من المكتبة العربية: الربا والاقتصاد والتمويل الإسلامي

من المكتبة الأجنبية: مستقبل الإسلام السياسي

عرض: د. بدر الدين مصطفى*

«...كل هذا المجد والعظمة لم تعد إلا مجرد ذكريات غابرة تُحكى للتندر من أوضاع العجز التي يعانيها المسلمون اليوم. وتشتد مرارة هذا الشعور عند مقارنة ذكريات الماضي بالهيمنة الغربية المعاصرة والمكتسحة للحضارة الغربية والتي كانت يوما ما ترزح تحت وطأة التخلف».

مؤلف الكتاب جراهام فولر النائب السابق لرئيس المجلس القومي للاستعلامات في المخابرات الأمريكية. وهو مسئول ما يعرف بـالاستشراف الاستراتيجي بعيد المدى. ألف العديد من الكتب حول الإسلام والشرق منها «الجمهورية التركية الجديدة»، «الجغرافيا السياسية لإيران»، و«عالم بلا إسلام».

يحاول فوللر عبر الفصول العشرة للكتاب الإجابة عن عدة تساؤلات أهمها ما هو الإسلام السياسي؟ كيف يمارس تأثيره في العالم؟ ما التحديات التي يفرضها على العالم، وما التحديات التي يواجهها وأخيرًا، إلى أين يتّجه وما هي المخاطر والتحديات التي تواجهه؟ لكن السؤال الذي يشمل هذه الأسئلة جميعا، وهو سؤال إشكالي، يصوغه فوللر كالآتي: هل ظاهرة الإسلام السياسي مجرّد حالة انتقالية لمرحلة حرجة في تاريخ العالم الإسلامي أم أنها بداية تحوّل وتغيير حقيقيين؟ يؤكد الكاتب بداية أنه لن ينطلق من فروض مسبقة عن الإسلام وأنه ينبغي التفرقة بين الإسلام كدين وبين الإسلام كسلوك يجسده معتنقوه، فنقد الأخير لا يعني نقد الأول.

تحديد المصطلحات

يحدد فوللر المفاهيم التي يستخدمها في كتابه فالإسلام يشير إلى الدين الإسلامي نفسه أو التشريع الإسلامي. وبالتالي لن نكون على صواب، كما يقول، إذا قلنا بأن «الإسلام قادم نحونا» أو أن «الإسلام معادٍ للغرب»؛ فهذا الوصف لا ينطبق إلا على ممارسات وسلوكيات المسلمين أنفسهم، والدين في ذاته مستقل عن تلك الأوصاف. والخلط بين هذين المستويين هو سبب سوء الفهم والخلط الموجودين لدى قطاع عريض من الغربيين. وفي معظم الأحوال يكون الحديث عن الأسلوب الذي يتبعه المسلمون فهم ما يقوله الإسلام حول عدد كبير من الموضوعات المتنوعة على المستوى الواقعي، لا عن الإسلام ذاته كتشريع.

يستخدم فوللر، كما يوضح، مصطلحي الإسلام السياسي political Islam والإسلاموية Islamism للإشارة إلى نفس الشيء. لكنه يستخدم المصطلح بشكل أوسع مما درج بعض المحللين الآخرين على فعله في كتاباتهم حول نفس الموضوع. فالإسلامي أو الإسلاموي Islamist هو ذلك الشخص الذي يؤمن بأن الإسلام عقيدة تحمل رسالة مهمة يجب الإصغاء لها وتتناول الأسلوب التي يجب أن تنتظم به الشئون السياسية والمجتمع في العالم الإسلامي المعاصر وهو يسعى لتطبيق الأفكار التي تحتويها هذه الرسالة بطريقة معينة.

كذلك يستخدم المؤلف مصطلح الأصولية الإسلامية Islamic fundamentalism، للإشارة إلى أولئك الإسلاميين الذين يتمسكون بالقراءة الضيقة والحرفية للقرآن وأحاديث الرسول (ص)، والذين يعتقدون أنهم يحتكرون الفهم الصحيح الأوحد للإسلام ويبدون تعصبهم مع المختلفين معهم. وهم يصرون على أن الأولوية المطلقة لتطبيق الشريعة الإسلامية بالمعنى الحرفي دون اعتبار للزمان والمكان. والتيار الأصولي يختلف تمامًا عن التيار السلفي traditionalism في فهم الإسلام؛ فالتيار السلفي قد يكتسي طابعًا راديكاليًا في انحرافه عن الحالة الراهنة للفهم الإسلامي التقليدي، وهو في الواقع يسعى لتطبيق التغيير انطلاقًا من منهجية قائمة على «الرجوع للأصول». وكل الأصوليين هم إسلاميون، ولكن ليس كل الإسلاميين أصوليين، نظرًا لأن الإسلاموية تضم من يفسرون الإسلام السياسي تفسيرات أكثر عصرية أو ليبرالية كذلك.

الدين والسياسة

بالنسبة للملاحظ العادي، يبدو الإسلام السياسي عالمًا غريبًا تلفه هالة من الغموض، ومعزولاً في شرنقة زمنية مرتبطة بقيم وصراعات القرن السابع. أما الواقع فهو مختلف قليلًا. فالسياسة الإسلاموية تقع في قلب التطور السياسي والاجتماعي المعاصر: حيث يصارع الإسلاميون، على غرار باقي تيارات العالم النامي، مع مشكلات التمدن والعصرية، والتي تتمثل في التغيرات العنيفة التي تجتاح الحياة اليومية، واتساع رقعة النمو الحضري على كافة المستويات، والانفصال عن التيار العام للمجتمع، والأزمات الاجتماعية، وتفسخ القيم التقليدية، والتهديدات الغامضة التي تحملها العولمة، والحاجة للحكم النيابي الكفء، والحاجة لبناء مجتمعات عادلة وقادرة على مواكبة التحديات السياسية والاقتصادية والثقافية الثقيلة القادمة من المعسكر الغربي. وينظر معظم الإسلاميين إلى الأمام وليس إلى الخلف في مسعاهم لإقامة أساس أخلاقي أفضل للمجتمع لمواجهة متطلبات الحياة المعاصرة والعولمة. وتعكس الموضوعات التي تشغلهم الاهتمامات الجارية في السواد الأعظم من مناطق العالم الأخرى. إن الفكرة الرئيسة التي يتمحور حولها هذا الكتاب، كما يقول فوللر، هي أن الإسلام السياسي ليس بالظاهرة الغريبة أو النائية عنا، بل هو ظاهرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المعاصرة ذات الاهتمام العالمي القريب.

يعترف فوللر بأن نظرة الغربي للدين تختلف عن نظرة المسلمين لدينهم «نحن في الغرب لا نبدي في الغالب ارتياحًا إزاء دخول الدين مجال الشئون العامة، بيد أن أي دراسة للدين في المجتمع بصفة عامة تجبرنا على التعامل مع العديد من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة وأهمية وكشفًا للحجب في السياسة المعاصرة. إن تاريخ السعي البشري لاستمداد المعاني الفلسفية والروحانية من الحياة قد أتاح المادة الخام لجانب كبير من الآداب وجواهر الفكر الإنساني وفلسفة التاريخ والمعمار والفنون والموسيقى. ويضم الدين بين ثناياه ما نحمله من قيم وتطلعات ورؤية للحياة وسعي لإيجاد معنى لوجودنا وخوف من الفناء وقلق حول القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ في هذا العالم، وتطلع لإدخال القيم الأخلاقية في بناء وجودنا السياسي والمجتمعي، وبحث عن الإشباع الروحي في الحياة اليومية بتحدياتها ومصاعبها، وإحساس بالمشاركة المجتمعية وعلاقتنا مع إخواننا رجالاً ونساءً، وأخيراً فإن الدين يغمرنا بهذا الشعور من الروعة والحبور إزاء عجائب الخلق». ويواجه كل البشر على اختلاف مشاربهم هذه القضايا ويجدون في أنفسهم حاجة ملحة للحصول على إجابات شافية عنها، ومنهم من لا يعدون أنفسهم من المتدينين. ويقع الإسلام السياسي في قلب هذا المسعى في العالم الإسلامي.

من المؤكد أنه عندما يحدث الربط بين الدين والسياسة، يجتمع حينها اثنان من أكثر مواطن الاهتمام البشري حيوية. وقد يفضي هذا الاقتران للأفضل أو للأسوأ: فكل من الدين والسياسة لهما تاريخ ممتد من محاولات كل منهما استغلال الآخر. وما يحتم هذه العلاقة التي تجمع بينهما استحالة أن تتجاهل السياسة قوة دافعة قوية مثل الدين، وكذلك استحالة أن يبدي الدين، بما له من رؤية لمكان الوجود البشري في النظام الأوسع للعالم، لامبالاة بشكل المجتمع البشري وتوجهاته وسياساته.

يذهب فوللر إلى أن الإسلام السياسي يعد إحدى أفضل الوسائل لفهم السياسات الجارية في العالم الإسلامي بصفة عامة وبشكل يكشف أسرارًا أكبر مما تكشفه متابعة السياسة الماركسية أو الاشتراكية أو القومية أو حتى الديمقراطية للمجتمعات المسلمة. والسبب في ذلك بسيط؛ فالإسلام يتخلل الحياة اليومية للمجتمع الإسلامي وثقافته السياسية بشكل أكثر عمقًا عن أي قوة أيديولوجية أو مفاهيمية أخرى.

في أنحاء متفرقة من الكتاب لا يمل فوللر من التأكيد على السمة اللافتة المتمثلة في الروح المتجددة للإسلام في حقل السياسة المعاصرة: إذ الحديث ينصب عن تيارات وحركات برزت أهميتها على الساحة السياسية منذ عقود قليلة فقط من الزمان، والتي شهدت تطورًا متسارعًا على مدار هذه الفترة. وبعض هذه الحركات، كما يقول، قد لا يعدو في النهاية أن يكون مجرد التماعة نيزك وقتية في السماء سرعان ما تأفل مرة أخرى حيث تأسر النظر عند رؤيتها ولكن سرعان ما تذهب ويطويها النسيان. بل لعلنا نسأل: هل ثمة احتمال أن يكون الإسلام السياسي نفسه كان مجرد ظاهرة انتقالية مؤقتة في العالم الإسلامي رافقت مرحلة صعبة من تطوره؟.

فصول الكتاب

يناقش الفصل الأول من الكتاب «أحزان» التاريخ الإسلامي، وحنين المسلمين لاستعادة ماضيهم المجيد الذي تميز بالقوة والإنجازات الحضارية، والذي أعقبه فترة غلب عليها التدهور المتسارع والسقوط في بئر التخلف بل والتهميش. ما الأخطاء التي أدت بهم إلى هذا المصير، ولماذا، وما الذي يقتضيه ذلك من تحركات في المستقبل؟ كما يبحث أيضًا منحنى التاريخ الإسلامي على امتداد القرن المنصرم للإشارة إلى ما شهده من تطور ملحوظ والاتجاهات التي قد يتخذها في المستقبل.

أما الفصل الثاني فيحمل العنوان «استخدامات الإسلام السياسي»، وكما يوحي العنوان، يناقش الفصل الأدوار المتنوعة التي يلعبها الإسلام السياسي في الوقت الحالي في العديد من المجتمعات المختلفة ثقافيا. ولا يملك المراقبون الغربيون رؤية واضحة عن كافة تلك الأدوار. وهذه التعددية في الأدوار هي ما تضمن للإسلام السياسي دورًا محوريًا في سياسات العالم الإسلامي لفترات مقبلة.

ويناقش الفصل الثالث «التكتلات الإسلامية» كيف يمكن تصنيف الحركات الإسلامية في قطبين هما الإسلاموية الراديكالية/الأصولية في مقابل الإسلاموية العصرية أو «الليبرالية».

أما الفصل الرابع فيضع الإسلام في سياق السياسة العالمية. وفي هذا الفصل، يناقش فوللر الرأي القائل أن الإسلام السياسي لا يمثل إطلاقًا أي شكل من أشكال الانحرافات الغريبة في السياسة العالمية ولكنه يحمل تشابهًا وثيقًا بمعظم الحركات والمناقشات السياسية السائدة اليوم في أرجاء العالم النامي.

ويناقش الفصل الخامس الإسلاموية والإرهاب وأساليب النظر للعلاقة بين الاثنين.

أما الفصل السادس «الإسلاموية في السلطة» فيقدم نماذج للحكم الإسلامي في إيران والسودان وأفغانستان وملخصا موجزاً بتجارب هذه البلدان حتى تاريخه. كيف يقيّم المرء نجاحهم أو إخفاقهم، من هو المخول بالحكم على تلك التجارب، وكيف يتأثر الحكم بالسياسات الدولية السائدة؟

ويركز الفصل السابع على سلوك الإسلاموية في الأنظمة الديمقراطية وشبه الديمقراطية. ويذهب فوللر في هذا الفصل إلى أن الحركات الإسلامية باتت بشكل متزايد تتقبل مفهوم «شمولية» الديمقراطية، وتسعى لتكون جزءا من النظام الديمقراطي، وتعتقد أن بإمكانها الاستفادة من هذا النوع من النظام السياسي. ومع اندماجها في هذا النظام، فإنها تفقد كثيرًا من حرارتها الأيديولوجية وتتطبع بسمات الأحزاب السياسية «الطبيعية». ويناقش الفصل الثامن مشكلة «الإسلام والغرب» وهي قضية مهمة في تحديد مستقبل الحركات الإسلامية. هل نتحدث هنا عن «صدام بين الحضارات»؟ ما هي العوامل الملموسة التي تحرك هذه العلاقة؟ ويقدم فوللر رأيه حول أن الإسلام يعمل كمحرك للصراع دون أن يكون هو نفسه مصدر هذا الصراع.

أما الفصل التاسع فيناقش أبرز العوامل الحاسمة، المحلية والدولية، التي ستؤثر على مستقبل الإسلام السياسي.

ويختتم الفصل العاشر الكتاب ببحث مستقبل الإسلاموية ومساراتها المحتملة في النمو، وأبرز المشكلات التي تواجهها هذه الحركات.

أخيراَ، لا يعد هذا الكتاب بحثا جزئيا حول جماعة أو حركة إسلامية معينة، بل يبحث هذا الكتاب المجال الأوسع لظاهرة الحركات الإسلامية في أرجاء العالم الإسلامي، كما يطرح المؤلف فيه عددًا من الفرضيات حول مستقبل الحركات الإسلامية على المدى الطويل، سواء بشكل محدود بتخوم العالم الإسلامي أو في الإطار العالمي الأوسع بما يتضمنه من أفكار منافسة لها. ولا يعكس هذا الكتاب فقط الكتابات التي تناولت الإسلام، بل يعكس كذلك جانبًا كبيرًا من تجربة المؤلف الشخصية حيث قضى نحو 14 عامًا في خمسة بلدان مختلفة في العالم الإسلامي بالإضافة إلى الزيارات الشخصية التي قام بها للعديد من الدول الإسلامية (ومنها المناطق الإسلامية من الاتحاد السوفييتي السابق والصين).

والميزة الأهم في هذا الكتاب أنه يتجاوز الفروض الغربية المسبقة عن الإسلام والصورة النمطية المترسخة في أذهان الغربيين عنه ولعل أفضل عبارة تقدم هذا المعنى بجلاء ما قاله فوللر في مقدمة كتابه «في تطلعي لتطبيق القيم الإسلامية على النظام الديمقراطي العصري الجديد، فإنني على استعداد لأن أعطي آذانًا صاغية للإسلاميين وأن أحاول أن أنظر للعالم من أعينهم بشكل يتسق مع تطلعاتهم بدلاً من أن أفرض عليهم بعض القوالب الفكرية الغربية الجاهزة السائدة عنهم كأساس أستند إليه في إطلاق الأحكام عليهم».
---------------------------------
* مدرس علم الجمال والفلسفة المعاصرة بكلية الآداب- جامعة القاهرة.

 

تأليف: جراهام فوللر