صناعة الإعْلام..أو الإعلام الصّناعي..!

حديث الشهر

كنت في يوم الاثنين الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول) الماضي في القاعة الكبرى من مبنى الأمم المتحدة في مدينة نيويورك. كانت القاعة مكتظة بالنظارة، إلى جانب موفدين لمائة وست وستين دولة من أعضاء الأمم المتحدة. وكان اجتماعنا لسماع خطاب الرئيس الأمريكي بوش، أمام الجمعية العامة، وهو خطاب تاريخي بكل المعايير، فالأحداث على مختلف الأصعدة العالمية تنبئ بأن التاريخ المعاصر في حالة تشكل جديد، والسنة الدولية التي وقف الرئيس بوش يقيمها هي سنة تاريخية من كل جوانبها، وفي آثارها على مختلف الأصعدة العالمية، ففيها تم تحرير الكويت من اغتصاب بالغ القسوة، عميق التأثير، وفيها أيضاً شهد العالم سقوط "النظام الشيوعي" وتفتت الإمبراطورية السوفييتية، وهي أحداث لها تأثيرات كبرى في مسيرة التاريخ البشري، تحول فيها العالم من الثنائية القطبية إلى أحادية القطب، وعلت فيها صيحة المشاركة والتعددية، وحقوق الإنسان، والحفاظ على كرامته.

في مثل هذه الأجواء وفي خضم تلك الأحداث يصبح لخطاب رئيس الولايات المتحدة أمام ممثلي دول العالم قاطبة، ومن فوق منصة الأمم المتحدة معنى كبير، ودلالات مهمة.

عصر المعلومات.. عصر الحرية

في ذلك الخطاب الذي ألقاه بوش أمام الأمم المتحدة لفتت نظري مقولة بالغة الدلالة هي الآتي: "إن ثورة الاتصال حطمت العزلة المفروضة على الشعوب. وكذلك حطمت الجهل، وفي مناطق كثيرة من العالم تغلبت التقنية على الاضطهاد، وتحققت فرضية هي: أن عصر المعلومات هو بالقدر نفسه عصر الحرية".

إن العصر الذي نعيشه هو بلا ريب عصر الانتقال الحر للأفكار، مثلما هو عصر الانتقال الحر للبضائع، ولا سيما إذا تصرفت الدول بحكمة، وأطلقت الاستخدام الأفضل للأفكار والرؤى والاختراعات والمبادرات. وكما قال أحد المفكرين في القرن الماضي إنه لا يوجد جيش في العالم مهما بلغت عدته وعتاده يستطيع أن يقف أمام فكرة آن أوانها..!. وقد آن أوان ثورة الاتصالات، وانتقال المعلومات، وتفاعل الأفكار والحضارات، وإن هذا العصر بحق هو عصر ثورة الاتصالات والمعلومات والأفكار، والشعوب التي لا تعرف أهمية هذه الثورة، ولا تتعامل معها بإيجابية، ولا تتفاعل معها بعمق، سوف تجد نفسها عاجزة عن فهم العصر الذي نعيش فيه، وتعزل نفسها عن مسار العالم الذي أصبح - أكثر وأكثر - قرية كبيرة.

والإعلام أصبح قوة هائلة، وإذا كانت الصحافة قد لُقِّبَتْ في عصر ما قبل ثورة المعلومات بأنها "السلطة الرابعة" فإن الإعلام الآن بتعدد وسائله من صحافة مطبوعة، وإذاعة وتلفزة، ومعلومات، تتبادلها أجهزة الكمبيوتر، والفاكس، تحول إلى سلطة رقابة عامة من جهة وأداة لتشكيل وصناعة الرأي العام، وقوة سياسية يخشاها الساسة والعامة على حد سواء.

وعندما فجرت الواشنطن بوست في أوائل السبعينيات فضيحة "ووترغيت" التي أطاحت بالرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، قال البعض: لقد كان نيكسون ضحية الإعلام مرتين، الأولى عندما هزمه التلفزيون - في إشارة إلى مناظرته الشهيرة مع الرئيس الراحل جون كنيدي قبل أيام من انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1960 والتي تفوق فيها كنيدي "تلفزيونياً" مما أدى إلى خسارة نيكسون المعركة الانتخابية - والثانية عندما أطاحت به صحيفة "واشنطن بوست" بكشفها أسرار "ووترغيت" التي أدت إلى استقالته من رئاسة الجمهورية عام 1973.

إن هذه السطوة تحولت في بعض الأحيان إلى مجال "تندر" من قبل الساسة والمسئولين، ففي الثمانينيات، وإبان تصاعد أجواء الحرب الباردة بين القوتين العظميين، بنى السوفييت سفارة جديدة على تلة تطل على واشنطن، ورفضت الولايات المتحدة السماح للسوفييت بالانتقال إلى مقرهم الجديد بحجة أنه سيكون بإمكانهم اعتراض الاتصالات بين البيت الأبيض والمقار الحكومية الأخرى. وقد استضافت إحدى محطات التلفزيون الأمريكي شخصيتين: أحدهما من وكالة التحقيقات الفيدرالية (F.B.I) والآخر من وكالة المخابرات المركزية (C.I.A). وفيما أطنب الأول في التحذير من خطورة انتقال السوفييت للمقر الجديد، قال الآخر بهدوء "دعوهم بحق السماء ينتقلوا أينما شاءوا، فقط اقطعوا عنهم اشتراكهم في صحيفة واشنطن بوست!" هذه "النكتة السوداء" تعكس الأهمية القصوى للمعلومات والتحقيقات المتداولة في الصحف، ووسائل التلفزة، حتى أن مراكز الاستخبارات تعترف بأن حوالي 80 في المائة من معلوماتها تستقيها من وسائل الإعلام العلنية.

وظهرت سطوة الإعلام بجلاء إبان أحداث الانقلاب الفاشل في الاتحاد السوفييتي، مما دعا بعض الدوائر الجادة للقول بأن الإعلام الدولي هو الذي أسقط الانقلاب.. وقد يكون في هذا القول بعض المبالغة، لكن الدور الذي لعبه الإعلام الدولي في الضغط على الانقلابيين عبر الإعلان عن حقيقة ما يجري داخل الاتحاد السوفييتي كان عاملا مهماً في التعجيل بنهاية الانقلابيين. وقد ذكر الرئيس غورباتشوف بعد عودته للسلطة أنه كان يتابع الأحداث عبر راديو قديم. وفي اليوم الأول للانقلاب، بل في الساعات الأولى، كانت وسيلة بوريس يلتسين الوحيدة هي جهاز فاكس استعمله مساعدوه في الحصول على تأييد عالمي لمقاومتهم للانقلاب، ولإسماع صوتهم إلى روسيا وبقية العالم. ففي صباح ذلك اليوم وعبر جهاز الفاكس أخبر يلتسين صديقه آلن وينستين أحد المهتمين بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في واشنطن بما يجري في موسكو. وفي إحدى رسائله عبر الفاكس قال يلتسين "هل علق السيد بوش على الحوادث التي تجري في بلادنا. إن يكن فعل فالرجاء أن تعلنوها بكل الوسائل المتوافرة لديكم كي تسمعها شعوبنا.. حكومة روسيا ليس لديها وسيلة لمخاطبة شعبها، كل محطات الإذاعة والتلفزيون تحت سيطرة الانقلابيين، نرسل لكم صورة من خطاب بوريس يلتسين للجيش الأحمر، الرجاء أن تذيعوه في المحطات الموجهة إلى روسيا، افعلوا ذلك بأقصى سرعة"، وهكذا بدأ العد العكسي لسقوط الانقلاب.

السمة الغالبة لعصر المعلومات

وإن كانت الصحافة المكتوبة قد مارست دورها الهام منذ أن عرف الحرف المطبوع، ولا تزال، وإذا كانت حقبتا الأربعينيات والخمسينيات عكستا الدور المتزايد للإذاعات، وأصبح راديو "الترانزيستور" أداة استقبال مهمة، فإن الستينيات وما تلاها هي عصر التلفزيون ولا شك. ومنذ أن بثت شبكة السي. بي. إس حادثة اغتيال كيندي عام 1961 على الهواء مباشرة، إلى أن نقلت محطة الـ C.N.N حرب تحرير الكويت وانقلاب موسكو، تزايد الدور المؤثر للتلفزيون، وأصبحت أجهزة الإعلام بقنواتها الرسمية الثلاث: الصحافة، الإذاعة، التلفزيون، وبالإعلام الخاص المتمثل في الفاكس، ونقل المعلومات عبر أجهزة الكمبيوتر، والهاتف، هي السمة الغالبة لعصر المعلومات، وأصبح أمر حصار الحرية في أصغر نقطة في العالم ضرباً من المستحيل.

في أوائل شهر سبتمبر (أيلول) الماضي حضرت ندوة نظمتها اليونسكو في العاصمة التشيكية براغ، وكان موضوع الندوة العام هو "النظام والديمقراطية"، وأحد موضوعاتها الفرعية "الإعلام والديمقراطية". وقد استمعت إلى أحد المعلقين من الهند وهو يقول: لقد أدخلت حرب تحرير الكويت عادة مشاهدة التلفزيون الدولي (المستقبل من الأقمار الاصطناعية) إلى شريحة واسعة من ربات البيوت الهنديات.

وعلق أحد الصحفيين الغربيين على تغطية الصحافة الغربية والإعلام الغربي لما حدث في ميدان "تيانانمين" بالصين بقوله: لقد ضخمنا الحدث متعمدين، وسميناه "مذبحة" رغم أن الحقيقة تؤكد أنه لم يقتل فيه شخص واحد، وسبب التضخيم هو محاولة لفت الأنظار لما يحدث!

وربما إلى يومنا هذا يعتقد الكثيرون حول العالم أن ما حدث في الصين حينذاك كان بالفعل مذبحة.

عصر الإعلام هذا يطرح العديد من الأسئلة، تتراوح في حدتها بين عدالة هذا النظام الإعلامي الجديد، والتساؤل عن آليته، وأخلاقيته، وأي القيم يحاول غرسها، إلى جانب أسئلة أخرى حول مصادر تمويله، وأصحاب القرار فيه، وعن مدى حياديته، وتتفرع الأسئلة الرئيسية إلى أخرى فرعية، وكلها تساؤلات مشروعة ومهمة، وإن صعبت الإجابة عن بعضها، وإن ترك البعض الآخر للحوار الدولي الدائر عن ثورة المعلومات والاتصالات وتأثيرها في المجتمعات المختلفة.

آلية العمل الإعلامي وتشابك المصالح

إذا نظرنا إلى صناعة الإعلام فإن الأرقام وحدها قد تصيبنا بالدوار. ففي الولايات المتحدة فقط تصدر 1645 صحيفة يومية، و 7710 صحف أسبوعية، يقرؤها كل صباح حوالي 62 مليون قارئ. ويصل عدد المحطات الإذاعية إلى 9870 محطة، ومحطات التلفزيون 1220 محطة. ويصل البث التلفزيوني إلى 98 في المائة من البيوت الأمريكية. وهناك حوالي 489 مليون جهاز راديو، أي بمعدل جهازين لكل مواطن أمريكي. وفي الولايات المتحدة وكالتان من وكالات الأنباء العالمية الأربع، وتبث هاتان الوكالتان الأخبار والمعلومات إلى أكثر من 140 بلداً حول العالم، ويبلغ عدد المراسلين الأمريكيين في البلاد الأخرى 719 مراسلاً، ويعمل أكثر من 6 آلاف موظف أجنبي في المؤسسات الإعلامية الأمريكية خارج الولايات المتحدة، وهذه الأرقام تخص الولايات المتحدة وحدها دون إضافة بقية دول العالم.

نحن إذن أمام صناعة إعلامية هائلة تعد من أكبر المؤسسات العالمية، فقطاع الإعلام في أمريكا - على سبيل المثال - يعد أكبر مؤسسة خاصة للتوظيف. ولأنها صناعة بهذا الحجم أولاً، ولأنها صناعة أخبار وأفكار ورؤية ثانياً، ولأنها صناعة تتداخل فيها عمليات للاستثمار والسعي إلى الربح ثالثاً، فإن هذا يعني أن هناك تنوعاً وتعدداً في المضامين والغايات، وأن هناك أيضاً قدراً من الموضوعية، وقدراً من السيطرة كذلك. لكن هذا التداخل والتدخل لا يتم بطريقة مباشرة فجة، بل عبر مراحل معقدة يفرضها النظام الاقتصادي الحر القائم على العرض والطلب.

ومن هنا فإن المؤسسات الإعلامية - ونحن هنا نعني بالتحديد تلك الموجودة في الدول الصناعية المتقدمة - هي في الغالب مؤسسات تجارية تسعى إلى الربح داخل منافسة مالية حادة مع مؤسسات لها الطابع نفسه. وهذا ما يعطيها قدراً من المرونة، وقدراً من الموضوعية. لكن لعبة المنافسة المالية هنا ليست مطلقة، بل وتحدد بجملة من الانعكاسات المرتبطة بتطور المؤسسات الديمقراطية التي تمنح تلك الوسائل الإعلامية سلطة ضميرية بحكم ارتباط خدماتها بالرأي العام مباشرة.

لكن هذا لا يوقف سيل التساؤلات، بل يزيدها حدة، من الذي يضع حدود سلطة الضمير هذه؟ ما المصالح التي تمثلها هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك؟ من الذي يضع الحدود للأخلاق المهنية؟ وأي أخلاق هي التي يجب أن تسود؟

قد نحصل على إجابات جزئية عن هذه التساؤلات عبر الخوض قليلاً في آلية العمل الإعلامي كرأسمال، واستثمار، وأخبار، وإعلاميين في علاقاتهم المتشابكة حيث لا توجد هيئة دولية أو محلية لديها سلطة تنظيم سلوك وسائل الإعلام (والحديث هنا ليس عن العالم النامي)، ولا يوجد بالقدر نفسه تعريف شامل للقصة الخبرية، أو التعليق الإذاعي، أو التحقيق التلفزيوني، متفق عليه بين المؤسسات الإعلامية، مثلما لا يوجد ميثاق شرف يحدد أخلاقية أي تصرف إعلامي ما.

وفي غياب مثل هذه الحدود كيف يتم التوفيق - في أجواء المنافسة الشرسة - بين رغبة المعلن، ومحاولة جذب الجمهور إلى الجريدة أو محطة التلفاز والمحافظة على القيم السائدة ورعاية مصالح أمن الدولة. أو يمكن القول: كيف يمكن حل مصالح الأطراف المتعارضة في العملية الإعلامية ما بين كون المؤسسة الإعلامية أداة رأسمالية في تمويلها وسعيها للربح، ومؤسسة اجتماعية في علاقتها بقيم المجتمعات التي في حالة تماس يومي معها، ومؤسسة تضم إعلاميين محترفين يتبعون القاعدة التي تقول: "إذا كانت المعلومات المتوافرة ذات قيمة إخبارية فيجب نشرها".

على السطح قد يبدو الأمر بسيطاً، من خلال معادلة للسيطرة على التوتر الداخلي في آلية عمل المؤسسة الإعلامية وجناحي هذه المعادلة تقسم الأدوار، فالمستثمر يحدد السياسة العامة، والمحرر ينفذ هذه السياسة، وبالتالي فعلى المستثمر ألاّ يسعى باستمرار للربح المادي، وعلى المحرر ألا يسعى دائما وراء الحقيقة. وأن الجمهور على الدوام سوف يكون قادراً عبر مؤسساته الضاغطة على أن يجعل كلا الطرفين يتناوبان تقديم التنازلات كلما بلغ التوتر الداخلي في المؤسسة حد النزاع بين التسليم بسيطرة السوق التجارية، أو التسليم بسيطرة الطرف التحريري الحر.

عالمية الإعلام واختلال عدالته

تعتمد وسائل الإعلام في معظم تغطياتها الإخبارية على وكالات الأنباء العالمية كوكالات "أسوشيتدبرس" و "يونايتد برس انترناشونال" و "وكالة الأنباء الفرنسية" و "رويتر" البريطانية و "تاس" السوفييتية. كما تعتمد بنفس القدر على مراسليها الموزعين على أماكن الأحداث. والوكالات مع افتراض حيادها تقدم مادة خاماً تشكلها الوسائط الإعلامية فيما بعد وفقاً لتقديرها فتبرز منها ما تبرز، وتهمل منها ما تهمل، وتخلق كل مؤسسة قصتها الإخبارية الخاصة. ولقد أعطت ثورة الاتصالات، والاستخدام الأرقى للتكنولوجيا وسائل الإعلام في الدول الصناعية المتقدمة سلاحاً هائلا في تشكيل الرأي العام الدولي وتوجيهه، كما حجّمت من وسائل الإعلام القومية والإقليمية والمحلية التي وجدت نفسها أمام كم هائل من المعلومات يصعب استيعابه، وتنقيحه، وتمحيصه، واختيار ما يلائم منه البيئات المحلية، ووجدت المجتمعات النائية نفسها وهي تغوص في قضايا ذات صبغة دولية. وأصبح الجنس قضية عالمية، والمخدرات قضية عالمية، والجريمة قضية عالمية، والتلوث، وهكذا دواليك..

وبنفس القدر أدت ثورة الاتصالات الدولية إلى "عملقة" الإعلام الدولي، و "تهميش" الإعلام القومي والإقليمي. وهناك أمثلة عديدة على "كوموزبولية" الإعلام الدولي المعاصر، فعلى صعيد الإعلام المرئي تقدم لنا تجربة الـ C.N.N كيف يمكن للتليفزيون أن يتجاوز الحدود السياسية، والجغرافية، والاثنية، ويصبح شريكاً محلياً يعيد صياغة الرأي العام المحلي، ورأينا كيف أصبح بإمكان المواطن العادي الاطلاع على "التاريخ" وهو يُصنع يومياً كما رأينا في أزمة الخليج، أو في الهبَّات الشعبية في أوربا الشرقية، أو في إعادة تشكيل الاتحاد السوفييتي. وأصبحت هذه المحطة - والتي كانت منذ 10 سنوات مجرد مغامرة إخبارية لم يتوقع لها أحد الصمود ناهيك عن النجاح - تبث برامجها على امتداد الأربع والعشرين ساعة لأكثر من 60 دولة منتشرة على الكرة الأرضية.

ولم تكتف مؤسسة "تيرنو برود كاستنغ" بالهيمنة الكبيرة لها على الإرسال "الخبري من خلال شاشات التليفزيون، بل بدأت في مد نفوذها إلى موجات الأثير حيث تذيع محطة الـ C.N.N الآن على امتداد ساعات اليوم.

كما نرى صحفاً شهيرة مثل "وول ستريت جورنال" و "يو . إس . إيه . توداي" تطبع في مختلف أنحاء العالم بواسطة الأقمار الاصطناعية، وجارتها في ذلك صحف عربية بارزة كالشرق الأوسط، والأهرام الدولي، وصوت الكويت الدولي.

الشكل التليفزيوني للصحافة

وقضت حدة المنافسة على عصر التخصص الإعلامي حيث دخلت شركات الصحافة عالم التليفزيون. ولعل توافر مزايا التكنولوجيا الحديثة من الصف والإخراج بواسطة الكمبيوتر، والطباعة المعقدة ذات التقنية العالية، والصفحات الملونة هي نتيجة من نتائج المنافسة مع التليفزيون الذي استحوذ على عقول الناس، وتدل إحصائية أجريت في الولايات المتحدة عام 1985، على أن جهاز التلفزيون في البيت الأمريكي العادي يبقى مفتوحاً لمدة سبع ساعات وسبع دقائق يومياً، بينما دلت دراسة أخرى على أن القارئ العادي الأمريكي يصرف حوالي 17 دقيقة فقط يومياً في قراءة صحيفته المفضلة. ولعل هذا ما دعا بعض الصحف إلى محاولة الانتشار تلفزيونياً كما فعلت صحيفة "يو . إس . إيه . توداي" التي خرجت بشكل جديد بحيث يمكن إطلاق "الشكل التلفزيوني" على طبعتها الملونة بالكامل، والمليئة بالصور والمجسمات والبيانات، والرسوم التوضيحية، ولم تكتف الجريدة بشكلها "التلفزيوني" فقط، بل انتقلت إلى شاشة التلفزة تحت الاسم نفسه لتقدم فترة إخبارية تستقي معلوماتها أساساً من الصحيفة.

ولم تتوان هيئة الإذاعة البريطانية الـ B.B.C - وهي الهيئة التي بنت سمعتها على برامجها الإخبارية المتنوعة - عن أن تدخل مجال المزاحمة التلفزيونية لإيمانها العميق بحجم التأثير الهائل الذي يلعبه التلفزيون في عالمنا المعاصر، وقد دخلت في مشروع مشترك باسم هيئة تلفزيون الشرق الأوسط بدأ بثه التجريبي خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. ويغطي إرسال شبكة التلفزيون الجديدة 38 بلداً في منطقة الشرقين الأوسط والأدنى، وأوربا الغربية.

وفرص التلفزيون في فرض "عالميته" تفوق فرص الصحافة المطبوعة، بل إن التطور التقني المذهل المرتبط بصناعته يرشحه لأن يكون أكثر الأدوات فاعلية في تشكيل العالم، وفقاً لأفكار ومثل ومبادئ مخططي ومنفذي برامجه، وممولي وأصحاب صناعته. فالبث المباشر عبر الأقمار الاصطناعية سيلغي - وخلال سنوات قليلة - ليس فقط الحدود الجغرافية والإثنية، بل وبقدر كبير الحدود الأخلاقية والاختلافات الاجتماعية، وستتشكل القيم الجديدة في المدن المتناثرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من خلال سلم القيم نفسها التي تتشكل في العالم الصناعي المتقدم. وسيصبح الحديث عن ثقافة "مميزة" لشعب من الشعوب أمراً في غاية الصعوبة إذا لم يرس نظام إعلامي عادل يسمح للتفاعل الثقافي بين المرسل والمتلقي أن يتم في أجواء الحوار والتفاهم، لا في أجواء السيطرة والإرغام.

نسبية القيم ونسبية الأخلاق

منذ القدم تحدث الفلاسفة والمفكرون، وعلماء الأخلاق عن نسبية القيم، ونسبية الأخلاق، ولعل ما حفزهم على إعطاء "النسبية" دورها في تحديد مفهوم القيم والأخلاق هو النشأة المختلفة للمجتمعات وخضوعها لواقع ديني، وقومي، وسياسي، واقتصادي، واجتماعي مختلف وما كان يثبت هذا الواقع هو "العزلة"، فالمواصلات البدائية، والاتصالات المعدومة، والفواصل الطبيعية خلقت مجتمعات متناثرة ذات خصوصية شديدة، احتمت بالفاصل الطبيعي، أو الديني، أو الإثني، أو السياسي، وأعادت تلك المجتمعات إنتاج ثقافتها وقيمها وأخلاقها وفقاً للحالات التاريخية من عزلة، وانفتاح. وكانت قادرة، وعلى امتداد فترات تاريخية طويلة، على رد "الغزوات" الفكرية، بالأيديولجيا أحياناً وبالسلاح في معظم الأحيان. إلا أن هذا "التوحد" العالمي الجديد الذي نشهده اليوم والذي أفرزته أو ستفرزه ثورة الاتصالات الهائلة ينبئ بتراجع الثقافة المحلية أمام الثقافة "الكوموزبولية" وينبئ بتراجع القيم المحلية أمام القيم العالمية المشتركة. هذا التراجع يحكمه القانون التاريخي في أن الثقافة السائدة هي الثقافة الأقوى، والثقافة ذات القدرة الاتصالية الأسرع.

وبغض النظر عن محاولات الضعفاء التمسك بأسنانهم بثقافة وقيم وتراث تتعرض لهجوم كاسح وقوي من ثقافة وقيم وتراث مسيطر، فإن قدرة تلك القيم والثقافات على الصمود أمام المد الإعلامي القادم لا تتحدد بالنوايا الطيبة وحدها، إنه عمل خلاق ومبدع وتحد إنساني بالغ الخطورة، وينطلق أول ما ينطلق من تحديد مفاهيم أساسية للتعامل مع الواقع القادم لنا بالتغيير.

وهذا يقتضي الاعتراف ببعض الحقائق:

- الحقيقة الأولى في كون الموجات الإعلامية القادمة تحمل في داخلها قيمها وأفكارها، وبالتالي نحن لسنا أمام ثقافة إنسانية مجردة نتعامل معها بحياء وتهذيب.

- والثانية، أن التكنولوجيا ليست سلعة محايدة يمكن استيرادها دون إطارها الاجتماعي، ودون القيم والأفكار التي أنتجتها.

- والثالثة أن الرياح القادمة باتجاهنا ليست كلها تيارات هواء نقية.

- وأن مجتمعاتنا ولعقود عديدة تعيد إنتاج تخلفها عبر الخلط بين ما هو أصيل وباق في ثقافتنا، وبين ما هو طارئ ومعوق فيها.

- وأن مجتمعاتنا تعاني من نقص مؤسساتي مريع، وأن حالات من الإحباط السياسي والاقتصادي قد هزت الكثير من القيم والمثل والمبادئ.

التعامل في عصر المعلوماتية

هذه بعض الحقائق التي تصفعنا ونحن على أبواب مرحلة "تشريع" نوافذنا للرياح، وهذه الحقائق هي التي تجعلنا ندرك أن قدراً من "التمحيص" وليس "الانغلاق" مهم في التعامل مع عصر المعلوماتية. فالإنتاج الإعلامي الذي سندق أبوابه قريباً هو في عمومه إنتاج الحضارة الغربية، وبقدر ما قدمت هذه الحضارة للإنسانية آفاقاً واسعة من التقدم والرخاء، فقد أصابها الوهن في بعض أجزائها، فأفرزت سلوكيات وممارسات تتعرض للاستهجان داخل المجتمعات الغربية نفسها. ويدور نقاش واسع داخل تلك المجتمعات بين علماء الاجتماع والنفس عن حجم الدمار اللاحق بالأسرة والأطفال والشباب بفعل البرامج التليفزيونية الساعية إلى الربح التجاري بغض النظر عن المحتوى الأخلاقي لها، لكن تلك المجتمعات تملك من المؤسسات الموازية من مدارس وجامعات، وجمعيات نفع عام، وحلقات ومراكز بحث ما تستطيع أن تخلق به حالة من التوازن بين البرامج المتدفقة التي تحمل قدراً من السوء، وبين القيم العامة لتلك المجتمعات. أما مجتمعاتنا فهي تسير على قدم واحدة لأسباب عديدة منها ضعف بنيتها المؤسساتية، ومنها الانفصام الكبير بين البيت والمدرسة، ومنها الانغلاقية التي تمنعنا من مناقشة أساسيات حديثنا في وضح النهار. إن الخطر الذي نواجهه هو في الانفتاح الكامل أو الانغلاق، وكلاهما خطأ في نظري.

والحديث عن تعاملنا مع الإنجازات الحضارية للثقافات الأخرى بحياد هو ضرب من الخيال، فأي إنتاج مادي هو في محصلته النهائية نتاج فكر ومعرفة، وعندما نستجلب أي إنتاج أو إنجاز جديد، فإننا نستجلب في الوقت نفسه القيم التي أفرزته، فهو ليس "صحيحاً" على الإطلاق. وإذا كنا لا نرى حرجاً في التعامل مع إنجازات البشرية بل ونشجع عليها، فإن القاعدة الأساسية في تفاعل الحضارات هو الاستيعاب والتمثل والهضم، ومزاوجة الإنجازات الإنسانية للحضارة بتلك الخصوصيات المحلية التي تعطي للحضارة عالميتها. وهذا لا يعني مجافاة الفكر والإنجازات الإنسانية بقدر ما هو عملية استيعاب إنسانية لهذه الإنجازات، أو بالأحرى تطبيعها للخصوصية، وليس تطبيع الخصوصية لها. إن المطلوب في هذه العملية التفاعلية إزالة الطابع "الكوموزبوليتي" المسيطر، وإحلال الطابع "الإنساني" المتفاعل للإنجازات الحضارية.

يجب أن ينتهي عصر "الاجتياح" و "الغزو" و "العدوان" لصالح عصر الإنتاج، والتفاعل، والمزاوجة. إن علاقات الثقافة القسرية منافية لعصر الحرية، وسلوك الأرقام يثبت كل يوم نهايته المرتقبة.

علينا أن نتصدى "سلمياً" و "منطقياً" للقيم الفاسدة، ليس بإغلاق نوافذ أصبحنا لا نملك غلقها، وليس بادعاء أننا نملك الحقيقة المطلقة، وأن ما نملكه من قيم وأفكار وأخلاق هو الخير المطلق، بل بالتفريق بين ما هو إنساني ونبيل وخير، حتى لو جاء من ثقافات أخرى، وبين ما هو عنصري وقبيح وشر، حتى وإن نبت بين ظهرانينا.

نحو نظام إعلامي دولي جديد

يتوجه العالم يوماً بعد يوم نحو أطر دولية جديدة للتعامل. فهناك حديث جاد حول خلق نظام جديد للعلاقات الدولية، وهناك حوار يمتد منذ سنوات لخلق نظام اقتصادي جديد قائم على توازن المصالح، وهناك جولات من المحادثات بين الشمال والجنوب، ويجب أن يتوج الحوار بالعمل الجدي على إحلال نظام جديد للتبادل الإعلامي، بل إن النظام الإعلامي الجديد يسبق أي ترتيبات أخرى على اعتبار أن الوسائط الإعلامية هي حاملة الوعي الجديد على المستويين السياسي والاقتصادي.

وإذا كان النظام الدولي الجديد الذي يبشر به الآن نظاماً عادلاً، فإن أولى بذور العدالة يجب أن تطلق في رحم الإعلام الجديد:

- بأن يكون إعلاماً تفاعلياً، بمعنى تبادليته بين الشعوب والثقافات عبر التلقي، والتلقي المضاد، وليس عبارة عن قناة أحادية الاتجاه تتوجه من المركز إلى الأطراف.

- وهو إعلام غير عنصري بمعنى أنه لا يمجد أمة بين الأمم، ولا لوناً بين الألوان ولا فكرة بين الأفكار.

- وهو إعلام متوازن بمعنى تجسيده للتوازن بين ما هو مادي، وما هو أخلاقي.

- وهو إعلام عادل يطرح نسبية الثقافة، والقيم، والأفكار، لا يقبل الحدية في تخطئة ثقافة الآخرين، وقيم الآخرين، وأفكار الآخرين. لكن الأمر الأساسي ألا نقف "متفرجين" على العالم وهو يتشكل في انتظار عدالة قد لا تأتي، وموضوعية قد لا يفكر فيها الطرف الأقوى. علينا تحريك حس "الواجب" داخلنا بالعمل على تفعيل بنيتنا المؤسساتية بجميع أشكالها السياسية والاقتصادية والثقافية، وفتح قنوات الحوار الداخلي، وإنهاء موجات التعصب التي تغلف وجدانياتنا، و "عقلنة" مؤسساتنا الثقافية والإعلامية، وجعلها منابر موضوعية للنقد والبناء، يحكمها ضمير مهني قائم على ثلة من القيم الواضحة يكون أساسها نقطة الوثوب إلى المستقبل، لا قفزة في المجهول، أو تراجعاً إلى عصور الظلام.