ليس بالكهرباء تُبنى الأبدان

ليس بالكهرباء تُبنى الأبدان
        

         عندما مرر عالم الطب والتشريح الإيطالي لويجي جالفاني تيارا كهربائيا في ساق ضفدعة مقطوعة، وكان ذلك في نهاية القرن الثامن عشر، أي منذ قرابة مائتي عام، أدهشه أن عضلات الساق المقطوعة قد انقبضت مما جعل الساق تتحرك. وكانت دهشة جالفاني تدشينا لاكتشاف عظيم هو الفعالية الكهربائية للنسيج الحي. ولو عاد جالفاني للحياة في أيامنا، فإن دهشته تلك بالتأكيد ستتضاعف إلى حد ربما يجعله من فرط الانفعال، عندما يرى أحد روافد اكتشافه وقد تحول إلى إمبراطورية للكسب غير الحلال عبر أجسام البشر، وبمباركة آلة جبارة للدعاية قوامها قنوات فضائية كاملة، وشبكة ترويج على مستوى العالم، وصفحات تبشير ـ لا تنتهي ـ بالحق الذي يراد به باطل، فالغاية هي الرشاقة والتخسيس، والوسيلة هي أجهزة الكترونية توصف (بالذكاء)! تتوضع أقطابها من الموصلات (اللينة) على هذه العضلة أو تلك، وبضغطة زر يسري في الجلد تيار كهربائي ضعيف يسبب خدرا خفيفا ثم تنطلق موجة من الانقباضات العضلية القاصفة بسرعة 900 انقباضة في 30 دقيقة، أي بمعدل 30 انقباضة قوية في الدقيقة. والنتيجة: عضلة أكبر بوزن أخف مع التخلص من حفنة سعرات حرارية تؤدي إلى إنقاص الوزن.

حيوانية ومعدنية ؟

                    لانشك علميا في أن هذه الإثارة الإلكترونية للعضلات والتي يشار إليها اختصارا بالأحرف   EMS تحدث، وتؤتي أكلها من تقلصات وإحراق سعرات حرارية، والنتيجة المنطقية ـ ولا نقول الإيجابية ـ هي عضلات أضخم ودهن أقل ووزن متراجع. وهذا مما تثق به وتراهن عليه الشركات العولمية المنتجة لمثل هذه أجهزة، حتى أنها تقدم ضمانة متحدية لزبائنها تقول: (إننا واثقون للغاية في منتجاتنا إلى درجة أنه يمكنك إعادتها في غضون 14 يوما إذا لم تشعر بالرضاء الكامل عنها).

         وهذا الخطاب الإعلاني، بالطبع ينتهج ألاعيب سيكولوجية التسويق، لكننا لا نستطيع أن نغفل كمية معقولة من الحقيقة في رهان الإعلان. ففي غضون أربعة عشر يوما يمكن أن يحدث أثر ملموس لدى المستهلك المهموم بنفخ عضلاته وإنقاص وزنه ولو قليلاً مما يتسق مع حمى التخسيس الإعلامية العالمية ـ وهي صادقة في بعض توجهاتها. المشكلة تكمن في الآثار الجانبية المحتملة وبعيدة المدى لمثل هذه الوسائل التي تدعي أن غايتها الصحة. وهنا يجدر بنا أن نفتح ملف هذه الوسائل، ليس فقط من منطلق القناعة بأن كل ما هو طبيعي في انتهاج الصحة يكون أفضل، ولكن أيضاً من إظهار بعض المسكوت عنه علمياً ويثير الشكوك في براءة هذه الوسائل الصنعية حيال الجسد والنفس الإنسانيين، اللذين يقول فيهما الإمام فخر الدين الرازي: النفس الإنسانية أشرف النفوس، والبدن الإنساني أشرف الأجسام.. في هذا العالم). فما بالنا بمن يريد اللعب معهما بالكهرباء تحت زعم أنها خفيفة ومأمونة، وهو زعم مردود عليه.

         إن تجربة لويجي جالفاني التي فتحت عيوننا على الأبعاد الكهروحيوية للنسيج الحي، والتي قادت إلى تحقيق إنجازات تقنية طبية عظيمة فيما بعد، كأجهزة رسم القلب ورسم المخ الكهربية وأجهزة العلاج الكهربي في مضمار التأهيل وإصابات الملاعب والعلاج الفيزيوي الطبي عموماً. هذه التجربة واصلها جالفاني في مختبر علم التشريح بجامعة بولون الإيطالية، وكان يستخدم آلة لتوليد الكهرباء الاستاتيكية يفرغ شحناتها بلمسات خفيفة من مبضع معدني للأعصاب المكشوفة في أفخاذ الضفادع التي كانت تتقلص عضلاتها مع كل لمسة مما يجعلها تنقبض منسحبة، بعد ذلك استغنى جالفاني عن آلة توليد الكهرباء الاستاتيكية، وراح يلمس أعصاب الضفادع بوصلات من معدنين مختلفين (حديد ونحاس) وكانت العضلات تنقبض مما أوصل جالفاني إلى الاستنتاج بأن هناك منبعاً آخر للكهرباء أسماه (الكهرباء الحيوانية)، وهو مما فسره بعد ذلك الفيزيائي اليساندرو فولتا ـ في نهاية القرن 18 أيضا وعلى نحو آخر بأنه عند إيصال أعصاب وعضلات الضفادع مع معدنين مختلفين تتكون دائرة منغلقة يظهر فيها فعل الكهرباء واختلف مع جالفاني فأسماها كهرباء معدمة. لكن جالفاني أصر على أن الكهرباء ماثلة في النسيج الحي وحتى يثبت ذلك أعاد تجاربه باستخدام مباضع زجاجية وليست معدنية وحدثت التقلصات.

         لقد كان كل منهما ـ جالفاني وفولتا ـ على حق، فثمة (كهرباء حيوانية) أي فعالية كهربائية للنسيج الحي، وثمة كهرباء معدنية من وصلات مختلفة تكون مع النسيج الحي دائرة كهربية تسري عبرها الكهرباء إن أغلقت. كانا ينظران من زاويتين مختلفتين إلى تلك الكهرباء الفاعلة في الأجسام، وهو اختلاف وسم مصيريهما أيضا، فعندما احتل جيش نابليون إيطاليا امتنع جالفاني عن مبايعة الحكومة الجديدة، ففصل من الجامعة ومات مقهوراً. أما فولتا فقد عاش حتى رأى اعترافاً كاملاً بصواب رأيه، ورأى مجادلة، وتوج هو ـ أي فولتا ـ كمؤسس لعلم المنابع الكهروكيميائية للتيار، بينما توج جالفاني كمؤسس للكهرباء الحيوية.

         لو كان جالفاني حيا ورأى ما يفعل بنتائج إنجازه في أجهزة التخسيس التي نتحدث عنها، ربما تضاعف قهره، وربما كان يصرخ بلساننا: (كفى.. إن أجسام البشر الأحياء ليست سيقان ضفادع مقطوعة).

           ولنواصل المحاولة...

الاستغناء عن المخ

                    إن جوهر عمل أجهزة التخسيس ونفخ العضلات تلك والعاملة بمبدأ الحث الكهربي، هو الاستعاضة عن الفعل الإرادي لانقباض العضلات بأوامر صادرة من المخ، بفعل آخر لا إرادي تصدر أوامره إلى العضلات من جهاز الحث الكهربي في شكل نبضات كهربية تماثل ما يرسله المخ. ولا تقول لنا الإعلانات العابرة للقارات أي شيء عن مواصفات التيار الكهربي الذي ترسله هذه الأجهزة (الإلكترونية) ومبررات سلامة استخدام هذه الأجهزة. فقط تقول إن هذه الأجهزة بدأت صعودها بعد اكتشاف تجلياتها على أجسام وأرقام الرياضيين في الدورة الأولمبية لعام 1972. وهنا يمكننا أن نتوقف بفزع لنتذكر أن ذلك التاريخ يشير إلى زمن الحرب الباردة والتي لم تنج من تحرشاته المنافسات الرياضية ومبدأ الفوز على الخصم بأي ثمن حتى لو كان تحويل البشر إلى خيول سباق تلهب ظهورها الهرمونات وآليات التمرين الساحقة التي لا تستبعد الكهرباء كإحدى وسائلها. وفي ألمانيا الآن دعاوى مرفوعة من رياضيات بارزات فقدن أنوثتهن تحت وطأة منافسات الحرب الباردة.

         لا تقول إعلانات أجهزتنا تلك إلا أن مبدأ عملها هو التحفيز الكهربي لمحاور الأعصاب الكبيرة Largew erve axovs، وهذه للحق مصيبة كبيرة، فإذا كان الجسد الإنساني بعامة يصنف كنصف ناقل للكهرباء، نجد أن هناك مواضع وظروفا تهبط فيها المقاومة الكهربية لتصير الناقلية فائقة ومن هذه المواضع الأعصاب، وعندما تكون الأعصاب المستهدفة هي الكبيرة على وجه الخصوص فهذا يشبه إطلاق السيل الكهربي في (أوتوستوراد) مفتوح باتجاه الدماغ مباشرة، ودون عوائق!

         سألجأ إلى حدس أسرار كهربية هذه الأجهزة بمراجعة مواصفات أجهزة الوخز الكهربي التي تماثلها في نظرية العمل بحفز الأعصاب كهربائيا والتي تعتبر (مأمونة) أيضاً، إنها تعمل على مقاومة قدرها

           250 أوم بقدرة 60 ميللي أمبير وببطارية 9 فولت 2 D.

         وبديهي أن هذه الأجهزة أضعف تأثيرا لأنها تقف عند حدود حفز نهايات الأعصاب الطرفية الصغيرة، لا محاور الأعصاب الكبيرة كما في أجهزة التخسيس ونفخ العضلات.

         وسأنقل مباشرة من كتاب (مانويلاف) (الكهرباء والإنسان) لنرى رأى أحد العلماء المراجع في هذا المضمار، يقول: (إن طاقة الارتباط بين الإلكترونات والنواة في الأنظمة الحيوية، قليلة جداً. وهي تشكل أحياناً واحد من مائة إلكترون ـ فولت، بل أقل. فأثناء مرور تيار كهربائي شدته (واحد) ميكرو أمبير عبر الجسم، تمتص في أنسجته طاقة تزيد بمرات كثيرة جداً طاقة ارتباط البنية الإلكترونية للجهاز العصبي، لذا توجد كل الأسس للافتراض بأنه حتى بالتيارات الكهربائية ذات الشدة القليلة جداً يمكن أن تنجذب الناقلية الكهربائية في الجسم، وكنتيجة لذلك يمكن أن تحدث اختلالات جدية لحالة الإنسان).

         وأكرر كرجع الصدى الأليم: نعم، يمكن أن تحدث اختلالات جدية لحالة الإنسان خاصة مع أجهزة تبث كهرباء طاقتها وشدتها أضعاف ما حذر منه (مانويلاف).

منقوعون في الكهرباء

                    ليس الأمر في حاجة إلى جهد عظيم لنهجس بخطورة مثل هذه الألعاب الكهربائية على الجسد الإنساني، خاصة وقد صار إنسان أيامنا (منقوعاً) فعليا في خضم من الحقول الكهرومغناطيسية ابتداء من هذه التي تشكلها الأجهزة الكهربائية في المنزل وصولا إلى تلك التي تبثها مرسلات الهواتف النقالة والمحطات الفضائية.

         الثابت أن تلك الأجهزة المعتمدة على حفز الأعصاب كهربائيا تمثل خطراً مرصودا على الذين يحيون بمنظمات قلب إلكترونية. وهي خطرة للغاية إذا طبقت أقطابها على المناطق التي تمر بها (قناة القلب) تبعاً لمفهوم قنوات ونقاط الوخز الصينية، وهو المسار نفسه الذي يسلكه ألم الذبحة الصدرية في الجهة الداخلية من العضد والساعد حتى الأصبع الأصغر من اليد. وهي معطلة لعمل رسام القلب الكهربائي..

         أما على مستوى الجهاز العصبي فقد عايشت حالة طبيب أصيب بأرق قاتل أو ما يسمى (شلل النوم) عندما عنّ له أن يجرب جهاز الوخز الكهربي على نفسه في منطقة قريبة من الرأس أثناء دورة للطب المناظر تزاملنا فيها بقسم الأعصاب بكلية كييف الطبية.

         مثل هذه الأجهزة يمكن أن تكون ملاذاً في علاج محدود ومحدد لبعض الأمراض، ووسيلة للخروج من ربقة الآلام غير المحتملة بتدمير أنسجة بعض الأعصاب، إما أن تستخدم في نفخ العضلات والتخسيس، فهذا تدليس، والتدليس كما يقول القاموس المحيط، والوسيط أيضاً: (كتم البائع عيب السلعة عن المشتري)!!

 

محمد المخزنجي