مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة
        

عن الذاكرة والخيال
 

          (مرفأ الذاكرة), هذا هو العنوان الذي طلب مني الكتابة فيه, تساءلت عمّا يمكن إثارتـه حول هـذا الموضوع, و (الذاكرة) بحر عميق الأغوار.

          ويبدو لي أن المطلوب هو إبراز بعض الذكريات أو الدروس المستفادة منها, والتي نرتكن إليها من حين لآخر, ونرسو إليها لمواجهة عواصف الأيام والمقادير, ففي كثير من الأحيان يحتاج المرء إلى لحظة توقف يتأمل فيها لكي يتزوّد من ذكريات الماضي وتجاربه. ولعلي أبدأ بالإشارة بأن من نعم الله على عباده التذكّر والذاكرة واستحضار الماضي, كما من نعمته (النسيان) أحياناً, ولا يخفى أن البشر يتميزون, ربما, عن غيرهم من سائر الكائنات بنعمتي (الذاكرة والخيال), وهما بعد مرتبطان يصلان الماضي بالمستقبل.

          فالإنسان, وحده, ذو تاريخ, يستحضر الماضي ويوظفه كي يغير الحاضر والمستقبل, فالإنسان - والبشرية كلها - كائن تاريخي يعيش في الزمن, والزمن ليس مجرد مرور الوقت, بل إنه تغيّر في الظروف والأوضاع, وتغير في الوعي والإدراك, والإنسان وحده يدرك الماضي ويستوعبه ويعي به, وهو يتخيل المستقبل ويعمل من أجله, والإنسان لا يعيش حاضره إلا إذا أدرك ماضيه وخطط لمستقبله, فالماضي والمستقبل هما معان إنسانية بالدرجة الأولى, والحاضر لا معنى له, وربما لا وجود له إلا باتصاله بالماضي والمستقبل, فالحاضر لحظة زائلة تستمد وجودها ومعناها بربط الماضي بالمستقبل, والماضي هو الذاكرة, والمستقبل هو الخيال, بل إن الماضي هو ذاكرة وخيال معاً, وكذا المستقبل, فالماضي ليس حقيقة واحدة ثابتة بقدر ما هو صور متعددة, فكم من ذكرى أليمة نتذكرها, فإذا بها تبدو في ظروف مختلفة أكثر إثارة, وقد لا تخلو من طرافة, وكم من لحظات أو مواقف باهتة, لا معنى لها, تصبح بعد مرور الزمن لحظات أو مواقف حاسمة, وكم من أحداث ظننا لحظة حدوثها بأنها مهمة وخطيرة, فإذا بها مع الزمن لا تعدو أن تكون أموراً تافهة وأحياناً سخيفة, وإذا كانت الذكريات هي زاد المرء ومؤنته, فإنها تصبح عقيمة مالم يصاحبها الخيال, فبالخيال وحده يتجاوز الإنسان حاضره, ويغير من نفسه ومن بيئته, ومن هنا كان الإنسان صانعاً للحضارات يختلف حاضره عن ماضيه, ويصنع مستقبلاً مغايراً لحاضره.

الرغبة في تجاوز القصور

          ولعله من نعم الله أيضاً على الإنسان أنه مخلوق قاصر ومحدود, ولكنه بوعيه بهذا القصور وهذه الحدود, يحاول أن يتجاوزهما إلى وضع أفضل, فالإنسان مجبول على الرغبة في التحسّن وتجاوز القصور, ويظل مع ذلك دائماً دون الكمال, فالكمال لله وحده. ولكن الإنسان وقد خُلق على صورة خالقه فإنه يسعى, في رحلة مستحيلة, إلى بلوغ الكمال, فهو في سعي دائم إلى الأفضل, مع إدراكه التام, بأنه لا إدراك لهذا الكمال. وهكذا تستمر رحلة الحياة والبشرية كلها في سعي محموم نحو هدف مستحيل لتحقيق ما هو أفضل, مع الإدراك التام بأنه لا بلوغ لـ(الكمال), وهنا تكمن روعة القصة البشرية ومأساتها, فهي سعي دائم وراء هدف مستحيل, ولكنها مع ذلك ليست تجربة متكررة ورتيبة كما في أسطورة سيسفوس, حيث عاقبته الآلهة بعمل متكرر ورتيب. الحياة, على العكس, مغامرة متجددة ومثيرة وإن لم يكن المعنى فيها واضحاً, فهي هروب مستمر إلى الأمام نحو أهداف متحركة, نتخطى عقبات ونتجاوزها لنكتشف عقبات أخرى بعضها من صنعنا وأخطائنا وجزء منها نتيجة لنجاحنا. وتستمر المسرحية بلا فصل ختامي, وتبدو الرواية للبعض بأنها بغير ذات معنى وأنها أقرب إلى العبث. ولعل الصحيح أن هذا هو جوهر الحياة, فليست العبرة في محطة الوصول أو في النتيجة النهائية بقدر ما تكمن المتعة في الرحلة ذاتها.

          والآن, أعود إلى (مرفأ الذاكرة), طلبت مني مجلة (الهلال) المصرية, جرياً على عادتها مع عدد من المفكرين, إعداد كلمة عن (التكوين) تتناول الذكريات الأولى, وقد نشرت هذه الكلمة في ثلاثة أعداد من هذه المجلة اعتباراً من سبتمبر 1998 وحتى نوفمبر من السنة نفسها. وليس في نيتي أن أعيد ما ذكرته في هذه المناسبة, بل اقتصر هنا على الوقوف على عدد من المعاني والدروس التي استخلصتها خلال رحلة الحياة.

          ولعل الشيء الأول الذي أتوقف عنده وأعترف به, هو (التوفيق), فأنا أعتبر نفسي موفّقاً في الحياة, والتوفيق يتضمن شيئاً من الحظ, كما يتضمن أشياء من العمل الجاد. فلا أنكر أنني على قدر من الذكاء, وأيضاً بعض الجدية وتحمّل المسئولية, ولكني أعترف أيضاً بأنني من المحظوطين. فقد نشأت في أسرة متماسكة, أسرة صغيرة, أب وأم وأخ, الأوضاع الاجتماعية معقولة جداً, أب مستشار وصل إلى رئاسة مجلس الدولة وهو أعلى منصب قضائي في مصر, وأم من أسرة ميسورة, والأوضاع المادية مقبولة, ليس هناك ثراء حقّاً, ولكن بالقطع لم تكن هناك حاجة أو عوز. ولذلك فإنني لا أستطيع أن أدّعي أنني صادفت في طفولتي أو شبابي صعوبات عائلية أو مادية تطلبت مني عزماً وتصميماً لمقابلة التحدي, لا, كانت الحياة معقولة دون خشونة مبالغ فيها أو رفاهية زائدة, وهذا هو جانب الحظ, أما جانب العمل والجدية, فكان إزاء تفوّقي الدائم في المدرسة والجامعة, فقد كنت دائماً الأول على صفي, وفي المرات القليلة التي لم يتحقق فيها ذلك, فإن ترتيبي لم يتأخر عن الثاني أو الثالث - ربما - في كل مراحل الدراسة, وقد حصلت على مجانية التفوق في التعليم خلال سنوات الثانوي والجامعي, حين كانت الدراسة الثانوية والجامعية بمصروفات, كذلك أرسلت في بعثة تعليمية على حساب الحكومة المصرية إلى فرنسا وإنجلترا للحصول على الدكتوراه.

          ولعلي أذكر هنا شيئاً صاحبني طوال حياتي, وهو الالتزام بالمواعيد وإنجاز العمل في وقته, فلا أذكر أنني تأخرت في إعداد واجب أو في تحضير ورقة أو دراسة عن موعدها, بل إنني لا أذكر أنه فاتني قطار أو طائرة أو وصلت متأخراً لاجتماع أو احتفال, فالالتزام بالمواعيد وأداء الواجبات كان دائماً طبيعة ثانية بلا افتعال أو مشقّة. وربما كان حرصي على أداء الواجبات في مواعيدها أكثر من حرصي على الإتقان, وإن ألزمت نفسي دائماً - وبصرامة - بضرورة الاحتفاظ بمستوى راق من المهنية في العمل. لم أكن في ي وقت من الأوقات مهووساً بـ(الكمال), هناك دائماً درجة مقبولة من الإتقان والجديّة, ولكن إنجاز المهمة في الموعد هو الأولوية الأولى, وفيما يتعلق بمستوى الأداء, فقد كان تميّزي ليس في كثرة الجهد والبحث والتدقيق, بقدر ما هو في جدة الفكرة وطلاوتها.

          وإذا كنت أتحدث عن التوفيق في حياتي وما يتضمنه من جوانب الحظ, فلابد أن أشير إلى أنني - ولو لم أكن قدرياً - فإنني بشكل عام متفائل حتى أن أسرتي تطلق علي (المتفائل الأبدي), وأستطيع أن أرى دائماً الجانب المضيء في الأشياء, وربما يرتبط ذلك بشيء من الإيمان العميق, فأنا أرى أن يد الله وراء كل شيء, وأن واجبنا أن نستخلص من ذلك أفضل الجوانب, وأن هناك دائماً ما يستحق العمل من أجله.

بين باريس وكمبردج

          تخرجت في كلية الحقوق عام 1957 ثم تخصصت في الاقتصاد, وحصلت على الدكتوراه من جامعة باريس في نهاية عام 1964, ودرست أيضاً أثناء إعداد رسالة الدكتوراه في إنجلترا (كمبردج). وباستثناء ثلاث سنوات عملتها في السلك القضائي - مجلس الدولة في مصر - فقد أمضيت كل حياتي المهنية في المجال الاقتصادي, سواء في التدريس في الجامعات في مصر وخارجها أو في العمل في مؤسسات اقتصادية (الصندوق العربي, بنك الكويت الصناعي, البنك المصري لتنمية الصادرات, لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا), وسواء أكان الأمر راجعاً إلى التوفيق أو إلى طبيعتي المتفائلة, فقد وجدت العمل في كل هذه الأماكن محبّباً إلى النفس, وكثيراً ما كنت أقول دائماً إن الفرق بين العمل والهواية, هو أن العمل مؤلم بطبيعته وبالتالي يستحق مؤديه أجراً, في حين أن الهواية ممتعة, وبالتالي يدفع صاحبها ثمناً مقابلها. وقد كانت معظم الأعمال التي قمت بها محببة إلى نفسي, وبالطبع لم أدفع شيئاً للاستمتاع بها, بل كنت أحصل مقابلها على مرتبات, وأحياناً مرتبات مجزية, وهذا أيضاً من حسن الحظ والتوفيق.تركزت معظم حياتي المهنية على العمل في المجالات الاقتصادية, ومع ذلك, فقد كانت مسئولياتي في السنوات العشرين الأخيرة إدارية أيضاً, حيث توليت مسئولية رئاسة عدد من المؤسسات (البنك المصري لتنمية الصادرات, الشركة المصرية لضمان الصادرات, اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا), ومسئوليات الإدارة تتطلب أكثر من المعرفة الفنية في مجال التخصص, حيث تحتاج إلى قدرات القيادة والاختيارات الاستراتيجية لتلك المؤسسات.وأعتقد أن من أهم الصفات المطلوبة هنا (المصداقية), المصداقية تجاه العاملين وتجاه العالم الخارجي, وهو أمر يتطلب الصدق أولاً, ولكنه يتطلب أيضاً الكثير من الخيال والقدرة على التواصل الإنساني مع الآخرين.

صلة روحية

          وكأستاذ في الجامعة أتيحت لي فرصة الكتابة, فكتبت العديد من المؤلفات والمقالات العلمية, ولكني كتبت أيضاً للجمهور الواسع, كما نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات, وأجريت معي الكثير من المقابلات التلفزيونية. وعادة لا أجد صعوبة في الكتابة أو الحديث, وبطبيعة الأحوال, فقد كانت معظم كتاباتي في موضوعات اقتصادية, ولكن قلما حصرت نفسي في الجوانب الاقتصادية فقط, فكثيراً ما كنت أتعرض لأمور أخرى في التاريخ أو الفلسفة أو السياسة, ولكن يظل البعد الاقتصادي قائماً. وأكثر الكتب التي بذلت فيها جهداً هي كتابي في (أصول الاقتصاد السياسي), وأقربها إلى قلبي دراسة عن (ثورة الشباب في فرنسا 1968) والتي نشرت ضمن كتاب (على أبواب عصر جديد). ولكن ربما العمل العلمي الأكثر أصالة هو (الدولة الريعية), وهو مقال عن الاقتصاد الريعي, وربما يعتبر من أهم المراجع العلمية في هذا الموضوع. وأمتع ما في الكتابة هو أنها تخلق صلة روحية بين الكاتب والقرّاء, والغالبية منهم لا تراهم أو تعرفهم, وكم تبلغ سعادة الكاتب عندما يلتقي بأحد هؤلاء ليكتشف أن هناك معرفة وحواراً سابقاً بينهما دون لقاء أو حتى دون حديث.عندما أتذكر دراستي الثانوية والجامعية وأقارن بين جيلي وجيل والدي من ناحية, وجيل أبنائي من ناحية أخرى, ألاحظ فارقاً مهماً يتعلق بمدى التغير الذي صاحب مجتمعاتنا. فقد تلقى أبي دراسته الثانوية في المدرسة الخديوية, وانتقل إلى كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (1924-1928), وكان عدد المدارس الثانوية آنذاك في القاهرة ثلاث مدارس, الخديوية, والسعيدية, والتوفيقية, وكانت هناك جامعة واحدة في مصر (جامعة فؤاد الأول), وربما كانت, هي وجامعة دمشق, الجامعتين الوحيدتين في المشرق العربي آنذاك, أما في حالتي, فقد تلقيت دراستي الثانوية في مدرسة (عين شمس), وهي واحدة من آلاف المدارس الثانوية في مصر, والتحقت بكلية الحقوق, جامعة القاهرة (1953-1957) وهي واحدة من ثلاث جامعات مصرية آنذاك, القاهرة, والإسكندرية, وعين شمس, وكانت الجامعات العربية قد بدأت بالظهور في العالم العربي. أما أولادي, فقد تلقوا تعليمهم الإبتدائي والثانوي في الكويت ومصر, وكانت الجامعات العربية قد انتشرت في ربوع العالم العربي. وهكذا تغيرت الظروف عبر الأجيال, فقد كان زملاء الدراسة الجامعية أيام أبي, غالباً من سكا ن القاهرة أو مَن تعلموا فيها, أما زملائي في الجامعة, فقد جاءوا من مختلف مناطق مصر, من الريف والحضر, وأما جيل أولادي فقدتعرفوا في دراستهم على زملاء من مختلف البلدان العربية, من السعودية والسودان ولبنان والجزائر والأردن والبحرين. ومهما قيل عن فشل جهود التقارب العربي, فلاشك أن التعليم - فضلاً عن الإعلام - قد لعب دوراً أساسياً في تقريب الشعوب العربية - وليس بالضرورة الحكومات - بعضها إلى البعض الآخر, ففي بداية القرن, كانت القاهرة, وربما بيروت, تجتذب الطلاب من مختلف البلدان العربية, وفي النصف الآخر من القرن, انتقل المعلمون من مصر ولبنان والأردن إلى مختلف ربوع الأمة العربية في الخليج وفي شمال إفريقيا, وجاءت ثورة النفط, فانتقل ملايين العاملين إلى دول عربية شقيقة. وهكذا زاد الإلتقاء بين الشعوب, فرغم ما نشعر به - جميعاً - من إحباط لفشل جهود الوحدة أو التعاون العربي, فلابد من الاعتراف بأن هناك تقارباً بين أفراد الأمة العربية على نحو لم يتحقق في أي وقت من الأوقات. ولعل اللغة العربية - ولا أقصد الفصحى وإنما العربية المتداولة - هي الآن أقرب إلى التوحد بين الأفراد مما كانت عليه في أي وقت سابق, ولا يقتصر الأمر على اللغة وحدها, بل شاعت وتعممت الأغنية والنكتة وغيرهما من مظاهر الإنتماء الشعبي الثقافي. كل هذا أصبح شائعاً وموحّداً, وإذا كانت اللاتينية قد تفرّقت بين فرنسية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية وغيرها, فإن العربية الحديثة أصبحت موحّدة أكثر من أي وقت مضى, وبالتالي عنصر تقارب وتآلف بين أبناء الأمة العربية. ومع انتقال العمالة بين مختلف الدول العربية تحققت معرفة حميمة ومباشرة بين الأفراد. وهكذا فإن ما فشل فيه السياسيون قد حققه المعلمون والأطباء والمهندسون والعمال والكتّاب والفنانون في وحدة وتعايش على مستوى الأفراد في حياتهم اليومية, وقد أمضيت من سنوات عملي ما يقرب من عشرين عاماً أعمل في دول عربية, الكويت, الأردن, لبنان, فضلاً عن علاقات مستمرة بين أصدقاء وزملاء من مختلف البلدان العربية, ولعل الكتابة الآن, في (مرفأ الذاكرة), لمجلة العربي. لهي دليل آخر على الاتصال العربي فيما يجاوز الحدود القطرية, فهذه مجلة تصدر في الكويت, ولكنها ملك للعرب جميعاً, سواء في تحريرها أو في قرّائها. والله أعلم.

 

حازم الببلاوي