أمراض الحساسية عند الأطفال غنية عبدالرحمن

      إذا لم نقل إن هذا هو مرض العصر لدى الأطفال خاصة، فهو من أكثر أمراض العصر حضوراً، وكلما ازدادت المؤثرات البيئية الغربية وتنوعت، ازدادت حالات التحسس بدورها.

وكما يعلم القارئ، فقد اتسع هذا الموضوع ليشمل معظم أجهزة الجسم: الجلد والقناة الهضمية والطرق التنفسية، ولا شك أن معظم الناس، وكذلك الأطباء قد لمسوا بأنفسهم بعضا من عجائب هذا المرض.

من الملاحظات المهمة أن أمراض التحسس بأنواعها تبدأ عندما يبدأ الطفل بتناول أطعمة تختلف عن حليب الأم. ولقد كانت إحدى الأمهات العاملات في معاناة دائمة مع طفلها المصاب، بشري مزمن، وبدأت القصة بلدغ حشرة حسب اعتقادها، ثم انتشر الطفح، ومن وقتها صار الطفل يعاني من نوبات شري تتحسن بالعلاج مؤقتا ثم تعاوده بعد ذلك، وأخذت الفواصل بين النوبات تقصر حتى أصبح عرضا شبه دائم، وكانت الأم تتهم أحد العوامل، وتحذفه (سواء في محيط الطفل كالموكيت أو الصوف أو من الأطعمة التي يتناولها) دون تحسن، فتنتقل لعامل آخر، وهكذا. وهذه طريقة معروفة ننصح الأمهات باتباعها عادة لكشف سبب التحسس. ولقد راجعت به الكثير من الأطباء وأعطته كميات كبيرة من الأدوية، وقد حذرتها مراراً من الملونات والإضافات الصبغية للأطعمة، وهي نصيحة تقليدية نقدمها دائما لأمهات الأطفال المصابين بالتحسس، ونطلب منهن تجنب أنواع العصير الصناعي والأطعمة الصبغية، واستعمال كل شيء طبيعي وصنعه في المنزل. وقلما كان الاقتناع بهذه النصيحة سهلا، خاصة أن الأمهات صرن يبحثن عن السهولة (عاملات كن أو غير عاملات، والعاملات بدرجة أكبر). وقد اكتشفت الأم أن سبب أزمات الشري عند طفلها هو اللبن بالفراولة واللبن بالموز، وأخبرتني أن طفلها مغرم بها اللبن المطعم بالفواكه (وهي كلها مكونات ومنكهات صناعية مضافة للبن). وقد تحسن الطفل وغادره التحسس الجلدي عندما حذفت من نظامه الغذائي هذه الألبان الملونة. ولمن شاء من القراء مزيداً من الدراية بهذا الموضوع أقدم هذه الفقرة من كتاب طب الأطفال - نلسون 1987:

"إن الإضافات الطعامية، خاصة النكهات والألوان الصناعية، قد تورطت في المشاكل الصحية، ويقدر أن هناك أكثر من 3000 نكهة مستعملة، والقليل من الأطفال قد أفلتوا ونجوا من التعرض لبعضها في طعامهم اليومي. وهذه الألوان والمواد المنكهة الصناعية قد ترافقت مع الحالات المرضية التالية : اضطرابات تحسسية تنفسية، شري جلدي، وذمة عرقية، آفات على اللسان والغشاء المبطن للفم، اضطرابات هضمية ، اعتلالات مفصلية، وتجمع السوائل في جوف المفصل، إضافة للصداع والاضطرابات السلوكية بما فيها فرط الحركية والنشاط عند الأطفال".

الشري الحاد والمزمن

ليس الشري حدثا نادراً في حياتنا، ولا بد أن كلا منا قد خبره سواء أصيب به هو نفسه، أو عاينه لدى أحد أفراد عائلته. إحصائيا يعتق أن خمس الناس (20 % من الأشخاص) قد خبروا الشري يوما ما في حياتهم، ولأمر ما تصاب الإناث أكثر من الذكور. واصطلاحا، يعد الشري مزمنا عندما تمتد فترة الإصابة به للتجاوز 6 - 8 أسابيع، وهذا قد يستمر مع الأسف لعدة سنوات، ولا يمكن معرفة سبب الشري المزمن لدى أكثر من 5 - 10 % من المصابين، وذلك في معظم الدراسات التي تتوافر فيها إمكانات بحث جيدة في الدول المتقدمة علميا. نقول هذا حتى لا يصاب الأهل بالإحباط أو التذمر إذا لم يتمكن طبيب طفلهم بإمكاناته المتواضعة غالباً من كشف سبب الشري لديه في جميع الحالات.

والأسباب الأكثر شيوعاً - إن كشفت - هي الأطعمة والأدوية ، ونضرب مثالا : دراسة ميدانية أجريت في جامعة هلسنكي، وقد شملت 163 طفلا تراوحت أعمارهم بين سنة أشهر وستة عشر عاماً، حيث تم قبولهم في المستشفى لإصابتهم بالشري الحاد أو المعاود أو المزمن.

أما عن الأسباب، فقد تصدرت العوامل الفيزيائية القائمة، وعلى رأسها البرد ( وهذا يمكن أن تفهمه في هلسنكي، حيث تمت الدراسة، أما في المناطق الأقل برودة فتختلف النسب).

وكانت الأطعمة أسبابا شائعة للشري في الدراسة، حيث حلت الإضافات الطعامية (الملونات والمنكهات) في المرتبة الثانية، وعدا ذلك لوحظ تواتر حالات الشري بسبب السمك وبعض الخضروات والبيض وجوز الهند، كما اعتبرت الأخماج (الأمراض المعدية) عوامل محدثة شائعة، واتهم منها تلك المحدثة بالجراثيم العقدية ( وهي الجراثيم المسببة لطائفة من الأمراض عند الأطفال أشهرها التهاب اللوزتين، والبلعوم) ، كما وفق الباحثون في تحديد سبب الشري عند أكثر من نصف المرضى بقليل، وبمتابعة 132 مريضا لمدة 3.8 سنة وسطيا، شفي نصف هؤلاء خلال سنة أو أكثر من المتابعة، وأكثر من ثلثهم تحسنوا، بينما 30 % من الذين كان الشري لديهم حادا أصبحوا مزمنين.

والجدير بالذكر أن نسبة الشفاء كانت واحدة، سواء تم تحديد العامل المسبب أم لا، مما جعل الدارسين يستنتجون أن المحصلة النهائية لم تتعلق بتحديد السبب، في دراستهم في الأقل، وإن كنا نعتقد أن تحديد السبب يمنح طمأنينة للأهل والطبيب، ويساعد على تجنبه وتسريع الشفاء.

عيون الأطفال تتحسس

ومن أعضاء الجسم شديدة التحسس للعوامل البيئية : العينن وهي قد تصاب " بالتحسس بالتماس" بسبب عبث الأطفال بعيونهم بأصابع ملوثة بما يحسس (ونظير هذا استعمال مواد التجميل لدى الشابات)، وقد تصاب العين بالشكل المعروف بالرمد الربيعي، أو بأي نوع آخر من التحسسات التي تصيب الجلد والأغشية المخاطية عموما وأن الاحمرار والحكة والوذمة وربما الدماع المستمر هي أعرض معروفة للجميع، ولكن يجب التأكيد على عدم وجود الخوف من الضياء، وإلا فيجب التفكير بحالات أخرى أخطر من التحسس، كإصابة القرنية مثلا. ومن الدراسات الطريفة في هذا المجال، دراسة قارنت بين الحكة كعرض ثابت في التهاب الملتحمة التحسسي، وبين وجود الخلايا المحبة للحامض في كشاطة مأخوذة من الملتحمة، كعلامة مخبرية لهذا الاضطراب، فبلغت نسبة الحكة 80% ، وفاقتها نسبة إيجابية الحمضات فكانت 83 % من حالات التهاب الملتحمة التحسسي المدروسة، وبذلك نعلم أنه ليس كل تحسس يترافق مع حكة، كما أنه ليس كل حكة تعني التهابا تحسسيا، ولا ننسى أن فرك العينين من قبل الطفل المصاب سيفاقم الحالة ويزيدها سوءاً.

تحسس الطرق التنفسية

كما بينت دراسات أجريت على الأطفال المصابين بالربو القصبي - وهو شكل آخر من التحسس يصيب الطرق التنفسية كما نعلم - مجموعة العلامات السابقة لنوبة الربو والمنبئة بها، وقد يستغرب القارئ إذا علم أن الحكة كانت إحداها، لا بل ومن أشيعها، حيث بلغت نسبة وجودها في إحدى الدراسات 80 % ووجدوها في الذقن والوجه بشكل خاص، ولقد تذكرت هذا الكلام وأنا أفحص أحد مرضاي المصاب بنوبة ربو، حين أشارت أمه بكفها إلى رقبتها من ذروة الذقن وحتى القص وهي تقول : "يشعر بحكة شديدة هنا منذ الصباح".

والطريف أن الناس تقول : "إذا حكه كفه: سيقبض نقودا، وإذا حكه حاجبه سيسلم على غائب عائد، وإذا حكه.. سيـ..". وأخيرا يبدو أنهم سيضيفون للقائمة: "إذا حكته ذقنه فسيصاب بنوبة ربو (لا سمح الله)".

 

غنية عبدالرحمن