إلى أن نلتقي: صياد الحكايات

أحببت منذ الصغر صائدي الحكايات..
وتمنيت أن أصبح مثلهم، لي حكاياتي، ولي صيدي. أغرتني لعبتهم، وأدهشني فعلهم: كيف ينصبون شباكهم للحكاية، حيث تتقافز كطائر، يراه الناس جميعًا، لكنهم وحدهم القادرون على سوقه باتجاه الشراك المنصوبة، يقع في واحد منها، والغريب أنهم اصطادوا عصافير أخرى، تتشابه أحيانًا، لكنها تختلف في ألوانها وأشكالها، والتواءات مناقيرها، وامتدادات أجنحتها.

جرّبت ذات مرة، في زمن ما، أن أنصب شباكي لحكاية، تشاقيت وراء أمنيتي، لكنني لم أتخيل أن تحتاج الحكاية إلى كل تلك المشقة في نصب الشباك. توقعتها تأتي منسابة صافية، تنقاد بسهولة للشباك المنصوبة، لكنني بقيت وحيدًا أركض وراء سرب الحكايات، واكتشفت لاحقًا، في وقت متأخر، أنني لم أكن أملك الشباك الجيدة، القادرة على الصيد، شباكي كانت ضعيفة وصغيرة، لا تغري أي طائر من عصافير الحكايات أن يتواطأ معي فيدخل، أباهي به الذين لا يجيدون مثل هذا الصيد.

كان جارنا، ويكبرني بعشر سنوات على الأقل، يجيد صيد الطيور، في زمن مجيء طائر يسمى «العقعق» وآخر يدعى «الصفرد» يعرف بالاعتياد كيف يقنصها واحدًا بعد آخر، ببندقيته المتوسطة «السكتون» أو بالنشاب المصنوع من عود شجرة ليمون على شكل رقم (7) يقذف بالحصاة فتصيب الطائر في رأسه مباشرة، أتعجب من قدرته، وودت أن أكتب قصة عن مهارة جارنا، أصيد حكاية تجسّد ما يفعله هذا الجار في رءوس العصافير، خاصة «العقعق» الملون الذي لا يكفي لصيده سوى.. رصاصة.

في زمن الاكتشاف المبكر كنت على علاقة وطيدة مع الحكايات التي تنشرها المكتبة الخضراء للأطفال، ومجلة ماجد، تتبعت الحسن البصري، وأليس وهي تسير في بلاد العجائب، وأخرى تلاشت في زحام الذاكرة، قبل أن تحتل حكايات أخرى المساحة الفاصلة بين عمر وعمر.. كل هذا الصيد الثري كيف جاء به نجيب محفوظ، إنه يكتب حارته، فهل لي من سبيل ذات يوم لأكتب حارتي؟

كل هذا الإغواء صاده إحسان عبدالقدوس فهل سيشتعل القلب ذات يوم بجمر الحب فتتساقط الكلمات في فخاخي لأكتب كالذي كتبه، اصطاد الحروف واحدًا بعد آخر، ويكون لي صيدي الخاص حيث يشار إليه بين المعروض من حصاد العمر؟

تكاثر صائدو الحكايات على ذاكرتي، من اليابان إلى أقصى البحر الكاريبي، تعرفت على ما في شباك ماركيز وأمادو وفيكتور هيجو وديكنز وصولاً إلى أسماء عربية قرّبت الحلم مني، وأسماء عمانية أشعرتني بأن الممكن على مقربة مني، فقط عليّ أن أتعلّم نصب الشباك وأكتسب مهارة الصيد، لأصبح من صائدي الحكايات. رائعة الحكاية تولد من لاشيء.. وأن تتشكل حكايات الآخرين كما نريدها، نأخذ من واقعها لنصنع منه متخيلنا، ونأخذ متخيلهم فنصيغه كأنه الواقع.

هي قصة حياتنا، تروى بأشكال متعددة، وفي خاتمتها نحاسب على حصادنا، إن كان مستحقًا للبقاء نحمله حين نضع النقطة الأخيرة في خاتمة الرواية، أو ستذهب به الريح في يوم عاصف.
---------------------------------------
* كاتب من سلطنة عُمان.