ملف الدستور الكويتي: نشأة الدستور الكويتي: زكريا عبد الجواد

ملف الدستور الكويتي: نشأة الدستور الكويتي: زكريا عبد الجواد

بعد نصف قرن, يظل الدستور الكويتي الذي تم إصداره في العام 1962 يقدم دليلاً على بعد النظر الذي تمتع به هؤلاء الذين ساهموا في صياغته وإقراره وإصدار مرسومه والحرص على التمسك به.

فإلى جانب كفالة تلك الوثيقة للحقوق والحريات وتأكيدها على انتماء الكويت العربي, فإن المادة 131 منها كانت بعيدة النظر قياسا بما تشهده الأحداث في المنطقة العربية منذ بدايات العام الماضي, إذ حظرت اشتغال الوزير بالتجارة خلال توليه الحقيبة الوزارية. وهو الأمر الذي حين أبيح في دول عربية, كان وراء إنتاج العديد من التجاوزات التي ساهمت في النهاية في إشعال شرارة ثورات.

لكن بعد النظر في الدستور الكويتي, بدا أكثر من خلال تلك السعة التي أتاحها, والتى أتاحت لنائب الشعب أن يستخدم الأدوات الدستورية التي تتدرج من توجيه السؤال البرلماني إلى تقديم الاستجواب, وقد شهدت الحياة البرلمانية في الكويت عددا منها, وبعضها قدم لوزراء عن حقائب يحملونها, ومن بينهم وزراء ينتمون إلى الأسرة الحاكمة, وصولا إلى استجوابات لرئيس مجلس الوزراء.

أما بالنسبة للحريات العامة وهو جانب شديد الأهمية في الدستور الكويتي, فقد تعرضت نصوصه إلى تلك الحقوق والحريات بإشارات مباشرة وغير مباشرة ، فديباجة الدستور تنص على «إرساء دعائم ما جبلت عليه النفس العربية من اعتزاز بكرامة الفرد»، وهذا ما أكدته المادة (29) عند إشارتها إلى الكرامة الإنسانية وتساوي الناس فيها.

تمسك بالشرعية

كانت الكويت في الثاني من أغسطس من العام 1990, على موعد مع اجتياح حشد فيه طاغية العراق السابق صدام حسين آلته الدعائية الضخمة, الي جانب جيشه الجرار, ليس لاحتلال الدولة الجارة فقط, بل لإلغائها تماما من فوق الخريطة.

تصور صدام حسين أن الجدل الذي شهدته الديوانيات الكويتية بعد أن تم حل مجلس الأمة عام 1985, قد أتاح الفرصة له لابتلاع البلاد , ولأنه كان رجل الحسابات الخاطئة بامتياز, فقد أعتقد أنه سيجد في الكويت من هم سيكونون بانتظاره, وأن هناك من المواطنين من سيقبلون بالتعامل معه ومع نزواته الطائشة.

وفي ظل الأكاذيب التي ظلت آلة الدعاية الصدامية ترددها, وتحاول بها إيهام العالم أنها جاءت استجابة لطلب شعبي, تداعى أبناء الشعب الكويتي إلى الاجتماع في جدة خلال الفترة من 13 إلى 15 أكتوبر 1990 أي بعد سبعين يومًا فقط من الاحتلال الصدامي, وكان من بين أهم النقاط التي وردت في البيان الختامي لهذا المؤتمر: التأكيد على تعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية في ظل دستور الكويت الصادر في عام 1962, والتمسك بالنظام الشرعي الذي اختاره الشعب وارتضته الأجيال المتعاقبة.

رسالة للعالم

كان دستور 1962 هو أيضًا الذي أرسى قواعد الديمقراطية في الكويت قبل نحو نصف قرن, والذي أكمل جميع المقومات المطلوب توافرها في الدولة لقبول عضويتها في المنظمات والهيئات الدولية, بعد أن نالت استقلالها في التاسع عشر من يونيو 1961, وهو نفسه الذي ساهم في ايصال رسالة للعالم في زمن الاحتلال بأن الذين ارتضوا الديمقراطية ومارسوها هم أول من يتمسكون بها, وقد شدد مؤتمر جدة في هذا الإطار على عودة الحياة الديمقراطية عقب تحرير الكويت , الأمر الذي تم بالفعل, فعقب تحرير الكويت في 26 فبراير 1991, وبعد أقل من شهرين على الاحتفال بطرد آخر جندي من جنود الاحتلال, أي في السابع من أبريل 1991 وجه الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد كلمة للشعب, قال فيها إن «الشورى والمشاركة الشعبية في أمور البلاد, كانت طبيعة الحياة في بلدنا، ولها طرق عدة, إلا أن عودة الحياة النيابية هي ما اتفقنا عليه في المؤتمر الشعبي بجدة».

وأضاف: «ووفاء بهذا العهد فقد قررنا بعد أن تستقر الأوضاع وتبدأ مسيرة الحياة، أن تجرى الانتخابات النيابية خلال السنة المقبلة بإذن الله تعالى حسب ما نص عليه دستورنا». وهو ما شهدته الكويت , حين أجريت الانتخابات البرلمانية في العام التالي 1992 , لتتواصل التجربة وتمضي في مسيرتها حتى الآن.

جاء دستور 1962 كنتيجة طبيعية لجهود تجسدت في أرقى صيغ العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم , وترجم في نصوص واضحة تضمنها ذلك الدستور العصري الذي حفظ كيان الدولة, ورسم تنظيمًا متكاملاً نحو مستقبل تنعم فيه البلاد بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية, ويقدم للمواطن مزيدا من الحرية السياسية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

فقد أرسى المؤسسون للديمقراطية فيها قواعد راسخة لحياة برلمانية خصبة, بعد أن بذلوا على مر سنوات التاريخ الكويتى جهودًا خارقة لإرساء أسس واضحة لمعالم طريق سار عليه الأبناء فيما بعد, وجنوا ثمراته اليانعة.

عصر جديد

وتعود بداية التفكير في إصدار الدستور , إلى زمن أبعد كثيرا من الحادي عشر من نوفمبر من عام 1962, ذلك اليوم الذي تسلم فيه أمير الكويت الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح مسودة الدستور الدائم للبلاد, ليدشن اعتبارا من تلك اللحظة ملامح العصرالجديد, الذي بات فيه هذا الدستور واحدا من أهم الملامح المضيئة التي تتيه بها الكويت, فبإصداره طرقت الكويت باب الديمقراطية , تمهيدا لدخول قوي رسخته فيما بعد عدد من الفصول التشريعية لمجلس الأمة , لتتحول البلاد بعد أن قطعت شوطا مهما فيه, إلى دولة دستورية.

لكن, يظل من غير الممكن التأريخ للمسيرة الديمقراطية في الكويت بيوم قيام المجلس التأسيسي أو انتخاب أول مجلس للأمة, فروح الديمقراطية عايشها المجتمع الكويتي منذ بداياته, وانعكست طيلة سنوات عديدة, على سلوك يحكم الروابط والعلاقة بين الحاكم والمواطنين.

كانت العلاقة بين القيادة والشعب أقرب إلى روابط الأسرة الواحدة, تؤطرها وتحكمها قيم وأواصر عربية عريقة, ومن قبل أن تعرف المنطقة العربية التطبيق الديمقراطي بالصيغ المألوفة, كانت الكويت تعتمد ومنذ تأسيسها نهج الشورى والتواصل بين أفراد مجتمعها.

لم يبدأ تاريخ الكويت مع الديمقراطية إذن, بإعلان مواد الدستور المائة والثلاث وثمانين, ومذكرته التفسيرية, فقبل أكثر من مائتين وخمسين سنة دشن مجتمع أهل الكويت تلك الممارسة, عندما وافق على تنصيب آل الصباح حكاما عن طريق ما عرف بالإجماع والشورى، حين اختار الأهالى حاكمهم بمحض إرادتهم قبل أن يعرفوا فيما بعد أشكالا متعددة من التنظيم تراوحت في درجة نضجها وحدود مسئولياتها.

الوثيقة الأولى

ويعود تاريخ أول وثيقة كويتية ورد بها مصطلح «الانتخاب» إلى الثاني والعشرين من فبراير عام 1921 عندما تقدم عدد من رجالات الكويت بمذكرة إلى الحاكم اقترحوا فيها إنشاء مجلس للشورى يعين الحاكم على تصريف أمور الوطن.

ترتب على هذه الوثيقة إنشاء أول مجلس شورى في البلاد وهو المجلس الذي جسد مبدأ الشورى, ذلك المبدأ الذي ظل يتحقق طوال تلك السنوات الطويلة بمشاورة الحكام لزعماء البلاد. لكن الجديد هو أن وثيقة العام 1921 تضمنت كلمة «الانتخاب» في البند الخامس منها.

ومع أن مجلس الشورى الأول, لم يكن قد جرى تشكيله بواسطة أسلوب الانتخاب, فإنه شهد عملية انتخاب لرئيس المجلس وفاز بها حمد عبدالله الصقر, غير أن أول انتخابات عرفتها الكويت تمت في عهد الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت العاشر, لانتخاب أعضاء المجالس الإدارية , وقد جرت بطريقة تتناسب وظروف البلاد في ذلك الوقت. وقد عدت ممارسة أسلوب الانتخاب من الشعب مباشرة في تكوين المجالس الإدارية سابقة أولى بالنسبة لممارسة هذا الأسلوب في التاريخ السياسي الكويتي, لتنطلق من بعدها عملية انتخاب أخرى جرت في العام 1932 لانتخاب أعضاء المجلس البلدي .

وانطلقت عجلة العملية الانتخابية, إذ تلت انتخابات البلدية انتخابات أخرى, كانت لدوائر المعارف والصحة والأوقاف, الأمر الذي ساهم في زيادة الوعي بمبدأ المشورة والمشاركة , ليتم في العام 1936 انتخاب أعضاء مجلس المعارف الذي ضم في ذلك الوقت 12 عضوا .

وعندما أطل العام 1938, كانت ظروف داخلية وخارجية قد طرقت الأبواب بشدة , وقتها رأى الكويتيون ضرورة إدخال تعديل جوهري على نظام الحكم ليصبح حكمًا نيابيًا ديمقراطيًا, وقد كانت تلك المرحلة من أهم المراحل في تطور النظام الدستوري في الكويت وتاريخه السياسي. فقد تم إجراء انتخابات المجلس التشريعي الأول، وبما يمكن اعتباره أول التجارب الديمقراطية الرائدة ليس في منطقة الخليج وحدها, بل إنها سبقت العديد من التجارب المماثلة في العالم العربى .

وبعد أن باشر مجلس 1938 مهامه, قام بصياغة مشروع دستور للبلاد, حدد فيه اختصاصات المجلس التشريعي وحاز المشروع إجماع أعضائه وتم رفعه للأمير في ذلك الوقت الذي قام بالمصادقة عليه وإصداره. غير أن هذا المجلس لم يعمر سوى خمسة أشهر فقط, بسبب تأثيره على المصالح البريطانية, خصوصًا فيما يتعلق بالنفط, فتنادى أفراد الشعب الكويتي في ديسمبر من عام 1938, لتوحيد الكلمة وتصفية النفوس وتوسيع قاعدة ممثلي الشعب.

وفى يناير 1939 بدأ المجلس الجديد أعماله بالموافقة على الدستور الجديد, وإرساله لأمير البلاد للمصادقة عليه, لكن الحاكم قدم بدلاً منه دستورا آخر رأى أنه الأنسب , وهو ما أثار اعتراض النواب, الأمر الذي تسبب في حل المجلس التشريعي الثاني .

ومع أن المحاولات توقفت فيما بعد, فإن التربة الكويتية ظلت تحتضن في باطنها بذور الديمقراطية, مهيئة لها الأجواء للتكون وانتظار اللحظة المناسبة للخروج إلى معانقة الضوء .

وبعد أن تولى الشيخ عبدالله السالم مقاليد السلطة, ذلك الأمير الذي وقّع على الدستور وأقره دون أن يجري تعديلاً واحدًا عليه, والذي نال لقب (أبو الكويت ) قبل أن يصبح أميرا, بعد أن بدأ حياته في الخدمة العامة برعاية الأطفال الأيتام في الكويت, قبل أن يتحول بعد أن أمسك بدفة المسئولية ليكون (أبو الدستور) .

لم يكن التحول الكبير فجائيا, فمنذ وقت مبكر, عرف عن الشيخ عبدالله السالم توجهاته الإصلاحية حتى قبل أن يكون أميراً. وهو الأمر الذي دعاه وهو رئيس لأول مجلس تشريعى في تاريخ الكويت - إلى الوقوف دائما بجانب القوى التي نهضت في عام 1938 تطالب بالإصلاح الإداري والسياسي.

واتخذ الشيخ عبدالله السالم تلك المواقف الوطنية في مواجهة السلطات البريطانية التي كانت تهيمن على مصير المنطقة في ذلك الوقت, فعندما تمت انتخابات المجلس التشريعي الأول, تعاطف الشيخ مع حق المجلس في الرقابة وإقرار كل ما يخص سيادة الكويت, ولم يبال بغضب بريطانيا واعتبارها أن ذلك المجلس ينازعها سلطاتها, وخصوصا في مجال علاقات الكويت الخارجية, تلك التي كانت تعتبرها دوما من شأنها الخاص. وفى أعقاب تسلمه مقاليد الحكم في عام 1950, اختار الشيخ عبد الله السالم السير بخطوات مدروسة نحو الاستقلال وإعلان الدستور .

وانطلقت الكويت اعتبارًا من عام 1959 في الطريق الذي أفضى بها إلى وضع عدد من القوانين والأنظمة مثل قانون الجنسية, وقانون النقد الكويتى, وقانون جوازات السفر, وتنظيم الدوائر الحكومية, وهي خطوات شكلت علامات فارقة في طريق الاستقلال التام الذي كان الشيخ عبد الله السالم عازما على المضي فيه بعد أن أيقن -رحمه الله - أن معاهدة الحماية التي وقعها الشيخ مبارك الصباح الحاكم السابع للكويت مع بريطانيا عام 1899 لم تعد صالحة بعد أن تغيرت الظروف, وبعد أن قطعت إمارة الكويت شوطا مهما في طريق الاستقلال وامتلاك مقوماته.

ما بعد الاستقلال

وجاءت واقعة استقلال الكويت النهائية وانتهاء الحماية البريطانية عليها، عندما قام أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح والمندوب السامي البريطاني السير ويليام لوسي، نيابة عن حكومة صاحبة الجلالة, بتبادل مذكرتين تاريخيتين شديدتي الأهمية نتج عنهما مباشرة إلغاء اتفاقية عام 1899 وإعلان استقلال الكويت التام في 19 يونيو 1961.

ولم يمض شهران على توقيع معاهدة الاستقلال حتى كانت الخطوة الأولى, فقد تمت الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة لمجلس تأسيسي يتولى عند تأليفه إعداد دستور للبلاد، ويكفل لأبنائها الاشتراك العملي في إدارة شئونها والإشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها.

المجلس التأسيسي

وصدر المرسوم الأميري رقم (12) لسنة 1961م بإجراء انتخاب للمجلس التأسيسي وقد أشار هذا المرسوم إلى الرغبة الأميرية في إقامة نظام الحكم على أسس واضحة، والتمهيد لإصدار دستور للبلاد يستمد أحكامه من ظروفها، ويستند إلى المبادئ الديمقراطية، ويستهدف رفاهية الشعب وخيره.

وقد حدد هذا المرسوم أسماء 22 عضوا, نصفهم من الفعاليات الشعبية والنصف الآخر من رجالات الأسرة الحاكمة, يشاركون معا في مجلس مشترك سمي بهيئة التنظيم, وأشار إلى أن مهام هذا المجلس هي وضع مشروع قانون لانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي الذي يتولى عند تأليفه إعداد دستور, على أن تجرى الانتخابات العامة للمجلس التأسيسي في الأول من نوفمبر سنة 1961.

وشهد اليوم قبل الأخير من العام 1961 وقائع الانتخابات العامة لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي، لتسفر النتائج عن فوز 20 مرشحا, وضم المجلس في عضويته أحد عشر عضوا تم تعيينهم بحكم وظائفهم كوزراء.

وصدر المرسوم الأميري رقم (1) بتاريخ 14 ينايرسنة 1962 بدعوة المجلس التأسيسي إلى الانعقاد, وفي العاشرة من صباح السبت الموافق 20 يناير من سنة 1962, عقد المجلس جلسته الأولى. ألقى الشيخ عبد الله السالم خطاب افتتاح أعماله ، أكد فيها أن هذا المجلس تقع على عاتقه مهمة وضع أساس الحكم في المستقبل، مشدداً على أن الكويت سوف تستمر دائما في طريقها الذي اختطته لنفسها «دولة عربية تتضامن مع شقيقاتها الدول العربية في كل ما يعود بالخير على الأمة العربية ، وتسعى جهدها إلى تدعيم الجامعة العربية ، دولة مستقلة تؤيد حق كل بلد في نيل حريته واستقلاله، دولة محبة للسلام تسعى إلى إقراره وتؤيد كل من يسعي إليه متمسكة في كل ذلك بميثاق الأمم المتحدة».

وبعد ذلك تم انتخاب عبد اللطيف محمد ثنيان الغانم رئيسا للمجلس التأسيسي بالتزكية والإجماع كما تم انتخاب الدكتور أحمد محمد الخطيب نائبا للرئيس, وقد انبثق من أعضاء المجلس التأسيسي بشقيه - وعن طريق الانتخاب - عدد من اللجان ومن بين هذه اللجان, لجنة فرعية تحددت مهمتها في التحضير وإعداد مشروع مواد الدستور, هذه اللجنة سميت بلجنة الدستور, وقد رفضت لجنة الدستور منذ البداية مشروع الدستور الذي كان خبير الحكومة قد أعده. وتقرر استقدام خبير دستورى على الفور من مصر التي كانت تسمى وقتها بالجمهورية العربية المتحدة. فكان الفقيه الدستوري عثمان خليل عثمان.

عقدت لجنة الدستور 23 جلسة, كانت أولاها في يوم السبت 17 مارس 1962 , أما المجلس التأسيسي فقد بدأ النظر في مشروع الدستور في 12 أغسطس عام 1962.

وقد مرت أغلبية مواد مشروع الدستور بيسر, اعتبارا من المادة الأولى التي تحدثت عن أن الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة, ولايجوز النزول عن سيادتها أو التخلي عن أي جزء من أراضيها, وأن شعب الكويت جزء من الأمة العربية, إذ شهدت هذه المواد اتفاقا من جميع الأعضاء . فقد كان هناك اتفاق أكبر حول نصوص المواد التي تصب في حماية الحريات, وصيانة الدولة لدعامات المجتمع وكفالتها للأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص للمواطنين, ومنها ما ورد في المادة ( 31 ) التي تنص على أنه: «لايجوز القبض على إنسان أو حبسه أو تفتيشه أو تحديد إقامته أو تقييد حريته في الإقامة أو التنقل, إلا وفق أحكام القانون».

وثار جدل في لجنة الدستور وفى المجلس التأسيسى حول مانصت عليه المادة (131) الخاصة بحظر اشتغال الوزير بأي مهنة خلال توليه الحقيبة الوزارية, إذ اعتبرها بعض الأعضاء غامضة لكنها حسمت في النهاية لمصلحة الحظر.

وفى السابع والعشرين من أكتوبر عام 1962 عقدت لجنة الدستور جلستها الأخيرة , كانت تلك هي الثالثة والعشرين, حيث تليت نصوص المذكرة الإيضاحية لمشروع الدستور لتنتهي في أعقاب ذلك أعمال اللجنة , وتقوم بإحالة مشروع الدستور بكامله إلى المجلس التأسيسى لمناقشته وإقراره.

حدثان بارزان

وجاء موعد جلسة إقرار الدستور التي عقدها المجلس التأسيسى يوم الثلاثين من أكتوبر 1962 لتشهد حدثين بارزين :

الأول : كان تلاوة الأمر الأميرى بتعيين المغفور له الشيخ صباح السالم الصباح ولي عهد لدولة الكويت .

والثاني: تلاوة مواد مشروع الدستور مادة مادة ثم التصويت على المشروع بالمناداة على الأعضاء بالاسم .

ولضمان أن يكون مشروع الدستور نتاج إرادة أعضاء المجلس المنتخبين وجه الوزراء من أفراد الأسرة الحاكمة بيانا حول التصويت عند نظر الدستور تلاه الأمين العام في نفس الجلسة وجاء فيه: «إنه وإن كان القانون رقم (1) لسنة 1962 بالنظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال يجعل الوزراء أعضاء في المجلس لهم ما لسائر الأعضاء وعليهم ما عليهم, فإن الوزراء الأعضاء في المجلس بحكم وظائفهم قرروا أن يمتنعوا عند التصويت على الدستور رغبة منهم في أن يتركوا أمر ذلك للأعضاء المنتخبين وحدهم». كانت أن تمت الموافقة على كل مواد الدستور بالإجماع.

وأقر المجلس مشروع الدستور ومذكرته التفسيرية بالإجماع في جلسته المنعقدة يوم 3 نوفمبر 1962 , ليمثل هذا الحدث نقطة تحول مهمة في منطقة الخليج العربي, التي كانت تبحث في تلك اللحظة عن هويتها, وتقرير مصيرها, ولتدخل إلى القاموس السياسي في المنطقة كلمة الديمقراطية للمرة الأولى .

وفي الثامن من شهر نوفمبر قام أعضاء لجنة الدستور برفع مشروع الدستور إلى سمو الأمير, الذي صدق عليه في الحادي عشر من نفس الشهر على نفس الصورة التي أقرها المجلس.

وألقى رئيس المجلس التأسيسي عبد اللطيف ثنيان الغانم كلمة بعد تقديم الدستور إلى المرحوم الشيخ عبد الله السالم في قصر السيف, قال فيها: «إنه لشرف كبير لزملائي أعضاء لجنة الدستور ولشخصي أن نتقدم إلى سموكم في هذا اليوم التاريخي نيابة عن المجلس التأسيسي بمشروع الدستور الذي رأيتم وضعه للبلاد على أساس المبادىء الديمقراطية المستوحاة من واقع الكويت».

وألقى سمو أمير البلاد الراحل الشيخ عبد الله السالم كلمة بهذه المناسبة قال فيها: «نحمد الله العلي القدير الذي أتاح لنا في هذه المرحلة التاريخية من حياة شعبنا العزيز تحقيق أمنيتنا في وضع دستور للبلاد يقوم على أسس ديمقراطية سليمة ويتفق وتقاليدنا ويتجاوب وآمال أمتنا».

حصافة أعضاء المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور ممثلاً عن الشعب الكويتي, وبعد النظر الذي تمتعوا به, كان واضحا فيما حاولوه بجد وإخلاص وصراحة من أفكار ورؤى نابعة من بيئتهم ومستمدة من تاريخهم وأعرافهم ، ومن الصلات الحميمة التي قامت وتقوم بين الحكام والمحكومين في المجتمع الكويتي منذ نشأته, وهو ماتجلى على وجه التحديد في ما صاغه أعضاء المجلس التأسيسي وما ابتكروه من مبادئ وأحكام تضمنتها مواد الدستور .

وفى العاشر من نوفمبر قرر المجلس التأسيسى الموافقة على مشروع القانون الخاص بانتخابات أعضاء مجلس الأمة, لينشر في الجريدة الرسمية فيما بعد نص المرسوم الأميرى رقم (71) لسنة 1962, الذي نصت المادة الأولى منه على «دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس الأمة في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يناير سنة 1963, على أن يكون موعد اجتماع مجلس الأمة الأول هو يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من نفس الشهر.

وقبل أن تبدأ أنشطة مجلس الأمة الأول بأسبوعين, عقد المجلس التأسيسى جلسته الختامية, بحضور جمع غفير من المواطنين, في هذه الجلسة ألقى نائب رئيس مجلس الوزراء بالوكالة سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح كلمة قال فيها: «إن الحكومة تقدر كبر المهمة التي ألقيت على عاتق المجلس التأسيسي في وضع دستور للبلاد والقيام بأعمال المجلس التشريعي أثناء فترة الانتقال, وقد قام المجلس بالعبء على أحسن وجه, فكان مثلا رائعا في تفهم الأمور وحسن تناولها, والتعاون الكامل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية للسير بالبلاد قدما نحو ما تصبو إليه من مكانة».

وهكذا ختم المجلس التأسيسي جلساته منهيا المهمة التي ألقيت على عاتقه خلال الفترة المحددة له, ووضع دستورا دائما للبلاد, وأرسى قواعد الحكم المؤسسي لتصبح الكويت دولة بنظام سياسي متكامل ذي سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية, لتجرى بعد ذلك أول انتخابات شاملة في الكويت لانتخاب أعضاء أول مجلس للأمة, كانت بمنزلة إيذان رسمي ببدء العمل بالممارسة السياسية وإعلان انتقال إمارة الكويت إلى دولة الكويت الدستورية، وبدء التحول إلى دولة المؤسسات والقوانين ومشاركة الشعب في تسيير شئونه في كل المجالات، وفق أحكام الدستور الجديد، كما كان المدخل الذي نفذت من خلاله حدود سلطات البلاد الرئيسية الثلاث.

هؤلاء هم أعضاء المجلس التأسيسي، الذين امتدت بصيرتهم فأنجزوا تلك الوثيقة التي تؤكد مبادئ الشورى والحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات مع صيانة الدولة للتراث الإسلامي والعربي والإسهام بنصيب في ركب الحضارة الإنسانية. وهكذا جاء مشروع الدستور, وصيغت مواده بدقة, فكانت نتاجا طبيعيا لما استوحوه من آفاق بعيدة, وما استمدوه من تراثهم وقيمهم والمراحل التي مر بها مجتمعهم.

هدتهم بصيرتهم وبصائرهم إلى الارتباط بعرى الإخاء والتعاون وتبادل الرأي والمشورة منذ بداية نشأة الكويت، فاجتازوا كل المواقف والصعاب التي مرت بهم, وحين بلغوا مرحلة الاستقلال اهتدوا بالتراضي والاتفاق فيما بينهم على الانتقال إلى مرحلة الدستور وإرساء النظام الديمقراطي كأساس لبناء المجتمع العصري.

جاءت ولادة الدستور الكويتي على غير مثال سابق وظهر في كثير من مواده وأحكامه وكأنه قد صيغ على مقاس الكويت, وما رآه أهلها معبرا عن خصائص الدولة ومواطنيها, دون تعارض مع القواعد القانونية والدستورية المقررة.
------------------------------
* كاتب من مصر.

 

زكريا عبد الجواد