ملف إبداع المرأة العربية: الشاعرة التونسية زبيدة بشير.. طائر الفينيق بين الغربة والاغتراب

 ملف إبداع المرأة العربية: الشاعرة التونسية زبيدة بشير.. طائر الفينيق بين الغربة والاغتراب

لم يصدق الزعيم التونسي «الحبيب بورقيبة» أذنيه وهو يستمع إلى شعر «لمياء» التونسية الذي كانت تبثه إحدى الإذاعات الأجنبية، ربما كانت «صوت أمريكا» أو «باريس العربية» أو «بي بي سي» لا تتذكر بالضبط أخت «لمياء» التي لم تكن «لمياء», لكنها كانت تستخدم اسمًا مستعارًا لنشر قصائدها خوفًا من ردة فعل والدها المحافظ جدًا.. خاصة أنه لم يكن مألوفًا في بلادها آنذاك أن تكتب الفتيات الشعر.

في الشرق، خاصة في مصر والشام.. لمعت وقتها أسماء مثل «نبوية موسى» و«هدى شعراوي» و«سيزا نبراوي» و«مفيدة عبدالرحمن» كقيادات نسائية فاعلة منذ بدايات القرن الماضي في مصر، فضلا عن الحركة الأدبية التي عرفت «عائشة التيمورية» و«قوت القلوب الدمرداشية» و«سهير القلماوي» في مصر، «فدوى طوقان» في فلسطين، «مي زيادة» في الشام ومصر، و«نازك الملائكة» في العراق ثم إلى مصر أيضًا. وهاهو «بورقيبة» يجد ضالته أخيرًا في أول شاعرة تونسية تحمل رسالة امرأتها الشاعرة إلى العالم.., هي ليست مجرد امرأة تقرض الشعر.. لكنها رائدة أيضًا في المجتمع التونسي.

كان لابد من البحث عن «لمياء».. هكذا «لمياء» فقط، حارت أجهزة «بورقيبة» في تحقيق الرغبة الرئاسية للزعيم الذي أصر على معرفة شخصية الشاعرة «لمياء» التي استمع إلى شعرها مصادفة ولأول مرة من خلال إحدى الإذاعات الأجنبية .. كيف وهو الذي يسعى للقضاء على تهميش المرأة في بلاده حديثة العهد بالاستقلال، الذي لم يمضِ عليه حتى بضع سنوات..، لكن المهمة كانت صعبة جدًا وفشلت أجهزة «بورقيبة» في المحاولة الأولى لتحديد شخصية «المرأة المجهولة».., لكن مع إصرار «بورقيبة» أعادت أجهزته الكرة ونجحت هذه المرة.. لا أحد يعرف كيف؟ ربما راقبوا البريد المعنون باسم إذاعات أجنبية والصادر عن فتيات، وربما بطريقة أخرى، لكن لا أحد يجيب عن السؤال المفعم بالحدث الدرامي على الصعد كافة.

المهم أنهم توصلوا أخيرًا إلى معرفة شخصية «لمياء» التي لم تكن سوى فتاة تخطت الطفولة وما يناهز أكثر من شطر المراهقة إلى عتبات العشرين تدعى «زبيدة بشير» تقطن دار والدها في نهج سيدي عبدالسلام بمنطقة «الحلفاوين» العريقة والذي تقيم به إحدى أخواتها «حليمة» إلى اليوم.

صوت من الجزائر

بالعثور على «زبيدة بشير» اتضحت معالم شخصيتها وأصولها. نزح والدها الجزائري «بشير بن محمد تلحيق» من منطقة «واد سوف بولاية ورقلة جنوب الجزائر إلى منطقة ساقية سيدي يوسف» بولاية «الكاف» التونسية حيث ولدت «زبيدة» في 8 فبراير عام 1938 لتسجل في الدفاتر الرسمية باسم «زبيدة بنت بشير بن محمد السوفي» نسبة إلى موطن والدها الأصلي «واد سوف» بالجزائر.

لا نستطيع بطبيعة الحال مهما تعددت الروايات، أن نعرف كيف أقنع «بورقيبة» «بشير بن محمد تلحيق» (اسمه الأصلي) أو «بشير بن محمد السوفي» (اسمه في الوثائق التونسية) والد زبيدة المحافظ بإتاحة الفرصة «لزبيدة» لكي يخرج شعرها إلى النور باسمها الحقيقي وأن تعمل أيضًا في البداية كمنسقة أخبار في «الإذاعة الوطنية التونسية» ثم مذيعة فيما بعد, وبعد أن كانت أشعار «زبيدة بشير» تبث من الإذاعات الأجنبية باسم «لمياء»، عرفت إذاعات مثل «بي بي سي» و«صوت أمريكا» و«باريس العربية» ثم «مونتي كارلو» اسم رائدة الشعر التونسي «زبيدة بشير» أول شاعرة تونسية عرفت النور في العصر الحديث بعد الاستقلال. كانت عقدة «زبيدة» اللغة الفرنسية وهي التي عاشت بين بلدان ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، حيث لم تتح لها البيئة المحافظة التي نشأت فيها سوى تعليم «قرآني» في المنزل حيث أتى والدها بشيخ قام بتحفيظها القرآن الكريم كاملاً هي وأختها، حيث حفظتا الستين حزبًا حفظًا جيدًا فضلاًَ عما تيسر من الحديث وعلومه؛ كما قام معلمهما بتحفيظهما بعضًا من عيون الشعر العربي القديم وتلقينهما الآداب العربية.

لا شك في أن المشروع البورقيبي لقي معارضة واسعة في العالم العربي، اللهم إلا في تونس التي تعامل فيها قطاع ليس بالقليل من الشعب مع «بورقيبة» بوصفه «الوالد» و«المجاهد الأكبر» كما كان يصف نفسه، لذا كان نموذجه الديكتاتوري له ما يبرره لدى القطاع الأوسع مع معارضة فاعلة له وليست بالهينة، خاصة «التيار العروبي القومي» المتأثر بالمشروع «الناصري» الذي ساد العالم العربي بأسره.

لكن رغم ذلك كله كان الجميع يقرون لـ«بورقيبة» بثقافة رفيعة واطلاع واسع ميزت أقرانه وأبناء جيله في مصر والشام والمغرب آنذاك بدرجات متفاوتة، فضلاً عن محبته وتقديره الكبير للفنون الذي يشهد به استقباله الأسطوري «استقبال الملوك والرؤساء» الذي قابل به كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي «أم كلثوم», ورجل من هذا الطراز لا يمكنه إلا أن يحتفي بشاعرة مرهفة ورائدة في بلادها وعصرها مثل «زبيدة بشير» وكان لذلك بالغ الأثر في التعريف بها على نطاق واسع في الأوساط الأدبية التونسية والعربية، وأن يحتفي بها أكابر الوسط الأدبي في تونس آنذاك وعلى رأسهم الأديب «مصطفى خريف» «أبوها الروحي» و«ملاكها الحارس» حسب وصفها، و«معلمها الثاني» الذي عاونها بالإرشاد والنقد والتوجيه.., وخروج زبيدة من عالم الظلال إلى عالم الأضواء ليتردد اسمها في أعمالها المذاعة على موجات إذاعة «بي بي سي» هيئة الإذاعة البريطانية، وفي عام 1957 تفوز «زبيدة بشير» «بالجائزة الأدبية» التي تقدمها «إذاعة تونس»؛ وكذلك في العام نفسه «جائزة الأدب» من «إذاعة باريس» (حصلت عليها عامين متتاليين 1957و1958).. عن قصتها «النغم الحزين» في أول مرة. وفي العام التالي تنجح «زبيدة بشير» في اقتناص الجائزة نفسها ثانية بقصيدتها «الحب الضائع» لتقتحم قلب مدينة النور «باريس» لأول مرة في حياتها، فقد كانت الجائزة المقدمة من إذاعة باريس آنذاك رحلة إليها، وبعد أن كان اسم «زبيدة» يتردد عندما تذاع قصائدها في أحد البرامج المعنية بالأدب أصبح صوتها يصدح مع قصائدها التي سجلتها لها إذاعتا باريس وصوت أمريكا.

الشاعرة المذيعة

تحدثني أختاها «زينب» و«خديجة» عن بدء «زبيدة بشير» العمل في الإذاعة الوطنية التونسية «كمنسقة أخبار» ثم «مذيعة» فيما بعد. واختلفت الأختان في تاريخ دخولها للإذاعة إن كان عام 1959 أو 1962، وإن كان تاريخ 1960هو الصحيح على الأرجح, لكنهما تتحدثان بأسى عن اضطرارها للتقاعد الوجوبي وهو تقاعد بنصف أجر عام 1981 وكان صعبًا للغاية، لذا توسط لها فيه وعاونها «محمد مزالي» الوزير الأول في تونس آنذاك (رئيس الوزراء) ولكن لهذا حديثا، عن «زبيدة بشير» الأديبة والإنسانة عفيفة النفس كريمة المحتد التي استغلتها الأنظمة لتبييض صورتها فيما كانت هي تعاني الغربة والاغتراب والمرارة والنكران، بل ونهش ضباع الأدب ولبؤاته من أنصاف وأرباع الموهوبين والمدعين، ولكن المرأة النبيلة لزمت دارها ولم تكن تخرج إلا لضرورة.. وحيدة بلا زوج تتعامل مع ذويها في نطاق محدود.. لتحصل على تقاعد كامل من عملها الإذاعي عام 1994 «معاش أطلق عليه البعض جراية الكفاف» وظلت على المنوال ذاته حتى غدرها المرض لتوافيها المنية في أفضل الأيام المباركة في 22 رمضان 2011 نتيجة خطأ طبي في المستشفى الخاص، الذي أجريت لها جراحة فيه قبل أن تنقل في وضع حرج إلى «المستشفى العسكري» لمحاولة إنقاذها ولكن بعد فوات الأوان.., وكانت أيامها الأخيرة صورة أخرى من صور النكران, ففي الوقت الذي كانت «زبيدة بشير» ترقد أغلب الوقت في المصح الخاص في غيبوبة نتجت عن الخطأ الطبي كما ذكرت أسرتها، كانت ديون الأسرة تتراكم مع انتشار «المرض الخبيث» الذي نكأه مبضع الجراح ورفض المصح الخاص نقل الشاعرة إلا بعد أن أودع أحد أصدقائها المخلصين شيكًا ببقية مصاريف المستشفى الخاص، «والتي لم تسدد إلى اليوم.. وبقيت تثقل كاهل عائلتها رغم وعود المسئولين» حتى يسمحوا بنقلها إلى المستشفى العسكري.. ففي الزمن الرديء يتحول الطب إلى سلعة، فيما ينهش جحود الناس, قبل المرض، جسد «زبيدة».

نبل ونكران

كما ذكرنا آنفا لم تعرف تونس حديثا وربما قديمًا امرأة شاعرة قبل «زبيدة بشير» التي لم تكسب من الشعر مليمًا واحدًا.., ورغم الاحتفاء من «بورقيبة» على المستوى الرسمي والأوساط الأدبية على المستوى الشعبي إلا أن «زبيدة بشير» لم تجد من يساعدها لكي تصدر ديوانها الأول «حنين» إلا عام 1968 وهو «هنري سمادجة» اليهودي التونسي مؤسس جريدة «لابراس» التونسية التي تصدر بالفرنسية وهي شهادة عملية على موهبة «زبيدة بشير»، فقد كان «هنري سمادجة» الساعد الأيمن للأديب العالمي الفرنسي «ألبير كامو» في الجريدة التي أصدرها باسم «كومبا» أي المعركة أو الاشتباك والتي كانت معنية بمقاومة النازية, وقد دفع «سمادجة» خمسمائة دينار تونسي لعميد الخطاطين التونسيين «محمد الصالح الخماسي» لكي يصدر الديوان بخطه، وكان مبلغًا باهظًا في ذلك الوقت، وعند صدور الديوان وضع عليه اسم «الدار التونسية للنشر» على غلاف الديوان بعد أن تم تأميم مؤسسة «سمادجة».

لعبة الأنظمة

علت وجه الشابة «زبيدة بشير» حمرة الخجل عندما قال لها «بورقيبة»: «هل سيقول الناس أن زبيدة عاشت عصر بورقيبة أم سيسجل التاريخ أن بورقيبة هو الذي عاش عصر زبيدة», عندما أجابته في حياء: «عفوا يا سيادة الرئيس»، قاطعها الزعيم المثقف بقوله «إن كتب التاريخ تؤكد أن الملوك والخلفاء على عظمتهم هم الذين عاشوا عصر الشاعر الفحل المتنبي».. ألم يخلدهم المتنبي مدحًا كـ«سيف الدولة الحمداني» أو هجاء مثل «كافور الإخشيدي».., «الأدباء يضعون الزعماء في صدر التاريخ أو في مزبلته».

لم تطلب «زبيدة» أبدًا لنفسها شيئًا لا من بورقيبة الذي منحها سكنًا في حي «المنزه الأول» لتعيش فيه ثم باعته فيما بعد سنة1991 لأن «جراية الكفاف» وهو المعاش الذي حصلت عليه من الإذاعة الوطنية التونسية لا يكفيها، ولا من «بن علي» من بعده رغم أن النظامين استفادا من تسويق اسمها والعزف به على وتر مكانة المرأة وحقوقها التي كان النظامان يفخران بها.

عشرون عامًا من العمل الإذاعي وضعفها أو أكثر قليلاً في عالم الأدب والهجوم لا ينقطع على «زبيدة» من الأدعياء وإن وقف إلى جوارها ثلة من الأوفياء على رأسهم أبوها الروحي «مصطفى خريف» والأديب والأكاديمي الكبير «نور الدين صمّود» وزميلها الوفي في الإذاعة والأدب الشاعر «أحمد العموري» على سبيل المثال لا الحصر. و كانت الضربة قاصمة لـ«زبيدة» عندما فقدت راعيها الأول «مصطفى خريّف» الذي رثته بقولها «سيدي مصطفى وفقدك مر... لا يضاهيه في المرارة فقد ... كنت أدعوك يا أبي .. فتلبي من أنادي.. وأنت دونك لحد»، وقد سبق ذلك الرثاء مقدمة دالة قالت فيها: «أنا لا أرثيك سيدي وأستاذي.. وإنما أرثي نفسي لأنني فقدتها بفقدك..». .. رحل الأب الروحي الذي كان يتمنى أن «يلحن شعر زبيدة ويتغنى به من يفهمه»، ولم تجد من بعده إلا سياجًا من كلمات الكبار عن شعرها, لم يكن ليحميها كثيرًا من الهجوم عليها بين الفينة والأخرى.

أميرة الشعر العربي

قال عنها «أحمد رامي»: «فيما قرأت من شعر لم أجد كهذا الشعر يمس شغاف القلب»., أما «صالح جودت» فقال: «ما تخيلت أني سأسمع شدو الملائكة على الأرض حتى سمعت شعر زبيدة»,أما فريدة عصرها الدكتورة بنت الشاطئ فتقر بأنه: «لولا نبرة الحزن والأسى التي تطغى على معظم قصائدها لقلت هذه أميرة الشعر العربي», أما العارف بالأدب والموسيقى «د.يوسف شوقي» فيقول «مَن يجرؤ على تلحين هذا الشعر الملحن بطبعه؟!».

وهيهات أن يدع الحزن والأسى شعر «زبيدة بشير»، والغربة والاغتراب تفترساها في ظل «لوبي فرنكفوني» قوي ونافذ.., أما وهي صاحبة الرافد القرآني العربي المفعم بالأسى فتبوح بما تعانيه:

فإن صبوت.. فشوقي لا حدود له
وإن صبرت فإن الوجد يفنيني
بيني وبينك أكوان تباعدنا
وذكريات سني التيه تشجيني
إذا التقينا فإن الخوف من غدنا
يمزق الستر عن صمتي ويدميني
و إن نأينا.. اغتربنا في مرابعنا
كأن موج النوى في اليم يطويني
فكيف أفصل ما بيني وبين دمي
وومضة النور للآلاء تدعوني؟
من سدرة المنتهى هلت بشائرنا
تزجي شعار الهدى بالكاف والنون
إذا دنوت تدانت شمس بهجتنا
وهل نور إلى مسراك يهديني

حتى تقول:

رحماك ربي فجرحي نازف أبدا
كأنه في جحيم اليأس يلقيني
سلمت لي عذابا أستكين له
و يضحك القلب تيهًا حين يبكيني

كان ذلك في 2-11-1998, وكانت زبيدة قد تركت الإذاعة لتنجو بالشاعرة أو هكذا تراءى لها.., تخلت عن برنامجها «أغنية لكل مستمع» وغيره الذي كانت تقدم فيه عيون الكلام والموسيقى بعد أن أصبح الغث يطرد الثمين في الغالب الأعم.. صدقت حين قالت في قصيدتها «لماذا»؟:

إذا ما مشينا ذبحنا به
و أنّى وقفنا فغبن وحيف
و إمّا افترقنا ادلهّم الوجود
و قد كان يزهو بألوان طيف

ولك عزيزي القارئ أن تتأمل الإحالات القرآنية والروافد «الزيدونية» الأندلسية في شعر «زبيدة بشير» لتعرف في أي أرض صلبة كانت تنغرس تلك الشاعرة الفريدة. وبالرغم من استحداث جائزة أدبية باسمها للكتابات النسائية يقدمها في كل عام «مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة الكريديف» في اليوم العالمي للمرأة في 8 مارس. لم تنل «زبيدة بشير» في حياتها عطاء ماديًا لائقًا بقامتها السامقة وكأن العطاء المعنوي أقل بكثير مما تستحق.., توجت مرتين في باريس وعرفتها الإذاعات الأجنبية واحتفت بها مصر والشام والعراق وغيرها من البلدان العربية، ثم غرقت في بحار النسيان فهي لم تكن من أبناء النظام أيّا كان.. حتى يوفدها ويروج لها هنا وهناك كغيرها، وقد عانت زبيدة طويلاً شظف العيش في صمت، فاضطرت عام 1991 إلى بيع دارها وانتقلت إلى سكن مؤجر منذ ذلك الحين حتى وافتها المنية في 22 رمضان الماضي، وكان آخر تكريم لها في مدينة الكاف التونسية مع رفيق الدرب في العمل والشعر «أحمد العموري».

رحلة شاقة في ديوانين

وقد يفاجأ الجميع إلى حد المأساة بأن رائدة الشعر التونسي لم يصدر لها سوى ديوانين، الأول هو «حنين» الذي ذكرت قصته آنفا، والثاني هو «آلاء» الذي نشرته منظمة «الكريديف» في 2002، وبعد وفاتها تلقت أسرتها وعدًا شفاهيًا من وزارة الثقافة بنشر ديوانها الثالث «طائر الفينيق» وهو ما لم يتحقق حتى كتابة هذه السطور. أما دار أبيها في نهج «سيدي عبدالسلام» بحي الحلفاوين العريق التي شهدت طفولتها وشبابها فلا تزال على حالها تسكنها أختها, فلعلها تشهد يوما تتحول فيه إلى متحف ومزار كما يفعل العالم المتحضر بأدبائه. وجدير بالذكر أن «زبيدة» التي بلغت فيها غربتها واغترابها مبلغًا بعيدًا كانت دائمًا تحن إلى الجزائر موطن الأب والأجداد تمسكًا أو بالأحرى دفاعًا عن الهوية والأصول, فقد كانت دائمًا عروبية مسلمة.., وقد تجلى ذلك في قصيدتها «غربة» التي تقول فيها:

يا وهاد الخصب، يا شمّ الرّبى
لملمينا... بلغ السيل الزّبى
بعثرتنا غربة شطــّت بنا
عن مغانينا... وأحلام الصّبا
فتحت «وهران» أحضان الوفا
حين زرناها... وقالت: مرحبا

***

جئت يا أمّ بقلب واجـف
لم يجد إلاّك أمّا.. أو أبا
عاش في الغربة صبّا موجعا
كلّما المضجع بالحيرى نبا
آه يا وهران.. هل يغدو إلى
مرفأ الأمن.. حزينا متعبا

***

إن نكن تهنا وقادتنا الخطى
في طريق اليتم.. والحظّ كبا:
طائر شاد عدا عن سربه
فدعاه الشوق أن ينتسبا:
أنا «سوفيّ» الهوى يا سادتي
وانتمائي لبلادي وجبا

***

كانت الأوطان حضنا دافئا
يحتوي الابن.. فصارت مطلبا
قالت الأنساب أنتم أهلنا
شاقنا الوجد إلى صدق النّبا
هل تزيح الشّمس أثقال الدّجى
إن شعاع النّور منها اغتصبا؟!

***

قد أخذنا العهد عن أجدادنا
لا يصون العهد إلاّ من ربا
غربة طالت.. وحزن صامت
إن يكن ذنبا.. فمن قد أذنبا
غالبتنا لهفة العود بكم
غير أنّ اليأس منكم غلبا

***

اجتباني الدّهر منكم.. لكم...
هل درى ماذا جنى حين اجتبا
نزع الزّهرة من أكمامها
ورماها للذّرى أيدي سبا..
ساءني الخذلان من أهل الحمى
أعرين الأسد أمسى ملعبا؟!

***

ليس في الدنيا عذاب موجع
نافذ الجرح.. كحق سلبـا
كم رجونا الدّهر أن يسدي لنا
منّة السّلوان عنكم.. فأبى
نضب الصّبر.. وقد عزّ اللّقاء
وحنيني لكم ما نضــبا

القصيدة كتبتها في 2 / 9 / 2002 وكانت زبيدة محبة للوحدة والعزلة ثم أدمنت الاعتزال بعد أن عانت ما عانت ممن حولها ونسيها الناس أو كادوا حتى أن بعضهم ظن أنها توفيت قبل وفاتها.. فيما كان مَن دونها ملء السمع والبصر.

ورحلت «زبيدة بشير» لكن روح «طائر الفينيق» التي تسكنها ستبقى دائما تنهض من الرّماد محلقة من جديد لتؤكّد نبوءة «بورقيبة» بأن كل الملوك والأباطرة هم الذين عاشوا عصر الشعراء.

  • شكر واجب لعائلة الشاعرة الكبيرة المرحومة «زبيدة بشير».. السيدات «زينب وخديجة وحليمة بشير» والسيد «عبدالجبار ناقودي»..، والأديب والإعلامي «أحمد العموري» صديق زبيدة المخلص الذي قدم لنا معظم ما نشر عن الفقيدة في الصحافة فضلاً عما نشره هو.
    ------------------------------------
    * كاتب مصري مقيم في تونس.

 

خالد سليمان*