السيف الدمشقي عبر العصور مها مريدن عرف
العرب منذ العصور
الأولى صناعة السيوف وقد كان السيف في التاريخ العربي رمزاً للعزة والكرامة وفي
الإسلام صار رمزاً للحق والعدل وهو قبل وبعد الإسلام رمز للجهاد في سبيل الله ونشر
رايات التوحيد، وقد احتل لكل ذلك مكانة رفيعة في الخيال المسلم منحته تبجيلا
وإجلالا على جميع المستويات التصورية والعملية واللفظية.
فما هي قصة السيف
الدمشقي؟
كان العرب يطلقون على السيف الدمشقي أسماء كثيرة كالحسام والمهند والفيصل وما إلى ذلك من الأسماء التي تنم عن اعتزاز وفخر بالسيف. وقد عبر الشعراء عن حبهم وتقديرهم للسيف من خلال قصائدهم التي تغنت بالسيف ولمعان السيوف في ساحة القتال، وكثيرا ما كانت السيوف تقدم إلى الملوك والأمراء والسلاطين لتكون هدية ثمينة وذات معنى عظيم.. وقد كان السيف العربي يبرهن على تقدم العرب في مجال صناعة الأسلحة وخلائط المعادن بشكل عام.. وتحرى في عصرنا الحاضر- عصر التقنية العلمية- محاولات عديدة من جانب علماء الغرب للكشف عن أسرار صناعة النصول العربية وطرق تعدينها.
ظاهرة الجوهر
وانفردت هذه النصول عن غيرها ببعض الميزات من أهمها ظاهرة الجوهر الذي أطلق عليه أيضا اسم الفرند وماء السيف والأثر والسفسفة.
أما الجوهر فهو اصطلاح يستخدم لبيان ظاهرة الخطوط المتداخلة المتباينة المختلفة الألوان والأشكال والأوضاع على صفحات النصول.. فهي خطوط نائمة متداخلة على شكل النسيج الشبكي أو هي على شكل يقسم النصل إلى مسافات قصيرة ومتساوية أو على شكل عقد متناسقة متقاربة أو متلاحقة وربما تكون على شكل خطوط عريضة تشكل بقعا مستديرة أو مستطيلة أو أحيانا خطوطا متعرجة أو متوازية.
ويرجع هذا الاختلاف إما إلى التغيير في نسب الشوائب الداخلة في الخليط الفولاذي للنصل والذي تدرس كمياته بدقة كالماء والكربون والمغنسيوم والسيلسيوم والكبريت والفوسفور، وبعض المواد العضوية الأخرى، أو إلى التغيير في الطرق الحرارية من إسقاء وتبطين ويحكم في درجات حرارة كل منهاج وتختلف أنواع الجواهر باختلاف مصادرها واختلاف مناطق الاستخدام.. وحسب الضرورات القتالية.. وللجوهر ثلاثة أنواع رئيسية هي:
1 - الجوهر الدمشقي.
2 - الجوهر الفارسي.
3 -
الجوهر الهندي.
ويأتي في الدرجة الأولى الجوهر الدمشقي ومنه يصنع السيف الدمشقي..
السيف الدمشقي.. أصالة متميزة
ويمتاز الجوهر الدمشقي ببعض الخواص من أهمها التموجات الرائعة التي تشبه البقع الهندسية المحكمة وألوانه المائلة إلى البياض وعدم قبوله الصدأ ولينه ولدانته وتركيبه الذي يتكون من حبوب ناعمة متقاربة المسام رمادية اللون مع ميلها إلى البياض. ومن خواصه أيضا أنه يتكون من معدنين يتحد كل منهما بالآخر دون أن يفقد أي المعدنين خواصه.
وللسيف الدمشقي الذي اشتهر بسيف دمشق الذهبي صفة خاصة معروفة لدى أرباب المهن في البيع والشراء أنه ذو قيمة ثمينة، وهو سيف قاطع ويستعمل للنحر والحرب ومصنوع من الفولاذ الدمشقي، منه ما هو مستقيم ذو حد واحد ومنه ما هو بحدين وهو الأكثر استعمالا وشيوعا. وللسيف الدمشقي بشكل عام مواصفات خاصة بالشكل غير موجودة في أنواع أخرى، فهو يمتاز بالعرض المفرط والرأس ذي الحدين لأجل الطعن، والظهر السميك من أجل القطع بالحد والفصل في الظهر، بينما يصنع الغمد من هيكل خشبي ويلبس بصفيح من الحديد المنزل عليه الذهب أو الفضة.. أما المقبض فيصنع من العاج أو من قرن الجاموس.
ومن أسماء السيوف التي يصنعها الدمشقيون: السيف الفارسي، والسيف الهندي والسيف اليماني والسيف التتري، والمغولي، والقفقاسي، واليطقان القفقاسي، والقامات ذات الحدين وذات الحد الواحد والنوع المحدب ويسمى الخشب.
مراحل الصنع
وطريقة صناعة السيف الدمشقي تكون على عدة مراحل:
تحمى القطعة الفولاذية المراد تشكيلها التحمية الكافية بنار الكور، ثم تشكل بالشكل الذي يرغب به صانع السيف ثم تمسح القطعة وتنظف على حجر الجلخ ومن ثم تسن لإكسابها الحد القاطع.. ثم تأتي عملية السقاية، حيث تسقى قطعة الفولاذ المشكل منها النصل لأنها تكون قد فقدت سقايتها بسبب التصنيع والتحمئة وتكون سقايتها بخليط من الماء والزيت المعدني بنسبة 50 % إلى كل منهما، أما الحد فيعطى عناية أكثر أثناء السقاية، ليكتسب القساوة اللازمة أما إذا كانت القطعة المشكل منها السلاح من الحديد فتسقى بالماء بعد احمرارها لتتخذ صلابة الفولاذ الذي خسر سقايته الأصلية بسبب التحمئة.
وبعد انتهاء صنع النصل تأتي صناعة الغمد من المواد المذكورة سابقا دونما حاجة إلى سقاية وذلك لعدم الحاجة إلى قساوتة وكذلك يصنع المقبض.
فن الزخرفة والنقش
ثم يهيأ السيف للزخرفة بحيث ترسم عليه زخارف ذات أشكال هندسية وآيات قرآنية أو أشعار وحكم ورسوم أخرى، وتنفذ هذه الرسوم بطرق متعددة منها التزميك أو التكفيت أو التنزيل، ومن بين هذه الطرق ما يتمثل في حفر الرسوم المطلوبة على سطح المعدن ثم ملء الشقوق الناتجة بأسلاك ذهبية أو فضية على أن تكون أغلى من معدن النصل ومختلفة عنه في اللون، وذلك بسحبها بعناية ودقة بالغتين إضافة إلى ما قد يستعمل من حجارة ثمينة كالياقوت وما شابهه.
ثم تطرق الخيوط المنزلة بمطارق دقيقة خاصة لهذا الغرض لتثبت في أخاديدها، ثم يصقل السلاح بحجر خاص لإماتة الأخاديد على سطح القطعة وللمساعدة على التمام الخيوط إلى جانب بعضها بعضا ؟ فتصبح وكأنها مصاغة قطعة واحدة. أحيانا تعاد القطعة إلى نار الكور لتقوم حرارة، الكور بصهرها قطعة واحدة، ثم ينظف السلاح بالأحماض ويدهن بمادة ترابة (الشحير) لتثبيت اللون الداكن على السلاح وحفظه من الصدأ لفترة طويلة.
وقد اشتهرت دمشق منذ القدم بسيفها الأصيل المتميز. حيث ذاع صيته في أنحاء الوطن العربي وتعداه إلى الأسواق العالمية، وقد ازدهرت صناعته في عصور متعددة ومنها عصر صلاح الدين الأيوبي، واستمرت على ما اشتهرت فيه من ازدهار حتى قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم بدأت بالضعف والاضمحلال. فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك الضعف؟ وهل فقد السيف الدمشقي مكانته أم أنه ما زال محافظا عليها؟!..
يقول الصناعون الدمشقيون الذين ما زالوا يمارسون هذه الحرفة: إن الفولاذ الدمشقي الذي كانت تصنع منه السيوف الدمشقية هو معدن مفقودة صناعته منذ أكثر من 200 عام، ولذلك فإن النصال الفولاذية الموجودة حاليا في الأسواق هي غالبا نصال أجريت عليها عمليات ترميم لإحيائها. ويلاحظ أن معظم هذه السيوف كانت مقتناة من قبل أمراء وسلاطين أو أناس من طبقات ثرية مترفة أو ميسورة وليس من عامة الشعب، بحيث إن معظم هذه النصال الأثرية تصل إلينا في حالة جيدة وتجرى عليها فقط بعض عمليات الترميم والزخرفه.
أما السيوف الدمشقية التي تصنع في وقتنا الحاضر فهي غالبا من النحاس ومطلية بالذهب أو الفضة. أما النصال فتصنع من الفولاذ العادي أو من الحديد، والسبب هنا أن الفولاذ العادي الذي تصنع منه السيوف اليوم خليط من مواد فقدت خواصها واتخذت لها خاصية واحدة وبالتالي فقدت ميزات الفولاذ الدمشقي وفقدت أيضا قساوتها ولينها ولدانتها ثم تزخرف بخيوط من الذهب عيار (24) قيراطا حيث تدق عليها على. شكل زخارف متنوعة أو تطعم بالجواهر الثمينة المختلفة. ونلاحظ هنا أن المادة التي يصنع منها السيف قد اختلفت عن سابقتها، وأن السيوف تتمايز بتمايز الزخارف عن الغمد والزندوغراف مع التقارب في الشكل.
ولا نهمل هنا صناعة التروس والخناجر وأنواع الأسلحة الأخرى التي تميز بها الدمشقيون.
مصممون بالفطرة
إن هذه الصناعة العريقة هي من أصل مبتكرات فناني دمشق الأوائل منذ أقدم العصور وقد برع الدمشقيون في صناعة السيوف لأنهم أتقنوا فن خلائط المعادن، ويبدو أن موضوع فن خلائط معدن السيف الدمشقي كان أمرا خفيا أحتفظ به العرب الدمشقيون لأنفسهم في الماضي، ولم يتح المجال لمعرفة أسرار مهنة صناعة السيوف وقد ظل سرا دفينا مات بموت أصحابه الصناع الأوائل سيما أنهم لم يعلموها لمن بعدهم.
إن السيوف الدمشقية التي تصنع في وقتنا الحاضر هي سيوف رغم كونها قد اختلفت عن سابقتها في المضمون إلا أن هذا التغيير لو لم يكن مفروضا على السيف فقد كان هذا أمرا حتميا نتيجة التطور ونتيجة اختلاف الزمان وغايات الاستعمال.
لقد عبر السيف الدمشقي الأصيل عن نفسه من خلال استجابته وملاءمته للضرورات القتالية. أما في وقتنا الحاضر حيث غزت الآلة العالم وتطورت أساليب القتال. فقد أصبح السيف تحفة فنية. ما نريد قوله هنا إنه لو أن صناعة السخيف الدمشقي لم تتراجع نتيجة الظروف التي ذكرناها لأصبحت غير ملائمة لروح العصر الجديد الذي أصبحت فيه استعمالات السيف محدودة لا تتعدى حدود الفلكلور، إضافة إلى كونه تحفة فنية إن دلت على شيء فإنما تدل على ماضي الأجداد العريق.
وصناعة السيف الدمشقي اليوم رغم اختلاف جوهرها ما زالت تحتل مركز الصدارة في الأسواق العالمية، سيما أن الدمشقيين لا يزالون يعتنون بالزخرفة، ويزداد الطلب عليه هنا حيث يصدر إلى الأقطار العربية كالكويت والسعودية وقطر والبحرين وإمارات الخليج العربي حيث يعتني به الأمراء في تلك البلدان إضافة أعلى احتلاله أمكنة متميزة في المعارض والمتاحف العالمية.
وأخيرا فإن الحرفيين الدمشقيين إذ ورثوا براعة هذه الحرفة عن أجدادهم منهم أيضا من أتقنوها وطوروها وزادوا عليها وبذلك يمكننا القول إنه من حق دمشق أن تفخر بسيفها الخالد، وأن يكون لها الحق في أن تجعل السيف الدمشقي رمزاً لمعرضها السنوي الذي يسجل كل عام أنصع الصفحات لتضيف إلى ماضي الأجداد المشرق حضارتنا الخالدة.