مصطفى شاهين.. البطل المجهول في عصر الفضاء

 مصطفى شاهين.. البطل المجهول في عصر الفضاء
        

          الدكتور شاهين يشغل منذ سنة 1984 منصب رئيس العلماء في (مختبر الدفع النفّاث), الذي يعتبر أكبر مختبر لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا), وغالباً ما يشاهد جمهور التلفزيون حول العالم غرفة السيطرة في هذا المختبر المسئول عن المركبات الفضائية الآلية للولايات المتحدة.

          وعلى غرار كبار علماء عصر النهضة العلمية العربية الإسلامية, جمع شاهين بين المسئوليات العلمية والإدارية, والعلوم النظرية والتطبيقية, فهو الذي طوّر الطريقة الحسابية لقياس حرارة وتركيب مناخ كواكب الأرض والزهرة والمريخ والمشتري, ويرأس اللجنة العلمية الدولية التي تدرس دورة الطاقة والمياه في الكرة الأرضية, وصمم القمر الصناعي الذي يرصد دورة الأمطار في الطبيعة.

          ومع ذلك, فإن مصطفى شاهين غير معروف على الصعيدين العربي والعالمي, لماذا؟ هل يعود ذلك إلى اسمه العربي الإسلامي؟ أو لأنه من مواليد بيروت؟ أو قد يكون من سكان الفضاء الذين يعيشون سرّاً في الأرض؟

          لولا اسمه العربي, ولو لم يولد في بيروت, لاحتل أغلفة (تايم) و (نيويورك) وغيرهما من المجلات الدولية, ولأصبح من نجوم المجتمع العالمي, هكذا فكّرت عند أول لقاء به عام 1991 في مكتبه في (مختبر الدفع النفّاث) في باسادينا, ولاية كاليفورنيا, وهكذا أفكر حتى الآن, فمصطفى شاهين أحد أبطال عصر الفضاء المجهولين, الذين ساهمت نشاطاتهم في إعادة كتابة علوم الفلك وتحقيق انقلاب كامل في معرفة الكرة الأرضية والكون.

          ومعروف أن عصر الفضاء الأمريكي ولد عندما أطلق (مختبر الدفع النفّاث) أول قمر صناعي أمريكي عام 1958 حمل اسم (أكسبلورر) (المستكشف), يذكر ذلك أي كراس سياحي عن هذا المختبر الذي يبدو ببناياته وهوائياته المتناثرة على سفوح جبل سان غبريال, كمستوطنة فضائية على سطح كوكب آخر, التحق شاهين بالمختبر عام 1960, إثر حصوله وهو في عمر 25 سنة على الدكتوراه في الفيزياء في جامعة بيركلي, وهي واحدة من أهم ثلاث جامعات أمريكية, وساهم العالم العربي خلال الأربعين السنة الماضية في أروع إنجازات العصر الذهبي للفضاء, قضى فترة الـ 15 سنة الأولى في القسم التقني للمختبر, حيث جرى تصميم معظم الرحلات الفضائية الآلية التي لا تحمل بشراً, تضم قائمة المركبات والمسابر الفضائية التي صممت آنذاك أسماء (أسطورية) مثل سلسلة أقمار (رينجر) و (سيرفيور) التي استكشفت القمر قبل هبوط الإنسان على سطحه, ومركبات (مارينر) و (فايكنغ) التي أرسلت إلى كواكب المريخ والزهرة وعطارد, وفي تلك الفترة نفسها, صُممت ونُفذت خطة الرحلات الفضائية العظمى للمركبتين (فوياجر-1) و (فوياجر-2), استكشفت هاتان المركبتان المشتري وزحل وأورانوس ونبتون, وعثرتا على أكثر من 40 قمراً مجهولاً لهذه الكواكب, قبل أن تنطلقا في رحلتهما الأبدية خارج المنظومة الشمسية.

          ورأس شاهين للفترة ما بين عامي 1975 و 1978 الدائرة الخاصة بدراسة الأحوال الجوية للكواكب, وفي عام 1978 أسس (دائرة علوم الأرض والفضاء) ورأس 8 سنوات هذه الدائرة التي ضمت 200 باحث ولعبت دوراً مهماً في أحداث فضائية كبرى, ومنذ تولي شاهين عام  1984 منصب رئيس العلماء تم بناء وإطلاق المسبار الفضائي (ماجلان) الذي التقط لأول مرة في تاريخ علم الفلك صوراً لكوكب الزهرة, قام (ماجلان) برحلة خارقة قطع خلالها مسافة 1300 مليار كلم, ودار حول الشمس حتى بلغ الزهرة, وبعد أن التف حول هذا الكوكب الساحر الذي يسطع في سماء الأرض مع الفجر, اخترق جوّه المغطى بغيوم كثيفة والتقط له الصور التاريخية.

          وأثناء السنوات الخمس الأولى من تولي شاهين مسئولية رئيس العلماء, أنجز بناء المركبة الفريدة (غاليليو), التي استكشفت أكبر كواكب المنظومة الشمسية, أطلقت مركبة (غاليليو) عام 1989 في رحلة استغرقت 6 سنوات, قامت أثناءها بعمليات التفاف خارقة حول الكواكب مستفيدة من قوة الجذب والدفع, حتى وصلت إلى كوكب المشتري سنة 1996, الصور التي التقطتها مركبة (غاليليو) للمشتري أعادت النظر كلية بهذا الكوكب الذي يعادل  40 مرة حجم الأرض, وكان من الممكن أن يكون نجماً بذاته, وواصل شاهين القيادة العلمية في سنوات التسعينيات الصعبة التي شهدت تقليص المسئولين الأمريكيين موازنات الفضاء, وستروي كتب تاريخ الفضاء في المستقبل كيف أمكن في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين تحقيق منجزات فضائية فريدة, كإطلاق المرصد الفضائي (هابل) و (مرصد أشعة غاما), اللذين جعلا سكان الأرض يسمعون لأول مرة أصوات كونية قادمة من مليارات المجرات ويرون أحداث نشأة الكون قبل مليارات السنين.

أسئلة الطفولة

          اللقاء بمصطفى شاهين فرصة العمر لمعرفة الأجوبة عن أول وآخر الأسئلة التي تحيّر الإنسان, في أول لقاء به, لم أستطع مقاومة أسئلة تولد في ذهن أطفال البلدان العربية, الذين يستغرقون في النوم ليالي الصيف تحت السماء المكشوفة, كان ذلك في ختام لقائي الأول به عندما انتهى الحديث عن موضوع الساعة, (مشكلة المناخ العالمي) وقبل أن أسأل, اعتذرت بالقول إن الموضوع (يهمني شخصياً), وأضفت (جداً), إذ شعرت بالورطة عندما فوجئت بصوتي المتهدج يتعثّر خجلاً في الكلام كالأطفال: (هل توجد كائنات حية مثلنا في الفضاء؟.. أعني كواكب مأهولة كالأرض؟ أعني كيف نحن وحدنا في الكون؟).

          عندما أطرق شاهين برأسه قلت لنفسي: (فليكن! مادامت أسئلة سخيفة, فلأسأله عن الكون)! وقدّرت قبل أن أنطق بأن أسئلتي التالية ستكون أسخف, مع ذلك طرحتها هكذا مرة واحدة: مـا هـو الـكـون يا دكتـور  مصطفى شاهين؟ أعني كيف نشأ؟ وإلى أين يمضي؟ وهل سيظل إلى الأبد, أم يفنى؟).

          وارتجفت من الدهشة وضحكت بحبور عصبي حين بدأت أفهم من كلامه أن أسئلة الطفولة هي الشغل الشاغل لهذا العالم الذي وصل إلى القمة العالمية في علوم الكون, لم أذكر ذلك في رسالتي إلى الصحيفة التي أعمل فيها, واعتبرت الموضوع شخصياً بيني وبينه, ونشرت الصحيفة تقرير المقابلة على الصفحة الأولى تحت العنوان التالي: (اللبناني مصطفى شاهين كبير علماء الفضاء الأمريكيين ذكر: تغيّر المناخ مشكلة كبرى تهدد مصير الحياة على الأرض). أفْ! أي عنوان باهت! هل أنا الذي وضعته؟ ربما, صحيح أنه حدّثني عن المناخ, لكن عنوان أول لقاء صحافي عربي بشاهين كان ينبغي أن يكون (كبير العلماء الأمريكيين يؤمن بوجود كائنات فضائية).

درب التبّانة

          عندما أشار شاهين إلى صورة فوتوغرافية معلقة على امتداد الجدار خلف مكتبه, وقال: (هذه مجرة درب التبّانة), قلت لنفسي: (ضعت يا سندباد علمي)! وأتاني صوته الدمث الخفيض جداً:

          -  الأرض والمنظومة الشمسية ليستا سوى نجم واحد من مليارات النجوم في مجرتنا درب التبّانة, ومجرة درب التبّانة هي واحدة من مليارات المجرات في الكون, والتفت إليّ وقال: استقصاء حسابي بسيط لفرص نشوء الحياة في الأرض يكشف عن احتمال وجود أكثر من 400 ألف حضارة مشابهة لحضارة الأرض في هذه المجرة وحدها, شيء ما في صوته الخفيض جداً وملامح وجهه الرقيقة الوردية, جعلني أسمع نبض قلبي بأذني, حاولت دفع الأفكار مفسّراً اضطرابي الجسدي بظاهرة (جت لاك) Jet lag. تحدث هذه الظاهرة أحياناً للمسافرين على طائرات نفّاثة تنقلهم بين مناطق متفاوتة التوقيت, كلندن وباسادينا, لكن هذا التعليل لم ينقذني من أسر خيالات أفلام الفضاء, التي تلبستني في تلك اللحظة, تطلعت عبر النافذة نحو هوائيات (مختبر الدفع النفّاث) وفكّرت أن هذا المكان محطة فضائية ربما, أو أن شاهين أحد سكان الفضاء الذين قدموا سرّاً إلى الأرض واتخذوا أشكالاً بشرية, وتوقعت أن ينزع جلده البشري عندما سمعته يقول بسخرية: هل تعرف يا محمد.. عدم تواضع سكان الأرض يدفعهم إلى الاعتقاد بأن الأرض وحدها قادرة على توفير الظروف لتطوّر حياة, مع أن الكرة الأرضية كلها, ومعها كواكب المنظومة الشمـسية لا تحتل سوى زاوية متواضعة قصية تماماً بعيداً جداً عن مركز مجرة التبّانة, والمجرة نفسها متواضعة الحجم بالمقارنة مع مليارات المجرات الأخرى.

          أشارت أصابعه الناحلة الشـاحبة إلى طـرف قصي لا يُرى في مجرة درب التبانة, وقال لي, وأنا أغالب إحساسي بأن الذي يحدّثني واحد من إياهم (مخلوقات الفضاء): انظر.. عندما نتسلم إشارات ضوئية قادمة من الكون ونتأكد أن مصدرها تكنولوجي سيعلم البشر المعزولون على سطح هذه النقطة الصغيرة في الكون أنهم ليسوا وحيدين, وسيكتشفون آنذاك أنهم سكان مجتمع كوني يضم ملايين الحضارات.

          وتحاشيت تماماً النظر إلى جلده عندما بدأ يحدّثني عن احتمال وجود كائنات حية مصنوعة من السليكون وليس مثلنا من الكبريت والنتروجين, واغتصبت ابتسامة متواطئة, وأنا أهمس بصوت أخفض من صوته: (متى؟ متى نلتقي هذه الكائنات)؟ وقفزت باتجاه صورة المجرة متظاهراً بتفحّصها, وسألت وأنا أحاول كتمان انفعالاتي الرهيبة: هل التقيت مخلوقات فضائية؟

          أعتقد أنه لم يفهم مغزى سؤالي, أو تجاهله, وقال بلهجة موضوعية: (أستبعد أن أشهد خلال حياتي الاتصال بحضارات عاقلة أخرى في الكون, أعني حضارة تملك القدرة التكنولوجية على إىصال رسائل إلى الأرض, تعرف يا محمد أن عمر الحياة في الأرض أكثر من 3 مليارات سنة, وعمر التكنولوجيا الفضائية الأرضية أقل من 100 عام, ولا تتوقع خلال فترة زمنية صغيرة كهذه تطوير وسائل تقنية كافية لتحقيق الاتصال بحضارات أخرى في الكون, وإذا افترضنا تطوّر حضارة في مستوى حضارة الأرض, فإنها ستحتاج إلى  500 عام لتبلغ رسالتها إلى سكان العالم, هذا هو الوقت المقدّر لانتقال الرسالة من أقرب المواقع, التي يُعتقد بوجود حضارات فيها مماثلة للأرض).

          وجفلت عندما تطلع في وجهي وقال: مَن يدري, لعل رسائل كهذه تصل إلى الأرض لكننا نجهل قراءتها؟

          التفت مرة أخرى إلى الصورة الجدارية لمجرتنا (درب التبّانة) وفكرت لأول مرة في حياتي أنني قد أكون من دون أن أدري واحداً من إياهم (مخلوقات الفضاء)!

سر الحياة

          يستند اعتقاد مصطفى شاهين بوجود كائنات عاقلة أخرى غير سكان الكرة الأرضية إلى قوانين قيام الحياة على الأرض, ومع أنه لا يجزم بكيفية نشوء الحياة, فإنه يرجح أن القوانين الكيماوية والفيزياوية لنشوء الحياة قد تكون نفسها في كل مكان في الكون.

          إن أول  محاولة عملية للبحث عن حياة أخرى خارج الكرة الأرضية ستحمل الإنسان إلى المريخ في القرن الجديد 21. هذا أكيد على رغم كل خيبات القرن العشرين مع هذا الكوكب الذي ألهب خيال البشر منذ فجر التاريخ, ومصطفى شاهين من أشد المؤمنين بأن المريخ شهد حياة من نوع ما في تاريخه, قال لي ذلك عند هبوط عربة (مارس باثفايندر) على سطح المريخ عام 1997, وذكر شاهين أن موقع هبوط العربة الفضائية يشبه فم نهر كبير أو مجرى سيل مائي عظيم, تضاريس الموقع تماثل التموّجات التي تحدثها مجاري الأنهار والسيول على سطح الأرض, بالنسبة لشاهين عربة (سوجونر) الآلية الصغيرة التي درجت على سطح المريخ بسرعة نصف متر تقريباً في الدقيقة خطوة نحو دراسة الحياة في الكون, وبيّنت الفحوص التي قامت بها العربة أثناء تجوّلها فوق سطح المريخ وجود أوجه شبه مدهشة بين هذا الكوكب والأرض, وأظهر التحليل الجيولوجي والكيماوي لنماذج الصخور والتراب التي جمعتها العربة الآلية من سطح المريخ أنها تحتوي على الكوارتز والسليكا, هذه مادة الرمال التي تملأ سطح الأرض يحدثها النشاط البركاني والمائي, لكن آخر بركان على المريخ وقع قبل أكثر من مليار سنة, ومنذ ذلك الحين توقفت الدورة الهيدرولوجية المسئولة عن تكوين الماء والبراكين وكل النشاطات المميزة للكواكب الحية, شيء ما حدث للمريخ وأوقف الدورة الهيدرولوجية التي تطوّرت عنها الحياة على الأرض.

          ما الذي جرى للمريخ الذي يقع والأرض على مسافة متساوية من الشمس؟ كيف تحوّل هذا الكوكب الأحمر, الذي يزيد عمره على أربعة مليارات سنة إلى كرة صخرية جرداء تسفعها أشعة الشمس القاتلة؟ هل يحتوي على ماء وحياة من نوع ما تحت سطحه الذي اختفت منه كل مظاهر الحياة؟ ولماذا اختفى الماء الذي ترك آثاراً ظاهرية قوية على السطح؟

          شاهين معروف باكتشافاته المنشورة حول جو المريخ, ويرى أن اختفاء الماء يعود إلى حدوث انفصام بين غازي الهيدروجين والأوكسجين اللذين يشكّلان الماء, الشمس سبب هذا الانفصام, فهي تسفع سـطح الكوكـب الذي لا يملك مثل الأرض جوّاً يحميه من أشعة الشمس المهلكة, وقد أدى اختفاء الماء إلى توقف الدورة الهيدرولوجية (المائية) التي تشكّل أساس النشاط البيولوجي والجيولوجي للكواكب الحية, فالأمطار تتفاعل مع غاز ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الجو لتنتج حوامض كربونية تتحول إلى حجارة كلسية (طبشورية) تتسرّب مع مياه الأمطار إلى المحيطات, هذه المادة التي تتغذى عليها الأسماك وتكون هياكلها الكلسية تتراكم في قعر المحيطات, وتتحول خلال عملية كيماوية معقّدة تستغرق ملايين السنين إلى زيوت وغازات معدنية تشكّل الباطن الساخن الحيّ للكرة الأرضية, وليست البراكين والزلازل سوى تعبير سطحي عن نشاط هائل تحت سطح الأرض يحرّك الصفائح القارية الأرضية ويطويها ويعيد تركيب الكوكب الحي من جديد, ماذا بقي من هذا في باطن المريخ؟

          الجواب قد تعثّر عليه عربات آلية أخرى يعمل شاهين على إرسالها إلى المريخ في الأعوام المقبلة, وإذا سار كل شيء على ما يرام, سيشهد عام 2003 هبوط أول مركبة على سطح المريخ لانتقاء عيّنات وجلبها إلى الأرض, الفترة الزمنية التي تستغرقها الرحلة إلى المريخ باتجاه واحد تبلغ نحو تسعة شهور, وتتوافر التكنولوجيات التي يمكنها حمل بشر إلى المريخ والعودة بهم, لكن لا توجد أي مشاريع لإرسال مركبات مأهولة في الوقت المنظور, أفكار وتجارب مطروحة للبحث حالياً قد يكون أهمها تطوير طرق لإنتاج الطاقة اللازمة لهذه الرحلة الطويلة على متن المركبة الفضائية أو على سطح المريخ, وهذا موضوع الرسالة التي أرسلها شاهين إليّ بالبريد الألكتروني.

الأرض.. الأرض

          إذا كان مصطفى شاهين قادماً من الفضاء, فلماذا هذا الاهتمام بمخلوقات الفضاء؟ سؤال منطقي, أليس كذلك؟ لكن الحقيقة أن الفضاء ليس هو الشغل الشاغل له, بل الحياة كيفما كانت وأينما كانت, شاهين مهتم جداً بالدورة الهيدرولوجية على الأرض, التي تستغرق ما بين 300 و 500 مليون عام, هذه فترة الحضانة الضرورية في رأيه لتطوّر المادة غير الحية إلى جزيئات وبكتيريا ونشوء أنواع الحياة المعقدة كالحيوانات والبشر, وعلى غرار الامتداد الموسوعي لعلماء عصر النهضة العربية الإسلامية, جمع شاهين خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين بين رئاسة أهم هيئتين علميتين في العالم تستشرفان هذه الآفاق, فهو رئيس العلماء في أهم مختبر للاستكشافات الفضائية يضم نحو 3 آلاف عالم وتقني وإداري, ويرأس في الوقت نفسه أعلى هيئة علمية لدرس دورة الماء والطاقة في الطبيعة, يُطلق على الهيئة اسم (جيوكس) GEWEX, من الحروف الأولى لعبارة (تجربة دورة الطاقة والماء الغلوبالية), تشرف (جيوكس) على تحليل معلومات تجمعها منظومة أقمار صناعية ترصد المؤثرات التي تحدد مصير الكرة الأرضية كالإشعاعات الشمسية الحرارية وحركة الغيوم ومستويات البحار والمحيطات, والتركيب الكيماوي لجو الأرض وأثر النشاطات البشرية عليه.

          ومع أن شاهين لا يتوقع الحصول قريباً على أجوبة نهائية بصدد حقيقة ما يجري للمناخ العالمي, فإنه يعتقد أن المعلومات حول درجات الحرارة والرطوبة والغيوم التي جمعتها المسابر وأقمار البيئة ومحيطات الأرصاد الأرضية تسمح بالاعتقاد بأن مناخ العالم يتغير, وأن أسباب التغير ليست طبيعية, قد تعود ربما إلى تراكم الغازات في جو الأرض.

          ويصعب رصد التغيرات من سنة إلى أخرى بسبب ضآلتها وتداخلها مع التقلبات المناخية الطبيعية, فالتغير, حسب تعبير شاهين (كهمسة إنسان وسط حشد صاخب إلى درجة لا يمكن معها معرفة ما يريد الشخص الهامس قوله لنا), وستمر فترة طويلة جداً قبل أن نستطيع تتبع اتجاه معين واكتشاف ما حدث فعلاً, لكن الوقت لا يعمل لمصلحتنا في رأي شاهين, الذي لا يستبعد أن يأتي يوم نكتشف فيه أن المناخ تغير منذ سنين, وقد يكون الوقت متأخراً جداً آنذاك لعمل شيء, ولا يستبعد حدوث تغيّر مفاجئ في الحرارة العالمية, المشكلة أن ارتفاع الحرارة العالمية الناجم عن تراكم غازات الدفيئة في الجو مراوغ جداً, فالزيادة السنوية في درجات الحرارة بمقدار عُشر درجة مئوية تجري على خلفية من تقلبات طبيعية أكبر منها, وتتداخل السخونة الناجمة عن الدفيئة مع دورات السخونة والبرودة الطبيعية ما يؤدي إلى إلغاء إحداها للأخرى لفترة, لكن يمكن أن يعود كلاهما مرة أخرى وتقفز الحرارة فجأة.

قمر شاهين

          الحديث مع الدكتور مصطفى شاهين فرصة نادرة لمعرفة آخر أخبار الكرة الأرضية والمنظومة الشمسية والكون, والكرة الأرضية بالنسبة له منظومة معقدة تستجيب بأشكال مختلفة لمؤثرات عدة, مثل الرطوبة والغيوم والجو والتضاريس الأرضية والجليد وتساقط الأمطار والثلوج والنشاط الشمسي, وأخيراً النشاط البشري, الاتفاق العلمي قائم على أن العامل البشري أصبح للمرة الأولى في تاريخ الأرض عاملاً مهماً قد يؤثر على بيئة العالم ومناخه وربما مصيره, إلا أن شاهين لا يتوقع التوصل إلى يقين علمي من أي نوع قبل الكشف عن تفاعل جميع هذه العوامل مع الدورة الشمسية الكاملة التي تستغرق 22 سنة, يساهم في هذا الكشف قمر الرصد الجوي الذي أشرف على تصميمه شاهين, اسم القمر, الذي يكلف نحو ربع بليون دولار هو (مسبار الرصد الجوي ما فوق الحراري) Infrared Atmospheric Sounder, وهدفه دراسة دورة التبخّر وتشكل الأمطار والغيوم في الأرض.

          يكلف المسبار نحو ربع بليون دولار, والسؤال الرئيسي الذي يبحث عن جوابه هو: هل تغيرت دورة تكوّن الأمطار في العالم نتيجة لما يُقال عن الاحترار العالمي وظاهرة الدفيئة؟ طبعاً الإجابة عن هذا السؤال قد تقرر مصير قضايا سياسية واقتصادية كبرى, وعلى رأسها استخدام طاقة النفط والفحم التي تعتبر مسئولة عن هذه الظاهرة, وحتى يعثر على جواب عـن هـذا السؤال, لا توجد سوى تحليلات تخمينية عن تسارع دورة تكوّن الأمطار في الطبيعة والتي تستغرق 11 يوماً في المعدل.

          هل يمكننا عند ذاك التوصل إلى يقين حاسم بصدد وضع المناخ العالمي؟ يجيب شاهين بابتسامة مداعبة: لا, بل سنصبح أقل شكّاً.

          وعلى خلاف التصوّر السائد, يرى شاهين أن العلم كثير التردد وبطيء الحركة, وبراهينه غير قاطعة دائماً, لذلك فإن السياسة الحيوية هي التي توجه العلم, ويقارن هذا بتأثير التدخين على الصحة, وكيف استمر النقاش العلمي طوال العقدين الماضيين حول علاقته بسرطان الرئة, لكن القرار السياسي هو الذي حسم الموضوع, يحدث الشيء نفسه مع مشكلة تراكم غازات الدفيئة في جو الأرض, الاتفاق العلمي قائم على أن هذه الغازات تتراكم بكميات لم يحدث مثيل لها طوال الـ160 ألف سنة الماضية, وأنها قد تؤدي إلى تغير المناخ العالمي, ويستمر النقاش على الرغم من أن اتفاقية المناخ الدولية تبنّت وجهة النظر التي تؤمن بخطر تغير المناخ وفرضت قيوداً على إطلاق غازات الدفيئة.

شاهين والسياسة

          سألت شاهين مرة:

          - ألا تعتقد أن هناك دوراً سياسياً مباشراً للعلم يتعلق بالرؤية العلمية في حد ذاتها؟ فالعلماء يملكون رؤية علمية, قد تكون بسيطة, لكنها قادرة على لعب دور سياسي؟

          أجاب: (هذا صحيح, وأنا أفضّل هذه الرؤية العلمية البسيطة على الرؤية السياسية المعقدة, لكن السياسة مسألة شاملة ينبغي أن تأخذ بالاعتبار المصوتين لك في الانتخابات, وموقف كل دولة عضو في الأمم المتحدة, وغير ذلك, بينما يحاول العلم تبسيط الأمور وبلوغ الأساسيات, هناك فجوة بين العلم والسياسة, وأعتقد أن كلا منهما متطرّف في موقفه من الحياة التي نعيشها).

          وانتقل شاهين في صورة مفاجئة إلى التكلّم باللهجة اللبنانية, قائلاً: (دخلك, لمّا أحاول أحكي عربي يلزمني يوم أو يومين على الأقل لأغيّر الكومبيوتر اللي في دماغي).

          ثم واصل الحديث بالإنجليزية: (في الساعات الأولى من اليوم الأول والثاني, أتكلم بالعربية, كما لو كنت أترجم عن الإنجليزية حرفياً, أفكر بلغة وأتكلم بلغة أخرى, بعد يومين تصبح عملية الترجمة فورية, بدلا من ترجمة كل كلمة بمفردها).

          وتورّدت وجنتا شاهين الرقيقتان, وهو يقول: مازلت أقرأ بالعربية حتى الآن, للعربية جمال خاص, فهي مبنية على أساس أربعة آلاف جذر من الأفعال, وقد انقطعت عنها حوالي 30 سنة, ربما نشأت خلال ذلك حوالي 30 ألف كلمة جديدة, إذا افترضنا ألف كلمة عربية على الأقل تُبتكر سنوياً, مع ذلك أستطيع أن أعرف الكلمة عن طريق ردّها إلى جذرها بسهولة, هذا يجعلني ألتذ أثناء القراءة بالعربية باكتشاف أصول الكلمات الجديدة التي نشأت أثناء انقطاعي عنها, لكنني لا أستطيع أن أستخدم الكلمات مباشرة مع أنني أقرأ العربية في شكل جيد, وأقرأ الصحف العربية التي أجدها أيام السبت في الأكشاك في باسادينا, وأقرأ عادة الرسائل التي تردني من زوج أختي عصام النقيب مرتين, مرة لأعرف محتواها, ومرة لأتذوق جمال لغتها العربية.

          مصطفى شاهـين متزوج من الدكتورة مارينا البندك, وهي أستاذة في علم السياسة, أصلها من بيت لحم في فلسطين, وله منها ولدان, هما توفيق (طبيب عيون) وسليم (محام), وُلد شـاهـين عام 1935 في حي رأس النبع في بيروت في لبنان, وأكمل الدراسة الثانوية فيها قبل أن يلتحق بجامعة بيركلي في كاليفورنيا.

 

محمد عارف