اللغة حياة: بين قيد النظم وحريّة اللغة والتجديد

اللغة حياة: بين قيد النظم وحريّة اللغة والتجديد

مراتٍ ومرات سمعت هذا البيت المشهور لأحمد شوقيّ:

إنْ رَأَتني تَميلُ عَنّي كَأَنْ لَمْ
تَكُ بَيْني وَبَيْنَها أَشْياءُ

فلم ألتفت إلى لغته قطّ ولم أفكّر فيها. وكيف أفعل ذلك وثمّة ساحران يسيطران عليّ: براعة الشعر، وروعة غناء محمّد عبدالوهّاب؟

أؤكّد أنّني لم أعتن بالوجه اللغويّ للبيت إلاّ هذه اللحظة، إذ اضطررت إلى مراجعة مقالة أدرجها مصطفى صادق الرافعيّ في كتابه «وحي القلم» تحت عنوان: «شوقيّ»، فوجدته يقرّر، لكن بصورة عابرة، خطأَ رفع شوقيّ لفعل «تَميل»، مؤكّداً وجوب جزمه لأنّه جواب إنْ الشرطيّة. وقرأت في الحاشية أنّ مساجلات دارت بينه وبين العقّاد على صفحات مجلة المقتطف، وعلمت من رسالة بعث بها إلى محمود أبو ريّة أنّ العقّاد أيّد الرفع, مستنداً إلى إجازة النحاة جميعاً رفعَ جواب الشرط إذا كان فعله ماضياً، وأنّ الرافعيّ لم يلبث أن خطّأ النحاة جميعاً في ذلك، في مقالة أرسلها للمقتطف.

لا أعرف ما كانت حجج الرافعيّ في تخطئته النحاة، وأنا معجب بكثير من كتبه ومقالاته، وأَلّفتُ فيه كتاباً كاملاً، وبي فضول إلى معرفة تفصيل رأيه حقّاً، لأنّه يجب أن يكون نتاج جهد محمود، لكنّني أعرف أنّ زهير بن أبي سُلمى قال:

وإنْ أَتاهُ خَليلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ
يَقولُ: لا غائِبٌ مالي وَلا حَرِمُ

حيث رُفع جواب الشرط «يَقولُ» لأسباب اختلف فيها النحاة، من غير اختلاف على نتيجتها. ويكفي شاهد واحد لا يدلّ على ضرورة حتى يكون الأمر جائزاً.

ولا شكّ أنّ في موقف الرافعيّ مبالغة في التضييق، وميلاً إلى الجدل والأسلوب الدفاعيّ غير المقبول علميّاً.

لكن لنفترض أنّ صاحبنا كان على حقّ، وأنّه دحض آراء خلق الله كلهم من النحاة، فإنّ رأيه غير مسوّغ في هذا الموضع بالذات. ليس لأنّ بعض اللغويّين أجازوا للشاعر تحريك الساكن وتسكين المتحرّك، أي أنّهم يجيزون تحريك لام «تَميل» في بيت شوقيّ، إذا صحّ أنّ حقَّها التسكين، فإزاء أولئك لغويّون آخرون كابن فارس يأبون على الشاعر اللحن في الإعراب، لكنّنا لا نسوّغ ذلك الرأي لسبب آخر وأهمّ، هو اجتماع أهل الأدب على استحسان بيت شوقيّ، وعدم تعرّضهم للغته، وربّما لعدم شعور كثير منهم بشيء غير سليم فيها، كما حصل لصاحب هذه المقالة. وهنا يصحّ أمران: الأوّل أن طَبْع الأمّة كلّها مرتاح بالإجماع لصيغة شوقيّ، فصيغته مقبولة حكماً، ورأي الرافعيّ، إذا صحّ أنّه استطاع تخطئة اللغويّين جميعا، وهيهات، استثناء لا يؤخذ به. والثاني، وهو الأهمّ، أنّ سلطان الشعر أقوى من سلطان النحو، فإذا هيمن على المتلقّي جعله يترك محاسبة الشاعر ويغفر له كل أخطائه، هذا إذا فكر في محاسبته، وهو قلّما يفعل ذلك إذا سحره الشعر. وهذا يعيدنا إلى مقالة لنا سابقة عنوانها: الشاعر قد يفرض الدلالة والصيغة اللغويّة (العربيّ، العدد 632- يوليو 2011)، حيث لاحظنا أنّ المتلقّي قلّما يلتفت إلى «الخطأ المحتمل حين يروعه المعنى وتفتنه الصورة الشعريّة»، فكيف إذا كان المتلقّي المفتون هو أمّة الأدب العربيّ كلّها أو جُلّها؟

إنّ ثمة ضرباً من العدل أراد اللغويّ والمتذوّق العربيّ أن يحقّقه، أو أراد الشعراء أنفسهم أن يفرضوه، مستغلّين سلطتهم النفسيّة على جمهور الشِّعر الذي كان قديماً أوسع جمهور على الإطلاق، وهو التخفّف من بعض قيود اللغة بإزاء الالتزام بقيود الوزن والقافية. بمعنى أنهم أرادوا حريّة التصرّف باللغة، بإزاء التقيّد بسلاسل العروض والقافية، وإن كانت هذه السلاسل أحياناً أشبه بالحليّ التي تزين العنق والأطراف، أو الأقراط التي تتحمل المرأة الألم المتأتّي من ثقب شحمة الأذن من أجل أن تتحلّى بها.

وشيء آخر، لكن مختلف، في مقالة الرافعيّ، وهو أنّه صرح بأنّ بيتاً آخر من القصيدة نفسها، وهو:

ما تَراها تَناستِ اسْمِيَ لَمّا
كَثُرَتْ في غَرامِها الأَسْماءُ

مأخوذ من قول أبي تمّام:

أَتَيْتُ فُؤادَها أَشْكو إلَيْهِ
فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ مِنَ الزُّحامِ

وإن قَدّم بيتَ شوقيّ على بيت أبي تمّام، لكون بيت أبي تمّام أقرب إلى تصوير سوق تجاريّة، وإلى جعل قلب المرأة كغرفة في بيتها، لكنّه لم يبيّن ميزة بيت شوقيّ. وبصرف النظر عن صحّة تعليل الرافعيّ أو خطئه - والزحام يكون في كلّ مكان: الحجّ، الصلاة، العرس، الحفل الأدبيّ أو السياسيّ، إلخ. وعلى النسب الظاهر بين معنى البيتين: بيت أبي تمّام وبيت شوقيّ، فإنّ كثرة المحبّين غير تزاحمهم على الحبيبة، ولعلّ الأقرب إلى بيت شوقيّ والأجمل منه، قول أبي فِراس الحمدانيّ، في رائعته التي تحدّثنا عن مطلعها في مقالتنا المشار إليها، وهو:

تُسائِلُني: مَنْ أَنتَ؟ وَهْيَ عَلِيمةٌ
وَهَلْ لِفَتىً مِثْلي عَلى حالِهِ نُكْرُ؟
فَقُلْتُ كَما شاءَتْ، وشاءَ لَها الهوَى
قَتِيلُكِ. قالَتْ: أَيُّهُمْ، فَهُمُ كُثْرُ؟

ففكرة التجاهل وكثرة المحبّين مشتركة بين الشاعرين بصورة لا لبس فيها، لكنّ الحوار الممتع، واستعارة صفة القتيل للمحبّ، والإلماح إلى البعد النفسيّ للتجاهل، والحركة الموسيقيّة الداخليّة، كل ذلك جعل بيتي أبي فراس أقرب إلى النفس، وأشد إيحاء.

والأغرب من ذلك إيماء الرافعيّ إلى أن بيت شوقيّ، من القصيدة نفسها:

نَظْرةٌ فابْتِسامةٌ فَسَلامٌ
فَكلامٌ فَمَوْعدٌ فَلِقاءُ

مأخوذ من قول الشاب الظريف:

قِفْ واسْتَمِعْ سِيرةَ الصَّبِ الَّذي قَتَلوا
فَماتَ مِنْ حُبِّهِمْ لَمْ يَبْلِغِ الغَرَضا
رأَى، فَحَبَّ، فَسامَ الوَصْلَ، فامْتَنَعوا
فَرامَ صَبْراً ، فَأَعيا نيلُهُ ، فَقَضى

والحقيقة أنّ الصلة بين بيت شوقيّ وبيتي الظريف غير ملحوظة؛ فشوقي يتحدّث عن الوصل بصورة مرحة، والظريف يتحدّث عن امتناعه بصورة حزينة. والتعبير عن الرؤية ليس جامعاً مقنعاً بين الشعرين. ولقد يكون هذا المعنى في بعض الشعر القديم أو الوسيط، وتأثّر به شوقيّ في لا وعيه، لكنّ القصيدة لا يحكم عليها تفاريق، بل كياناً واحداً أيّاً كانت مكوّناته.

ولذلك لا يحسن هنا البحث عن أدنى شبهة للقول بالسرقة، بل الأجدى أن ننظر في شخصيّة القصيدة كلّها وفي كيميائها الخاصّة، ومقدار تأثيرها في المتلقّى، بغض النظر عن آرائنا اللغويّة ومعارفنا الأدبيّة، فهذا هو الأصحّ والأنفع.
--------------------------------
* أكاديمي من لبنان

 

مصطفى عليّ الجوزو*