مختارات زهور الآخرين صفاء خلوصي

المؤلف: الفيلد مارشال ويفل

هذا شاعر مختبئ في ثوب عسكري. إنه الفيلد مارشال ويفل أحد أبطال الحرب العالمية الثانية. كان جنديا محترفا ولكن هذا لم يمنعه عندما يسكن دوي المدافع أن يخلد قليلاً إلى قصيدة من الشعر ترقد في ذاكرته وتمتع وجدانه.

ما كان يدور بخلدي أن الفيلد مارشال فيكونت ويفل Wavell كان ذا ملكة شعرية عالية وكان يحفظ العديد من القصائد ويتطارح الشعر مع ونستون تشرشل الذي كان هو الآخر ذا ذاكرة خارقة اختزنت الكثير من رصين الشعر ورائقة.. أقول ما كان يجول بخاطري شيء من هذا حتى عثرت أخيراً عند بعض باعة الكتب القديمة على نسخة من كتاب عنوانه: "أزهار الآخرين" Other Men's Flowers مختارات شعر للفيلد مارشال ويفل صدّرها بكلمة لمونتين Montaigne يقول فيها: "لقد جمعت باقة من أزهار الآخرين وليس لي فيها غير الخيط الذي ينتظم في قلادة".

سيدة الكرز

ومما يثير الاستغراب أن المختارات التي تحتضن 439 صفحة هي من ذاكرته على ما يقول، فذاكرته هي الخيط الذي ينتظم كل هذه اللآلئ والجمان، والمختارات أشبه بديوان "الحماسة" لأبي تمام، وكما قيل إن أبا تمام أشهر في حماسته منه في ديوانه كذلك نقول في ويفل فهو بارع في الانتقاء والاختيار والتصنيف، فقد وزّع مختاراته الشعرية على تسعة أبواب: (1) الموسيقى والغيبيّات والسحر (2) الحرب (3) الغزل أو النسيب (4) الطبيعة (5) المحادثات الشخصية (6) المنادمة والخمريات (7) ترانيم الكراهية (8) المتنوعات (9) البريد الأخير (ويقصد به ما استجد من شعره وأكثر مراثٍ في جنود قتلوا في المعارك) ويختم المختارات بفصل قصيرة عنوانه: خارج البوابة الحديدية"، ويضم موضحة لويفل نفسه من وحي صورة زيتية لجوست فان كليفز Joost Van Cleves أسماها "سيدة الكرز" The Madonna of the Cherries جاء فيها:

***

"سيدة الكرز العزيزة الهادئة الباردة.
غير المكترثة للحماقات والنزاع والصراع والفزع
المتلفعة بالألوان الحمراء والزرقاء الهادئة والمعطف الأخضر
ذكراك في خاطري طوال هذه السنوات،
طوال سنوات الحرب الطويلة بما فيها من مرارة
وتدمير وتلف
مقاتلاً ضد التكالب على القوة والسلطان وضد
الكراهية والأكاذيب من أجل شعرك الذهبي الأحمر
ووجهك المبتسم ببطء.
اعتزازك بولدك ملك الملوك ممسكاً بثمرات الأرض
الطيبة من أجل الصدق والصراحة واللطف.
من أجل كل روعة وحنان ودفء ونور.
سيدتي المباركة.. أعود للقتال!".

ويعلق ويفل في هامش ملحق بالقصيدة قائلاً: "عندما نظمت هذه الأبيات بعد قتال أربع سنوات لم يسمح لي بالعودة لدحر قوى الظلام فسيدة الكرز لا تبتسم لجندي محارب ولا لنائب ملك بل لطفلها الذي يلعب بكرزات في يديه.. فمرحى لكل شيء جميل يساعدنا على نسيان ويلات الحروب والنكبات".

هذا هو شعر ويفل المارشال الذي يحب أنغام الشعر أكثر من أزيز الرصاص ودوي المدافع، فقد عشق الشعر إلى حد أنه أثار انتقادات زوجته بل وغيرتها... ولم يستطع التفاهم حتى مع ولده الذي كان هو الآخر يهوى الشعر ولكنه الشعر الحر الذي يستهجنه أبوه ولا يعتبره إلا نثراً مرذولاً!

ولكيما ينفس عن رغبته المكبوتة المحرّمة عليه في البيت كان يمتطي صهوة جواده ويتنزه في الحدائق العامة وينشد القصائد تلو القصائد بصوت رخيم فيشعر بذروة الانتصار الذي لا يعادله أي انتصار عسكري في معاركة الضاريه الضارية التي خاضها.

انطباعات مبكرة

هذا هو الشاعر المختبئ في بزة مارشال عسكري وقد بزّت مختاراته الشعرية الكثير من المختارات التي كانت وليدة الحرب العالمية الثانية، ويدّعي ويفل "أن شعر براوننغ وكبلنغ أكثر الأشعار رسوخاً في ذهنه لأنه حفظه في يفاعته.. في سن انطباعية مبكّرة .

وأكثر القصائد قد نقلت برمتها. أما المطولات فقد اختصرت لأن الذاكرة لم تستوعبها كاملة".

أما الهوامش والملاحظات فيبدو عليها طابع الاستعجال وعدم مراجعة المظان، فكل شيء، حتى هذه، من مخزون الذاكرة وذلك لكثرة مشاغل الرجل العسكرية، وقد اختار الكثير من رباعيات عمر الخيام، بترجمة ادوارد فيتز جيرالد، وهي تستغرق 15 صفحة من المختارات وقصيدة ( سجن ريدنغ ) لأوسكار وايلد، وقصيدة روديارد كبلنغ المشهورة "IF " إذا والتي ترجمناها ونشرناها في بعض أعداد (العربي) السابقة.

ويأسف ويفل لأن الشعراء لم يهتموا بأكثر الحيوانات ذكاء هو (الكلب) قدر اهتمامهم (بالحصان) الذي هو دونه من حيث الألمعية، ولعل شعراء الإنكليز قلدوا العرب في ذلك فقد أكثروا من ذكر الجواد وعدوه ويقظته ودوره في الغارات والحروب، وعندما يمتدح الكلب في (الطرديات) فلقنصه وملاحقته للطريدة لا لصحبته للإنسان، وحتى القط أحسن حالاً من الكلب المسكين فالأخير مضرب المثل في القذارة والنزو على أنثاه والذلة والملق بينما القط يتظاهر بالنظافة ولا ينزو إلا في الليل بعيداً عن أعين الرقباء على عكس الكلب تماماً" ، ومع أن نباح الكلب الاعتيادي مُقرف، فإن صوت الكلب السلوقي أشبه بلحن موسيقي، على زعم ويفل، في تعليقه على قصيدة جوليان غرين فيل Gren Fell وعنوانها: إلى كلب صيد أسود" يستهلها بقوله:

***

"لامع السواد في النور المتألق
مدادي السواد في الشمس الذهبيّة
رشيق العدو لطيران السنونو،
ففيه خفة السنونو ذي الجناحين،
وسريع سرعة العاصفة!"

إلى آخر القصيدة الجميلة، ولكن ويفل لا يكتفي بهذه الأبيات وأمثالها بل يبسط ظلامة الكلب في الشعر الإنكليزي ويزعم أن ذلك لم يكن إلا تحت وطأة اجتماعية وتأثير شرقي توراتّي!!...

غزل عربي

ويلتفت ويفل التفاته خاصة إلى العرب في باب الغزل فينقل: "أغنية غزل عربية " لفرانسز توميسون... يختمها بالمقطع التالي:

***

"اتركي أباك، أتركي أمك وأخاك
ودعي الخيام السوداء لقبيلتك جانبا!
أفلست أنا أباك وأخاك وأمك؟
وأنت ما شأنك بخيام قبيلتك السوداء
أنت التي تملكت المقصورة الحمراء لقلبي؟"

وفي اعتقاد ويفل أن الشعر الروائي والفلسفي ليس في المرتبة العليا من الفن الشعري الأصيل، ولكن مع ذلك له جاذبية خاصة، ولو أنه يحشره في باب المحادثات الشخصية، وهو ما يسميه نقادنا الأقدمون بالشعر التعليمي، وقد مارس هذا النمط في الإنكليزية شاعران بصورة خاصة هما برواننغ وروديارد كبلنغ.

وفلسفة الرباعيات في نظره سطحية وثنيّة، ولكنها علقت في ذاكرته لسلاسة أسلوبها وجمال نظمها، والشاعر الذي ينشد الخلود لابد له من أن ينتقي الألفاظ الموسيقية الراقصة، فعناصر الشعر الأساسية: الموسيقى والسحر المفعم بالأسرار فضلاً عن عمق المعنى، وهي التي تيسر ترسيخها في الذاكرة، ويقول ويفل: "إن هناك مقطوعات شعرية أستخدمها كطلاسم وتعويذات تقيني من الشرور وعوادي الزمن... وتنقذني عن الأخطار !".

وهناك أبيات غنائية يتلوها تحت وابل من أزيز الرصاص على نحو ما كان يفعل قدامى الرجّاز عندنا في الحروب والغزوات ولعل البعض يجده فعالياً حين يزعم أن الشعر يشفيه من بعض الأمراض فهو خير علاج بدني ونفسي، وقد يكون الأخير صحيحاً لأنه يدخل المتعة والبهجة إلى النفوس المكتئبة اليائسة!

ولما كانت أكثر الأديان تعتمد على الموسيقى فقد أدخل الشعر الديني الغنائي كباب مهم من أبواب مختاراته.

موقف من الغموض

وأسقط ويفل الشعر الحديث من مختاراته وحمل عليه حملات شعواء ولاسيما شعر سنيّ 1919- 1939 مشبها شعراءه بجوقة لا تحسن الرقص ولا الغناء ولا التمثيل، ولكن بوسعها أن تتخذ مواقف غريبة لجذب الانتباه، والأسوأ من هذا كله أن شعراء هذه المرحلة عدموا الرؤى والأحلام، وقد يتظاهرون بها ولكن ما نفعها إذا لم تكن واضحة مفهومة، وإذا عدم الشاعر الرؤية أو لم يستطع الإفصاح عنها عدم الشاعرية، والشعب الذي يفتقد الشعراء من ذوى الرؤية الواضحة شعب ميت لا يستحق الحياة!

ومادمنا بصدد الغموض والوضوح في الشعر الحديث فإن بعض شعر "ت. إس. إليوت" له مكانته في نفس ويفل ولكن البعض الآخر ملفّع بلفاع الغموض وقبيح بشكل متعمّد فهو لذلك قد ارتكب إثما تجاه نورانية الشعر بتغطية عبقريته بستار من الإبهام القاتم، وهو نفسه (أي إليوت) يعترف بأن شعر العشرين سنة الأخيرة (والكلام سنة 1944) إنما هو محاولة للبحث عن أسلوب شعري دارج لخلق شعر عصري جديد.

فإذا كان زعمه وارداً فإن أتباعه- على رأي ويفل - لم يتركوا مزبلة إلا ونبشوها، ولا بالوعة إلا وغاصوا في أعماقها، في محاولتهم للبحث عن الأسلوب العصري الجديد في الشعر!

هذا رأي لا يحلو من قساوة، ولكننا ننقله للأمانة العلمية، ولا بد أن إليوت اطلع عليه في حياته، وأكبر الظن أن ويفل التقاه وجابهه بهذا الرأي، وأضاف:

"في دنكرك ظهرت الروح الحقيقية لشعبنا، ومع السيف الذي انسلخ من قرابه لابد أن أسلوب وحي شعري جديد قد التمع متألقاً في الأفق، وما عليّ أنا إلا أن أبحث عن الدفء لذاكرتي الهرمة في جمرات الشعر التقليدي الذي يشع جرأة وحيوية ورصانة".

من ينظم شعر الحرب؟

وينكر ويفل على نفسه الشاعرية، فشعر الغزل ينظمه العشاق والمحبون، أما شعر الحرب فلا ينظمه رجال الجيش إلا نادراً، وهذا النادر يصف الطبيعة أكثر مما يصف القتال، ويستثني ويفل من هذه القاعدة الجنرال مونتروز Montrose والسير ولتر رالي، ولكن أروع الشعر الحربي نظمه أولئك الذين لم ينتضوا سيفاً وإنما جردوا قلماً وأعملوا الخيال المبدع الخلاق.

أعتقد أن هذا تعميم ربما ينطبق على الشعر الإنكليزي ولا يجوز في الشعر العربي كما هو معروف.

نابليون في الشعر

ولا أجد مجالا لمشاركة ويفل إعجابه بقصيدة أو بالأخرى بمقطوعة ولنر دي لأمير التي عنوانها "نابليون" فهي اعتيادية يقول فيها الشاعر على لسان نابليون:

***

(ما هو العالم أيها الجنود؟... إنه أنا!
أنا الوفرُ المتساقط بلا انقطاع، أنا السماء الشمالية.
أيها الجنود... إن هذه الوحدة الموحشة التي نجتازها
ما هي إلا أنا... وأنا هي!"

ولا أدري لماذا حشر قصيدة: "عشية معركة ووترلو" للورد بايرون في باب "الحربيات" مع أنها جزء من قصيدة "حجة شايلد هارولد" Childe Harold's pil - grimage وليست أكثر من وصف لحفلة رقص (باليه) زعم الشاعر أنها أقيمت عشية المعركة، مع أنها في الواقع كانت ليلة الخميس الخامس عشر من حزيران (يونيه) 1815 أي قبل المعركة بثلاثة أيام وليس في عشيتها.. وإليك مقطعاً منها:

***

"كان ثمة صوت مرح صاخب في الليل،
وقد جمعت عاصمة بلجيكا أو آنذاك حسناواتها وفرسانها،
فالتمعت مصابيحها بألق في أوجه الحسان والشجعان
وخفق ألف قلب بالسعادة.
كل شيء مضى بمرح كدقات أجراس الزفاف ولكن صهٍ!
وأصخ! فثمة صوت عميق
كقرع ناقوسٍ، إيذاناً بكارثة!"

وقد اختار ويفل من قصائد الحرب، فضلاً عن هذه، قصيدة معركة ليبانتو Lepanto المعركة البحرية الحاسمة التي جرت بين الدولة العثمانية وأساطيل المدن الساحلية الإيطالية التي كانت دوقيات مستقلة بمشاركة من الأسطول الإسباني وذلك سنة 1571 وكانت فاجعة كبرى بالنسبة للبحرية العثمانية وفوزاً ساحقاً لجنوة والبندقية بزعامة النمسا.

والقصيدة من نظم جي. كي. جيسترتون. G.K Chesterton الذي أسهم في هذا اللون بقصيدة أخرى هي "البطل الأخير"، ووجد ويفل في هذا الباب أيضاً مكاناً: لتهويدة سانت هيلانة A St. Helena Lullaby لروديارد كبلنغ، وهي تصف معارك نابليون بغير تسلسل تاريخي، ومعركة الجسر للورد ماكولي. غير أن الذي أعادني إلى أيام الصبا وجدّد ذكريات عزيزة عليّ اختياره في (باب النسيب) قصيدة لدبليو بي. ييتس W.B. Yeats كنت قد ترجمتها شعراً ولا تحضرني أبياتها الآن، فأعدت ترجمتها "نثرا" وإليكها:

***

عندما يدركك الهرم
"عندما يدركك الهرم ويبيض شعرك وتكثرين من النوم
والنعاس أمام المدفأة، تناولي هذا الكتاب،
واقرئيه ببطء؟ واحلمي بالنظرات الناعسة
التي كانت لعينيك في يوم من الأيام... وبظلالها العميقة!
كم هم أولئك الذين أحبوا لحظات لطفك البهيج
بل وأحبوا بالك حباً صادقاً أو مكذوباً،
ولكن شخصاً واحداً أحب فيك الروح الهائمة الرحالة
وأحب أمارات الأسى كل وجهك المتغير القسمات!
وعندما تطرقين أمام الجمرات الملتهبة
دمدمي بشيء من الحزن على الحب الهارب".

الشرق والشعر

وأكبر الظن أن للحروب التي خاضها ويفل في الشرق أثراً للطابع الشرقي في هذه المختارات الجميلة، فمن ذلك اختياره قطعة من مسرحية (حسن) لجيمس إيلروي فليكر James Elroy Flecker الأبيات عن لسان الشاعر إسحق (ولعله إسحق الموصلي؟) الذي أغضب الخليفة هارون الرشيد فركع على ركبتيه إنتظاراً لضربة سيف الجلاد عند الفجر ومضى يغني:

***

"فجرك، ياسيد العالم، فجرك...
إنه ساعة تتفتح فيها الزنابق في المروج
والأجنحة الرمادية تشق الفضاء صوب الجبال،
ساعة الصمت التي نسمع فيها خرير الجداول
وصوت النافورات،
ساعة تزداد الأحلام ألقا والنسمات برودة،
ساعة يستيقظ الحب في القلوب الطرية الشابة.
يا سيد العالم، سيكون الفجر بهيجاً ساطعاً لك،
والملاحون يتعقبون خيوط الصباح في اتجاه البحر
والأبطال يستلون سيوفهم متأهبين للقتال،
وينغلق الفجر ملتهباً من أبنوس الليل!"

إذ ذاك يصرخ الخليفة هارون الرشيد في وجه جلاده غاضباً: "أغمد سيفك في قرابه.. كيف تستطيب قتل صديقي وشاعري.. أيها الظالم؟".

ويفضل ويفل المراثي القصيرة، وينعت الطويلة منها كمرثية ليسيداس لملتون ومرثية توماس غراي (وقد ترجمنا كلتيهما في كتابنا دراسات في الأدب المقارن والمذاهب الأدبية) بأنها مملة ولا تستقر في الذاكرة، فالمراثي الشكسيبرية أميل إلى القصر منها إلى الطول والكلمات الأخيرة للقتلى من أبطاله قبل موتهم قصيرة باستثناء "عطيل" ... وهنا يقف الفيلد مارشال ويفل، وبتنكيت لاذع يقول: ولكنه كان برتبة "فيلد مارشال،... وكان شرقياً!..

 

صفاء خلوصي