شهادات الرحّالين: ثلاثون عاما من تاريخ الكويت (1922-1952م): د. محمد محمود الطناحي

ملف الدستور الكويتي: دستور دولة الكويت .. وقفة بمناسبة مرور خمسين عامًا على ميلاده: د. محمد الفيلي

إذا اعتبرنا أن استقلال الدولة هو ميلادها أو ما يوازي ذلك، فهي شخص اعتباري، فإن الميلاد يقتضي إشهار وتثبيت. والدستور يقوم بجزء من هذه الوظيفة فهو أقرب إلى شهادة الميلاد التي تصدر للإنسان بعد ولادته فتعلن عن هذه الواقعة وتتضمن عددًا من البيانات المؤثرة في تحديد هوية الكائن الجديد. ولعل أهمية الدستور تتجاوز فكرة شهادة الميلاد، مع أهميتها، فالدولة كائن اعتباري كما الجمعيات والشركات، والدستور هو النظام الأساسي الذي يبين وظائف هذا الكائن وكيفية قيامه بهذه الوظائف والتكاليف وحقوق وواجبات أعضاء الجمعية العمومية وهم في حالتنا الشعب.

والدستور القائم صدر في 11 / 11 /1962 وهو ثاني دستور تعرفه الكويت بعد الاستقلال وقد عرفت قبل الاستقلال عددًا من التنظيمات الدستورية العرفية والمكتوبة (الكويت ... من الكيان السياسي إلى الدولة، مجلة العربي، فبراير 2011). ودستور 1962 لم يعدل منذ صدوره مع أن الدستور لا يمنع تعديل أحكامه، فهو يضع تنظيما للتعديل يبين إجراءات التعديل كما يقرر بعض الضوابط الموضوعية التي تحكم التعديل لحماية عدد من القيم والمبادئ التي يعتقد واضع الدستور أنها أساسية. ولعل القارئ يتساءل كيف صمد هذا الدستور في مواجهة التعديل خمسين عاما وهو أمر نادر بالنسبة للدساتير؟ نحن نعتقد أن التساؤل السابق مهم ومستحق ولكنه ليس الوحيد الذي يلفت نظر المراقب، فأسلوب إعداد الدستور ومحتوى هذا الدستور هي أيضًا أمور تستحق وقفة، وقد تساعد في فهم سبب صمود هذا الدستور أمام التعديل.

أولاً: أسلوب إعداد دستور 1962: يعرف الفقه الدستوري أساليب أربعة لوضع الدساتير وهي المنحة والعقد والجمعية التأسيسية والاستفتاء الدستوري. ولاستخدام أي من هذه الأساليب دلالات ومبررات كما أن عدم إتقان استخدامها يقود لآثار جانبية غير مرغوبة. وأول دستور وضع في الكويت بعد الاستقلال تم تسميته النظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال وقد تم إقراره بالقانون رقم 1/ 1962 الصادر بتاريخ 6 / 1 / 1962 علما بأن الاستقلال قد كان بتاريخ 19 / 6 / 1961. والدستور المشار إليه دستور مؤقت كما يقرر عنوانه وقد وضع بقانون صادر عن الأمير علمًا بأنه كان يجمع السلطة التنفيذية والتشريعية في ذلك الوقت، مما يعني أن الدستور محل العرض قد وضع بأسلوب المنحة. قبل صدور الدستور المؤقت صدر في 26 / 8 / 1961 مرسوم بالدعوة لانتخاب مجلس يسمى المجلس التأسيسي يتكون من عشرين عضوًا، يمثل كل اثنين دائرة انتخابية ويكلف المجلس المذكور بإعداد الدستور، وقد تم تحديد موعد انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي في 1 / 11 / 1961 ثم تم تأجيل الموعد إلى 2 / 12 / 1961 ومن بعد ذلك تأجلت كي تعقد في 30 / 12 / 1961. ورد في المادة الأولى من الدستور المؤقت «يقوم المجلس التأسيسي بإعداد دستور يبين نظام الحكم على أساس المبادئ الديمقراطية المستوحاة من واقع الكويت وأهدافها .

ويجب أن ينتهي المجلس من هذه المهمة خلال سنة من أول انعقاد له. ويعرض الدستور الذي يوافق عليه المجلس على الأمير للتصديق عليه وإصداره». بالاضافة للمهمة السابقة فإن القانون 1 / 1961 جعل للمجلس التأسيسي دورًا في ممارسة السلطة التشريعية في فترة الانتقال، كما قرر له بعض أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية.

وقد يتساءل المراقب: لماذا توجه عبدالله السالم أمير الكويت آنذاك لأسلوب العقد في إعداد الدستور؟ ألم يكن في وسعه إعداد الدستور الدائم بأسلوب المنحة كما فعل في الدستور المؤقت؟

أسلوب المنحة: واقعة الاستقلال والرغبة في الانضمام للمجتمع الدولي تقودان إلى وجوب وضع دستور يحقق الحد الأدنى من المواصفات المطلوبة في الدساتير مثل تنظيم السلطات العامة على نحو يحقق فعلية السلطة مع تحقيق قدر من المشاركة الشعبية في تسيير السلطات العامة وتنظيم الحقوق والحريات الأساسية وفق المعايير الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة. كان يمكن للأمير أن يضع منفردًا دستورًا يتضمن التنظيم المطلوب، ولو فعل ذلك لكان تصرفه محل قبول أو عدم اعتراض على الأقل من أغلبية القوى السياسية في الكويت كما أن الصورة المتداولة عن المنطقة على المستوى الدولي تؤدي إلى اعتبار صدور دستور بمواصفات معقولة أمرًا إيجابيًا بغض النظر عن أسلوب الصدور. إصرار عبدالله السالم على أسلوب العقد في إصدار الدستور كان واضحًا فتأجيل انتخابات المجلس التأسيس لمرتين مرتبط بالرغبة في ضمان مشاركة كل القوى السياسية التي كانت قائمة في ذلك الوقت. وإذا كان إصرار الحاكم على تبني أسلوب العقد واضحًا فمن حق القارئ أن يتساءل عن سبب ذلك؟

أسلوب العقد: نعتقد أن هناك تفسيرين لتبني العقد كأسلوب لوضع الدستور الكويتي، تفسير تاريخي وتفسير سياسي .

- التاريخ: إذا تأملنا في مراحل تطور النظام الدستوري للكويت فإننا نجد أن القواعد الدستورية السابقة على ظهور النفط، باستثناء فترة حكم المغفور له الشيخ مبارك الصباح، كلها تعكس مشاركة بين الحاكم والمحكومين فالدستور العرفي يتبنى البيعة كوسيلة لتولية الحاكم والشورى كأسلوب لممارسة الحكم. وقد أكدت الوثيقة الدستورية التي تم التوافق عليها عام 1921 فكرة الشورى كأسلوب لممارسة الحاكم لاختصاصاته كما أكدت أن الجماعة تفهم تعبير الشورى على أنه مشاركة ممثلي الشعب مع الحاكم في «إدارة شئون البلاد». ووجود أعضاء منتخبين في مجالس إدارات الدوائر الحكومية يمكن اعتباره تجسيدًا لفكرة المشاركة وقد أعاد دستور 1938 تأكيد هذه الفكرة في مضمونه، كما أنه من حيث أسلوب إقراره كان عقديًا.

- الدلالة السياسية: نلاحظ إن فكرة العقد ارتبطت بفكرة الواقعية السياسية فالدستور ليس فقط ما اتفق ممثلو الشعب والحاكم على القبول به ولكنه يجب أيضًا أن يعكس مشاركة أكبر قدر من القوى السياسية في الجماعة في إقراره كي تشارك في الدفاع عنه أو على الأقل تصبح أقل قدرة على محاربته. ونعتقد أن هذه الواقعية هي نتيجة مباشرة لتجربة مجلس الأمة التشريعي والدستور الذي أقره المجلس المذكور، فدستور 1938 ذهب ضحية طليعيته وقلة الشركاء فيه مما أدى إلى عدم وجود مساندة له عندما تعرض للإلغاء.

المجلس التأسيسي

لإعداد دستور 1962 تم انتخاب مجلس سمي المجلس التأسيسي وهو يتكون من عشرين عضوًا. وتتكون الوزارة من أربعة عشر عضوًا منهم أحد عشر وزيرًا من الأسرة الحاكمة، وثلاثة وزراء تم اختيارهم من ضمن الأعضاء المنتخبين. والوزراء وفق الدستور المؤقت أعضاء في المجلس التأسيسي وقد شاركوا في مناقشة مشروع الدستور ولكنهم قرروا الامتناع عن المشاركة في التصويت النهائي على مواد الدستور كي يغلب الجانب الشعبي في إقرار نصوص الدستور. ويذكر الأستاذ علي الرضوان أمين عام المجلس التأسيسي وسكرتير لجنة الدستور أن انتخاب أعضاء لجنة الدستور تأخر مقارنة بتشكيل اللجان الأخرى، ومرد ذلك الرغبة في التباحث حتى تتضمن هذه اللجنة أهم القوى السياسية الموجودة في المجلس. وقد تكونت لجنة الدستور كي تكون المطبخ الأولي لمشروع الدستور وعدد أعضائها خمسة، وزير العدل ووزير الداخلية وعضوان من أعضاء المجلس التأسيسي ويرأسها رئيس المجلس. ووزير الداخلية المشار له هو المرحوم الشيخ سعد العبد الله الحاكم السابق للكويت وابن الأمير آنذاك، ولكنه لم يتم اختياره لهذا السبب، ولكن لأن أعضاء الأسرة الحاكمة قد تراضوا عليه، مما يدل على أن هاجس المشاركة الفعلية في إعداد الدستور كان قويًا. وإذا كان الحرص على مشاركة أكبر قدر من القوى السياسية الفاعلة في صناعة الدستور تفسيره في الرغبة بحماية التجربة وتقويتها، فإن هذا الواقع قاد إلى التأثير على محتوى الدستور كي يصبح توافقيا إلى حد كبير في عدد من المسائل .

ثانيًا: محتوى دستور 1962: ماهي الصورة التي رسمها الدستور لدولة الكويت من حيث شكلها وهويتها؟ وما هو نظام الحكم فيها من حيث مصدر السيادة والعلاقة بين السلطات؟ وكيف رسم الدستور موضوع الحقوق والحريات؟ الإجابة على الأسئلة السابقة تساعد في تلمس محتوى دستور 1962 كما أنها تسمح بالوقوف على حقيقة وجود التوافقية فيه.

التوافقية تفترض اختلافًا وتعددًا في وجهات النظر لم يستطع أي طرف من الأطراف حسمه وفق اقتناعه هو، كما أن حسم الموضوع محل الخلاف مستحق لا يمكن تأجيله أو ترحيله، ولذلك يقبل كل من الأطراف بحل لا يراه هو بالضرورة مثاليًا والتوافقية بهذه الصفة تفترض الواقعية.

و المتأمل في الدستور الكويتي يجد أن بعض مواضيعه تكشف عن قبول بالحلول المقترحة مع وجود تساؤلات واستيضاحات فقط لدى بعض الأعضاء، كما يجد أن بعض مواضيعة قد أقرت بالرغم من اعتراضات بعض الأعضاء، وإلى جوار ذلك توجد مسائل لم يأت الحل فيها وفق التصوّر الذي دعا إليه أي من الأعضاء ولكنه أتى وسطًا بين الحلول المقترحة ولعل عرض محتوى الدستور يسمح بذكر أمثلة للحالات التي ذكرناها .

الدولة: تحديد شكل الدولة (بسيطة أو اتحادية) من الوظائف التقليدية للدساتير، أما تحديد هوية للدولة أو بالأحرى الشعب أو أغلبيته فهي وظيفة أحدث برزت بظهور الدول العقائدية من جهة، والدول الحديثة من جهة أخرى خاصة مع نهاية فكرة الدولة الحارسة واستقرار إناطة تحديد الوظائف المستجدة للدولة بالدستور. ونلاحظ أن الدستور الكويتي قد تعامل مع الأمرين فهو من جهة قرر أن دولة الكويت دولة بسيطة ونستنتج هذا التقرير من غياب الإشارة للفدرالية أو الإقليمية السياسية في صلب الدستور ومعلوم أن الأمرين السابقين لا يمكن تقريرهما إلا بإحكام الدستور أما اللامركزية الإقليمية فأمرها موكل للقانون. ويرسم واضعو الدستور للدستور دورًا في موضوعي القومية والدين:

- القومية: تقرر المادة الأولى من الدستور أن «الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة تامة، ولا يجوز النزول عن سيادتها أو التخلي عن أي جزء من أراضيها. وشعب الكويت جزء من الأمة العربية».

و المذكرة التفسيرية للدستور تبين «وقد استعمل في الفقرة الثانية من هذه المادة اصطلاح «وشعب الكويت» بقصد تسجيل أن للكويت كيانها السياسي المتميز منذ قرون مما يجعل من الكويتيين شعبًا بالمعنى الدستوري، ولكنه جزء من الأمة العربية، فوجب ألا تدخل عليه أداة التعريف حتى لا يكون في هذا المزيد من التخصيص مما يجافي وحدة هذه الأمة الشاملة، ولذلك كان الاصطلاح المذكور أفضل من اصطلاح «الشعب الكويتي» وأكثر تجاوبًا مع القومية العربية. ونجد هاجس الانتماء القومي في أماكن أخرى من الدستور فلغة الدولة الرسمية هي اللغة العربية كما ورد في المادة الثالثة وتتعامل المادة 157 مع ذات الموضوع وهي تقرر «السلام هدف الدولة، وسلامة الوطن أمانة في عنق كل مواطن، وهي جزء من سلامة الوطن العربي الكبير».

حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر

- الدين: يقرر الدستور حرية الاعتقاد للأفراد في المادة 35 كما يقرر في ذات النص حرية ممارسة الشعائر في إطار النظام العام أما نص المادة الثانية من الدستور فهو يقرر «دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع». ونلاحظ أن عبارة دين الدولة تأتي من باب المجاز لأن الدولة كائن اعتباري وممارسة العبادات وطقوس الديانات لا يتأتى إلا للأشخاص الطبيعية، فالدولة لاتصوم ولا تصلي، ولكن المواطنين يفعلون ذلك مع أن الدستور لا يسمح بحملهم على ذلك والعبارة شائعة الاستعمال في الدساتير العربية. أما الشق الثاني من العبارة فقد أثار نقاشًا في لجنة الدستور لأن الصيغة التي قدمتها الحكومة كانت «الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع» وقد تم الاتفاق على الصياغة القائمة لأنها تترك للمشرع سلطة تقديرية لمواجهة الاحتياجات التشريعية للدولة خاصة أن هذه الصياغة تدعو المشرع ما استطاع لتبني أحكام الشريعة الإسلامية كمصدر ينطلق منه، وحددت المذكرة التفسيرية أن المقصود بأحكام الشريعة الإسلامية هو الأحكام الفقهية، وهذا التوضيح منطقي فليس للدولة أن تفرض بالتشريع على الناس عقيدة أو عبادة. وإذا كان المشرع مدعوًا، في الحدود التي يرسمها الدستور للمشرع، إلى تبني أحكام الشريعة الإسلامية في مسائل المعاملات، إلا أن المشرع يفقد هذه السلطة التقديرية بالنسبة للمواريث لأن الفقرة الأخيرة من المادة 18 تقرر أن الميراث حق تحكمه الشريعة الإسلامية.

نلاحظ أن موضوع موقف الدستور من القومية العربية لم يثر نقاشًا، ولكن موقف الدستور من الدين أثار نقاشًا تم حسمه بالاقناع. وفي ثنايا عرض الموضوع السابق يلاحظ القارئ أن للمذكرة التفسيرية دورًا مهمًا في الكويت، وهي قد كانت محلاً لتصويت المجلس التأسيسي عليها وعرضت على الأمير حين التصديق وهذا أمر غير دارج في الدساتير وسببه التوفيقية التي لا تكفي النصوص لحملها.

وإذا كان الدستور يحرص على تقرير البعد القومي والبعد الإسلامي للدولة الوليدة أو شعبها، فإننا نرصد في الوقت ذاته إشارات تضع التوجهين في إطار إنساني يحمي الجماعة من التعصب القومي والتعصب الديني ففي ديباجة الدستور نقرأ «رغبة في استكمال أسباب الحكم الديمقراطي لوطننا العزيز. وإيمانًا بدور هذا الوطن في ركب القومية العربية وخدمة السلام العالمي والحضارة الإنسانية. وسعيًا لمستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية، ويفيء على المواطنين مزيدًا كذلك من الحرية السياسية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، ويرسي دعائم ما جبلت عليه النفس العربية من اعتزاز بكرامة الفرد، وحرص على مصلحة المجموع، وشورى في الحكم مع الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره. «وفي المادة 13 رسالة الربط بين الإسلام والعروبة والتراث الإنساني أكثر وضوحًا، فالنص يدعو لأن «تصون الدولة التراث الإسلامي والعربي وتسهم في ركب الحضارة الإنسانية».

و إلى جوار رسم صورة الدولة فإن الدستور رسم صورة نظام الحكم من زوايا مختلفة.

نظام الحكم: عندما نعرض لنظام الحكم في دولة من الدول فقد نعرض للموضوع من زاوية تحديد أسلوب تولي رئيس الدولة للحكم أو من زاوية تحديد مالك السيادة في الدولة، وقد تكون الزاوية المنظور من خلالها هي نظام العلاقة بين السلطات في الدولة.

- أسلوب تولي رئيس الدولة: قاعدة حصر حق تولي الحكم في ذرية المغفور له مبارك الصباح هي تعديل لقاعدة عرفية أقدم وقد تبنى الدستور القائم هذا التعديل كما استوحى من وثيقة 1921 فكرة إمكان وجود ثلاثة مرشحين والمادة الرابعة تقرر أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح.

ويعين ولي العهد خلال سنة على الأكثر من تولية الأمير، ويكون تعيينه بأمر أميري بناء على تزكية الأمير ومبايعة من مجلس الأمة تتم في جلسة خاصة بموافقة أغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس.

وفي حالة عدم التعيين على النحو السابق يزكي الأمير لولاية العهد ثلاثة على الأقل من الذرية المذكورة فيبايع المجلس أحدهم وليا للعهد. ويشترط في ولي العهد أن يكون رشيدًا عاقلاً وابنا شرعيًا لأبوين مسلمين.

وينظم سائر الأحكام الخاصة بتوارث الإمارة قانون خاص يصدر في خلال سنة من تاريخ العمل بهذا الدستور وتكون له صفة دستورية فلا يجوز تعديله إلا بالطريقة المقررة لتعديل الدستور». ونلاحظ أن ممثل الأسرة الحاكمة في لجنة الدستور كان يرى أن يكون تنظيم الموضوع بمرسوم أو أمر أميري لأنه خاص بالأسرة بينما طالب الأعضاء المنتخبون بصدور قانون لتنظيم الموضوع باعتبار أننا بصدد نظام حكم الدولة ولسنا بصدد أمر خاص بالأسرة، وقد استندوا لوثيقة 1921 كسابقة يجب الاعتداد بها. وقد رجّح عبد الله السالم الحل الثاني.

- السيادة: السيادة في المصطلح هي القدرة على التشريع والتنفيذ أو الرقابة على التنفيذ عند فصل السلطات وفي الأنظمة الديمقراطية الشعب هو من يمتلك السيادة وقد يمارسها بنفسه مباشرة فيجتمع لاتخاذ القرارات وهذه هي الديمقراطية المباشرة وهي على منطقيتها النظرية صعبة التطبيق عمليًا أما الديمقراطية النيابية فصورتها انتخاب الشعب لنواب يمارسون التشريع ويراقبون السلطة التنفيذية باسم الشعب. ويمكن أن ينتخب الشعب مجلسًا نيابيًا مع احتفاظه بقدر من الاختصاصات يمارسها من خلال الاستفتاءات أو الاقراحات الشعبية الموقعة من عدد من المواطنين يحددهم الدستور، وهذا النمط من الديمقراطية هو الديمقراطية شبه المباشرة. الدستور الكويتي قرر في مادته السادسة أن «نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعًا وتكون ممارسة السيادة على الوجه المبين بهذا الدستور» ونلاحظ أنه قد رسم للديمقراطية صورتان، على مستوى المؤسسات الرسمية رتب عناصر الديمقراطية النيابية فمجلس الأمة يمتلك الاختصاص التشريعي والرقابي وهو منتخب لميقات معلوم، وأعضاؤه مستقلون بإرادتهم عن جمهور الناخبين، وكل منهم يمثل كل الأمة. وإلى جوار الديمقراطية النيابية تعتبر المذكرة التفسيرية للدستور، وقد كانت محلاً للمناقشة والتصويت في المجلس التأسيسي، إن شبكة الحريات العامة تعادل في أهميتها الرقابة التي يجريها البرلمان وتعبر عن هذا المعنى بتقريرها «ومن وراء التنظيم الدستوري لمسئولية الوزراء السياسية، توجد كذلك وبصفة خاصة رقابة الرأي العام التي لاشك في أن الحكم الديمقراطي يأخذ بيدها ويوفر مقوماتها وضماناتها، ويجعل منها مع الزمن العمود الفقري في شعبية الحكم. وهذه المقومات والضمانات في مجموعها هي التي تفيء، على المواطنين بحبوحة من الحرية السياسية، فتكفل لهم - إلى جانب حق الانتخاب السياسي - مختلف مقومات الحرية الشخصية (في المواد 30، 31، 32، 33، 34 من الدستور) وحرية العقيدة (المادة 35) وحرية الرأي (المادة 36) وحرية الصحافة والطباعة والنشر (مادة 37)، وحرية المراسلة (المادة 39) وحرية تكوين الجمعيات والنقابات (المادة 43) وحرية الاجتماع الخاص وعقد الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات (المادة 44) وحق تقديم العرائض إلى السلطات العامة (المادة 45) وفي جو مليء بهذه الحريات ينمو حتمًا الوعي السياسي ويقوى الرأي العام، وبغير هذه الضمانات والحريات السياسية، تنطوي النفوس على تذمر لا وسيلة دستورية لمعالجته، وتكتم الصدور آلامًا لا متنفس لها بالطرق السلمية، فتكون القلاقل، ويكون الاضطراب في حياة الدولة». ولعل الدور الذي تنيطه المذكرة التفسيرية بمظاهر الرقابة الشعبية يسمح بإعادة التوازن بين صورتي الديمقراطية ويعيد لتعبير سيادة الأمة معناه.

- العلاقة بين السلطات: الفصل بين السلطات أصبح سمة لنظم الحكم الحديثة ولكن نمط الفصل وأسلوب العلاقة بين هذه السلطات بعد تقرير الفصل بينها هو الذي يميز نظم الحكم. وتوجد ثلاثة نظم أساسية وهي النظام البرلماني والنظام الرئاسي وهي الأكثر انتشارًا، ثم نظام حكومة الجمعية وهو الأقل انتشارًا، ويلاحظ أن الدول قد تمزج بمقدار بين هذه الأنظمة فنكون أمام خليط خاص يصنعه مشرع الدستور بما يرى أنه الأصلح لبلده.

طريق وسط بين النظامين البرلماني والرئاسي

فهل أخذ دستور 1962 بواحد من النماذج المعروفة؟ أم قام بتفصيل الثوب على مقاس الكويت وفق اجتهاده؟ في هذه المسألة يقرر المشرع الدستوري وفق ما ورد في المذكرة التفسيرية «اقتضى الحرص على وحدة الوطن واستقرار الحكم أن يتلمس الدستور في النظام الديمقراطي الذي تبناه طريقًا وسطًا بين النظامين البرلماني والرئاسي مع انعطاف أكبر نحو أولهما لما هو مقرر أصلاً من أن النظام الرئاسي إنما يكون في الجمهوريات، وإن مناط قيامه كون رئيس الدولة منتخبًا من الشعب لبضع سنوات ومسئولا أمامه بل وأمام ممثليه على نحو خاص. كما أريد بهذا الانعطاف ألا يفقد الحكم طابعه الشعبي في الرقابة البرلمانية أو يجافي تراثنا التقليدي في الشورى وفي التعقيب السريع على أسلوب الحكم وتصرفات الحاكمين. وليس يخفى أن الرأي إن تراخي والمشورة إن تأخرت، فقدا في الغالب أثرهما، وفات دورهما في توجيه الحكم والإدارة على السواء.

على أن هذه الفضائل البرلمانية لم تنسِ الدستور عيوب النظام البرلماني التي كشفت عنها التجارب الدستورية، ولم تحجب عن نظرهة ميزة الاستقرار التي يعتز بها النظام الرئاسي. ولعل بيت الداء في علة النظام البرلماني في العالم تكمن في المسئولية الوزارية التضامنية أمام البرلمان، فهذه المسئولية هي التي يخشى أن تجعل من الحكم هدفا لمعركة لا هوادة فيها بين الأحزاب، بل وتجعل من هذا الهدف سببًا رئيسيًا للانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك، وليس أخطر على سلامة الحكم الديمقراطي أن يكون هذا الانحراف أساسًا لبناء الأحزاب السياسية في الدولة بدلاً من البرامج والمبادىء، وأن يكون الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل، وإذا آل أمر الحكم الديمقراطي إلى مثل ذلك، ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها، وحرف العمل السياسي عن موضعه ليصبح تجارة باسم الوطنية، ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية الخفية، كما تتشقق الكتلة الشعبية داخل البرلمان وخارجه مما يفقد المجالس النيابية قوتها والشعب وحدته، لذلك كله كان لا مفر من الاتعاظ بتجارب الدول الأخرى في هذا المضمار، والخروج بالقدر الضروري عن منطق النظام البرلماني البحت بالرغم من أن نظام الإمارة وراثي.

وفي تحديد معالم ذلك النهج الوسط بين النظامين البرلماني والرئاسي، وتخير موضع دستور دولة الكويت بينهما، تتلاقى مشقة الاستخلاص النظري بمشقة وزن المقتضيات المحلية والواقع العملي، وأولاهما معضلة فقهية، وثانيتهما مشكلة سياسية، وخير النظم الدستورية هو ذلك الذي يوفق بين هذين الأمرين، ويحل في آن واحد كلتا المعضلتين».

وصياغة النص السابق تكشف بوضوح أن حسم الموضوع لم يكن سهلاً وهو أمر يمكن قراءته أيضًا عند مطالعة محاضر لجنة الدستور ومحاضر المجلس التأسيسي، وقد استخدم كل طرف من الأطراف حججه وأسانيده كما تم استخدام وسائل التفاوض مثل رفع سقف المطالب بشكل حاد والصورة التي تم تبنيها تجسد واقع التوافقية فما كان البعض يعتبره غير مقبولٍ كان بالنسبة للبعض الآخر ضروريًا.

بين الواقعية والتدرّج

والنظام البرلماني على الطريقة الكويتية اعتمد فكرة الواقعية والتدرج. فالحكومة، والأمير يختار بأمر أميري رئيس مجلس الوزراء، من الممكن أن تتشكل وفق الأغلبية البرلمانية المتجانسة أو المتألفة. ولكن رئيس الدولة يملك سلطة تقديرية تسمح له بأن يختار حكومة، من خلال رئيسها، يرى أنها الأصلح وفق قراءته لواقع البرلمان، بعد استطلاع رأي القوى السياسية. وعندما لاتوجد أغلبية برلمانية واضحة أو قابلة للتحديد، لعدم وجود الأحزاب السياسية مثلا، يصبح تعيين الحكومة من خارج الأغلبية البرلمانية منطقيًا. يترتب على التحليل السابق تقرير أن الدستور الكويتي لا يمنع من الاقتراب الشديد من النظام البرلماني التقليدي بل المذكرة التفسيرية للدستور تعتبره أمرًا مأمولاً، كما أنه يسمح بالابتعاد عنه إلى حد ما، وكل ذلك مربوط بالواقع السياسي. وفي النظام البرلماني التقليدي تكون المسئولية التضامنية للحكومة مماثلة في نظامها للمسئولية السياسية للوزراء. أما الدستور الكويتي فقد مايز بين الوزراء ورئيس مجلس الوزراء فمجلس الأمة يستطيع سحب الثقة من الوزير بعد استجوابه أما رئيس مجلس الوزراء فإن حكمه مختلف فوفق المادة 102 «لا يتولى رئيس مجلس الوزراء أي وزارة، ولا يطرح في مجلس الأمة موضوع الثقة به.

ومع ذلك إذا رأى مجلس الأمة بالطريقة المنصوص عليها في المادة السابقة عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، رفع الأمر إلى رئيس الدولة، وللأمير في هذه الحالة أن يعفي رئيس مجلس الوزراء ويعين وزارة جديدة، أو أن يحل مجلس الأمة.

وفي حالة الحل، إذا قرر المجلس الجديد بالأغلبية ذاتها عدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء المذكور اعتبر معتزلا منصبه من تاريخ قرار المجلس في هذا الشأن، وتشكل وزارة جديدة. «وتبرير هذا التباين هو الرغبة في حماية الاستقرار الحكومي وتقليل حاجته للأغلبية البرلمانية دون تحصينه بالمطلق في مواجهتها.

وإذا كان موضوع العلاقة بين السلطات مثالا للتوافقية فإن الموقف من تنظيم الحقوق والحريات كان مثالا للاتفاق».

الحقوق والحريات: تقدمت الحكومة عند بداية عمل لجنة الدستور بمشروع تضمن فصلا خاصا بالحقوق والحريات العامة وهو مستوحى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد أخذ المجلس التأسيسي بهذه الأحكام مع تعديلات طفيفة من حيث الصياغة. وثبتت المذكرة التفسيرية حقيقة ارتباط هذه الأحكام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي بصدد تقديم توضيحات لمضمون المواد 29و31.

وقف المجلس التأسيسي أمام حقيقة أن الإعلان العالمي في تنظيمه للحقوق والحريات بأخذ بالتوجه الفردي، وقد كان محل إجماع من الدول، أما الحقوق ذات الطابع الافتصادي والاجتماعي والتي تقرر التزاما بالتدخل في مواجهة الدولة فلم تظهر واضحة في الإعلان. وإدراك المجلس التأسيسي لقصور الإعلان في موضوع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دفعه لتبنيها مع وضعها في باب خاص وهو الباب الثاني (المقومات الأساسية للمجتمع الكويتي) تاركًا للباب الثالث تنظيم الحقوق ذات الطابع الفردي تحت عنوان الحقوق والواجبات العامة.

وإلى جوار تنظيم الحقوق والحريات الأساسية في الدستور فإن المشرع الدستوري رسم أمام الناس أسلوبًا لرد عدوان المشرع عليها وهو القضاء الدستوري.

وتقرر المادة 173 أنه «يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح، ويبين صلاحياتها والإجراءات التي تتبعها.

ويكفل القانون حق كل من الحكومة وذوي الشأن في الطعن لدى تلك الجهة في دستورية القوانين واللوائح، وفي حالة تقرير الجهة المذكورة عدم دستورية قانون أو لائحة يعتبر كأن لم يكن».

4- الفلسفة الاقتصادية للدستور: عند وضع الدستور كان من المنطقي أن يحدد واضعوه في صلبه موقفًا للدولة من التوجهات الشائعة في المسألة الاقتصادية فهل تأخذ بالتوجه الرأسمالي الذي يمنع على الدولة كل تدخل في تنظيم حركة الاقتصاد تاركًا هذا الأمر للقوانين الطبيعية؟ أم أن الدولة تتولى تنظيم النشاط الاقتصادي بل تنفرد بممارسته أو ممارسة أهم مظاهره؟ أم أن الدولة تنظم النشاط الاقتصادي وتمارسه دون أن تنفرد بهذه الممارسة مفسحة للأفراد دورًا مهمًا في اتخاذ المبادرة في النشاط الاقتصادي في إطار أهداف تقوم بتحديدها؟ وقد حدد الدستور الكويتي موقفه في الباب الثاني منه مدفوعًا، في ظننا، بسببين، واحد منهما أن دول العالم قد درجت على وضع هذا الأمر في دساتيرها كي ترسم للمشرع العادي وللحكومة منهجًا تنهجه وخطة تجعلها برنامجًا تسعى لتحقيقه ولا يوجد ما يبرر أن يكون الدستور الكويتي مخالفا للدساتير الأخرى، والسبب الآخر هو أن من وضع الدستور أراد أن يكون للدولة دور إيجابي في تحقيق سبل المساواة الفعلية بين الأفراد من خلال التزامها بالسعي لتوفير الرعاية الاجتماعية للمواطنين، ولا يستقيم هذا التوجه دون تقرير أن الدولة تأخذ بالتوجه التدخلي في الاقتصاد أو على الأقل أنها لا تأخذ بالتوجه الفردي الرأسمالي على علاته.

ولعل في الأحكام الواردة في المادتين 16 و 20 تحديدًا واضحًا للتوجه الذي يأخذ به الدستور في هذا الموضوع ويجري نصهما على النحو التالي، «الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي وللثروة الوطنية، وهي جميعاً حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية ينظمها القانون و«الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين، وذلك كله في حدود القانون».

ثالثًا: تعديل الدستور: يوفق الدستور بين الحاجة لتعديل أحكامه ووجوب توفير قدر من الثبات لأحكامه ولذللك ترسم المادة 174 منه أسلوب تعديله وهو أسلوب أكثر صعوبة وتعقيدًا من أسلوب تعديل القوانين ويقرر الدستور جمودًا موضوعيًا لبعض أحكامه لأنه يرى أنها ذات أهمية بالغة، وفي هذا الصدد تقرر المادة 175 «الأحكام الخاصة بالنظام الأميري للكويت وبمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها، ما لم يكن التنقيح خاصًا بلقب الإمارة أو بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة».

وقد تعطل العمل بالدستور مرتين مع العودة إليه كما تم التفكير بتعديله دون الوصول لتعديله. نعتقد أن تفسير ذلك يكمن في أمرين اثنين:

- التوافقية: التوافقية اللازمة لإقرار الدستور لازمة لتعديله وبقدر صعوبة الوصول إليها تكون صعوبة إعادة التجربة وفي هذا الصدد نلاحظ أن مخاض الميلاد لم يكن سهلاً وقد احتاج الأمر إلى تدخل عبدالله السالم أبو الدستور في أكثر من مناسبة.

- تعدد الحلول: في موضوع العلاقة بين السلطات يرسم الدستور أكثر من سيناريو، ويقدم أكثر من حل وهذا يدفع مطبق النص إلى محاولة استنفاد الحلول الموجودة في الدستور قبل محاولة تعديله.

وإذا كان صمود الدستور أمام التعديل لافتًا للنظر وقابلاً للتحليل، فإن دوره في حماية الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي ليس محل خلاف، ولعل نجاح الدستور في هذه المهمة راجع أيضًا إلى اقتناع مكونات الجماعة السياسية في الكويت بأهمية احترامه كقاعدة يتم اللجوء إليها في حال الخلاف والاختلاف، وهو اقتناع ترسخ بعد المرور بعدد من التجارب التي تؤكد سلامته.
---------------------------------
* أكاديمي من الكويت.

 

 

 

 

محمد الفيلي*