ملف إبداع المرأة العربية: المرأة العربية والفضاء الثقافي.. من واقع التهميش إلى أفق الإبداع

ملف إبداع المرأة العربية: المرأة العربية والفضاء الثقافي.. من واقع التهميش إلى أفق الإبداع

المتابع لدور المرأة العربية في الثقافة عمومًا، والفن المسرحي بشكل خاص يجد أن ذلك لم يتحقق إلا بعد مراحل من الكفاح والنضال الحقيقي من أجل إثبات الذات وتأكيد الوجود والتفاعل الذي لابد منه مع الرجل لرسم ملامح الحياة وتكاملها في الإطار الاجتماعي عمومًا.

إن كفاح المرأة العربية في ارتقاء ناصية الثقافة والمسرح لايختلف عما مرت به نظيرتها في الغرب والتي عانت شتى أساليب القهر والتغييب, لكنها استطاعت أن تتحدى تلك الإشكاليات وتفرض وجودها ضمن الثورات الليبرالية وأفكار التنوير وتتجاوز المفاهيم الإقطاعية والجماليات الطهرانية والكنسية التي كبلتها لسنين طوال، ولعل الكاتب النرويجي أبسن أبرز من جسّد هذا الحضور النسوي حينما كتب مسرحيته الشهيرة بيت الدمية التي اعتبرت حدثًا ثقافيًا وثورة لتحرر المرأة في عموم أوربا الغربي آنذاك.

لقد شهد القرن التاسع عشر تحولاً ملحوظًا في بنية المشهد الاجتماعي والثقافي نحو تحريك الواقع الساكن لدور المرأة العربية التي واجهت عوائق وإشكالات كثيرة لم تستطع التخلص منها إلا في منتصف القرن العشرين، مع ظهور نزعات التحرر الوطني التي نادت بأفكار الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، تلك التي مهّدت الطريق لدخول المرأة بقوة وفاعلية في أتون المجتمع الذي تطلب منها نضالاً دءوبًا وحركة ناشطة وتأكيدًا للذات من أجل نيل بعض من حقوقها، بل انتزاعها من هيمنة المجتمع الذكوري والمتسلطين عليها، وقد وجدت المرأة في النشاط الثقافي أفضل السبل لإيصال صوتها ونشر أفكارها تلك, التي ارتبطت بشكل مباشر مع الحداثة والتنوير.

ولو عدنا إلى بدايات المسرح العربي لوجدنا أن دور المرأة كان شبه غائب آنذاك، حيث كان الكتاب يتحاشون توظيف الأدوار النسائية بشكل مباشر, بل كانوا يجتهدون في حضورها وهميًا أو غيايبًا، وإن تطلّب الموقف وجودها فقد كان الرجال يقومون بتمثيل دورها على الخشبة.

وظل العرض المسرحي ناقصًا على الرغم من كل المحاولات التعويضية التي لم تشغل هذا الفراغ، إلى أن جاء الرائد المسرحي أبو خليل القباني الذي استطاع أن يحقق بعض الحضور للمرأة في مسرحه، وحرص على إشراك المرأة بشكل فاعل حين عملت معه اثنتان من الممثلات في فرقته ما عرضه إلى نقد شديد وهجوم من بعض الأصوات المناهضة لمشاركة المرأة في الفعل الثقافي، ما اضطره لمغادرة سورية والسفر إلى مصر حينذاك ليواصل عمله الفني هناك.

أما الرائد الثاني يعقوب صنوع والذي اتسمت عروض مسرحه بالنقد الاجتماعي للسلطة والمطالبة بحضور المرأة في مجالات الحياة المختلفة، فكان لابد له من أن يجد بعض النساء ليشاركن في عروضه الجادة تلك التي أقلقت السلطات، ما جعل الخديو يأمر بإغلاق مسرحه وإبعاده خارج مصر.

لكن هذا الواقع المؤلم لم يدم طويلا،ً إذ أخذ البعض من المثقفين العرب تبني مسائل تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها، فظهرت أسماء مهمة ومؤثرة في الوسط الثقافي، أمثال، قاسم أمين، أحمد لطفي السيد، فرح أنطوان وآخرين ممن فتحوا الطريق واجتذبوا المناصرين للمرأة، بل شجعوا أصواتًا أخرى على المناداة بحضورها ومشاركتها في بنية الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.

إن ارتقاء المرأة خشبة المسرح كان يعد تجاوزًا للسائد وشجاعة متفردة وجرأة لا تضاهى في داخل مجتمعات منغلقة تتراكم فيها التراتبية الذكورية والأبوية والدينية والاجتماعية، إزاء هكذا واقع كيف استطاعت المرأة أن تحطم هذا التابو وتقتحم أسوار المسرح لتكون عنصرًا حاضرًا وفاعلاً في فضاءاته العربية والعالمية؟

إن ممارسة الفعل المسرحي لم تكن تحديًا لسلفية التفكير ومواجهة لعادات بالية فحسب، بل جاءت انطلاقًا من فهم عميق ووعي كبير بالدور التربوي الذي يمكن أن تنهض به المرأة وهي توجه خطابها وتعبر عن أفكارها وتناشد بالحصول على حقوقها مشاركة الرجل شبكة العلاقات الاجتماعية الجديدة برؤية فكرية وجمالية تحمل بين مشاهدها رسالة اجتماعية ودلالات إنسانية وتربوية وإبداعية.

وعلى مستوى الكتابة النسوية للمسرح باعتبارها ظاهرة ثقافية، فقد اجتذب هذا الفن بعض كاتبات الأدب ممن كان لهن اهتمام بارز بقضايا المرأة وهمومها وآمالها، أمثال، عائشة التيمورية في مصر وزينب فواز في لبنان، حيث مارسن الكتابة مع بدايات القرن العشرين وسط مناخ ثقافي شبه منغلق ومنحاز لجنس الرجال، فقد كان حق التعليم آنذاك وحق العمل خارج البيت مقصورًا على الذكور فقط، فما بالكم حين يكون الفعل النسائي عملاً معلنًا سافرًا بمواجهة الرجل الذي ينبغي منه أن ينصت لخطابها في الصالة المسرحية.

لقد سعت التيمورية وفواز عبر أعمالهما إلى أن تطلقا العنان لأفكارهما حول عالم المرأة وعلاقتها بالرجل بعد أن تحررتا من سطوة الكلمة، ليجسدن ذلك عبر صور مرئية في منظومة المسرح.

كان مطلع القرن الماضي بمنزلة تمهيد لدخول المرأة بوابة المسرح العربي من خلال الغناء أولاً، وكان للمرأة السورية قصب السبق في ذلك إلى جانب المرأة المصرية وظهرت أسماء لمطربات حققن حضورًا لافتًا في الساحة الغنائية مثل «المظ»، «منيرة المهدية»، «ليلى مراد» وغيرهن، إلا أن النساء الشاميات سبقن أقرانهن في الصعود إلى خشبة المسرح.

ومع مرور الوقت تزايد حضور الممثلات في المسرح المصري ولعل ما قامت به منيرة المهدية التي مارست التمثيل عام 1914 كان حينها تحولاً كبيرًا وارتقاء اجتماعيًا وفنيًا مهد السبيل أمام بنات جنسها الموهوبات لخوض درب النضال الفني والثقافي المستمرة لاسيما بعد ثورة 1919 حيث ظهرت أسماء جديدة رفدت الساحة الفنية بمواهب كبيرة عززت دور المرأة الثقافي والإبداعي، أمثال فاطمة رشدي، دولت أبيض، صالحة قاصين، سرنا إبراهيم، لطيفة نظمي، أمينة محمد، عزيزة أمير، فردوس حسن، زينب صدقي وفكتوريا موسى وغيرهن.

وبفعل ما تم إنجازه من قبل هذه الكوكبة المبدعة من الفنانات وما استطعن تحقيقه من خلال فن المسرح وإطلاق خطاب التجديد والتغيير، الأمر الذي حدا بالمجتمع إلى الاعتراف بهذا العطاء المميز، وهو الجانب الذي أكسب العمل المسرحي اعترافًا من قبل الحكومات ودعاها لإعادة النظر والشروع بفتح المدارس ومعاهد وكليات الفنون.

وهكذا استطاعت المرأة وبجدارة أن تجد مكانها إلى جانب الرجل في مجالات الفن المسرحي، وأن تتجاوز أدوارها التقليدية تنويعاً وابتكاراً، حيث توزع نشاطها في مجالات الكتابة والتمثيل والإخراج والتدريس والتقنيات والبحث والنقد المسرحي، وها هي اليوم حاضرة في كل مواقع العطاء والإبداع.

ولكن على الرغم من هذا الوجود النسوي في المجال الثقافي، إلا أنه مازال أمامها الكثير بغية ترسيخ تقاليد عمل واستمرارية النهج وفتح الآفاق واسعة أمام مواهب المرأة العربية وتوفير مناخ مناسب لاستثمار قدراتها بما يضيف ويعزز العطاء الثقافي والإنساني.

إن الملاحظ لدور المرأة في الفن مازال بعيدًا عن الطمو ح المأمول في بعض البلدان العربية التي لاتزال تحد من أن تأخذ المرأة موقعها وحقها المشروع في المشاركة الفاعلة لبناء المجتمع الجديد.

ولكن على الرغم من هذه القيود والتقاليد والنظرة الاجتماعية القاصرة، التي مازالت سائدة في بعض المجتمعات الخليجية والعربية إزاء مشاركة المرأة في الفن، إلا أنها تسعى بل استطاعت أن تفرض حضورها في الساحة الثقافية والإبداعية وظهرت مبدعات مازال عطاؤهن متواصلاً وصدى أصواتهن يصدح في مختلف الفضاءات ومنابر المسرح العربي، أمثال: حياة الفهد، موزة المزروعي، عواطف البدر، سعاد عبدالله، عائشة إبراهيم، هيفاء عادل، انتصار الشراح، مشاعل شداد، سميرة أحمد، وداد الكواري، عائشة عبدالرحمن، هدى الخطيب، مريم سلطان.

إلى جانب مبدعات المسرح العربي في تونس، أمثال جليلة بكار، فوزية المزي، خيرة الشيباني، ورجاء بن عمار، ناجية الورغي، زهيرة بن عمار، وجيهة الجندوبي، ليلى طوبال وحياة الريس، وغيرهن الكثير وكذلك في لبنان أمثال: نضال الأشقر، سهام ناصر، لينا أبيض، نائلة الأطرش، لينا الصانع، وطفاء حمادي وأخريات، أما في العراق الذي يعيش ظروفا استثنائية الآن وعلى الرغم من ذلك يتواصل عطاء فنانات المسرح أمثال: ناهدة الرماح أزادوهي صاموئيل، فاطمة الربيعي، عواطف نعيم، شذى سالم، هناء محمد، سناء عبدالرحمن هديل كامل، ليلى محمد، وفاء حسين وغيرهن.

وفي المغرب يبرز اسم فنانة المسرح ووزيرة الثقافة سابقا ثريا جبران، حبيبة المذكوري، أمينة رشيد، نعيمة المشرقي، فريدة بورقية، هدى الريحاني، فاطمة عاطف، أما في سورية التي تشهد نشاطًا مسرحيًا متواصلاً فتزدحم المواهب النسوية فيها لأجيال متنوعة أمثال، منى واصف، ماري إلياس جيانا عيد، وفاء موصللي، نجوى علوان، صباح جزايري، رغداء شعراني وغيرهن الكثير.

لا أريد أن أستعرض هنا أسماء فنانات المسرح العربي اللواتي لا تكفي مساحة هذا المقال لذكرهن جميعاً وأعتذر أن اكتفيت ببعض النماذج التي اخترناها شواهد لإثبات وجود المرأة العربية مبدعة وبجدارة في فضاء الفن الرابع وهو يزدهي بحضورهن الفاعل ألقًا وعطاءً، بل إن حضورها امتد لشمل مجالات الحياة الأوسع، وها هي تعلن صوتها بقوة في الأوساط العالمية وهي تساهم بفاعلية.

وسط عالم التغيير والربيع العربي المتواصل، ولعل حصول المرأة العربية على أرفع الجوائز العالمية ليس في مجالات الفن وحده، بل إنها أصبحت علامة في درب النضال والحرية ومقارعة الفساد والطغيان والثورة والتغيير، وما فوز الناشطة اليمنية توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام إلا اعتراف كوني بدور المرأة العربية وقدرتها على العطاء والإنجاز، وهو ما سيكون حافزًا كبيرًا يدعم نضال المرأة العربية في الاقتراب من شواطئ الآمال التي مازالت تواصل الكفاح من أجل تحقيقها لتغيير الواقع إلى صورة أفضل، بما يواكب حياتنا المعاصرة ويضفي عليها طابع الإنسانية والحرية والتجديد والازدهار.
-----------------------------------
* كاتب عربي مقيم في السويد

 

حسين الأنصاري