عالم تحكمه الرموز شوقي رافع

    "العلامات والرموز هي ما يحكم العالم وليس الكلمات ولا القوانين". العبارة منسوبة إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، وقد توفي قبل حوالي 2400 عام، ومع ذلك فإن ما فعلته هذه الأعوام كلها هو أنها زادت في غابة الرموز كثافة، وجعلت من "العلامات" لا مفاتيح للحياة في عصرنا الحاضر، ونظرة نلقيها على ما حولنا تكشف حجم الدور الهائل الذي تلعبه الرموز والعلامات في سياق حياتنا اليومية، وتكشف أيضا الفرق بين قوى تصنع التاريخ وأخرى تقع أسيرة له.

اشتعلت الحرب في بغداد بين عامي 59 و 60 بين القوميين العرب والشيوعيين، معقل القوميين العرب كان في الأعظمية أما الشيوعيون فأقاموا متاريسهم في الكاظمية، وكان الطعن بالخناجر وصولا إلى "السحل" مشهدا مألوفا في المنطقتين كلتيهما، أما كيف كان يتم اكتشاف "القومي" أو "الشيوعي" من بين عشرات الألوف من الذين يعبرون في أحد أحياء المنطقتين فقد كان غاية في البساطة. الشيوعي - سواء كان رجلا أو امرأة - يعلق على ياقة قميصه أو سترته شارة تتوسطها حمامة للسلام. القومي يعلق اسم الجلالة أو اسم محمد عليه السلام، وإذا كان امرأة يتدلى الشعار نفسه من سلسلة في رقبتها، وبالتالي فقد كانت مهمة فرق السحل سهلة، اقبض على صاحب الشعار واطعنه أو اضربه أو اسحله وأنت على ثقة تامة بأنه الشخص المطلوب، الانتماء السياسي والأيديولوجي في تلك الفترة التي حكم فيها عبدالكريم قاسم تحول إلى مجموعة رموز، ووفقا لمشاهدات كاتب هذه السطور حيث كنت أعيش في تلك الفترة في بغداد، فقد كان يكفي أن يرفع أحدهم سبابته عاليا ويهزها فيعرف الجميع أنه من أنصار "الزعيم الأوحد" وقد كان خصوم الزعيم يردون عليه برفع الأصبع الوسطى(!)

الإبهام و.. أنف صدام

والرموز التي يمكن أن ترتكبها أصابع اليد أو تقوم بها عديدة، وفي موسوعة "جينيس" عن العلامات والرموز، يقول المؤلف "جون فولي" إن الرئيس جورج بوش وقف يوم 18 أغسطس عام 1992 ليؤكد على ضرورة تطبيق شروط وقف إطلاق النار على نظام بغداد، فقال: "إن صدام حسين يحاول أن يضع إبهامه فوق أنفه في مواجهة العالم كله"، ووضع الإبهام فوق الأنف "Thumb his nose" تعني السخرية من الآخرين، وهي حركة مألوفة في الغرب، ولكن لعل أشهر الرموز المعروفة في مجال الأصابع هي رسم علامة النصر "V" عبر رفع السبابة والوسطى مع تباعدهما.

ولكن هذا الشعار "ملتبس" كما تقول موسوعة جينيس، فهو قد يعني النصر، كما يعني الإهانة أيضا، فإذا ارتفع الأصبعان من ناحية باطن الكف فإنها علامة النصر، أما إذا كان ظاهر الكف في مواجهة المشاهدين فإنه تعبير عن الإهانة، وفي هذا تقول الموسوعة إن الرمز "V" بمعنى النصر ظهر في الحرب العالمية الثانية عندما نجحت قوات هتلر في احتلال معظم دول أوربا ومن بينها فرنسا وبلجيكا، ففي 14 يناير عام 1941 بدأت هيئة الإذاعة البريطانية من لندن "B. B.C" البث على موجة موجهة إلى بلجيكا، ودعت المواطنين إلى رسم الحرف V" " على الجدران كتعبير عن مقاومة الاحتلال، وفي هذا يقول معد البرنامج فيكتور دي لافلي: كنا بحاجة إلى شعار يستطيع أن يرسمه المواطنون خلسة تحت جنح الظلام، وبسهولة، يعبرون بواسطته عن مقاومتهم للمحتل، ثم ما لبث الشعار أن انتقل إلى باريس ومنها عم جميع أنحاء فرنسا، ثم تحول بواسطة الإذاعة البريطانية إلى موسيقى، عبر استخدام إشارات مورس "نقطة. نقطة. نقطة. شحطة" وبالمصادفة فقد كان هذا النغم مطلع السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، ومن هنا تحولت V" " إلى شعار ونشيد يمكن عزفه حتى بأبواق السيارات "!"، وهو ما أشعل غضب وزير الدعاية الألماني الجنرال غوبلز، فبدأ حملة مضادة أكد فيها عبر خطاب شخصي "أن الحرف V" " هو الحرف الأول من العبارة الألمانية القديمة "فيكتوريا"، وما انتشار هذا الحرف إلا دليل على تضامن أوربا كلها مع الألمان في مواجهة البلشفية".

وأرفق الدكتور غوبلز خطابه بتعليق حرف V" " كبير فوق برج إيفل في وسط باريس "!"، غير أن الحملة المضادة زادت من شعبية الشعار، وهو ما دفع سلطات الاحتلال الألمانية بعد شهرين إلى تحذير جميع الأوربيين من أنه ستتم محاكمة أصحاب المنازل والمرافق الذين يظهر على جدرانهم أو أسوارهم الحرف "V". كما أكدت الأوامر على ضرورة منع التلاميذ من الخروج من المدارس وفي جيوبهم أية قطع من "الطبشور"، ثم بعد ذلك صار للشعار مفعول السحر في بريطانيا عندما كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت ونستون تشرشل يرفع أصابعه بشارة النصر بينما القاذفات الألمانية تمطر لندن بالقنابل، وقال تشرشل "إن علامة "V" هي رمز إرادة المواطنين، غير القابلة للقهر، في الدول المحتلة كما في بريطانيا، كما أنها رمز المصير الذي ينتظر المستبد النازي".

.. والمعنى المعاكس

أما السيدة مارغريت تاتشر فقد استخدمت الشعار نفسه أثناء حرب "الفوكلاند" ضد الأرجنتين، غير أنها رفعت إصبعيها بالاتجاه المعاكس، وهو ما اقتضى تصويبها فيما بعد.

ويعود تاريخ استخدام شعار "V" بظاهر اليد ليدل على الإهانة أو التحدي! إلى عام 1415 م، حيث تقول الرواية إنه بتاريخ 25 أكتوبر - تشرين أول من ذلك العام تواجهت القوات الفرنسية مع القوات البريطانية في موقعة "آغن كورت"، ونظرا لأن الرماة الإنجليز كانوا معروفين بسهامهم الطويلة، بينما كانت سهام الخصوم قصيرة، فقد وقف الفرنسيون في صبيحة يوم الموقعة وهددوا الإنجليز بأنهم سيقطعون الأصبعين الأولين من يد كل رام يقبضون عليه، وبالتالي فالأفضل ألا يستخدمهما في رمي السهام، ولكن عند نهاية الموقعة في المساء، وقف الرماة الإنجليز في مواجهة الفرنسيين و.. رفعوا أصابعهم بالعلامة "V" في إشارة صارت عنوانا للتحدي..

اللحية والشعار السياسي

والرموز منها ما هو عابر ومنها ما يغور في عمق التاريخ البشري ويكتسب قداسة معينة فاللحية في الجزائر مثلا تحولت إلى رمز لقوى سياسية معارضة للسلطة، وهو ما دفع السلطة إلى منع الموظفين الرسميين من تربية لحاهم "!"، أما في بعض دول الخليج، حيث تربية اللحية هي عادة اجتماعية وليست شعارا سياسيا، فإن اللحية غير المشذبة مع الكندورة "الدشداشة" التي ترتفع إلى ما فوق الكاحل هي تعبير عن موقف سياسي، وهو ما يشير إلى عمق دلالة الرمز لدى الشعوب، ومثل هذه الرموز "الظرفية" كثير في العالم العربي والإسلامي، وبعضها لا يعيش أكثر من ساعات، ففي دمشق مثلا، وأثناء حرب 1967، أعلن المذيع في الراديو عن إسقاط طائرة إسرائيلية فوق جبل قاسيون، وطلب المذيع من الجماهير القبض على الطيار الهارب وتسليمه إلى أقرب مركز للأمن، وخلال دقائق كانت ألوف الشبيبة - وكاتب هذه السطور من بينها - تتجول في الشوارع باحثة عن الطيار الإسرائيلي، ولان الاعتقاد السائد يومها أن الإسرائيلي لا بد أن يكون "أشقر الشعر" فقد كنا نواجه أي عابر أشقر بعبارة "السلام عليك"، وكنا نفترض أن الإسرائيلي لن يعرف الرد، فيجيب "شالوم" وعندها نقبض عليه "!" وهكذا، وخلال ساعات، كان الشعب يخترع "رمزا"، يساعده في كشف العدو، ورغم أن مثل هذه الحكاية تبدو اليوم أقرب إلى أن تكون طرفة، فإن شيئا مماثلا حدث في بيروت بعد عام 1982 عندما انتشرت موجة خطف الأجانب، ففي شارع الحمرا ظهرت مجموعات من الشباب الملتحي، ولم تكن تدقق في هويات العابرين، ولكن كلما أطل رجل أشقر الشعر أزرق العينين كان أحد شباب المجموعة يعترضه بتهذيب شديد ويقول "مرحبا" مع التشديد على حرف الحاء، فإذا رد العابر التحية بمثلها تابع طريقه، أما إذا أعيته الحاء ورد: "مرهبا"، فإنه أجنبي، أما إذا قال "مرحبا" فهو إسرائيلي بالتأكيد، وفي الحالتين فإنه يصلح رهينة "!"، وهذه الرموز العابرة لا تقتصر على شعبنا دون سواه، ففي خلال الحرب الأهلية الإسبانية كانت قوات فرانكو تعتقل أو تطلق النار على كل من ينتعل "الجزمة" ذات العنق المنخفض، لأن عمال المناجم في مقاطعة الأشتوريس كانوا ينتعلون هذه الجزمة، وكانوا في معظمهم من الأمميين المعادين لفرانكو.. أما في الفساقين قرية كاتب هذه السطور وهي تابعة لمحافظة جبل لبنان، فقد انقسمت العائلات إلى حزبين: حزب الشيخ أبو رءوف، وكان قد أطلق شاربه على طريقة ستالين، وحزب الشيخ أبو عاطف الذي اختار لشاربه موديل هتلر"!" وبالتالي فإن القتل يمكن أن يتم على الهوية، كما على الجزمة، كما على اللحية والشارب، باعتبارها جميعا رموزا سياسية "!"

رموز خالدة

ومع أن لكل شعب رموزه الوطنية من العلم إلى النشيد إلى شعار الملك أو القائد أو الزعيم، إلا أن هناك رموزا "خالدة" عبرت القارات وباتت شعارات "أممية" على مر القرون، ومن بين هذه الرموز الصليب عند المسيحيين، والهلال عند المسلمين، و"عجلة الحق" عند البوذيين، و"أوم" أو الكلمة المقدسة عند الهندوس، و"النتوري" عند الشنتو - ديانة اليابان - و "الكانادا" عند السيخ - الهند - ودائرة "ينغ - يانغ" عند الطاويين - الديانة الثانية في الصين، بالإضافة إلى نجمة داود المعروفة عند اليهود.

أما الصليب فهو أكثر الرموز المقدسة قدما، وقد سبق ظهور المسيحية بآلاف السنين، وتشير موسوعة جينيس إلى أن شكل الصليب ظهر في عشرات الأديان القديمة، واحتل لدى المصريين أيام الفراعنة مرتبة القداسة، وكان عمل اسم "عنخ" باللغة الهيروغليفية، ويرمز إلى الحياة الأبدية أو الخلود، وهو نتيجة اجتماع "أوزيريس وإيزيس"، وفي معبدإله الشمس "رع" في الكرنك في مصر يبدو هذا الصليب، وهو أيضا يأخذ شكل مفتاح، في يد إله الشمس وقد اقترب به من أنف الملك وكان قدماء المصريين يعتقدون أن الأنف هو كرسي الحياة، وبالتالي فإن جدع هذا الأنف في التمثال أو الصورة يكفي للقضاء على صاحبه، وهو ما يمارسه حاليا بعض أهل السحر، وفي هذا السياق ربما كان من المفيد مقارنة "الأنف" كرمز للحياة عند المصريين القدماء والأنف كرمز للإباء والأنفة والكرامة عند العرب.

وبعد ظهور المسيحية تحول الصليب إلى رمز للإيمان بالمسيح وبالكنيسة، ولم يقتصر المؤمنون على استخدامه داخل الكنائس فحسب، وإنما تحول إلى أداة رئيسية في الفنون، وفي العمارة ومجالات أخرى، بما فيها استخدامه في الأعلام والرايات خلال المواقع العسكرية، وقد أحصت الموسوعة 400 شكل للصليب، تتوزع بين الشعوب والقارات، من بينها صليب القديس بول أو صليب المرساة، حيث يجتمع الصليب مع مرساة للسفن على شكل هلال، ومن بينها كذلك الصليب المعقوف أو "الزوبعة" - كما يقول القوميون السوريون في بلاد الشام - وقد اختار هتلر هذا الصليب رمزا للحزب النازي بعد إدخال تعديلات عليه، وهذه الزوبعة هي أيضا رمز قديم للعافية وللحظ السعيد، وهي مشتقة من اللغة السنسكريتية، ومعناها "الحالة الطيبة"، ويكاد لا يخلو بلد أو ديانة من هذا الرمز، فهو ظهر في الحضارة السومرية كما نقش على عباءات الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، وعلى الفخاريات اليونانية، وعملات جزيرة كريت، ويظهر كذلك في الموزاييك الرومانية وعلى جدران معابد الهندوس، وأذرع الصليب المعقوف تتجه مع عقارب الساعة، وهذه الأذرع ترمز في روايات إلى الريح والمطر والنار والبرق، وفي اليابان ترمز إلى عمر مديد ومزدهر، أما في الصين فإنها ترمز إلى جهات الأرض الأربع، وتحولت فيما بعد إلى رمز "10 آلاف سنة" وبه يشير الصينيون إلى الأبدية، كما أنه رمز مقدس لدى البوذيين، ولعل التاريخ الفني لهذا الرمز لدى كثير من الشعوب والأديان هو ما دفع بهتلر إلى تحويله لعلم للرايخ الثالث، يحمل للمرة الأولى في تاريخه معنى سياسيا.

الهلال وفتح القسطنطينية

الهلال بدوره يملك تاريخا بعيدا يغور في ذاكرة البشرية، المصريون القدماء رأوا فيه رمزا للعافية والازدهار، "ارتميس" إلهة القمر اليونانية، ومثيلتها ديانا الرومانية، كان شعارهما الهلال، ومع الإلهة ديانا كان الهلال يظهر على جبهتها وحاجبيها، وفي عام 339 قبل الميلاد تحول الهلال إلى رمز مقدس لدى أهالي بيزنطة، وتقول الحكاية إن والد الإسكندر الكبير الملك فيليب المقدوني قرر احتلال بيزنطة "إسطنبول اليوم" عبر حفر نفق تحت بوابتها ليلا ومفاجأة أهلها وهم نيام ولكن الهلال خذلهم، إذ أطل وكشف عنهم فقام أهل بيزنطة بحصارهم ومنعهم من تنفيذ خطتهم، وللاحتفال بنجاتهم فقد جعل البيزنطيون من ديانا إلهتهم ومن الهلال رمزهم، وفي العام 330 م قرر الإمبراطور قسطنطين جعل بيزنطة عاصمة لحكمه، وأطلق عليها اسم القسطنطينية، وكرسها للسيدة مريم العذراء، وكان شعارها باعتبارها ملكة الجنة، الهلال أيضا.

هنا يتوقف تاريخ الهلال باعتباره رمزا، حوالي ألف عام، وتغيب الإشارة عن مكانته في الجزيرة العربية وتردد ذكره في الأدبيات والأشعار العربية والإسلامية، فتشير موسوعة "جينيس" إلى أن السلطان المسلم عثمان الأول هو أول من قرر اتخاذ الهلال رمزا لحكمه، بعد أن شاهد في الحلم كما تقول الحكاية هلالا يمتد من مشرق الأرض إلى مغربها، وهكذا بدأ في العام 1299 فتوحاته لتحقيق الحلم أو الرؤيا، وفي عهد السلطان أورقان "1326 - 1360 م" بدأ الهلال يظهر فوق رايات الجنود العثمانيين، ثم فوق القباب والمآذن، وفي عهد محمد الفاتح وبعد أن نجح في فتح القسطنطينية عام 1453 تحول الهلال إلى رمز مزدوج لدى الإمبراطورية العثمانية كما لدى البيزنطيين كما أضيفت إليه النجمة دلالة على الاستقلال والسيادة.

وفي عام 1877 تم تأسيس جمعية الهلال الأحمر في تركيا للإغاثة وقد توسعت فيما بعد إلى باقي العالم الإسلامي، بما فيه الجمهوريات الإسلامية (السوفييتية سابقا)، كما يظهر الهلال حاليا في أعلام كل من تركيا، الجزائر، ماليزيا، موريتانيا، تونس، باكستان وشمال قبرص.

أما أبرز الرموز في الديانات الرئيسية في العالم فهي "عجلة الحق" أو عجلة الخلاص عند البوذيين، وهي عجلة شكلها أقرب إلى دفة السفينة وهي تضم ثماني طرق تؤدي إلى الخلاص، وباتباع هذه الطرق يصل صاحبها إلى "النيرفانا" أو الاتحاد بالمطلق، ويعود تاريخ هذا الرمز إلى عام "563 - 483 قبل الميلاد"، وهي الفترة التي عاش فيها الأمير الهندي "سيد هارثا كوتاما" وأطلق عليه فيما بعد اسم "بوذا" ثم تأتي الفلسفة الكونفوشية المنتشرة في الصين، وهي تنسب إلى كوانغ - فو - تزو "551 - 479 قبل الميلاد" وقام المسيحيون الجزويت بترجمة الاسم إلى اللاتينية "كونفو شيوس" أو "القديس الأكبر"، وقد بقيت الكونفوشية الدين الرسمي للصين حتى قيام الثورة الثقافية في عام 1966، وما زال أتباع هذه الديانة يعتبرون، القديس الأكبر" رمزا لهم، أما عند الهندوس وهي الديانة البارزة في الهند فإن الكلمة الهندية المقدسة "أوم" التي تبدأ بها جميع الأناشيد الدينية هي أحد الرموز المتداولة بالإضافة إلى آلهة أخرى. وفي اليابان حيث تسود ديانة " الشنتو" أي الطريق المقدس، فإن "التورلي" هي الرمز الذي يعبر عن وسائل الخلاص، وهي تضم قوسا يتكون من 3 قطع تنتهي جميعها إلى العرش "جينيا" حيث تستقر الآلهة، ويعود هذا الرمز إلى القرن السادس ميلادي، وعند "الطاوية" وهي الديانة الثانية في الصين، فإن تاريخ شعارهم يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، وهذا الشعار عبارة عن دائرة تنقسم بين البياض والسواد، ويتخلل كلا من القسمين دائرة سوداء في القسم الأبيض، وبيضاء في القسم الأسود، يطلق عليها اسم "ينغ - يانغ" وهي ترمز إلى عالمي الخير والشر مع وجود النقيض في داخل كل منهما.

أختام مجان ودلمون

ومن الرموز الدينية أو شبه الدينية ننتقل إلى العلامات التجارية، وهذه بدورها تغور عميقا في تاريخ البشرية، ففي كتاب "عمان وتاريخها البحري" مثلا، تظهر مجموعات من الأختام التي كان يستخدمها تجار دلمون "البحرين" ومجان "عمان" أثناء الفترة "2500 - 1800" قبل الميلاد، وهي أختام ذات طراز متميز فهي ذات ظهور عالية مقببة، والقبة تقسمها ثلاثة خطوط متوازية، وفيها ثقب لتعليقها حول العنق أو الرسغ، وعلى وجه الختم الذي يترك طابعا "موجبا" حين يطبع على الفخار، مجموعة واسعة من العلامات المحفورة كل واحدة منها متميزة عن الأخرى، وتدل بذلك على مالك واحد بعينه ترسل إليه السلع التي طبع عليها الخاتم. أما على الصعيد الزراعي فإن العلامات التجارية "أو علامة الملكية" تعود إلى 4 آلاف سنة قبل الميلاد، حيث كان الكهنة لدى الفراعنة المصريين يختمون قطعان الثيران العائدة للمعبدبختم الآلهة، عبر وسمها بالحديد المحمى، تمييزا لها عن سواها، وقد استعاد هذا الوسم التجاري مجده في الغرب الأمريكي في القرن السادس عشر حيث ازدهرت العلامات التجارية الخاصة بأصحاب القطعان والمواشي، وفي مقابل حماية أو التعريف بهذه الملكية الخاصة عبر الرموز، نشأت صناعة المسكوكات الذهبية والفضية محليا، ثم تطورت لتأخذ قيمة دولية في القرن الثالث عشر عبر استخدام "القيراط" وهو بذرة ثمرة الخروب وقد استخدم الغرب هذا الرمز العرب وحدة لقياس الذهب والمعادن الثمينة، وما زال سائدا حتى اليوم، فالذهب الصافي هو 24 قيراطا، ذلك هو العيار - الرمز فإذا خالطته معادن أخرى وتدنت نسبة الذهب بات 18 قيراطا مثلا أي 75 بالمائة ذهبا، وإذا قيل 12 قيراطا فهذا يعني أن المسكوك يحتوي على 50 بالمائة فقط من الذهب ومع الثورة الصناعية في الغرب بات لكل شركة أو مصنع علامته التجارية الخاصة "اللوغو" أو الرمز، وكثيرا ما يلجأ أصحاب الصناعات الحديثة إلى اختيار اللوغو من التاريخ والتراث، ففي صناعة السيارات مثلا اختارت شركة "ألفاروميو" الإيطالية شعارا يتضمن صليبا يرمز كما يقول أصحاب الشركة إلى الحملة الصليبية الأولى 1095 - 1099. كما يتضمن تنينا خرافيا كان يعيش في مدينة ميلانو في القرن الخامس، حيث مقر الشركة، وقتل على يد أسرة فيسكونتي الميلانية، أما شركة كاديلاك الأمريكية فقد اقتبست اسمها وشعارها من الرحالة الفرنسي "انطوان دي لاموث كاديلاك"، الذي أنشأ في العام 1701 بلدة "فيل دي اترويت" وتحولت فيما بعد إلى "ديترويت" عاصمة صناعة السيارات في العالم، أما الشعار فهو يرمز إلى الرايات الحربية التي استخدمتها أسرة كاديلاك خلال حروبها، وفي اليابان فإن شركة "سوبارو" اختارت اسمها وشعارها من أسطورة الإله الإغريقي أطلس "سوبارو باليابانية تعني أطلس" وقد تحولت بناته إلى نجوم، لذا فإن شعارها يتضمن خمس نجوم لامعة، ومثلها مرسيدس بنز في ألمانيا التي اختارت النجمة المثلثة شعارا لها، وهذه النجمة ترمز في الأساطير إلى الانتصار والتفوق على ثلاث جبهات: البر والبحر والجو. أما شركة فولفو السويدية فيتضمن شعارها دائرتين وسهما وهو رمز الذكورة "!" أو رمز الإله مارس "إله الحرب" لدى اليونان.

ولعل هذه الصحوة العصرية لتوظيف رموز الماضي في صناعة المستقبل تبين الفرق بين القوى التي تصنع التاريخ والقوى الأخرى التي تقع أسيرة له.

 

شوقي رافع