عليك سلام الله في عرفات

عليك سلام الله في عرفات
        عليك سلام الله في عرفات 

عدسة: حسين لاري

كنا جميعا في ثياب الإحرام، قطعتين من المناشف البيضاء تستران الجسد دون أن يضمهما خيط، زاد بسيط لكل حاج، وحزام من الجلد مبرشم بالمسامير نحمل فيه الحاجات الضرورية للرحلة. يكتسب اللون الأبيض جزءا من قدسية المكان، وعنوانا على المساواة والتوحد بين الجميع، فهذه الخرق البيضاء لا تدع في النفس مكانا للمباهاة أو التكبر، وهي تشبه الأكفان، كأنها تعدنا لتلك الرحلة التي لا مفر منها، أو أنها تبشرنا ببعث يوم القيامة حين ننهض حاملين أكفاننا متحللين من ذنوبنا، وقد فعل ذلك جدي مثل ما فعل آلاف من فقراء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حين احتفظ بهذه المناشف البيضاء سنين طويلة، نظيفة ومعطرة بالشيح والزعفران حتى يتكفن بها حين تأتي ساعة الرحيل.

         لكن الإحرام يتعدى أيضا لما ترمز إليه هذه الثياب البسيطة, فهي مجرد رداء اقترن بالمعنى, فهو النية التي تعقد القلب على العمل وهي فعل الطاعة, وهي سنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حين اغتسل للإحرام ثم طيبته السيدة عائشة بنوع من الطيب يسمى (الذريرة) وبطيب فيه مسك حتى ليرى وبيصه ـ  أي بريقه ولمعانه ـ في مفارق شعره ولحيته ثم لبس ملابس الإحرام وصلى ركعتين ثم عقد النية.

         تبدو أمامنا جبال مكة وصخورها,فتعلو أصواتنا بأدعية التلبية التي لم تتغير منذ ألف وأكثر من أربعمائة عام (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك لبيك) و تجيش الكلمات بالنفس وتترك آثارها فوق الروح, أهو إحساس عميق بالذنب, أم أنه البحث عن غفران يكون بلسما لكل الخطايا, يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه : ما من محرم يضحى يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه تتوالى أمام أعيننا  شواهد على وقائع التاريخ المقدس الذي كان المكان شاهدا عليها, ففي تلك اللحظة النادرة من عمر الزمن تجسد صراع الإرادة, بشر يحملون أهواءهم الأرضية وبشر يجسدون كلمة الله, والله غالب على أمره, تحيط بنا وعورة الطريق التي لم تتغير منذ الأبد, حتى أن الإسفلت يبدو غريبا على إيقاع المكان, ويبقى السؤال كيف تحمل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المسيرة الشاقة وسط هذه الطبيعة الوعرة, تحملها وهو راع للغنم , ثم وهو عابد متهجد في ذلك الكهف النائي, ثم اشتدت وطأة الأمر عليه حين هبط عليه الوحي وحمله أمانة الرسالة, من هذه اللحظة بدأ تطوافه المضني وسط القبائل يدعو قلوبا أصابها صمم, ثم إنه عانى من الحصار ومن الأذى اليومي ومن مرارة الترمّل بعد موت زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها - وإرغامه على الهجرة من الأرض التي شهدت صباه وشبابه ثم تأبت عليه حين قاربته الشيخوخة, ثم كانت رحلة الهجرة الطويلة وسط أرض رمضاء وشمس حارقة, وشعائر الحج هي بصورة أو بأخرى اختصار رمزي لوقائع هذه السيرة, فهي فقط  لا تدور في نفس الأماكن, ولكنها تجسيد  لكثير من أحداثها.                                              

السحر الخفي للمكان

         عند مداخل مكة يبدأ زحام البشر, آلاف الوجوه من مختلف الأجناس والأعراق,  يتسع لهم كل هذا الوادي الضيق ويضمهم جميعا وهم يؤدون نفس الشعائر في نفس الوقت في نفس الأماكن وفق معجزة ما , إنه شيء آخر من السر الخفي لهذا المكان, فأنت دائما تجد موطئا لقدميك وبقعة من الثرى تضع عليها جبهتك, تدخل السيارة بنا من نفق  (كدي), وهو جزء من مشروع طموح للتغلب على المشكلات الني يواجهها موسم الحج كل عام والتي  أحيانا ما تأخذ طابع المأساة, فقد شقت السلطات السعودية عدة أنفاق تخترق الجبال التي تحيط بأم القرى وهي لفرط حداثتها لا يعرف طرقها الذين غابوا عن مكة فترة من الزمن, النفق مضاء ليلا ونهارا وماكينات التهوية فيه لا تكف عن الطنين لأنه دوما مليء بالسيارات وبالبشر, بل إن بعضهم يتخذ من جنباته ليلا مأوى بدلا من النوم في العراء, وليس هناك من يمنع ضيوف الرحمن من النوم في أي مكان, نخرج فجأة من عتمة النفق لنرى أروع مشهد يمكن أن يراه مسلم, نرى المسجد المهيب أمامنا, البيت الحرام الذي بارك الله من حوله, مآذنه التسع سامقة للسماء كأنها جماع من أذرع لا تكف عن التضرع, ولون الحجر الأبيض الذي يحيط به مختلط بالبياض الذي يكسو الأجساد فكأنهما وحدة ممتزجة, نتوقف قليلا ونحن نراقب عمارته البسيطة الآسرة في انبهار ثم ترتفع أصواتنا فجأة بنداءات التلبية كأننا نحاول أن نستخرج من داخل نفوسنا كل ما هو كامن وخفي من قوى الإيمان  لنتمكن من مواجهة هذا المشهد, لقد دخلنا مكة نهارا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد نزل والمسلمون الذين صحبوه في حجته بذي طوى وهي مكان بأطراف مكة, وباتوا بها ليلتهم, طلبا للراحة ولأنه لم يرد أن يدخل مكة ليلا, فقد كانت كل خطوة محسوبة ولم يكن النبي يريد أن يكون دخولها ليلا سنة تأخذ عنه, ففي النهار متسع من الوقت ومدى من الرؤية للجميع.

         يزداد الإحساس بالرهبة ونحن نخطو إلى داخل المسجد, نستعد لأداء العمرة التي تسبق شعائر الحج, كأنها التمارين الأولى, أو الإعداد الروحي لهذا الحدث الجلل, كأن الله أراد للنفوس التي شردت طويلا أن تأخذ طريقها بروية وسط مسالك الإيمان, وما هذه الطقوس المتتابعة إلا مدارج ترتقيها الروح, أرض المسجد عارية من السجاد الأحمر الذي كان يغطيها في الأيام العادية, نحس ببرودتها أمنا وسلاما, نواصل الاقتراب حتى تبدو الكعبة أمامنا بلونها الأسود المميز, تخف الخطوات وتحتبس الأصوات, وترتفع في الساحة همهمات متصلة تضم شذرات من عشرات الأدعية تتصاعد من دوائر متصلة من البشر لا تكف عن الدوران, ذرات الكون المتناثرة وجدت النواة التي تنتظم حولها كانتظام الأفلاك في مداراتها, نهبط الدرج الرخامي إلى حيث يوجد مركز الكون وأتأمل البناء العتيق, يالبساطته الآسرة, الأستار السوداء المنقوش عليها آيات قرآنية بلونها الذهبي مرفوعة إلى أعلى, هكذا ترفع دوما في أيام الحج,ربما حتى لا تتعلق بها الجموع الحاشدة وتمزقها, وربما لتكشف عن كنه هذا البناء المصنوع من الأحجار الضخمة المتراصة ليرى الجميع أنه بناء بسيط, عار من أي زينة أو طلاء أو نقش, لم يزد عن بناء أبينا إبراهيم إلا قليلا, فيه الكثير من بساطة الصحراء وشظفها, الحجر الأسود هو أقدم أحجاره, وهو علامة استمرار قدسية هذا المكان على مدى هذه الأحقاب, إنه الحجر الناقص الذي لولاه ما اكتمل البناء, فعندما كان إبراهيم - عليه السلام - يقيم البيت كان يبحث عن علامة دائمة منه يبدأ الجميع وإليها ينتهون, ووجد هذا الحجر الأسود كأنه شهاب سقط لتوه من السماء, ووضعه بالقرب من الركن اليماني و مازال موجودا فيه حتى الآن, وهو الذي حمله النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث ووضعه في نفس المكان عندما أعادت (قريش) بناء البيت. نهبط وسط الجموع لنبدأ الطواف, وهو أقدم المناسك, بدأ منذ عهد إبراهيم ولم يفعل الإسلام أكثر من أنه قد نقى هذا الطقـس مـن الشـرك والأوثان, فلا يطوف حول البيت مشرك أو عار.

جامعة البشر

         أصعب مافي الطواف هو الدخول إليه و الخروج منه, فهناك دائما أمواج متعاكسة من البشر, أولاها يتجه إلى داخل الدوائر وثانيها يسعى للخروج منها وثالثها يلاطم الجميع حتى يصل إلى الحجر ويقبله, وعلينا وسط هذا الزحام أن نجد فيه مكانا وأن نرفع يدنا بالتحية للحجر مادام من المستحيل الاقتراب منه, كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى البيت أن رفع يديه إلى السماء وهـو يقول: (اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة, وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا) وقد رددنا الدعاء أسوة به, بينما تتردد حولنا عشرات الأدعية بلهجات مختلفة, وهي من أروع الأصوات التي يمكن أن تطرق الأذن, فكلها عربية وإن نطقت بها ألسنة غير عربية, الكثير منهم يمسكون كتيبات الحج الصغيرة,مكتوبة بلغات الأرض المختلفة, ولكنها تشكل نفسها لتقترب من اللغة الأصلية للأدعية, ومن المؤكد أن الله يقبل أي دعاء من أي لغة وبأي لهجة, ولكنهم هنا يصرون على العودة  إلى منابع الإيمان الأولى بنفس لغتها, وهكذا أخذنا نسمع أشهر أدعية الطواف بمختلف اللهجات (ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفي الآخرة حستة وقنا عذاب النار) وبدأنا نطوف بالبيت كما فعل الرسول, ولكنه كان قد طاف الأشواط الثلاثة رملا أي بسرعة بينما أكمل بقية الأشواط الأربعة مشيا, ومن المتعسر فعل هذا وسط الزحام الخانق.

         إن كل واحد يطوف بطريقته, البعض يحاول الاقتراب لأقصى ما يستطيع حتى يوشك أن يتعلق بالجدران حتى تدفعه أيدي الحراس بعيدا, والبعض يركب فوق محفة يحملها رجال سود أشداء من المخاطرة الاقتراب من طريقهم, والبعض يفضل التوكؤ على عصاه ويسعى بخطوه البطيء الضيق ومع ذلك يجد لنفسه مجالا, أما مسلمو جنوب شرق آسيا فيبدو أنهم يتلقون تدريبات خاصة على الطواف في شكل قطارات بشرية متلاصقة, فمهما كان الزحام شديدا لا تنفصل كتلتهم المتماسكة, ولا أحد يستطيع اختراقهم أو الوقوف في طريقهم, الآفارقة يضربون, والأتراك يزمجرون, والباكستانيون يستميتون في حماية نسائهم, وأهل الصين ينسحبون في وداعة دون أن ينسوا الانحناء, وأهالي وسط آسيا الذين نالوا حرياتهم أخيرا مازالوا مبهورين, لا يعرفون كيف يؤدون الخطوات الصحيحة ولكنهم يمضون مع الركب ويرددون ما يسمعون, جامعة هائلة من البشر يطوفون حول البيت الوحيد من نوعه في العالم الذي يتوجه إليه كل هؤلاء البشر, وبعد أن سقطت العديد من الأفكار وانفرطت القوميات, وفشلت كل الروابط التى حاولت أن تضم هذا الخليط البشري, ظل هذا البناء قائما يضمـهم إليه وينظمهم حوله في دوائر  متصلة لا بداية لها ولا نهاية, يصيـحـون كلما وقفوا أمام الحجر الأسود : (بسم الله والله أكبر).

         في هذا المكان لا محل للضغـينـة أو الشـر, فأنت لا تملك إلا أن تدعو بكل الدعوات الطيبة وأن تسعى لطلب المغفرة وليس لتصفية الحسابات, ولا تملك إلا أن تبتعد عن طريق من دفعك, وأن تستبدل الأدعـية بكلمات الغضب, وأن تترك جسده وحده بين الزحام بينما تطلق العنان لآفاق الروح,والدعاء والتضرع والتوسل هي الوسيلة لذلك, وختم كل ذلك بركعتين وبطبيعة الحال كان من المتعذر القيام بهما في مقابل مقام إبراهيم ولكن فيم التزاحم وكل الأرض التي نقف عليها حرم؟

العطش إلى ماء زمزم

         بعد الطواف يأتي السعي وقبل السعي نجد أنفسنا عطشى وفي أمس الحاجة إلى بئر زمزم, وكان النبي. - صلى الله عليه وسلم - قد شرب منها بعد أن أكمل طوافه وقال لأصحابه إنها مباركة, إنها طعام ُطعم, وشفاء سقم, ثم نمرق على طول المسعى بين جبلين, الوادي الذي بينهما والذي كانت تسعى فوقه السيدة هاجر قد أصبح مكسوا بالرخام البارد الذي يتم تنظيفه باستمرار تحت أقدام الساعين, عندما سعى جدي في العشرينيات في القرن الماضي كان يسعى حافيا فوق الحصى الجارح, فأي لظى سارت عليه هاجر منذ حوالي أربعة آلاف عام تقريبا, وهي تسعى بين الجبلين وابنها إسماعيل يبكي من فرط العطش, لقد ظلت تواصل السعي اللاهث لمدة ستة أشواط حتى إذا عادت بعد السابع وجدت الماء ينبثق من تحت كعب وليدها.

         نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدأ بما بدأ الله به ونرتقي جبل الصفا حتى نرى البيت ونستقبل القبلة, ونهتف بالتكبيرات وكلمات التوحيد ثم نبدأ في السعي, نهرول في مدى الضوء الأخضر ونكمل السعي سيرا حتى جبل المروة الذي لا تظهر منه سوى قمة ضئيلة, نمر بأبواب مكة, كل اسم منها يحمل تاريخا, هي دورة أخرى من دورات العطش والري, وهو إحساس يدفعك للتوقف والشرب من صنابير المياه المتوفرة والتي تنهل من زمزم تلك البئر السحرية لا تنضب وأن تحس بطعم المياه الجوفية المميز, طعم وإعداد روحي آخر لبقية مناسك الحج.

         بانتهاء السعي تنتهي شعائر العمرة, ويبدأ موعد الحاج في الاقتراب, إن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انتهى من السعي, انتقل إلى الأبطح بشرقي مكة وأعلاها, وأقام فيها حتى يوم النزول إلى منى, أي أنه طوال هذه المدة لم يذهب إلى الكعبة ولم يقربها, ولعله كان يرى عبر أستار الأزمنة مثل هذه الحشود التي تتدافع إلى البيت المقدس في كل حين ووقت, لذا فقد كان يسعى نحو اليسر وإيثار السلامة لأمته من بعده, ولكن من الذي يستطيع أن يبتعد عن الحرم وهو على قيد خطوات منه.

حين ضج الحجيج

         كان وداع الحجيج في مطلع هذا القرن هو وداع مفارق, فقد كانت الطريق إلى بيت الله طريقا للسلب والنهب والقتل أحيانا, وكانت قبائل البدو التي تحيط بالمدينة ومكة المكرمة ترى في موسم الحج مناسبة لابد من اقتناصها ويرون في الحجيج  (رزقا ساقه الله إليهم) لذا تحول الركن الخامس من أركان الأسلام إلى مغامرة الموت يقف على عتباتها, وفي الواقع أن اضطراب الأمن لم يكن مقصورا على هذه البقعة, فقد كانت الجزيرة العربية كلها تسودها حالة من العنف والتقاتل بين القبائل المتناحرة وبدا أن الأمر في حاجة إلى سيد قوي يفرض  هيبته على كل تلك الفوضى, ولعل هذا الأمر هو الذي دفع الشاعر الكبير أحمد شوقي أن يرسل قصيدة صارخة إلى السلطان العثماني  عبدالحميد عام 1904م يقول فيها :

ضج الحجاز وضج البيت والحرم

 

واستصرخت ربها في مكة الأمم

         ولم يدر يومها أن ضعف الدولة العثمانية كان هو سبب هذه الفوضى, وأن السيد القوي لن يأتي من أسطنبول ولكنه سوف يأتي من عمق الصحراء نفسها, فقد كان الملك عبدالعزيز آل سعود في هذا الوقت يبدأ خطواته الأولى في الرياض من أجل توحيد تلك الأصقاع المتباعدة ليعيد إليها أمنها المفتقد, وكان أول ما قام به هو تطبيق حدود الشريعة الإسلامية على اللصوص وقطاع الطرق, فقتل القتلة وقطع أيدى السرّاق, وتصدى بقوة لكل من يخل بأمن الحج وسلامة الحجيج, ولم يقتصر دوره على توطيد أمن الحجيج فقط ولكن رعايته امتدت أيضا لتشمل الحرمين الشريفين, فقد كان يدرك أنه ما من مدينة على مدى تاريخ البشرية قد حظيت بالتكريم والتقديس مثل مكة المكرمة و آل على نفسه عمارتها وتجديدها, ومن هنا كانت بداية هذ الصرح  المهيب الذي نشهده الآن.

         ولعل أول تجديد للبيت الحرام ذكرته كتب التاريخ هو ذلك الذي تم عام 605 م, أي قبل البعثة النبوية, وقد حدث فيه اختلاف القبائل الشهير حول من يرد الحجر الأسود إلى مكانه, و تدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -  وفض الخلاف ووضع الحجر الأسود في مكانه بيديه الكريمتين,ومنذ ذلك الوقت ظلت الكعبة على حالها حتى جاء فتح مكة فأزيلت من حولها الأصنام ورجع البيت إلى نقائه الأول, وجرت أول توسعة في عهد عمر بن الخطاب الخليفة الثاني, وتمت الثالثة مع ازدهار الدولة الأموية, عندما قام الوليد بن عبدالملك, فهو لم يكتف فقط بتوسيع المساحة ولكنه غير من البنية المعمارية المحيطة بالكعبة وأقام أعمدة من الرخام جلبها من مصر والشام, وأقام فوقها عقودا مزينة بالفسيفساء, أما الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فقد أقام ذلك الرواق الدائري الذي يحيط بالمسجد وقام الخليفة المهدي بشراء عدد من البيوت التي تحيط بالحرم وضمها إليه وكذلك فعل الخليفة المقتدر لتصل توسعة المسجد إلى مداها والتي ظلت عليها عقودا طويلة من الزمن, فلم يشهد المسجد الحرام أى توسعة طيلة حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين, واقتصر الأمر خلال كل هذه السنوات على الترميم والإصلاح.

         في عام 1955 م شعرت الدولة السعودية أنها أمام عالم قد أصبح مختلفا وأن عدد الحجيج قد تضاعف فجأة فكان قرار الملك سعود - رحمه الله - بإجراء أول توسعة يشهدها الحرم في عصره الحديث, وقد تواصلت هذه التوسعة  لمدة ست سنوات أزيلت فيها العديد من المباني والمنشآت السكنية والتجارية التي كانت قائمة بالقرب من مسعى الصفا والمروة, وكذلك بني له طابق ثان, ثم بدأ بعد ذلك في بناء الأروقة المختلفة الجنوبي ثم الشمالي واكتمل بناء الطابق السفلي الذي أقيم تحت جميع أبنية الحرم.

         بلغت مساحة المسجد الحرام بعد هذه التوسعة أكثر من 193 ألف متر مربع بعد أن كانت لا تتجاوز 29 ألف متر مربع فقط, أي حوالي سبعة أضعاف, وقد بلغ عدد أبواب الحرم 64 بابا وحفرت الأنفاق في جميع الاتجاهات مزودة بدورات المياة ومغاسل الوضوء وذلك لتأمين الحجاج من حوادث الحركة المرورية عند الدخول من الحرم والخروج منه.

         ثم جاء المشروع السعودي الثاني في التوسعة والذي وضع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الأساس له في العام 1993 م وكان الهدف منه إضافة 76 ألف متر مربع أخرى إلى مساحة المسجد موزعة على أدوار المسجد المختلفة بحيث تصل طاقته  إلى حوالي مليون مصل, وقد شملت التوسعة إضافة ثلاثة من المداخل الرئيسية و27 من المدخل العادية, كما أضيفت مئذنتان تتشابهان في تصميمهما مع المآذن التسع التي كانت قائمة قبل ذلك.

         إن الحرم الآن يشتمل على ثلاثة طوابق, في كل طابق منها 492 عمودا مكسوة بالرخام, وقد أحسن استخدام هذه الأعمدة بحيث  كان فيها أجهزة التكييف والصوت ووصلات الكهرباء بحيث يظل المصنع محافظا على رونقه, ولقد بلغت تكاليف توسعة الحرم المكي الشريف بما في ذلك شراء الأراضي اللازمة للتوسعة مبلغ 30,178,181,775 ريالا سعوديا وهو مبلغ لا أدري كيف ينطق بواسطة الحروف؟!

الحج عرفة

         ثم يأتي يوم الحشد المهيب, يوم التروية أو الخروج إلى منى استعدادا لعرفة, والحج عرفة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما سبق هو استعداد ليوم النفرة, منذ الصباح وقد انتابت مكة حالة من الحمى, وامتلات الطرقات بالحجيج وقد أحرموا جميعا في المناشف البيضاء, كأنه يوم القيامة وقد بعثنا جميعا في التو, وامتلأت الطرقات بأرتال من السيارات, وامتلأت السيارات بحشود من البشر, وبدأت أعداد مضاعفة أكثر من التي في السيارات تأخذ طريقها صعودا عبر الأنفاق سيرا على الأقدام, كانت مكة قد بدأت تفرغ من حشودها ببطء ولم يبق فيها إلا بعض العاملين, ويقال إن اسم التروية قد أطلق على هذا اليوم لأن الحجيج كانوا يتزودون فيه بالماء لأن عرفة كانت قفرا لا ماء فيها, لقد تغيرت الصورة بطبيعة الحال وامتلأت بالمرافق التي تسع هذه الحشود ولكن التسمية بقيت, في هذا اليوم ركب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ناقته القصواء بعد طلوع الشمس وتبعته جموع المسلمين في مشهد  لم تر الصحراء مثله من قبل, فقد كانوا عن يمينه وعن يساره وكانوا أمامه وكانوا خلفه, بينما يسير بلال بن رباح بجانبه وهو يمسك عودا معلقاً عليه ثوب ليستر عنه حرارة الشمس, فسبحانك ربي أن جعلتنا نعيش هذا المشهد من جديد ونستحضر طقوسه من زمن لا يموت.

         عرفة كلها موقف, وحدودها مبينة في كل مكان, ومسجد (نمرة ( هو خير دليل على هذا التحديد الصارم, فالجزء الأكبر والمزدحم دوما بالمصلين  من المسجد داخل حدود عرفة والجزء الخالي دوما هو خارج الحدود, ويقول سيدنا رسول الله - صلى الله عـليـه وسلم -: ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة, ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي أهل الأرض بأهل السماء فيقول: (انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثا غُبرا ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي) فلم ير يوم أكثر عتقا من النار كيوم عرفة.

          أترك نفسي في خطوط عرفة التسع التي تتفرع كلها من جبل الرحمة وتصب فيه, كأنه محور كل هذه الجموع الحاشدة وقوتها الجاذبة, مجرد تلة صغيرة وسط الجبال العاتية عليها نصب أبيض, علامة فارقة تضيع وسط حشود البشر الذين يزحفون نحوه في ملابسهم البيضاء,آلاف من الخيام المضادة للحريق تمتد في صفوف بلا نهاية, ولكن أكثر الناس من دون خيام, ينصبون قطعة من قماش تحت أي شجرة  أو يرتكزون على أي جدار, يسعون في طرقات المشعر الحرام دون مبالاة بحر أو بشمس, عائلات كاملة, الأب والأم وأبناؤهما الصغار, يبدو أنهم قد بذلوا كل ما يملكون من أجل القيام بهذه الرحلة, آلاف غيرهم لا يقوون على السير وعلى وجوههم أثار طويلة من سوء التغذية, الإيرانيون يسيرون في جموع  من الصعب اختراقها, يرفعون لافتات ويرددون كلمات لا ندري ماذا تقول, الآسيويون مازالوا يحافظون على صفوفهم المنتظمة, قطرات متتابعة من أجسادهم الصغيرة تطوف في كل مكان, هل تلقوا تدريبا على السير في طرقات عرفة  أيضا, المصريون يسألون عن جبل الرحمة في صخب, يدورون حول أنفسهم ولا يصلون إليه, المسلمون القادمون من بلاد السوفييت السابقة لا ينسون أن يمارسوا بعضا من التجارة, موجات عارمة من البشر ترتفع وهي تردد نداءات التلبية, أسير في الطرقات, أشم عبق الأجساد التي لا تكف عن التوسل, ما كل هذا الإحساس بالذنب, وأي نوع من الخطايا يستلزم كل هذا القدر من التضرع, كيف يمكن أن يرتكب الفقراء والبسطاء من الناس أي نوع من الخطايا الكبيرة, أسير من خط إلى آخر, أنه إحساس النفرة والتأهب بأن هناك حدثاً كبيراً, قيامة جديدة أو غفراناً شاملاً, تستدير الشمس في منتصف السماء,آخذ زجاجة من الماء فأشرب نصفها وأفرغ النصف الآخر على رأسي, في عرفات لا عطش, آلاف السيارات تقوم بتوزيع زجاجات الماء والألبان والعصائر, كميات هائلة من المشروبات والأطعمة تقوم الشركات السعودية بتوزيعها بالمجان على هذه الحشـود لا يخلو الأمر من بعض الدعاية, هناك من يسوق جملا مزينا ويدعو الحجيج للركوب والتصوير فوقه, ذكرى لا تخلو من فائدة في مثل هذا اليوم, أسواق صغيرة وجانبية ولكنها  ذات طابع علمي تقام على حواف الخيام, المستوصفات الطبية المقامة في كل مكان تستقبل المئات من الحجاج لتقدم لهم المعاونة الطبية, لم تكن توجد إصابات كثيرة لضربات ا لشمس, أفراد الكشافة يقومون بمجهود خارق لإرشاد الحجاج التائهين عن أماكنهم, حجاج لا يعرفون اللغة ولا الاتجاهات إضافة إلى أن هذا اليوم الواحد المزدحم لا يدع الفرصة لأحد حتى يتعرف على أحد, الجموع تتجه نحو مسجد نمرة للحصول على مكان من أجل الصلاة, توافق يوم عرفة مع يوم الجمعة, إنه نفس اليوم الذي قام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -  بحجته الوحيدة لذا فالشوق عارم لتكرار تجربته الوحيدة من جديد, ففي هذا المكان خطب آخر وأبلغ الخطب في تاريخ الإسلام وهي التي أطلق عليها فيما بعد خطبة الوداع, فقد وقف وسط الجمع الأكبر ووقف ربيعة بن أمية بن خلف تحت ناقته, وكان ذا صوت جهوري يعيد على الأسماع كل ما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس اسمعوا قولي, فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا, إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم, كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا ويواصل الرسول - صلى الله عليه وسلم -  ذكر وصاياه الأخيرة فيرفض أفعال الجاهلية ويجُب الربا ويوصي بالنساء خيرا, ويحذرهم من خيانة الأمانة ومن ظلم النفس وعلى العدل في الميراث, إلى أن يقول :قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا إن اعتصمتم به, كتاب الله وسنة نبيه, وأنتم تسألون عني, فماذا أنتم قائلون?

         ويصيح الجمع الحاشد :نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

         فيرفع أصبعه عاليا إلى السماء وهو يقول : اللهم فاشهد, اللهم فاشهد, اللهم فاشهد.

         وتأتي اللحظات الأخيرة في هذا اليوم, يصعد الناس فوق الهضاب والتلال ويصبح جبل الرحمة مغطى تماما بالبشر,وترتفع أصوات التلبية والابتهالات, فإن كان الله يباهي بهذا اليوم فليكن البهاء كاملا, فلا أحد يدري متى تكتمل دورة الزمن ولا متى ترتقي الروح إلى بارئها, يبدأ الأفق بالاصطباغ بحمرة الغروب وتحين لحظة الرحيل, يظل الجموع وقوفا حتى آخر اللحظات, وترتفع للسماء ملايين من الأذرع المتوسلة, إذ لم يكن هذا يوم عتقنا يارب السماوات فمتى نعتق؟

طريق واحد للبشر

         يبدأ الانحدار نحو المزدلفة, الطرق كلها تأخذ اتجاها واحدا, ممتلئة عن آخرها بالسيارات الزاحفة وبالبشر الساعين على أقدامهم, موكب ممتد في سكون الظلمة تحت الجبال وفوق الحصي, صامتين تماما, فقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  الذين يتبعونه قائلا : السكينة, السكينة وأخذ يشد بخطام ناقته حتى يوشك رأسها أن يلمس راحلته حتى لا تسرع بالمشي, أي زحف صامت ومهيب, وأي سكينة تصيب النفس وقد أدركت أنها قد انتهت من هذا الموقف وشاهدت حدثا يقارب يوم الدينونة, تظهر أضواء المزدلفة, واد صغير وسط الجبال الشامخة, ولكن الظلام هو الذي يسع الجميع, يبدو الجبل أمامنا مضيئا وفوقه قمر على وشك الاكتمال, تقيم الجموع صلاتي المغرب والعشاء, وتخفت أصوات التسابيح بينما يأخذون في البحث عن الحصى اللازم للجمر, وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال للفضل بن عباس التقط لي حصى فلقط له حصيات صغيرة  ـ أكبر من الحمصة وأقل من البندقة ـ ووضعها في يديه الشريفتين, وقال : إياكم والغلو, فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين.

         آلاف الأيدي تلتقط الحصى, والغريب أن الحصى  بعد كل تلك الأحقاب لم ينفد من هذه المنطقة ,ثم لا يبقى غير الجلوس الهادئ المستكين انتظارا لانبلاج الفجر, إنها لحظات طويلة لمراجعة النفس وسط هذا الصمت العميق, فالغفران يبدأ من الداخل دائما, تغفر فيغفُر لك, ثم يبدأ الاستعداد للرحيل من جديد, التوقيت هنا مختلف بعض الشيء, البعض يمشي مباشرة بعد منتصف الليل, والبعض يفضل البقاء حتى الفجر, وفي كل الأحوال فإن الأعداد غفيرة, ننتقل إلى (منى) محملين بالجمرات السبع, سبع من الحصيات التي تم التقاطها من المزدلفة, نهبط سراعا وسط زحام البشر كي نرجم الشيطان, الخوف ينبعث من النفوس, ففي هذا المكان من عام مضى حدثت الكارثة عندما سقط بعض الحجيج وتعثر فيهم البعض الآخر وداست الأقدام على الجميع, كان هناك خوف مرعب من أن تتكرر الكارثة مرة أخرى, لذلك مارسنا الرجم بسرعة, كنت أحس الحصى وهو يتساقط على رءوسنا, يلقيها أناس خائفون يريدون الانتهاء من الأمر دون أن يهتموا بدقة التصويب, ولكننا واصلنا الرمي ونحن نكبر مع كل جمرة منها, ولكننا الآن نسير نحو نهاية الشعائر, لم يبق إلا أن نقصر شعورنا أو نزيلها نهائيا.

أيام التشريق

         انتهت شعائر الحج الأساسية وبقي العديد من الواجبات, والشعيرة لا يجوز تركها وإلا بطل الحج, أما الواجب فيمكن الاستعاضة عنه بدم, نتوجه للبيت الحرام للقيام بطواف الإفاضة, ولكن الزحام هذه المرة كثيف, الجميع يقومون بالواجب في نفس التوقيت, كتل متلاصقة من البشر تطوف في وقت واحد, ظهرا لظهر وبطنا لبطن  كما يقولون, وفي غمرة هذا الزحام جاء آذان الفجر وكان على الجميع التوقف والاصطفاف استعدادا للصلاة, ولكن كيف يمكن أن توجد فجوة وسط هذا الزحام, الشيء الغريب أننا توقفنا واستطعنا أن نصطف في دوائر حول البيت العتيق, بل إننا وجدنا أيضا مكانا للركوع والسجود, حتى إذا انقضت الصلاة أطبق الزحام من جديد. نفس الأمر حدث أثناء السعي حين أذن لصلاة العيد, هناك مكان دائم للصـلاة مهما ضاقت المساحة.

         موعدنا الآن في وادي منى حيث أيام التشريق ورمي الجمرات, بشكل أو بآخر فإن كل واحد منا كان يرمي الشيطان الرابض في أعماقه, وما مظاهر الغيظ والحنق التي تنتاب الجميع فيبدأون القذف بالأحجار الضخمة ثم بالأحذية والنعال إلا نوع من تصفية الحساب مع النفس. فهذه هي أسهل مناسك الحج وأكثرها خطرا, ففيها يتم تدافع الجميع في وقت محدد بعد زوال الشمس وحتى غروبها وتصيب الأحجار الرءوس حين تحيد عن موقعها, وقد حاولت الفتاوى الدينية التخفيف من هذا الأمر فمدته إلى منتصف الليل, ولكن الخطر مازال ماثلا وأعداد الحجيج في ازدياد.

         عندما كنت أهبط الدرج الطويل المؤدي إلى مكان المناسك, استوقفتني امرأة عجوز قدمت لي كيسا صغيرا فيه سبع من الحصى وهتفت بي: (ارم من أجلي يا بني) ثم أخذت تجهش في البكاء, كانت لا تستطيع مقاومة أمواج الزحام الجارفة ولديها إحساس عميق أن حجتها لن تكتمل مادامت لم ترم هذه الجمرات.

         لم نذبح الهدي بأيدينا كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكننا خضعنا جميعا للنظام الميسر الذي وضعته السلطات, يكفي أن ندفع مبلغا من المال يساوي قيمة الأضحية حتى تتولى إحدى الشركات المتخصصة شراء الأضحية وذبحها وتنظيفها حتى ترسل مبردة إلى فقراء المسلمين في كل بلاد العالم, ولكننا قصصنا شعورنا وبذلك انتهت شعائر الحج وأصبح من حقنا أن نتحلل من ملابس الإحرام.

         ليس هناك من شيء مثل لحظة الوداع, ومثلما بدأ الحج بالطواف حول بيت الله لابد أن تختتمه بالطواف, كذلك فعل رسول الله في حجته الأولى والأخيرة, كانت مشاعر النفس موزعة في الرغبة في البقاء وفي التشوق لزيارة أخرى, وفي نفس الوقت كان المرء يتساءل ولكن إلى متى يستمر هذا الزحام في التصاعد وأن الواجب على كل مسلم أن يكتفي بنعمة الحجة الواحدة التي أنعم بها الله عليه وأن يترك الفرصة لأخيه حتى ولو كان قادرا, فالعالم الإسلامي قد اتسع وأصبح يضـم أكثر من ثلاثة مليارات نسمة, في الوقت الذي لن تتسع فيه جغرافية المكـان الذي تؤدى فيه المناسك, ولن تتغير المواقيت, لذا فالحـجة الواحـدة هي الحل الأوحد, وربما لو سن قانون يمنع الحـج على من هم دون الأربعين عاما يكـون حـلا آخر يستدعي التفـكير فالشباب الصغار لديهم فرص من العمر مازالت باقـية.

طلع البدر علينا

         ولا تكتمل الرحلة إلابزيارة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التى آوته ونصرته, ولعل اللجوء إليها يحمل بعثا متجددا لهذه النصرة بعد أن استطالت غربتنا على هذه الأرض, إن أحداث السيرة النبوية تتجسد في هذا المكان, فمنذ اللحظات الأولى تسمع أصداء أغنيات الترحيب الأولى في ثنيات الوداع, حين خرج أهل المدينة لاستقبال الرسول المهاجر وتزاحم العشرات منهم حول ناقته هو وأبوبكر الصديق, وكان كل واحد منهم يريد أن يحول الناقة إلى بيته فيقول لهم : دعوها فإنها مأمورة حتى حطت رحالها بجوار أبي أيوب الأنصاري.

         الصلاة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - متعة حقيقية, ويبقى الصراع الحقيقي في محاولة الاقتراب من المساحة الخضراء التي تصل بين قبر الرسول والمنبر والتي قال عنها إنها روضة من رياض الجنة, وقد شملت التوسعات والتجديدات هذا المسجد المهيب حتى أصبح واحدا من أكبر مساجد الدنيا وأكثرها بهاء, كذلك شملت التجديدات بقية المساجد وأشهرها مسجد القبلتين الذي مازال يحمل آثار القبلة القديمة التي كانت تتوجه إلى المسجد الأقصى قبل أن ينزل الله آياته آمرا الرسول والمؤمنين بالتوجه في صلاتهم نحـو المسـجد الحرام, وكذلك مسجد قباء الشهير, وكل معلم من هذه المعالم يحمل فصلا من فصول السيرة المحمدية وآثار ذلك الجهاد الطويل من أجل نشر الدعوة.

         هل يغيرنا الحج؟ هل يخفف من نفوسنا ذلك الإحساس العميق بالذنب, وهل يمنحنا القدرة على فتح صفحة بيضاء وسط حياة كل ما فيها أشبه بكلمات؟ أسئلة كثيرة كانت تتدافع في صدري وأنا أعود بالطائرة في نهاية تلك التجربة الروحية العميقة, كنت قد عشت لحظات فريدة انتظم فيها الكون وفق إيقاع واحد, صلاة وقياما, تضرعا وتهدجا ورغبة في غسل النفس, ولعل هذا مغزى اجتماعنا في هذا الوادي الضيق, أن نشعر أننا جزء ضئيل من كون الله الواسع, وأننا نتحرك في نفس حركات الأفلاك, ونسطع ذات لحظات مضيئة عندما نرتدي ملابس الإحرام, ثم نهوي بعد ذلك في ظلمات القبور آملين أن تكون لحظة الإشراق هذه قد غسلت كل الذنوب.

 

محمد المنسي قنديل