صيف الغدر محمد حسن عبدالله
المؤلف: الشاعر الأستاذ أحمد السقاف
من عنوان الكتاب ندرك محوره الأساسي وتلمس عيوننا موضع الألم فيه، ومن المعرفة بمؤلفه ندرك عمق الجرح في وجدانه ووجهته في المعالجة.
لقد آثر أحمد السقاف أن يتناول جانبا من أحداث صيف 1990 - أو صيف الغدر كما وصفه - هو الجانب الذي كان له فيه إسهام مباشر، فقد داهمته أحداث الثاني من آب - أغسطس- وما ترتب عليها، وهو يقضي عطلته الصيفية في سويسرا، فهرع إلى حكومته في مقرها بالطائف، وقد كلفته أن يكون رئيسا للوفد الشعبي الكويتي الذي يتحرك بين عدد من الأقطار العربية، يشرح موقف الكويت من الغزو، ويفند أسانيد المؤيدين له، والمترددين في معارضته. لقد اهتم السقاف بهذا الموضوع، وحق له أن يهتم، وأبدى اعتناء واضحا بتفاصيل لقاءاته في اليمن والسودان بخاصة، وهو الجدير بأن يفعل، فقد كان السقاف - وحتى عامين فقط قبل الغزو- العضو المنتدب للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي منذ تأسيسها عام 1966، ورسالة هذه الهيئة أن تقدم المعونات المادية والفنية في مجالات التعليم والثقافة والصحة والإسكان.. لتحقيق هذا الشعار أقامت الهيئة جامعة صنعاء، ومستشفاها العام، وعشرات المدارس، ومعاهد عدن العليا والمتوسطة، وحين استغنت إمارات الجنوب العربي بظهور النفط فيها، واتحادها في إطار "دولة الإمارات العربية المتحدة" فإن ملايين الدولارات التي كانت مخصصة لإعمار هذه الإمارات محدودة الموارد وإخراجها من ربقة التخلف، توجهت إلى السودان، لتقيم المساجد والمدارس والمساكن في مجاهل جنوبه بصفة خاصة. إن ميزانية الهيئة التي تتجاوز أو تقارب - بين عام وآخر- الخمسين مليونا من الدولارات كانت تنفق- أو أكثرها- في تنمية هذين القطرين بصفة خاصة، فإذا اصطدم السقاف- في رياسته للوفد الشعبي الكويتي- بما يجرّح موقف الكويت، وينصر اعتداء خصمه، كان الغضب للحق، والألم لغياب الوفاء!!
حس قومي حضاري
وحين نقرأ كتاب "صيف الغدر" نشعر بأن هذه القضية هي المحرك الأساسي لوضع هذا الكتاب، لأن المؤلف لم يبرز بالقدر الكافي الجهود التنموية العظيمة التي صنعها هو شخصيا بحسه القومي الحضاري، وبأمانته في توجيه ميزانية الهيئة على مدار ربع قرن (وهي حول المليار دولار) وليس من شك في أن لديه من الوثائق والشواهد الشاخصة والتوقيعات الخطية ما يغني عن كلام كثير، ويهدم تحريفات ظالمة. لقد سكت السقاف عن هذا كله، فلم يشر إليه إلاّ إجمالا، وراح يدافع عن موقف الكويت المناصر- بغير تحفظ- للعراق في حربه الطويلة، المريرة، مع إيران!! إن الكويت - الحكومة- قدمت المال، والنفط، والخبز، وقطعة من الأرض، والتأييد السياسي، حتى قال رئيس العراق إن وزير خارجية الكويت يصلح أن يكون وزيراً لخارجية العراق في نفس الوقت. والعبارة نفسها وصف بها صحافة الكويت أيضا، ويعترف السقاف بهذا كاشفا عن الجانب الآخر- الشعبي إذ يقول: "لقد كانت صحافة الكويت أكثر اندفاعا في تأييد العراق من صحف العراق، وكان الشعراء والأدباء والكتاب لا يتخلفون عن أي مؤتمر أو مهرجان يقام في بغداد، يشدون أزر العراق، وينصرونه بالحق وبالباطل". وإذا صحّ أن نتخذ مواقف بعض الشخصيات العامة مؤشرا على التوجّه الشعبي العام، فإن السقاف يذكر عن نفسه أنه وقف قلمه على الدفاع عن العراق في تلك الحرب الطاحنة ( الحرب العراقية - الإيرانية ) وأنه تبرع بمال لم يذكر قدره إبان كارثة المحمرة، ثم لتعمير الفاو، ويذكر أيضا أن الشيخ فهد الأحمد - أحد رعاة الرياضة العربية- الذي استشهد برصاص الغدر صبيحة الثاني من أغسطس قد شارك بنفسه مقاتلا في معركة الفاو (كان فهد الأحمد قد شارك من قبل في معارك الضفة الغربية مع الفدائيين الفلسطينيين) كما قدم الأموال والسيارات تبرعا وافتداء للتراب العراقي، بل كان يعد صديقا شخصيا حميما لرئيس العراق، ولكن هذا لم يحل دون سقوطه مضرجا برصاص الصديق الحميم، الذي تحدث باستخفاف ممقوت عن شعب عربي سانده في محنته أخلص المساندة، قائلا: "من هؤلاء الكويتيون؟ " بعد أن كانوا من النشامى، وبعد أن حمل أميرهم أكبر قلادة في العراق، اعترافا بمواقفه البناءة الشجاعة!! توضيح المواقف، أو تبريرها، التي اتخذها مثقفو الكويت، ممثلين في أدبائها وشعرائها وصحافتها، وقد أسرفوا في تأييد سياسة العراق وساسته- بالحق وبالباطل- هو النقطة الأليمة التي أثارت دافع الكتابة، واستوجبت أن يكون نهج الطرح للقضية ثقافيا، يهتم بالأبعاد الحضارية والسيكولوجية والسياسية للأحداث، أكثر مما يهتم بالواقع والنتائج المترتبة عليه. لهذا، فإن توتر العلاقات العراقية الكويتية يبدأ من العراق، من طبيعة تكوينه، من تجربته التاريخية، فمنذ عصر الخلافة العباسية، والجيش يتدخل في تولية الخلفاء وعزلهم، وفي العهد الملكي دأب السياسيون على إقحام الجيش في صراعاتهم السياسية، ولعل هذا التاريخ الطويل ترك آثاراً نفسية مترسبة، إذ يحاول العراق دائماً أن يظهر بقدرات تفوق طاقاته، كما ظهر هذا في حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، فالبحث عن دور كبير يفوق قدرات العراق كان دائما الشغل الشاغل للجيش والساسة معا، إذ يحسّ الجميع بأن المجتمع العراقي سهل التفكك، لتعدد القوميات (عربية وكردية وتركمانية) وتعدد الأديان والعقائد والمذاهب بما لا شبيه له في قطر عربي آخر، فالبحث عن دور يساق إليه الناس وتحشد من ورائه المشاعر وترفع الشعارات، هو- عند القادة - ملهاة، ولكنها ملهاة.. كما يقول السقاف.. تقود إلى الهلاك. والأشد خطراً من هذا أن هذا البحث عن دور "مظهري" باهر، سيؤدي- وقد أدى- إلى التورط في السلوك المغامر، وأتسام التفكير باللا واقعية، وقد كان هذا واضحا في ثورة الكيلاني، المشار إليها... كما كان علامة مميزة لسلوكيات عبد الكريم قاسم الذي احتمى من شعبه بمتاريس وزارة الدفاع، وراح - مع هذا - يكدّس الميداليات - مجرد ميداليات - تتغنى بشعارات تحرير فلسطين والعودة إلى القدس!!
الشاعر القومي ودوره في تأسيس مجلة "العربي"
إن أحمد السقاف، الشاعر القومي، الذي حفل ديوانه بأكبر عدد من القصائد أبدعه شاعر عربي معاصر، للإشادة بأقطار العروبة، حتى لم يكد يترك قطراً، أو عاصمة عربية دون أن يمجدها بقصيدة، وهو أيضا مؤسس مجلة "العربي" (ديسمبر 1958) حين كان نائباً لمدير دائرة المطبوعات والنشر (النواة التي انبثقت عنها وزارة الإرشاد والأنباء فيما بعد - وقد كان السقاف وكيلا لها حتى عام 1966- وهي الآن وزارة الإعلام) هذا الشاعر يعي موقفه جيداً، كما يحرص على أهدافه الثابتة، ولا شك أن محنة الغزو أصابته في صميم بعض قناعاته، وعرف الحزن الماحق الذي جرّبه عند ضياع فلسطين، وعندما حدثت نكسة يونيو، غير أنه هذه المرة يطال بيته المباشر وأبناءه وأحفاده، ويهدم - بغير رحمة - أمله في أمة عربية واحدة، لأن مشعل الحريق - هذه المرة - عربي، يجتاز بلداً عربياً، يجد له مؤازرين من العرب!!
مع هذا لم يعصف الحزن بميزان العدل، وتوقف الألم بفعل إرادي فلم يكتسح الأمل. ومصدر هذا التوازن براءة المعتقد القومي من شوفينية التطرف الوطني، وبراءته- أيضا- من الاستعلاء العنصري، الذي يلحق القومية بالنازية الفاشستية. وهنا يذكر السقاف - من بين ذكرياته ومداخلاته الكثيرة التي تضمنها الكتاب - حادثة لها دلالتها، فمع بداية الحرب العراقية الإيرانية تزاحمت الشعارات والأغاني "القومية" في إذاعة بغداد، وكان من بين ما استمع إليه مطرب يردد قول الشاعر:
أمة العرب لن تموت وإني |
اتحداك باسمها يا زمان |
فلم يرتض السقاف هذه المبالغة الممقوتة، واتصل - كما يذكر - بالسفير العراقي بالكويت، طالبا منه منع هذه الأغنية.. فتوقفت!! ولهذا، يصحح المفهوم القومي العربي، "فالقومية العربية قومية إنسانية، ترفض العدوان والطغيان والاعتداء على الآخرين، وهي ترفض أيضا التعالي على قوميات الشعوب الأخرى". وإذا كان لم يقبل شعوبية عبد الكريم قاسم - حاكم العراق الأسبق- المعلنة المعادية لآمال العرب، فإنه لم يقبل الشعوبية المبطنة بالأيديولوجية التي استنكرت عليه هو- السقاف- أن يلقي قصيدة تشيد ببطولة عبدالمنعم رياض، رئيس أركان الجيش المصري الذي استشهد على شاطئ القناة، ومن باب أولى، يرفض الشعوبية الصارخة في قول رئيس العراق، وهو يحتل الكويت: "من هؤلاء الكويتيون"؟!
وقد عصمه هذا التوازن نفسه من أن يدفعه الغضب إلى التهوين من شأن العراق، أو الاستهانة بشعبه، ودوره التاريخي، والراهن. إن رفضه، بل عداءه لرئيس العراق واضح تماماً، وسابق على غزوه للكويت، حتى لقد تهرّب من مقابلته، ورفض جائزته الشعرية، لدكتاتوريته، وتأليهه لنفسه، ولكنه شارك في مهرجانات بغداد، وتبرع لإعمار الفاو، وكتب المقالات تحشد الرأي العام لمناصرة العراق، لأن القومية الإيرانية - في عباءة رجل الدين ومبدأ ولاية الفقيه وتحت شعار تصدير الثورة - تهدد الكيان العربي، وتعصف بالتوازن الذي يحافظ على عروبة الخليج.
الوعي بالتاريخ
لقد تجمّع هذا الوعي بالتاريخ، وملابسة الواقع، إلى رغبة في تجاوز الراهن إلى المستقبل، وفي رأي السقاف أن إغراء الثروة، والانفراد، هو الذي حرك مطامع العراق "فقد كانت الكويت في نظر الطاغية طفلة صغيرة تحمل الكثير من المجوهرات النادرة الثمينة تركها أهلها تلعب وحيدة في الشارع" ولقد عبرت محنة الغزو، وزالت الغمة، لأسباب قد يكون من الصعب أن تجتمع مرة أخرى إذا جدّ ما يستدعي التصدي مستقبلا، لهذا، "فإن الكويت ستظل في خوف من المستقبل، وكذلك بقية دول مجلس التعاون الخليجي، ما لم تسرع الخطى نحو الاتحاد".
لن نختلف مع شاعرنا الكبير أحمد السقاف حول الطفلة المثقلة بالجواهر، وهل "تركها أهلها تلعب وحيدة" أو أنها تركت أهلها وفضلت أن تلعب وحيدة. وإذا كان "الاتحاد"- في رأيه - هو الحل لمخاوف المستقبل، فهذا مما لا خلاف عليه، ولكن، بعد أن تغادر "الطفلة" دور الطفولة، بالتنمية البشرية "الحقيقية" التي تقرأ حركة الزمن، قراءة صحيحة، يفهمها الجميع. لقد سجّل الكاتب لشباب المقاومة أنهم رفضوا أي تعاون مع من أهدر كرامة وطنهم، وأنهم نزلوا إلى مضمار العمل، والقيام بالخدمات، لمواطنيهم، فكنسوا الشوارع، وعجنوا، وخبزوا، وأصلحوا عطل الآلات المتنوعة.. وهذا الممكن "الاستثنائي" هو ما ينبغي أن يكون الواجب المستمر، وهو البداية الصحيحة.