المسلمون في بولندا دوروتا متولي

دخل الإسلام الأراضي البولندية مع محاولات غزو تترية فاشلة. والتتار يمثلون شعوباً تركية أو قبائل مغولية أقامت في الجمهورية " التتارية" في شمالي القوقاز وبعض أجزاء من سيبيريا. يعود تاريخ أول هجوم تتاري على بولندا إلى عام 1241. ومنذ القرن الرابع عشر حتى السابع عشر تزداد كثافة هجمات التتار على الأراضي البولندية، وكان الهدف الرئيسي منها هو السرقة والنهب.

تعود أصول التتار البولنديين إما لكونهم أسرى حرب، فضّلُوا العيش في بولندا واتخذوها وطنا، وإما إلى أولئك التتار الروس الذين هربوا من بلادهم إلى بولندا، خوفاً من بطش النظام القيصري الروسي واستبداده. ساعد التتار المسلمون الدولة البولندية في النضال ضد الحروب الصليبية، واحتمت الأقلية المسلمة داخل الأراضي البولندية لمواجهة الهجمات العرقية الدينية من جانب القيصرية الروسية.

ومع توالي الزمن والأحداث التاريخية أصبح التتار بولنديين. وفي منتصف القرن السادس عشر، فقدوا السمة القومية لهم، وضعفت لغتهم التتارية الأصلية، وسرعان ما ذابوا داخل المجتمع البولندي. ومنذ بداية توطينهم، استفادوا من مختلف المزايا التي تضمن لهم حرية ممارسة العقيدة، والأمن الشخصي لكل مواطن، وبعد مرور الزمن أصبحت الطبقة الأرستقراطية التتارية متساوية في الحقوق والواجبات مع الطبقة الأرستقراطية البولندية.

قسم على القرآن

في الوقت الذي كان فيه التتار أوفياء للعقيدة الإسلامية وممارسين لها، أخلصوا في الوقت نفسه لوطنهم. الجديد. ففي عام 1792 عندما هددت الدول المجاورة بولندا وأمنها القومي، أقسم جنود التتار على القرآن الشريف أمام شيوخهم وأئمتهم بأنهم سيدافعون عن الملك والدستور البولندي والوطن الجديد، وقد ظلوا أوفياء لعهدهم حتى الممات. يؤكد ستيفان موخارسكي زعيم التتار بأن " البولنديين المسلمين هم بولنديون، وليسوا أقل درجة من إخوانهم البولنديين. الاختلاف الوحيد بيننا - يستطرد موخارسكي- هو في أصولنا التي تعود إلى جذور تترية". فالتتار البولنديون يؤمنون بالدين الإسلامي حسب الملة السنّية. ومنذ وجودهم فوق الأراضي البولندية، كانت تحكمهم الشريعة الإسلامية المستندة على تعاليم القرآن وسنته، وقد طبقت هذه الشريعة داخل الأحياء الإسلامية، وكانت تمثل الدستور الرئيسي المنظم للحياة الدينية لهم: مركزها المسجد، والإمام، باعتباره زعيما دينيا وأبا روحيا، وهو يقوم بعدة وظائف: فيؤم المصلين، ويحافظ على المسجد، ويقوم برعايته، ويزوج المسلمين من المسلمات، كما يكتب شهادات الميلاد والزواج وحالات الوفيات. وتعود أقدم وثيقة من هذه الوثائق إلى عام 1556.

في عام 1925 نشأ "اتحاد المسلمين الديني"، وفي ذات العام عُين يعقوب شينكيفيتش Jakub Szynkiewicz مفتيا عاما للاتحاد باعتباره زعيما روحيا للمسلمين البولنديين، وهو حاصل على دكتوراة في علم الاستشراق. كان هذا الاتحاد في بدايات القرن العشرين يشرف على حوالي تسعة عشر حيا من الأحياء الإسلامية، وسبعة عشر مسجداً وسبعة آلاف مسلم.

في عام 1945 أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بقي من آثار المسلمين مسجدان فقط على الحدود البولندية/ الروسية، وعدة أحياء مسلمة هي: كروشينياني K ruszyniany ، وبوهونيكي Bohoniki وسوكوكا Sokolka وكرينكي Krynki وبياوي ستوك Bialystok وتقع هذه الأحياء في الجزء الشمالي/ الشرقي داخل الأراضي البولندية. أما المساجد، والبقية الباقية من السكان المسلمين، فقد انتزعت هذه الأراضي منهم لتصبح جزءًا لا يتجزأ من خريطة أراضي الاتحاد السوفييتي السابق، وذلك نتيجة لتغيير الحدود الشرقية بعد انتقال الأراضي الواقعة على الحدود إلى ملكية الدولة السوفييتية المذكورة. وعندما أعيد إنشاء "اتحاد المسلمين الديني" ثانية، لم يعين مفتٍ جديد له. أما فيما يتعلق بالقضايا الدينية والتنظيمية فيقوم بحلها وتحليلها ومناقشتها "المجلس الإسلامي الأعلى" الذي أقامه الكونجرس الإسلامي. وعبر سنوات عديدة نجد أن المسلمين البولنديين والذين بلغ عددهم - آنذاك - ثلاثة آلاف نسمة، لم يكن بإمكانهم ترسيخ علاقات دينية وطيدة مع الشرق الإسلامي، إثر قيام النظام الشيوعي في البلاد وتشكيل أيديولوجية وفكر سياسي يخدم الدولة وأهدافها. في عام 1984 وللمرة الأولى يزور حسن خالد مفتى لبنان الأراضي البولندية، لتعقبها زيارات متتالية من أئمة المسلمين وشيوخهم. وفي عام 1986 يزور بولندا كذلك ممثلون عن منظمة الدول الإسلامية، جاءوا من المملكة العربية السعودية، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن ناصر العبودي نائب السكرتير العام للمنظمة. يقوم الضيوف بزيارة الأماكن الإسلامية في بولندا، ويؤدون الصلوات مع المسلمين البولنديين بمسجد مدينة كروشينياني- هذا المسجد الخشبي ذي الطابع الإسلامي، الذي يعد أثرا من الآثار البولندية القديمة مثل المسجد التاريخي بمدينة بوهونيكي- هذا البيت الإسلامي لا يختلف عن مساجدنا- يستطرد الشيخ العبودي قائلاً- إننا نشعر بالرضا. فأنتم تخدمون بيوت الله، وتحافظون عليها، وتقومون بالاعتناء بها، وتلتقون بها تحت رعاية الرحمن".

حوار مع العالم الإسلامي

كانت لزيارة ممثلي هذه المنظمة الإسلامية الأثر الأكبر على نفوس المسلمين البولنديين آنذاك، فقد كانت أول اتصال رسمي مباشر مع المسلمين الوافدين إليهم من الأرض المقدسة، من مكة المكرمة. خلقت هذه الزيارة فرصة للحوار حول ضرورة مساندة العالم الإسلامي لبولندا، والسرعة في تشييد مسجد كبير بها، ومساعدة الأئمة والشيوخ البولنديين للسفر إلى الدول العربية الإسلامية، رغبة في الاستزادة من العلم، والتحصيل في أمور الدين الإسلامي، وتنظيم رحلات للقيام بمراسم الحج للمسلمين البولنديين. كانت هذه الزيارة بداية لاستمرار مزيد من هذا النوع من اللقاءات وتواصلها. ففي أغسطس عام 1988 استضافت بولندا الشيخ الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

ومن الجدير بالذكر أنه في السنوات العشر الأخيرة حدثت في بولندا هجرة للشعب البولندي من القرى إلى المدن الكبرى. ولم تترك هذه الهجرة كذلك الأحياء البولندية المسلمة على حالها، بل يفد عدد غير قليل من أولئك المسلمين نحو تلك المدن. ومع ذلك نلاحظ أنه من وقت لآخر، تأتي إلى تلك المساجد أفواج المجتمع البولندي المسلم، ليقوموا معاً بتأدية الصلاة في المسجد الذي يجمعهم أمام قبلة واحدة، توحدهم مع مسلمي العالم أجمع في الشعور بالانتماء وبالعقيدة. إنهم يزورون مقابر موتاهم، ويلتقون بالأصدقاء والأقرباء. وتعد الأعياد الإسلامية مناسبة لها خصوصيتها وتفردها الشعوري المتميز لدى المسلمين المنتشرين في أنحاء بولندا للقيام بهذه الزيارات، واللقاءات التي تؤكد الروابط الوثيقة الاتصال بتقاليد الدين الإسلامي وتعاليمه.

يستخدم البولنديون المسلمون اللغة العربية لفهم تعاليم دينهم الحنيف، ويقوم الإمام وشيخ الجامع بإيضاح بعض التفاسير والشروح للآيات والأحاديث باللغة البولندية إذا لزم الأمر.

بُني أحدث مسجد أخيراً في بولندا بمدينة جدانسك Gdansk، وهي أكبر ميناء يقع على ساحل بحر البلطيق. ويبلغ عدد المسلمين الذين يقطنون أحد أحياء هذه المدينة حوالي ثلاثمائة مسلم. ويبدو أن هذا المسجد لم يُشيد فقط للمسلمين بجدانسك، حيث يزور هذا الميناء عدد ضخم من البحارة المسلمين من شتى أنحاء العالم، فيقومون بتأدية الصلاة وممارسة العبادة به، بالإضافة إلى وجود عدد غير ضئيل من الوافدين المسلمين الذين يدرسون داخل هذه المدينة والمدن البولندية الأخرى. هؤلاء وغيرهم هم الذين جمعوا التبرعات لبناء المسجد الكبير، وقد منحهم التاجر علي عبد التركي معونة مالية كبيرة، وهو عربي الجنسية يقيم ببولندا.

قام بتصميم مسجد جدانسك المهندسان المعماريان المسلمان ماريان فيشلاكي وعلى مُخله. لا يؤدي هذا المسجد فقط وظيفة العبادة، فبالإضافة إلى ساحة الصلاة توجد داخله قاعتان للمحاضرات: الأولى لتدريس اللغة العربية ومحاضرات حول تاريخ العالم الإسلامي وفنونه، والثانية لإلقاء محاضرات حول الثقافة البولندية للأجانب المقيمين بمدينة جدانسك.

مساجد في وارسو

يشيد المسلمون البولنديون كذلك مسجدين في العاصمة وارسو ومدينة بياوي ستوك. أما المسجد الأول فيقوم بوظيفة أخرى، عدا العبادة، فهو مركز إشعاع رئيسي للثقافة الإسلامية، يشمل ناديا ثقافيا ومكتبة عامة، وقاعة للمعارض الإسلامية، وقاعة للدرس والتحصيل، وقاعة متعددة الوظائف، وقد قام بتصميمه المهندس المعماري المسلم فويتشيخ زابودتسكي. ويستلهم هذا المسجد شكله من الفنون المعمارية للدول الإسلامية، ويظهر هذا بشكل واضح في الحلول التشكيلية والتقنية، وكذلك من ضخامة حجم هذا البناء: فتتسع ساحة الصلاة لعدد لا يقل عن خمسمائة وخمسين مصليا، وفيها جناح فرعي لا يقل عدد المصلين فيه عن مائة وخمسين مصليا، أما الجناح الرئيسي فيصل عدد المصلين فيه إلى أربعمائة فرد، بالإضافة إلى ساحة للصلاة تتسع لمائتين مخصصة للنساء. ويتوج معمار المسجد الكبير مئذنة يصل ارتفاعها إلى واحد وخمسين مترا. ويشيد الآن بالمدينة الإسلامية البولندية "بياوي ستوك" مسجد، يعد مركزاً إسلامياً عالمياً، قامت بتصميمه المهندسة المعمارية المسلمة كرستينا كاكارينكو، وقد عملت بضع سنوات كمهندسة معمارية متخصصة بالجزائر. يشتمل هذا المسجد على مركز مكون من ثلاثة أبنية: مسجد، ومدرسة قرآنية، وكذلك بيت للضيافة يخصص جزء منه لمعيشة واستقبال المسلمين العجزة. يقوم هذا البناء المعماري الضخم على أرض مساحتها خمسة آلاف متر مربع. ويعلو المسجد المزمع إقامته- والذي يصل ارتفاعه إلى ثلاثين متراً - مئذنتان، يصل ارتفاع كل منهما إلى خمسين متراً.

معنى التسامح في "جدانسك"

لنعد ثانية إلى مسجد "جدانسك"، يقع هذا المسجد الرحب بجوار كنيسة مسيحية، وبهذا المعنى يرمز هذا الوجود المتجاور إلى قيمة إنسانية خالدة: وهي التسامح وحرية العقيدة. ويثبت التاريخ أن القوميات البولندية ذات الأديان المتنوعة تقف على قدم المساواة، حيث يلوح الهلال فوق قمة المسجد التي تلقي بظلالها على الصليب القابع فوق الكنيسة، وكأنه شيء عادي لا يثير داخل النفس الدهشة أو العجب. ويصل الانطباع نفسه داخل نفوسنا، عندما نسمع دقات أجراس الكنيسة، التي لا تغطي برنينها صوت المؤذن عندما ينادي المسلمين للصلاة. إن هذين الصوتين يمتزجان معا، ليتوحد داخلهما الشعور العميق بالإيمان للوصول إلى المعبود.

والجدير بالذكر أن الترجمة الأولى للقرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغة البولندية قد تمت على يد الكاتب المسلم : يان مُرزا طارق بوتشاتسكي في عام 1858. أما أحدث ترجمة للقرآن الكريم فقد قام بها الأستاذ والمستشرق البولندي: يوسف بيلافسكي (1) في عام 1986.

كان الاهتمام بهذه الترجمة اهتماماً واسعاً داخل بولندا، ولم ينحصر هذا الاهتمام على المجتمع البولندي المسلم فقط، بل وشمل البولنديين غير المسلمين. أشار الأستاذ بيلافسكي إلى ذلك في أثناء ترجمته للقرآن:

"إن الاهتمام بالقرآن الكريم لعظيم، نحن نشعر به، كنتيجة طبيعية لاهتمام البولنديين بالعالم الإسلامي أخيراً، ويؤكد ذلك التعطشُ الواضح لمعرفة هذا العالم. لقد كان الاهتمام بترجمتي للقرآن كبيرا للدرجة التي تخوّف فيها البعض من عدم اللحاق للحصول علي نسخة منه ونفاد طبعته الأولى. كانوا يسألونني دائما: متى ستصدر ترجمة القرآن؟! (2)".

وتم إنجاز ترجمة القرآن الكريم بعد عشر سنوات من التفرغ لترجمته على يد المستشرق بيلافسكي، لتتأكد الرغبة في معرفة الإسلام دين الله الحنيف، والرغبة في نشر الدعوة الإسلامية التي تكسب كل يوم أرضا جديدة في بولندا.

 

دوروتا متولي