جمال العربية فاروق شوشة

أوهام لغويّة
المتأمل فيما ينطق به المتكلمون بالعربية وما يكتبونه، يجد بعض الأخطاء التي شاعت على الألسنة والأقلام، مما يدخل في باب الأوهام اللغوية، لا يحتاج صاحبها إلى أكثر من تنبيه وتذكير بالصواب، وإرشاد يسير إلى ما تقول به اللغة في هذا المجال.

من بين هذه الأوهام الخلط بين جمع التكسير وجمع المؤنث السالم، والمعروف أن جمع التكسير ينصب بالفتحة وجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة. لكن الخطأ يحدث عادة حين يعامل جمع المؤنث السالم معاملة جمع التكسير فينصب بالفتحة، وحقه الكسرة. وحين يعامل جمع التكسير معاملة جمع المؤنث السالم فينصب بالكسرة وحقه الفتحة، في مثل قول القائل: إن قضاتنا والصواب أن يقال: إن قُضاتنا، وقوله: إنهم يصدرون أصواتٍ وصحتها: أصواتا، وقوله: قضينا أوقاتٍ طيبة وصحتها: أوقاتا، وقوله: ألقى علينا أبياتٍ من الشعر وصحتها: أبياتا، وقوله: ألهم الله ولاتنا الخير والسداد، وصحته: ولاتنا.. وهكذا.

وقريب من هذا الخلط بين المفرد وجمع المؤنث السالم، وهو يحدث في بعض المفردات التي تنتهي بتاء مربوطة أو مفتوحة، على توهم أنها من جمع المؤنث السالم، فتنصب بالكسرة بدلا من نصبها بالفتحة.

ومن أمثلة هذا الوهم قولهم مثلا: نقلوا رفات الضحايا من مكان الحادث، وصحته: رفات، وقولهم خسر الفريق مباراته الأولى، وصحته: مباراته، وقولهم: تحملت الجماهير معاناة حرب قاسية، وصحته: معاناة، وقولهم: تعرف رجل الشرطة على آثار السارق وبصماته وقرر مضاهاتها بالآثار السابقة، والصواب: مضاهاتها.. وهكذا.

من بين هذه الأوهام أيضا الخطأ في جمع المقصور جمع مذكر سالم، واللغة تقول في هذه الحال يحذف ألفه وبقاء الفتح للدلالة عليها كما في قوله تعالى: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. "، وقوله تعالى: وإنهم عندنا لمن المصطفيْن الأخيار.

لكن البعض يخطئ عندما يقول: هم مُستدعُون للتشاور، وصحتها مُستدعَوْن، وعندما يقول: سيظل المتهمون مستبقين حتى تظهر براءتهم، وصحتها: مستبقين، وعندما يقول: بعد المعركة شوهد الجنود وهم مُلقون في ساحة الميدان، والصواب أن يقال: ملقون.

وقريب من هذا الوهم وهم ثان يتمثل في بعض الجموع الخاطئة التي تشيع على ألسنة عدد غير قليل من المتكلمين بالفصحى وأقلامهم، مثل جمعهم "وفاة" على وفيّات في مثل قولهم: نقص معدل الوفيات، وصفحة الوفيّات، وصحتها: الوفيات بحذف تاء التأنيث من المفرد وإبدال الألف ياء. ومثل جمعهم كفء على أكفاء في مثل قولهم: نحن في حاجة إلى أساتذة أكفاء قاصداً مدرسين ذوي كفاءة أو كفاية والصواب: أكفاء بدون شدة على الفاء جمع كفء، أما أكفاء فهي جمع كفيف أي غير المبصر. ومن هذه الأوهام أيضا الخطأ في ضبط عين فعلة المجموعة جمع مؤنث سالما، فالقاعدة الصرفية تقول إنه إذا كانت فعلة صحيحة العين فإنها عند جمعها جمع مؤنث سالما يجب تحريك عين الكلمة بالفتح اتباعا لفائها في مثل قولنا: جلسات جمعا لكلمة جلسة لا جلسات كما يتوهم البعض، وحلقات جمعا لكلمة حلقة وحملات جمعا لكلمة حملة وركلات جمعا لكلمة ركلة ومثلها: صفقات وطلقات وندوات إلى آخره.

أما إذا كانت فعلة معتلة العين فإنه يمتنع تحريكها بالفتح وتظل ساكنة في مثل قولنا: جولات جمعا لجولة، ودورات جمعا لدورة، ونوبات جمعا لنوبة وليس ما يتوهم البعض: جولات ودورات ونوبات، ومثلها: رحلات جمعا لكلمة رحلة وليس رحلات كما يتوهم البعض وينطقونها نطقا غير صحيح.

ولمن شاء المزيد نشير عليه بكتاب "أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين" للعالم اللغوي الدكتور أحمد مختار عمر الأستاذ بجامعة الكويت ففيه الكثير المفيد في هذا المجال.

شوق وحنين
لمحمود سامي البارودي

غاية ما يقال فيه إنه رب السيف والقلم، وإنه باعث النهضة الشعرية الحديثة، وواضع الأساس الأول في بناء صرح الشعر العربي الحديث بعد عهود طويلة من الضعف والانتكاس.

وشعر البارودي (1839- 1904) هو حياته كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل في المقدمة التي كتبها لديوانه. كل قصيدة فيه صورة لحالة نفسية من حالات الشاعر، والديوان في مجموعه صورة للعصر الذي عاش فيه وللبيئة التي أحاطت به وللنهضة المتوثبة في الحياة حوله، وللثورة التي تمخضت عنها تلك النهضة - الثورة العرابية التي تعاطف معها البارودي ونفي بسببها بعد أن فشلت- ولحياته في المنفى التي استمرت سبعة عشر عاما، قال خلالها أجمل شعره وأحفله بالعواطف الإنسانية والتعبير الشجي والتأمل الحزين.

وهكذا كانت حياة البارودي في صفحتيها: اندفاعاً وراء المثل الأعلى وامتلاء بالطموح منذ تخرجه في المدرسة الحربية، فلمعان اسمه ياورا للخديو، فوزيراً، فرئيسا للوزراء. وانعطافا إلى مهوى الغربة والنفي، أو صلوات الحكمة والحب، ونفثات الشكوى والاسترحام.

ولم يفته- خلال سنوات الغربة- أن يعكف على روائع التراث الشعري، وأن يتوقف طويلاً - بالتأمل والنظر والمراجعة- أمام عيون الشعر العباسي لدى أعلامه الكبار: ابن الرومي وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري، فضلا عن بشار بن برد وأبي نواس وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد وابن المعتز وغيرهم، وأن يختار منها سجلا حافلا أسماه: "مختارات البارودي" شهادة على ذوقه، وتحديا لشاعريته التي أراد لها أن تطاول القمم، فكان له ما أراد.

وهذه القصيدة واحدة من بكائياته التي قالها وهو في منفى في سرنديب - سريلانكا الآن - يحن فيها ويتشوق إلى مصر، ويبكي صديقيه الأديبين: حسين المرصفى، وعبدالله باشا فكري.
يقول البارودي:

أين أيام لذتي وشبابي

أتراها تعود بعد الذهاب؟

ذاك عهد مضى وأبعد شيء

أن يرد الزمان عهد التصابي

فأديرا علي ذكراه، إني

منذ فارقته شديد المصاب

كل شيء يسلوه ذو اللب إلا

ماضي اللهو في زمان الشباب

ليت شعري متى أرى روضة المنيل

ذات النخيل والأعناب

حيث تجري السفين مستبقاتٍ

فوق نهر مثل اللجين المذابِ

قد أحاطت بشاطئيه قصور

مشرقات يلحن مثل القباب

ملعب تسرح النواظر منه

بين أفنان جنة وشعاب

كلما شافه النسيم تراه

عاد منه بنفحة كالملاب

ذاك مرعى أنسي، وملعب لهوي

وجنى صبوتي ومغنى صحابي

لست أنساه ما حييت وحاشا

أن تراني لعهده غير صابي

ليس يرعى حق الوداد ولا

يذكر عهدا إلا كريم النصاب

فلئن زال فاشتياقي إليه

مثل قولي باق على الأحقاب

يا نديمي من سرنديب كفا

عن ملامي، وخلياني لما بي

كيف لا أندب الشباب

وقد أصبحت كهلا في محنةٍ واغتراب

أخلق الشيب جدتي وكساني

خلعة منه رثة الجلبابِ

ولوى شعر حاجبيّ على عيني

حتى أطل كالهداب

لا أرى الشيء حين يسنح إلا

كخيال كأنني في ضباب

وإذا ما دعيت صرت كأني

أسمع الصوت من وراء حجاب

كلما رمتُ نهضة أقعدتني

ونية لا تقلها أعصابي

لم تدع صولة الحوادث مني

غير أشلاء همة في ثياب

فجعتني بوالدي وأهلي

ثم أنحت تكر في أترابي

كل يوم يزول عني حبيب

يالقلبي من فرقة الأحباب

أين مني "حسين" بل أين

عبدالله رب الكمال والآداب

مضيا غير ذكرة وبقاء الذكر

فخر يدوم للأعقاب

لم أجد منهما بديلا لنفسي

غير حزني عليهما واكتئابي

قد لعمري عرفت دهري

فأنكرت أمورا ما كن لي في حساب

وتجنبت صحبة الناس حتى

كان عونا على التقاة اجتنابى

لا أبالي بما يقال وإن كنت

مليئا برد كل جواب

قد كفاني بعدي عن الناس أني

في أمان من غيبة المغتاب

فليقل حاسدي علي كما شاء

فسمعي عن الخنا في احتجاب

ليس يخفى علي شيء، ولكن

أتغابى والحزم إلف التغابي

وكفى بالمشيب وهو أخو الحزم

دليلا إلى طريق الصواب

إنما المرء صورة سوف تبلى

وانتهاء العمران بدء، الخراب

 

فاروق شوشة