إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

أُمراءُ الشعرِ وبكواتُه

سألت الدكتور جابر عصفور مرة عن رأيه بالحفلات التي أقيمت، وبالدعوات التي انطلقت في العالم العربي على مدار القرن الماضي لمبايعة عدد من الشعراء العرب بإمارة الشعر. طبعًا لا يشك أحد في أن حفل مبايعة أحمد شوقي بهذه الإمارة عام 1927 كان حفلاً متميزًا خاليًا من التعسف. فشوقي كان فعلاً أمير شعراء زمانه، وإلى حفل مبايعته تقاطر شعراء كبار، مصريون وعرب، اعترفوا بعبقريته وبكونه متقدمًا عليهم. وكان منهم حافظ إبراهيم الذي اعتلى المنبر يومها وأنشد بلسانه وبلسانهم:

أميرُ القوافي قد أتيتُ مبايعًا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

ولكن ماذا عن احتفالات أخرى للمبايعة بإمارة الشعر، ولو أقل شأنا، جرت بعد ذلك، ومنها حفل أقيم في حديقة الأزبكية بالقاهرة لمبايعة عباس محمود العقاد، وكان من خطبائه الدكتور طه حسين الذي دعا الشعراء يومها «لوضع علم الشعر بيد العقاد»، ثم أنكر بعد ذلك أنه بايعه وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس شاعرًا ليبايع.. وماذا عن حفل آخر أقيم في بيروت بويع فيه الأخطل الصغير بهذه الإمارة، وحفل ثالث كاد ينعقد لمبايعة أمين نخلة ثم ألغي بسبب ظروف أمنية طارئة. وماذا عن دعوة الدكتور لويس عوض لمبايعة صلاح عبدالصبور على أساس أنه «أمير شعراء زمانه» - بحسب تعبير لويس عوض؟

كان رأي الدكتور جابر عصفور صريحًا وصحيحًا وطريفًا معًا، فقد قال إن شوقي كان، بلا جدال قمة الشعر العربي في زمانه وعلى امتداد القرن العشرين. إنه أمير الشعراء، أو أمير الشعر كما كان يحلو له أن يقول عن نفسه. وإذا قيل في مجلس «أمير الشعراء»، ولم يُسمِّ القائل، انصرف الذهن إلى شوقي. أما الآخرون ممن سمّينا أو يمكن أن نُسَمّي، فمجرد «بكوات» لا أكثر ولا أقلّ!

وأعجبتني فكرة «الأمير» و«البكوات» في الشعر، لا بسبب ولعنا نحن العرب بأفعل التفضيل، ومنها العبارة المأثورة في القديم: «فلان أشعر العرب»، وشقيقتها في الحديث: «الزعيم الأوحد»، أو «من الأزل إلى الأبد»، بل لإصابتها كبد الحقيقة، كما يقولون. فشوقي كان - بلا شك - أرفع مقامًا شعريًا من أقرانه الشعراء في عصره، وظل متميزًا بعد ذلك لا ينافسه في الوجدان العربي منافس جدّي حتى نهاية القرن، أو حتى يومنا هذا بالرغم من صعود شعراء جيدين كثيرين وتيارات شعرية. ولكن هؤلاء الشعراء الآخرين لا يرقون إلى مرتبة هذا الأمير الذي نسب مواهبه في القصيدة التي ألقاها في حفل المبايعة لا إلى كفاءته، بل إلى الله وحده سبحانه وتعالى.

كانت هذه نظرة أو نظرية الدكتور جابر عصفور التي يمكن تطبيقها على شعراء القديم أيضًا. ثمة لوحة شعرية عظيمة ورائعة تمتد من العصر الجاهلي وتشمل الأموي والعباسي وما يُصطلح على تسميته بعصر الانحطاط. هناك شعراء كبار في هذه اللوحة يكنّ العربي لهم كل حب ويفتح قلبه لمأثوراتهم ويفنى الزمان ولا تفنى هذه المأثورات، ولكن هناك شاعرًا واحدًا متميزًا من بينهم ملأ الدنيا في زمانه وشغل الناس ومازال يملؤها ويشغلهم إلى اليوم هو أبوالطيب المتنبي. وكأنه كان للشعر العربي القديم أمير واحد، وللشعر العربي المعاصر أمير واحد، أما البقية فهم «بكوات». لا تعني البكوية هنا غضّا من شأنهم، فهي رتبة محترمة وإن كان إطلاقها أو استخدامها في وقتنا الراهن سهلاً وهيّنًا.. ولكن لعلّ استخدامها هنا في مجال تصنيف الشعراء يقع في باب وضع الشيء في محله، بلا افتئات أو مجاملة. لقد «رُتّبت في الطبيعة الرتبُ» كما يقول ابن باجة الأندلسي، وهذا يعني أن الشاعرية في أعلى تجلياتها ليست مجرد إتقان لصناعة، أو مرانا وخبرة وتجربة فقط لا غير، بل نتاج ذاتٍ مختلفة مثقلة بالمواهب والبركات غير المنظورة، وهذه توهب ولا تُكتسب!.

 

جهاد فاضل