شهادات الرحّالين: ثلاثون عاما من تاريخ الكويت (1922-1952م): د. محمد محمود الطناحي

شهادات الرحّالين: ثلاثون عاما من تاريخ الكويت (1922-1952م): د. محمد محمود الطناحي

قراءة في شهادات الرحّالين

يعرًف أدب الرحلات بأنه هذا الصنف من الأدب الذي يصور فيه الكاتب ماجرى له من أحداث، وماصادفه من أمور في أثناء رحلته لبلد أو مجموعة من البلدان. ولهذا الصنف من الأدب منزلته الرفيعة من الناحية التاريخية والجغرافية والاجتماعية، حيث يسجل الكاتب ما وقعت عليه عينه أو وصل إلى أذنه، ويدون كل ما عايشه في رحلته في شيء من التأثر بالثقافة والبيئة الجديدتين اللتين عايشهما لفترة من الزمن، مما يثمر نتاجا أدبيا عالي المستوى تمتزج فيه ثقافتان مختلفتان على الأقل في أغلب الأحوال.

وتحظى كتابات الرحالين بقيمة علمية كبرى لدى المؤرخين والجغرافيين وعلماء الاجتماع الذين ينزلون كتاباتهم منزلة المصادر نظرا لمعايشتهم وقربهم الشديد من الأحداث التي كتبوا عنها.

ولاقت منطقة الخليج العربي أوائل القرن العشرين تحديدا - اهتماما غير مسبوق من قبل الرحالين الأجانب تماشيا مع ظهور بواكير الاكتشافات النفطية فيها، وقد حفلت السنوات الثلاثون (1922-1952م) التي اختيرت عنوانا لهذا الموضوع بأحداث جلى في تاريخ الكويت، بدأت بمؤتمر العقير الذي تشكلت حدود دولة الكويت على إثره، مرورا بالفترة الطويلة التي سبقت منح الكويت امتياز التنقيب عن النفط في أراضيها، وصولا إلى استفادة الكويت من العوائد الوفيرة للنفط في تنمية مرافق وقطاعات الدولة كافة. وهي الأحداث التي سجلها ودونها رحالون ثلاثة دخلوا الكويت بأهداف مختلفة، مابين علمية وإنسانية وشخصية، فسجلوا ما رأوا في رسائل ومذكرات وكتابات قام مركز البحوث والدراسات الكويتية في هذا العام بجمعها وترجمتها ونشرها إثراء للمكتبة العربية وخدمة للباحثين والمختصين في التاريخ الكويتي الحديث والمعاصر والراغبين في التعرف إلى رؤى وشهادات ومشاعرعيون وعقول وقلوب بعض ممن زاروا أو عاشوا في الكويت في هذه الأثناء.

ويلحظ المطلع على الأعمال الثلاثة أنه، وعلى الرغم من اختلاف ثقافات أصحابها، إلا أن ثمة موضوعات قد تكررت في كتاباتهم جميعا من أهمها الإشادة بالقيم والأخلاق العربية السائدة في الكويت كالتواضع والكرم والأمانة، والتأكيد على العلاقة الطيبة التي تربط الحكام بالمحكومين, والإشارات المتكررة إلى استقلال الكويت في تسيير أمورها، وكذلك الإعجاب بأجواء الانفتاح والحرية السائدة فيها، وثراء أسواقها، والانبهار بصناعة السفن الكويتية التي كانت تجوب مياه المحيط الهندي والخليج العربي، كما تعرضوا جميعا إلى اكتشاف النفط باعتباره النقطة الأكثر تأثيرا في تاريخ الكويت الحديث، إلى غير ذلك من الموضوعات التي سيتم تناولها في السطور القادمة تعريفا بهذه الإصدارات، وتعميما للنفع والإفادة منها.

الكويت في كتابات أمين الريحاني ورسائله:

أمين الريحاني (1876-.1940م) أحد أشهر الأدباء العرب الرحالين في القرن العشرين، له كتاب هو الأول عن تاريخ المنطقة بعنوان (ملوك العرب)، والمطبوع لأول مرة في عام 1924م. خرج من لبنان قاصدا اليمن وبومباي والعراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية في مرحلة هي الأهم في تاريخها الحديث، حيث أفرزت التغيرات السياسية الكبرى فيها التقسيم السياسي الحالي لدولها. تعد زيارته للكويت مؤشرا واضحا على الاهتمام الكبير الذي كانت توليه الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الفترة بدول المنطقة ومن ضمنها الكويت، حيث تمت هذه الزيارة بترتيب مشترك بين وزارة الخارجية الأمريكية والريحاني الذي وعدها بإعداد تقرير مفصل عن الأحوال السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية فيها، في الوقت ذاته الذي أعلن فيه الريحاني لمضيفيه في هذه الدول أن الهدف من زياراته هو إعداد كتاب عن تاريخ المنطقة وحكامها، وهما الأمران اللذان أوفا بهما الريحاني حين أرسل تقريره للخارجية الأمريكية في أكتوبر 1923م، ثم نشر كتابه في أغسطس 1924م.

تمتع الريحاني بعلاقات طيبة مع أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح وكثير من أعيانها أبانت عنها رسائلهم المتبادلة، والتي أشرف على إعادة نشرها ونشربعضها لأول مرة في إصدار قيم الأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، وهو العمل الذي نحن بصدد التعريف به في السطور القليلة القادمة.

تناول الريحاني في كتابه تاريخ الكويت، وتاريخ الأسرة الحاكمة بها، وكرم ضيافة أهلها، ووصف جغرافيتها وحدودها والسور المبني حولها، وتحدث عن صناعة السفن المتقدمة بها، وأشار إلى الاستقلال الذي تمتعت به في صنع قرارها، كما أسهب كثيرا في الحديث عن الشيخ أحمد الجابر معبرا عن إعجابه البالغ بشخصه. لكن الشيء اللافت فيما كتبه الريحاني عن الكويت هو إشارته إلى مظاهر الثقافة والأدب بين أهلها بقوله: «فيها ذكاء وجرأة وأدب شاهدت منه نماذج جميلة في الحفلات التي أقيمت هناك». بقي أن نشير إلى أن كتاب (الكويت في كتابات أمين الريحاني ورسائله) قد أكد على عدة حقائق من أهمها: أن الريحاني هو أول من أرخ للكويت اعتمادا على المعلومات التي استقاها من أميرها الشيخ أحمد الجابر الصباح، وأنه الريحاني - لعب دورا مؤثرا في مسار المفاوضات التي سبقت منح الكويت امتيازها النفطي أواخر عام 1934م، وأن التواصل الفكري والثقافي بين المفكرين العرب ومفكري الكويت يعود إلى أوائل القرن العشرين، إلى غير ذلك من حقائق مهمة يسهل لمن يقرأ الكتاب التعرف إليها.

فريا ستارك في الكويت 1932, 1937م:

قدمت فريا ستارك (1893-1993م) الإيطالية المولد والفرنسية النشأة والإنجليزية الثقافة والعربية الهوى أصدق الصورعن الكويت في ثلاثينيات القرن العشرين من خلال كتاباتها عن أخلاق الناس وعاداتهم وتقاليدهم وبساطة معيشتهم. كما سجلت ملاحظاتها عن التغيرات الاقتصادية الكبرى التي حدثت في الكويت فيما بين عامي 1932-1937م اللذين زارتها فيهما.

ساعدت معرفة ستارك باللغة العربية التي درستها في معهد اللغات الشرقية بلندن في تيسير أمور معيشتها في الدول العربية التي زارتها كالعراق ومصر واليمن والكويت, مما مكنها من أن تختلط مع أهل هذه البلاد بصورة ربما لم تتوافر لكثير من الرحالين الذين زاروا هذه البلاد.

وفي كتابيها (ماوراء الفرات.. لندن 1951م) و(رسائل فريا ستارك..لندن 1975م) ومقالها المنشور في أكتوبر 1937م في المجلة الجغرافية البريطانية، عرضت ستارك سيرتها الذاتية ومراسلاتها كلها التي حوت شهادات ورؤى وذكريات لما شاهدته وعايشته في البلاد التي زارتها, كما ضمنت أعمالها هذه مجموعة من أندر الصور لأهم المعالم والمظاهر الحضارية لهذه البلدان. وقد أبان كتاب فريا ستارك في الكويت 1932، 1937 الذي نحن بصدد التعريف به عن رؤيتها الخاصة للكويت من خلال زيارتيها في هذين العامين, وكيف أنها أعجبت أشد الإعجاب بكرم الضيافة الكويتي، وبخبرة الكويتيين الكبيرة في بناء السفن كالبوم والبتيل والسمبوك والبغلة والجالبوت، حيث نجدها تشبه السفن الراسية في ميناء الكويت بالأسطول الصليبي الضخم الذي تم سحبه للإصلاح على رمال عكا وعتليت، كما أشادت ستارك بهدوء الكويت ونظافة شوارعها وخصوصية منازلها ووحدة أزياء شعبها وبساطة الحياة فيها، ولفت نظرها الطريقة التي بني بها سور الكويت، وختمت وصفها للكويت بقولها: «إن الكويت لوحة لفنان مبدع رسمت بالألوان المائية».

ومثل كل من جاء إلى الكويت من الرحالين أكدت ستارك على تمتع الكويت بالاستقلال السياسي وتفردها بعلم خاص كتبت عليه كلمة الكويت ترفعه كل سفنها. كما أبدت إعجابها بالمستوى الراقي للمجالس التي كانت تدعى إليها سواء من حاكم الكويت أو من أفراد أسرته أو حتى من الأشخاص العاديين، حيث أشادت بشخصيتي الشيخ أحمد الجابر الصباح والشيخ فهد السالم الصباح.

وأشارت ستارك إلى معلومة قد تكون جديدة على كثيرين، وهي أن القمح كان يزرع في الكويت وتأثر محصوله في فترات معينة بسبب الجراد وانقطاع الأمطار, إلى غير ذلك من الموضوعات التي تتعلق بالعادات والأعراف العربية والإسلامية والموروثات الكويتية التي ورد ذكرها في هذا الكتاب.

ماكس رايش في الكويت 1952م:

ماكس رايش (1912-1985م) مهندس نمساوي، له اهتمام بالتاريخ والجغرافيا والصحافة والتصوير, وولع بالسفر والترحال، جمع ذكرياته ومشاهداته في رحلته إلى كل من لبنان والأردن وسورية والسعودية والكويت والعراق في كتاب باللغة الألمانية نشرعام 1953م اسماه (بالسيارة إلى الكويت...رحلة إلى الدول العربية) تدليلا على الأثر الكبير الذي أحدثته زيارته للكويت في نفسه.وقد تم جمع الفصول الخاصة بالكويت الموجودة في هذا الكتاب في إصدار جديد ترجمه الدكتور عدنان جواد الطعمه وأعده للنشر الدكتور محمد محمود الطناحي، أرفقت به مجموعة من الصور النادرة التي التقطها رايش ورفيقه في الرحلة الطبيب الألماني رولف هكر لمظاهرالحياة في الكويت.

وتكمن أهمية زيارة رايش للكويت في توقيتها الذي جاء مصاحبا لبداية مرحلة التنمية والتحديث في عهد الشيخ عبدالله السالم الصباح بعد تدفق العوائد النفطية بغزارة، والذي أشاد رايش بحكمته وأمانته في إدارة ثروة بلاده مستشهدا بقوله إنه وصي مسئول على هذه الأموال، وإنه يريد أن يجعل من الكويت بلدا مزهرا كالزهرة النوارة.

وقد أكد رايش على الحقائق ذاتها التي سبقه إليها رحالون كثر زاروا الكويت وهي استقلالها في تصريف شئونها وعدم تبعيتها لأية دولة، وعلاقة حكامها الطيبة بمحكوميهم, وحكمة شيوخها ورحابة تفكيرهم وشدة تواضعهم، وانتشار أجواء الحرية بها, ومهارة بناة السفن الكويتيين, وتميز خدماتها البريدية، واتساع أسواقها وتنوع بضائعها الواردة من شتى بقاع العالم بأزهد الأثمان، وكرم ضيافة أهلها وثقافتهم وأمانتهم التي عبر عنها بقوله: «إن المرء لايجد أقفالا في الكويت، فلا حاجة لغلق الأبواب».

ويظهر التأثير الكبير للثروة النفطية على الكويت فيما سجله رايش من مشاهدات، حيث أكد على تقدم الخدمات التعليمية ودعم الدولة للآباء لتشجيعهم على إرسال أبنائهم للمدارس وارتفاع مستوى التعليم وتقدير المعلمين تقديرا ماليا يفوق نظرائهم في أوربا، كما أشاد بالخدمات الصحية ومكافحة الأوبئة والأمراض، وبالمساعدات المتنوعة التي تقدمها لمواطنيها، حتى أنه فرح كثيرا لعدم رؤيته شحاذين كما هو الحال في بعض الدول العربية التي زارها، وأشار إلى انتشار المستشارين والفنيين والعمال الأجانب من أغلب دول العالم, إلى غير ذلك من شهادات ورد ذكرها في الكتاب المترجم للعربية الصادر حديثا.

وتعد الشهادات التي قدمها ماكس رايش عن الكويت هي أفضل ختام لشهادات صادقة قدمها - دون ضغوط - رحالون ثلاثة زاروا الكويت وبقوا فيها لفترات مختلفة خلال عقود ثلاثة شهدت تطورات وتغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية كبرى، سجلت ونشرت في ثلاثة إصدارات قام على نشرها مركز البحوث والدراسات الكويتية، خدمة لكل من يهمه تاريخ هذه الرقعة الطيبة من وطننا العربي. آملين أن يستمر المركز في أداء رسالته هذه على النحو الذي يفيد المهتمين والمشتغلين بتراث وتاريخ دولة الكويت الحديث والمعاصر.
----------------------------------
* كاتب من مصر مقيم في الكويت.

 

 

محمد محمود الطناحي*