصر القديمة) أن قمبيز الثاني (حاول الاستيلاء على النوبة والواحات عام 524 ق.م. وكان الهدف من حملته التي بلغ قوامها 50 ألف جندي هو السعي وراء وحي آمون تثبيتاً له في زعامة مصر، وهو ما فعله الإسكندر الأكبر في وقت لاحق وانتهت حملة قمبيز إلى سيوة بكارثة.. حيث فقد جيشه الجرار.. ويخيل لعلماء الآثار بين الفينة والفينة أنهم كشفوا عن بعض ما خلفه من أثر تحت رمال الصحراء..) ص 476.

وكما ابتلعت منطقة (بحر الرمال الأعظم) الممتدة من جنوب سيوة حتى العوينات جنوب مصر جيش قمبيز، ابتلع التاريخ الكثير من المعالم الأثرية في صحراء مصر الغربية ولم تبق إلا شواهد منها.. والكثير الكثير لم يكتشف بعد..

ومن الآثار القديمة التي انتثرت في سيوة (معبد آمون) في منطقة (أم عبيدة.) ويقع على مسافة قصيرة من (صخرة أغورمي) التي بني فوقها معبد التنبؤات وهذا المعبد بني في عهد الأسرة السادسة والعشرين. والأجزاء المتبقية منه مازالت تحتفظ بنقوش زاهية الألوان، واضحة، تمثل مواكب الآلهة وهي تقدم فروض الولاء لآمون العظيم.. إله سيوة..

وفوق (صخرة أغورمي) أقيم (معبد آمون للتنبؤات)، وحتى الآن لم يتم اكتشاف المعبد بأكمله. فمازالت بقية أجزاء المعبد تحت أطلال مدينة سيوة القديمة المعروفة باسم (شالي). وتقول بعض المصادر إنه بدأ العمل في بناء هذا المعبدفي عهد أحمس الثاني (أمازيس) ولكن الإسكندر أكمل بناءه. وترجع أهمية هذا المعبد إلى شهرته في التنبؤ بالمستقبل. وكان هذا شائعاً في العالم القديم. ويقال إنه في إحدى قاعاته وهي (قاعة التتويج) تم تتويج الإسكندر، إبنا لآمون، من قبل كهنة الإله العظيم.

أما "جبل الموتى" فيبعد حوالي ميل، شمال شرق مدينة سيوة، وتوجد في باطنه مقابر عديدة منحوتة داخل صخوره ذات قيمة أثرية كبيرة. اكتشف من هذه المقابر مقبرة (ني- بير باتوت)، ومقبرة (سا- آمون) وغيرهما، ومازالت تلك المقابر تحتفظ بنقوشها الزاهية والكتابات والرسوم الفرعونية التي تعتبر آية من آيات الفن والتاريخ.

وعلى بعد قريب من سيوة توجد واحة الأعرج وبها مجموعة أخرى من المقابر الأثرية ذات القيمة التاريخية. وفي قرية المراقي عثر على عدد من الآثار التي تم نقلها إلى المتاحف لعل أهمها تمثال على هيئة أبي الهول من العصر البطلمي، محفوظ الآن في المتحف اليوناني بالإسكندرية.

ماذا عن المستقبل؟

كان لا بد في النهاية من مواجهة هذا السؤال.. بعد أن طالت مراوغته.. ماذا عن المشروعات الحديثة التي تنهض بهذا المجتمع البسيط المعتصم في عمق الصحراء بدينه وتقاليده وتراثه؟؟.. في لقائنا مع العميد عبد الوهاب طاحون رئيس مجلس مدينة ومركز سيوة، طرحنا عليه السؤال، وكان واقعياً وجريئاً في الإجابة عنه..

"لكي نحقق ما نصبو إليه من مشروعات لا بد من وجود موارد للإنفاق عليها. ونحن لدينا خطة طموح لتنشيط السياحة والتنمية الزراعية. ولدينا في الشق الأول مشروعات كبيرة مثل (المنتجع الطبي العالمي) فقد تم الاتفاق مع شركة إيطالية لإنشاء هذا المنتجع العملاق على مساحة 11 فداناً في سفح جبل الدكرور حيث توجد عين الدكرور التي تنتج 12 ألف م 3 مياه يومياً تبلغ درجة حرارتها 45 مئوية. والرمال تحتوي على بعض الإشعاعات التي تعالج أمراض الروماتيزم وعرق النسا وغيرها. ومنذ القدم والناس يعالجون هنا بالدفن فيها. سيتم إنشاء مستشفى كبير ومطعم سياحي وتم الاتفاق على عمل مطار لاستقبال الطائرات (الشارتر) من أوربا إلى سيوة مباشرة. ومنها إلى الأقصر وأسوان.

هذا فضلاً عن الاتفاق على استغلال المياه المعدنية للبحيرة، وتم الاتفاق مع شركة إيطالية، أيضاً، على إنتاج زجاجة مياه معدنية تحمل اسم سيوة إلى العالم وقد يصل إنتاج المصنع إلى 800.000 زجاجة في العام الأول. وتم اشتراط تدريب 20% من العمالة الفنية كل عام في إيطاليا. إن مثل هذه المشاريع تسبب إنعاشاً اقتصادياً وذلك بتشغيل الأيدي العاملة وزيادة الرواج الاقتصادي..

كما أنه تم اكتشاف جبل للرخام.. بل سلسلة من الجبال يمتد طولها إلى 12 كم. وقد تم إرسال عينة من هذا الرخام إلى إيطاليا وتأكد أنها من أجود أنواع الرخام في العالم. ويحتاج هذا المشروع- استخراج الرخام- إلى طريق ممهد وتوفير الكهرباء اللازمة.. كما يحتاج إلى جهد كبير وإمكانات أكبر.. وحبذا لو حضر الجيولوجيون إلى هنا وكثفوا جهودهم لاكتشاف خامات النحاس والفوسفات وغيرهما من المعادن التي تزخر بها المناطق الجبلية هنا...

.. المنتجع الطبي، والمياه المعدنية مشروعات على طريق التنمية السياحية. إن سيوة المكان الأقل تلوثاً في العالم كله. فمعدل التلوث البيئي لا يصل إلى 0.5%. ثم هذه المناظر الخلابة والمناخ الصحي والآثار. لدينا 4 ملايين نخلة وشجرة زيتون وبحيرات أربع وسلاسل من الجبال الرائعة.. كل مكونات الجمال.. ولكن لدينا أيضا مشاكل في السياحة. لا توجد خدمة سياحية جيدة. الناس هنا- وهذا طبيعي - لا يقبلون فكرة (الفندقة) رغم وجود مئات من السائحين يومياً. لا بد من تسهيل الوسائل لحضور السائح.. ولدي فقط 3 كم طريق أسفلت ممهد. هناك بعثة أثرية للبحث عن مقبرة الإسكندر وهناك احتمال 90 % أن يعثروا على رفاته هنا. ماذا لو تم ذلك؟؟ ستكون سيوة كعبة السياحة الأوربية.. ماذا أعددنا لذلك؟ لا شيء..".

.. ولكن ماذا عن التنمية الزراعية.. ومشاكلها.؟ سألت..

.. "لا بد من إنهاء مشكلة مياه الصرف بتوسيع الرقعة الزراعية حتى يتم استهلاك أكبر قدر من مياه العيون. يتم ذلك بتشجيع الهجرة من وادي النيل إلى الواحة مع إيجاد حوافز كبيرة لذلك.. لا يأتي هنا إلا المنفيون.. وأهل الواحة لا يعملون إلا بمقدار احتياجاتهم من طعام وكساء.. ليس هناك طموح- رغم عطاء الأرض وخصوبتها- لتجاوز ذلك إلى مرحلة التصدير إلى الوادي والخارج. ونحن نشجع الأهالي على استصلاح الأراضي، فمن يستصلح أرضاً يحصل على دعم ومعونة. كما أننا نسوق لهم المحاصيل بأسعار طيبة تساعدهم على الانتعاش اقتصادياً.."

في اليوم قبل الأخير من زيارة سيوة.. فاجأتنا الأنباء بالزلزال الذي أصاب القاهرة وأنحاء عديدة من مصر.. لم تحس به سيوة وكانت بعيدة عنه. كما هي بعيدة عن كل شيء..

كان أهل الواحة يحتفلون في تقوى وصلاح بعيد الوفاق والحصاد والوئام وحين غادرتها في اليوم التالي، كانت السيارة تقطع الطريق إلى خارج الواحة، وكان هناك أكثر من بناء عصري يحاول السوق والارتفاع مشوها هارمونية التوافق المعماري للواحة. حيث البيوت البسيطة التي اعتدى عليها القبح المجاور.. الجائر.. كان رأسي نهباً للأفكار وعيناي فريسة للمرائي البكر.. وكان السؤال: ماذا عن المستقبل؟ مازال يطن في أفق الروح.. وتبعته أسئلة لم تهدأ..

هل تهب رياح التغيير على هذه الواحة الوادعة، متحف التاريخ والبداوة، فتقتلع الأصيل والنبيل لترسخ الهلامي الزائف؟

هل يفترسها زلزال الحضارة القادم فيزعزع ثوابتها ويصدع بكارة أبنائها ونبلهم البسيط؟

هل يهجر أبناؤها- وإن كانوا ينتجون ما يأكلون- الأرض/ الأم إلى سراب الصدقات وفتات الاقتصاد الاستهلاكي الهامشي القادم في زي سائحي الشمال؟؟

هل.. وهل.. وهل؟؟!

وحانت التفاتة مني إلى الخلف.. كانت سيوة تغيب عن الأنظار وتغرق في اتساع الصحراء.. وتذكرت بيتاً رائعاً للشريف الرضي.. قنعت به..

وتلفتت عيني، ومذ خفيت

عني الطلول.. تلفت القلب

 

أحمد عنتر