قضية بين المذياع والتلفاز فاروق حيدر

هل هناك حرب معلنة بين المذياع والتلفاز؟ أم أن اتفاقية تبادل مصالح قد قامت بينهما؟ كثيرون تنبأوا بانتهاء زمن المذياع مع ظهور التلفاز، وآخرون رأوا للتلفاز دوراً يختلف عن دور المذياع وأن لكل منهما مهمته. فما هي العلاقة الحقيقية بين هاتين الوسيلتين المهمتين من وسائل الاتصال؟

لا شك أن التلفاز كرّس مهمة الإعلام وأبرز أهميته بإظهار ما للصورة من تأثير كبير على المتلقي. فبينما كان المذياع يصل عن طريق الأذن، جاء التلفاز ليؤكد على السمع بحاسة البصر وليجعل الصورة التي كانت خيالا في ذهن المستمع وهو يستمع إلى المذياع، صورة حقيقية تبدو أمامه بكل دقائقها.

ولا شك أن للمثل الصيني الذي يقول: (صورة واحدة تعادل عشرة آلاف كلمة) مغزى كبيراً. إذ من المسلم به مثلا أن بث صورة مجرم ما على الشاشة الصغيرة لتحذير الناس منه ولملاحقته والقبض عليه، تعادل عشرة آلاف كلمة نقولها عبر الإذاعة واصفين ملامحه. وبهذا فإن مشاهدتنا لحدث ما مصور، أفضل بكثير من سماعنا وصفا عنه.

والصورة بشكل عام تجذب الإنسان. ليس فقط تلبية لرغبته في حب الاطلاع وإرواء لعطشه تجاه المجهول، بل أيضا لأن الصورة الماثلة أمامه عبر التلفاز توفر عليه مئونة التخيل تثبيتاً للكلمة التي يسمعها عبر المذياع، خاصة إذا كان الحدث الذي يبث حدثا عجيبا غريبا على المتلقي وجديداً على مداركه، كتصوير عملية هبوط المركبة الفضائية الأمريكية أبولو 15 على سطح القمر، تلك العملية التي لن يستطيع المذياع مهما كان المذيع بارعاً أن يعطي المستمع ما استطاع التلفاز أن ينقله لحظة بلحظة عبر صور واضحة تظهر دقائق العملية وتبين خصائصها.

المذياع وقبول التحدي

مع ذلك. لا نستطيع القول إن التلفاز قد قلل من أهمية المذياع، بل يمكن القول إن التلفاز قد أثر في المذياع تأثيراً إيجابيا بحيث جعله يعيد النظر في كثير من شؤونه بعد أن فوجئ بمنافس خطير ينضم إلى رعيل وسائل الإعلام والاتصال معلنا التحدي.. وبالفعل قبل المذياع تحدي التلفاز وبدأت معركة التنافس الصحي والإيجابي بين المذياع والتلفاز، وكان المتلقي، مستمعا أو مشاهداً، هو المستفيد الأول من هذه المعركة التي انصبت لتطوير وتحسين برامج الجهازين المتنافسين.

ونحن نذكر، في بدايات ظهور التلفاز، كيف توقع الكثيرون انتهاء عهد الراديو حيث كان الناس مندفعين بحماس لشراء الجهاز الجديد والجلوس بمتعة أمام الشاشة الصغيرة، واضعين الراديو جانبا. لكن ما ثبت بعد حين أن المذياع هو الجهاز الذي لا يمكن الاستغناء عنه أبداً، وأن الإذاعة المسموعة تبقى في مقدمة وسائل الاتصال بالجماهير، وبخاصة في زمن كزماننا لا يمكن فيه لأي إنسان أن يهجر عمله ويتفرغ لمشاهدة التلفاز طوال الوقت.. ولا بد أنه سيكون محظوظاً إذا استطاع أن يجد، في زحمة حياته اليومية، بعض الوقت للمشاهدة. إن الصورة تجذب الإنسان، ولكن إلى حين.. لأن من ينشد الراحة والاسترخاء يجد في إغماض عينيه واستلقائه، أو في إرسال نظره بعيدا عبر الطبيعة، مع الاستماع فقط ودونما جهد إلى الإذاعة، يجد كل المتعة التي يريد والراحة التي يطلب.

الصورة تحديد للتصور

إن الصورة تجذب الإنسان، ولكن إلى حين.. لأن الطبيعة البشرية وهبتنا متعة التحليق في دنيا الخيال وتصور الأشخاص والأشكال التي لا نراها التصور الذي يحلو لنا. هذه المتعة يحدها التلفاز لأنه يفرض علينا الصورة التي ارتآها المؤلف أو المخرج أو كلاهما، فنتلقى وننفعل لكننا لا نكون فاعلين، بينما تعطي الإذاعة لمستمعها كل الحرية في تخيل الشخصية التي يستمع إلى صوتها، وفي رسم معالم المكان الذي يجري فيه الحدث. وهو بهذا لا يقل إبداعا في تصوراته عن إبداع المخرج الذي أوحى إليه بكل ما يجري، ذلك الخيط الذي يربط بين المستمع وتخيلاته وبين جهاز المذياع وما يوحيه له، ذلك الخيط يبقى أبداً السبب الرئيسي الذي يجعل للإذاعة أسبقية بين وسائل الاتصال الأخرى.

ولطالما لاحظنا، نحن الإذاعيين، الاستغراب الذي يبدو على وجوه بعض المستمعين عندما يتعرفون علينا بالصورة، بعد أن عرفونا صوتا ورسموا في مخيلاتهم أشكالاً ارتأوها لنا. بل قد تدل ملامحهم أحيانا على الدهشة، إن لم نقل الصدمة، عندما يفاجأون بأحدنا بدينا مكرشا ذا صلعة مضيئة وطول ليس بالطويل بينما كانوا تخيلوه وهم يستمعون إلى صوته الرنان المليء بالرجولة والحيوية، شابا وسيما طويلا أنيقا كله رجولة. ويحق لنا بعد ذلك أن نتساءل: أليس من الأفضل والأمتع أن تبقى الصورة المرسومة في مخيلات المستمعين والتي رسموها بخيالهم هم، على ما هي مرسومة عليه، بعد أن استمتعوا بتشكيل ملامحها متأثرين بإيحاءات الصوت المنطلق من المذياع؟. والغريب أن أولئك البعض الذين يصرون على أن أهمية المذياع قد تضاءلت أمام التلفاز، لا يستطيعون الاستغناء عن المذياع، جانب فراشهم أو على طاولة مكتبهم أو في معملهم أو حقلهم، وفي المطبخ وغرفة الجلوس أيضا. وإنني لأجد الصورة الواقعية في غرفة جلوس أي منا حيث المذياع قابع بجانب التلفاز، إن لم يكن فوقه، فلا استغناء عنه مطلقا.

مازال التفوق للكلمة

ورغم أن لكل من المذياع والتلفاز مجاله. ورغم أن ما نجح في إظهاره التلفاز يختلف عما ينجح المذياع - بل يختص- بتقديمه، فإن الإذاعة تبقى متميزة بسرعة إرسالها وشموليته. فالموجة الصغيرة مثلا ترسل ما يبث عبرها من الكلمات بسرعة تعادل سرعة الضوء، بحيث تدور الكلمة حول الكرة الأرضية سبع مرات ونصف المرة خلال الثانية الواحدة. وبهذا فإن الكلمة المذاعة تصل أي مكان في أي وقت. أما الإرسال التلفزيوني فهو لا يزال قاصراً أمام سرعة الإذاعة وشموليتها. فالموجة المتناهية القصر التي تبث عبرها الصورة التلفزيونية محدودة طاقتها بدائرة لا يزيد قطرها على المائة وخمسين كيلو مترا. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة نقول: إن الصورة التلفزيونية لا تصل، بشكل تام وواضح ودائم، لأبعد من مرمى النظر، أي حوالي أربعين كيلو متراً. فهوائي التلفزيون يتطلب للصورة الجيدة أن يكون على مرمى النظر من محطة البث التلفزيوني، لا يفصل بينهما أي حاجز طبيعي. ومعلوم أن إنشاء محطات تقوية توسع دائرة البث التلفزيوني يكلف أموالا باهظة لا تقارن بما يكلفه الإرسال الإذاعي.

وطبعاً، لا نستطيع أن نتجاهل دور الأقمار الصناعية وما استطاعت تحقيقه على طريق سرعة انتشار الصورة التلفزيونية وشموليتها. لكن التكاليف الباهظة تجعل من الصعب استمرار الإرسال التلفزيوني عبر الأقمار طوال اليوم، فاستقبال الصورة عبر القمر الصناعي يعتبر عبئاً ثقيلا على إدارة التلفزيون وبخاصة في الدول النامية، حيث الدولة هي المسئولة عن محطات التلفاز. مجمل القول هو أن التنافس بين وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة، يشكل ظاهرة صحية وحقيقية تدفع عجلة التقدم في جميع المناحي، من أجل خدمة البشرية وتحقيق الأهداف الإنسانية والقومية. وكما سبق وذكرت، فإن أهمية الإذاعة وقربها من الجمهور لا يقلل من أهمية وسائل الاتصال الأخرى. كذلك فإن ظهور التلفاز لم يفقد المذياع أهميته. إذ إن ما يؤديه التلفاز من مهمات لا يتعارض مع ما تؤديه الإذاعة. والتفات الجمهور نحو التلفاز واهتمامه بمشاهدة برامجه لا يقلل من اهتمامه بالمذياع وسماعه لبرامجه، لأن لكل منهما خصائصه التي تفرض وجودها حسب الزمان والمكان وحسب حالة المتلقي الاجتماعية والنفسية.

دور الصورة في التأثير

أخيراً، لا بأس من أن أذكر مثالا عمليا اعتدنا أن نورده لطلابنا في مجال الحديث عن التنافس بين الإذاعتين المرئية والمسموعة، ففي معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت بين المرشحين : الديمقراطي جون كنيدي والجمهوري ريتشارد نيكسون، قامت إحدى شركات التلفزيون بدعوة السيدين كنيدي ونيكسون إلى حوار مفتوح بينهما، ليستطيع الناخب الأمريكي أن يختار منهما المرشح الذي يراه مناسبا. وبالفعل، شاهد الأمريكيون الرجلين على الشاشة الصغيرة وتابعوا البرنامج: بدا كنيدي أكثر ثباتا وثقة بنفسه، إلى جانب شكله الذي ينم عن رجولة وأناقة وشخصية آسرة. ذاك ما رآه المشاهدون بينما رأوا في نيكسون شخصية قلقة عصبية المزاج. وعندما نتساءل: كيف توصل المشاهدون إلى هذه النتيجة؟ وهل هي نتيجة حقيقية؟. لابد من أن نذكر التفاصيل التالية:

كانت خلفية الاستديو الذي جرى فيه تصوير البرنامج ذات لون فاتح مشرق.. وكان كنيدي يرتدي لباسا غامق اللون يتناسب مع الخلفية، بينما ارتدى نيكسون لباسا فاتح اللون بحيث جاء باهتا مع الخلفية الفاتحة اللون أيضا.

كان الجو في الاستديو خانقا أثناء التصوير بعد أن خفض المسئولون من قدرة التكييف، بحيث اضطر نيكسون لأن يحتفظ بمنديله في يده طوال البرنامج ليمسح عرقه من على جبينه ووجهه، فهو من الأشخاص شديدي التعرق، بعكس كنيدي الذي لم يحتج لمنديل يمسح به عرقه لأنه لا يتعرق بغزارة، وبذا بدا نيكسون والمنديل بيده يمسح عرقه وكأنه قلق وخائف من لقاء خصمه.

اختار مخرج البرنامج أن يتحدث كل من المتحاورين وهو واقف أمام طاولة خاصة وضع عليها المايكروفون. ولأن نيكسون يشكو من ألم في ساقه فقد كان يتحرك أثناء حديثه ناقلا ثقل جسمه من ساق إلى أخرى بحيث بدا متململاً قلقا غير ثابت، بعكس كنيدي الذي وقف بثبات دون أن يتحرك فبدا واثقا من نفسه غير هياب.

ذاك ما حدث في استديو التلفاز فأوجد لدى الجمهور المشاهد انطباعات قد تكون خاطئة. لكن المؤكد أن الشركة التلفزيونية المنتجة لهذا لبرنامج ضالعة في محاباة كنيدي والعمل على التأثير المباشر لإنجاحه. وكانت النتيجة أن غالبية مشاهدي البرنامج تعاطفوا مع الرئيس كنيدي متأثرين بالصورة وما استطاعت فعله معهم. بينما تعاطف مستمعو الإذاعة التي بثت نفس البرنامج، مع الرئيس نيكسون، لأنهم لم يشاهدوا الصورة بل أنصتوا وركزوا على الكلمات التي قيلت، والكلمات فقط.

كل هذا يبين مدى خطورة الصورة والدور الذي يمكن أن تلعبه عبر الشاشة الصغيرة. لكن، لا نستطيع أن نهمل القول الذي يجد في المستمع: المتلقي الأذكى من المشاهد. والحقيقة فإن الموضوع يتعدى ذكاء المتلقي، مستمعا كان أو مشاهدا، ليعتمد على ذكاء الإعلامي الذي يقف وراء ما يريد أن يقدم وكيف يقدم، وما الغاية المرتجاة مما يقدم.

 

فاروق حيدر