الأمم المتحدة هل تستطيع حماية حقوق الإنسان

   هل تستطيع الشعوب الاعتماد فعلا على الأمم المتحدة لحمايتها من تعسف دولها واختراقها للحقوق والحريات الأساسية؟ وإذا كانت هي الهيئة التشريعية الرئيسية والمحددة للقانون الدول لحقوق الإنسان المتنامية بسرعة، فهل تعد هي أيضا إطارا رئيسيا لتنفيذ هذه الحقوق وحمايتها ضد الدول التي تنتهكها؟.

ماذا يفعل الإنسان الفرد عندما تكون الجهة التي ينتظر منها الوفاء بحقوقه هي التي تسلبه هذه الحقوق وتنتهكها، فتقوم بتعذيبه أو حبسه تعسفيا، أو التمييز ضده، لأسباب تتصل بلونه أو دينه وطائفته أو الجهة الجغرافية التي يعيش فيها؟ من الطبيعي أن يسعى هذا الإنسان الفرد إذا كان مسالما لمخاطبة جهة ما أعلى من دولته بشأن شكواه، والكثير من الناس ينظرون إلى الأمم المتحدة باعتبارها تلك الجهة الأعلى، وهذه النظرة صحيحة نظريا فيما يتصل بقضايا حقوق الإنسان، فقد تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان إلى الدرجة التي جعلته يخاطب أي إنسان في العالم دون وساطة دولته بالضرورة، وإلى الدرجة التي جعلته يرفض احتكار الدولة للولاية التشريعية والقضائية للدولة على السكان الذين يخضعون لسلطتها، فيما يتعلق بطائفة من الحقوق الأساسية والحريات العامة اللصيقة بالإنسان باعتباره كذلك، ودون أي تمييز غير شخصي، وبتعبير آخر فالدولة المعاصرة لا تستطيع الاحتجاج بمبدأ السيادة لتبرير التصرف على نحو يخالف القانون الدولي الإنساني، أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، حتى لو لم تكن عضوا في المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، فهل تستطيع الأمم المتحدة القيام بهذا الدور؟

شواهد الإثبات

هناك في هذا الشأن وجهتا نظر متباينتان..

وجهة النظر الأولى التي سنعرض لها هنا بقدر من الاستفاضة تجيب بالإثبات عن هذا التساؤل، هذه الإجابة المتفائلة لها شعبية كبيرة بين العاملين في أوساط الأمم المتحدة نفسها، وبين الدبلوماسيين الدوليين، ولكنها محرومة من هذه الشعبية بين المناضلين من أجل حقوق الإنسان في المنظمات غير الحكومية الوطنية والعالمية.

وهناك تطور واضح في مجال حماية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في المجالات المفاهيمية والقانونية والمؤسسية، على النحو التالي:

أولا: في المجال الفكري أو المفاهيمي:

تحقق في المجال الفكري والمفاهيمي تقدم مثير، بل ومذهل فيما يخص الحماية الدولية لحقوق الإنسان منذ عام 1948 عندما صدر الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بالمقارنة بأية فترة أخرى من تاريخ البشرية، فقد صار مفهوم "الإنسان" مجردا من أي تمييز غير شخصي مثل اللون والجنس والعنصر والدين والجهة الجغرافية والتخلف والتقدم والمهنة أو الوضع الاجتماعي، وبالتالي صارت الحماية المنوط بها الإنسان غير مشروطة بأي اعتبار تمييزي، وفي نفس الوقت تقريبا صار الإنسان الفرد شخصا في القانون الدولي: فالقانون الدولي يخاطبه مباشرة ويتوقع منه أفعالا معينة، بل إن التجديدات التي لحقت بآليات الحماية تضع الفرد على قدم المساواة مع الدولة من حيث عمليات التحقيق والتقاضي، وارتبطت بذلك أيضا فكرة العالمية وضرورة بل وحتمية التعاون الدولي لحماية حقوق الإنسان، وترتب على ذلك الاعتراف بأسبقية وأولوية حماية الإنسان الفرد في مجال حقوق معينة على مبدأ السيادة القومية وعلى الالتزام باحترام مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، فمبدأ الحماية يلزم المنظمة الدولية بانتهاج قاعدة "التدخل الإنساني" كحق ملاصق لحقوق الإنسان، حيث إن فرض احترام حقوق الإنسان هو جزء من هذه الحقوق، وليس مجرد آلية عملية لتنفيذ وتطبيق والوفاء بهذه الحقوق.

غير أن هذا التقدم المتلاحق في المفاهيم والأسس الفكرية لحقوق الإنسان لم يقترب حتى الآن بدرجة كافية من فرض احترام الدول والأشخاص الطبيعيين والاعتباريين للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وخاصة حرياته وحقوقه المدنية والسياسية، ولم يقترب حتى الآن من حتمية استعمال الآليات القضائية والتنفيذية وآليات الردع والعقوبة لفرض هذا الاحترام، ومع ذلك فإن الجهات المعنية في الأمم المتحدة تعي هذه الضرورة، وتسعى للتقدم حثيثا وبحذر في الوقت نفسه من هذا المجال المهم للتشريع الدولي.

ثانيا: في المجال القانوني:

تحققت أعظم إنجازات الأمم المتحدة في هذا المجال لحقوق الإنسان، فبالمقارنة مع كل السوابق التاريخية مثل الإعلان الأمريكي للاستقلال عام 1776 والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان عام 1781 ودستور جمهورية فيمار بألمانيا عام 1919، ازدهرت شجرة كاملة من تشريعات حقوق الإنسان على أساس من مبدأ العالمية والتعاون الدولي، في قلب هذه الشجرة تنهض الشرعية الدولية لحقوق الإنسان والتي تتألف من أربعة تشريعات دولية وهي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والعهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والبروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والأخير يفتح الباب لأول مرة في التاريخ لحق الأفراد في الشكوى بحق دولهم من الانتهاكات الواقعة على حقوقهم، وتفرع عن هذه الشرعية الدولية أكثر من خمسين "50" نصا قانونيا دوليا منها 18 معاهدة وبروتوكولا مفتوحا لتصديق الدول، وستة وثلاثون إعلانا وقرارا وتقنينا للسلوك Code of Condut ومعاير دنيا للسلوك عن الأمم المتحدة.

وإضافة لهذا الجانب المتصل بالتشريع الدولي فإن نتائجه وانعكاساته الداخلية كانت باهرة حقا، إذ أشارت دساتير أكثر من 25 دولة صراحة إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وعدل أضعاف هذا الرقم دساتيره لكي تتواءم مع الشرعية الدولية، وتشير مصادر الأمم المتحدة إلى أن 83% من دساتير الدول تشير بنفس الصياغات تقريبا أو صياغات مشابهة لتلك المستخدمة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخاصة فيما يتصل بالحريات العامة وبأمن الأشخاص وضرورات العدالة كحق، وإلى حق المساواة بغض النظر عن الدين والعنصر والجنس والأقليات، كما أن 38% من هذه الدساتير تشير أيضا لمجموعة الحقوق السبع الاقتصادية والاجتماعية وهي إلغاء العمل الإجباري، وعمل الأطفال وحق التجمع والحق في الطعام والصحة والتعليم والعمل.

ثالثا: في المجال المؤسسي والتنظيمي:

شهد هذا المجال أيضا تطورا مؤثرا، بل وانفجارا حقيقيا، للآليات الخاصة بحماية حقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة، وتشمل الآليات المؤسسية لجنة حقوق الإنسان اللجنة العامة "المنشأة عام 1946"، ولجنة أوضاع المرأة "عام 1946"، واللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات "المنشأة عام 1947"، وجاءت موجة ثانية من الآليات المؤسسية تشمل لجنة إزالة التمييز العنصري "المنشأة عام 1975" ولجنة حقوق الإنسان "المنشأة عام 1977"، ولجنة إزالة التمييز ضد المرأة "المنشأة عام 1982"، ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية "المنشأة عام 1985"، ولجنة مناهضة التعذيب "المنشأة عام 1988"، ولجنة حقوق الطفل "المنشأة عام 1991".

كما توسعت الأمم المتحدة في تعيين مقرر خاص لوضع تقارير تخص مجالات مختلفة للحقوق، وأنشأت المنظمات النوعية المرتبطة بالأمم المتحدة آليات مؤسسية إضافية، فهناك ثلاث هيئات تراقب حقوق الإنسان داخل منظمة العمل الدولية، إضافة إلى لجنة في منظمة اليونسكو لمراقبة الالتزام بمنع التمييز في مجال التعليم، وهيئات مماثلة في منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية ومنظمة اليونيسيف.

غير أن أبرز التطورات المؤسسية على الإطلاق جاء في نطاق المنظمات غير الحكومية على الأصعدة الدولية والوطنية، التي صارت الأداة الرئيسية للنضال من أجل حقوق الإنسان والمصدر الرئيسي للتجديد الفكري والرقابة والتسجيل والتوثيق والمعلومات والنضال بأشكال متنوعة لغرض وقف الانتهاكات وتعزيز احترام حقوق الإنسان، وحاولت الأمم المتحدة من جانبها التأقلم مع وإضفاء الشرعية على وتقوية هذه المنظمات من خلال إشراكها عبر صيغة الوضع الاستشاري الممنوح للمنظمات الدولية غير الحكومية في إطار المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

شواهد النفي

وجهة النظر الأخرى تميز بوضوح بين دور الأمم المتحدة في تقنين حقوق الإنسان من ناحية، ودورها في ضمان وحماية هذه الحقوق من ناحية أخرى، وجهة النظر النقدية هذه تثمن عاليا الدور الأول، ولكنها تتحفظ بشدة على فعالية الدور الثاني، وتؤكد أن دور الأمم المتحدة في مجال ردع انتهاكات الدول لحقوق الإنسان وحماية هذه الحقوق هو دور سطحي ومقيد وبالتالي محدود في نهاية المطاف.

وهناك أسباب كثيرة لهذا التقييم، سوف نقتطف منها ما يلي:

أولا: الاختلال بين مستويات التقدم في الوفاء بحقوق الإنسان:

يظهر هذا الاختلال في الفارق الكبير بين مستوى التطور المحقق في المسار الخاص بالتقنين والتشريع من ناحية والمستوى المحدود للتطور في المسار الخاص بالحماية وضمانات التنفيذ من ناحية أخرى، وبالارتباط مع هذا الاختلال يلاحظ أيضا عدم توازن واضح بين الأبعاد الإجرائية المختلفة للحماية، وهذه الأبعاد هي الرقابة والردع والعقوبات الجماعية على الدول أو الأطراف التي تمارس الانتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان، فالأمم المتحدة تمارس دورا رقابيا لا بأس به من خلال الدراسات والتوثيق والتسجيل والتقارير، ولكن لا يكاد يكون هناك دور للأمم المتحدة في مجال ردع الانتهاكات الجسيمة المحتملة حيث لا تتوافر آلية للإنذار المبكر بهذه الانتهاكات حيثما تقع، كما أن الدول ذات الميراث الممتد للانتهاكات تتواطأ معا في اللجان الأساسية بحيث تقيد إمكانات الأمم المتحدة في الردع، وباستثناء حالات محدودة لفرض العقوبات المنصوص عليها في الميثاق على الدول التي تمارس انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فإن آلية العقوبات نادرا ما تستخدم إلا لأسباب سياسية، وحيثما تتوافر للدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن أسباب ومصالح كافية لاتخاذ قرار فرض العقوبات، وبالتالي فإن استخدام آلية العقوبات يتسم بقدر واضح من عدم الاستقامة والانسجام، ففرضت العقوبات الجماعية على جمهورية جنوب إفريقيا لإصرارها على التمسك بنظام العزل العنصري والتمييز ضد الأفارقة من السكان الأصلين، على حين لم تستخدم قط آلية العقوبات ضد إسرائيل بسبب انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.

والواقع أن النظرية الأساسية والسائدة في أوساط المناضلين من أجل حقوق الإنسان في المنظمات غير الحكومية هي أن الأمم المتحدة هي في نهاية المطاف منظمة للحكومات ومحكمها بالتالي الاعتبارات السياسية وليس اعتبارات العدل والقانون، وانطلاقا من هذا التشخيص لا يتوقع أن تقوم هذه المنظمة بدورها كاملا في مواجهة حكومات كثيرة تملك مزايا العضوية وتقوم على انتهاك حقوق مواطنيها وخرق التزاماتها تجاه القانون الدولي لحقوق الإنسان.

وحتى المصادر القريبة من السكرتارية العامة للأمم المتحدة تؤكد أن نحو 40% من الدول الأعضاء في المنظمة تمارس انتهاكات اعتيادية وجسيمة لحقوق الإنسان، دون أن يؤثر ذلك على مزايا عضويتها في المنظمة أو حتى يزيل أهليتها لعضوية لجنة حقوق الإنسان أو اللجنة الفرعية واللجان النوعية الأخرى.

ثانيا: استمرار الغموض حول الإلزامية والسيادة:

لقد حدث بالفعل تقدم هائل في المجال الفكري والمفاهيمي، وخاصة في مجال تأكيد عالمية الحقوق، والتعاون الدولي اللازم لتطبيقها والوفاء بها، ولكن هذا التقدم لا يزال معوقا بسبب استمرار الغموض حول إلزامية القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبالتحديد حتمية توفيق القانون الداخلي مع القانون الدولي، ويبرر عدد كبير من دول العالم الثالث خاصة في آسيا رفضه للوفاء بالحقوق بالقول بالخصوصية، أو أولوية حقوق على حقوق، وذلك بالرغم من تأكيد الجمعية العامة مرات عديدة في قراراتها على أن الخصوصية الثقافية والحضارية لا تنفي العالمية، وأن حقوق الإنسان مترابطة ومعتمدة على بعضها البعض بما لا يجيز انتهاك بعضها من أجل الوفاء بالبعض الآخر، كما لا يزال عدد كبير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة يرفض حق المنظمة الدولية في التدخل لحماية حقوق الإنسان بالقول بأنه ليس للتدخل الإنساني أساس في الميثاق الذي تمت صياغته على أساس من قاعدة السيادة.

ورغم أن المنظمة الدولية قد عكفت على إنكار شرعية هذه التفسيرات إلا أن هناك مجالا للغموض في إنشاء المسئولية المباشرة للمنظمة والمجتمع الدولي عن حماية حقوق الإنسان فيما كان يعد الولاية القضائية والتشريعية الصرفة للدول، كما أنه لا يزال هناك مجال للغموض في القانون الدولي بصدد الالتزام القانوني والمادي للدول بالوفاء بتعهداتها الدولية، وعلى وجه الخصوص ما زالت هناك فجوة بين الالتزام القانوني الدولي - في مجال حقوق الإنسان بين مجالات أخرى - من ناحية والقانون المحلي لعشرات من الدول من ناحية أخرى، ولا تجد هذه الدول ضرورة لتعديل قانونها الداخلي بما يتماشى مع التزامها القانوني الدولي في مجال هذه الحقوق.

والأمر المهم في ذلك كله هو أن الأمم المتحدة لم تطلب من الدول المصدقة على المعاهدات والعهود الدولية لحقوق الإنسان أن تثبت قيامها بتوفيق قوانينها الداخلية مع التزاماتها وفقا لهذه العهود والمعاهدات، ولم تنشئ آلية لمتابعة هذا التوفيق أو فرض العقوبات على الدول التي تخالف هذه الالتزامات مخالفة صريحة أو جسيمة، وهكذا يستمر الغموض الكامن في صياغة المعاهدات والمواثيق والإعلانات الدولية بصدد إلزاميتها في القانون الداخلي للدول التي صدقت عليها.

ثالثا: الطابع الاختياري للتقنينات الدولية:

ولا شك ان أحد القيود المهمة على تطور الحماية الدولية لحقوق الإنسان هو التكييف القانوني والفلسفي الشائع للتشريعات الدولية، فالالتزام بالتشريعات الدولية يبدو وفقا لهذا التكييف وكأنه مرتبط بتصديق الدول على المعاهدات الدولية والبروتوكولات "الاختيارية".

وبذلك تترك الحرية للدول في التصديق من عدمه فإذا لم تصدق الدولة على تشريع دولي ما فإنها تعفي نفسها من الالتزام به، أو بمضمون ما ينص عليه من حقوق، والواقع أن الأساس الفلسفي للالتزام كان يجب أن يقوم على فكرة أن التشريع الدولي هو كاشف للحق وليس منشئا له، وبتعبير آخر فهذه الحقوق غير قابلة للتصرف وهي لصيقة بالوجود الإنساني، والتشريع لا يفعل سوى الاعتراف بالحقوق وتعريفها بدقة وتقنين آليات الوفاء بها، وبهذا المعنى فقد كان ينبغي أن تحدد طائفة من الحقوق الجوهرية للوجود الإنساني الحر والتي ليست قابلة للتصرف أو الإنكار، وبحيث لا يسمح لأي دولة - حتى لو لم تصدق على المعاهدات والعهود الخاصة بها - إنكارها أو انتهاكها بأية صورة من الصور.

وبسبب هذا الطابع الاختياري فهناك عدد كبير من الدول التي ما زالت ترفض التصديق على عهود دولية جوهرية للوجود الإنساني الحر، فلم يقبل التصديق على العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نحو ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالرغم من مرور 27 عاما على وضعهما، و17 عاما على بدء نفاذهما، وبعض الدول الأعضاء الأخرى صدقت على أحد العهدين دون الآخر، وحتى الدول التي صدقت على العهدين معا وعلى التشريعات الأخرى الخاصة بحقوق الإنسان أفرطت في التحفظ على مواد مهمة في هذه التشريعات لكي تعفي نفسها من الالتزام بهذه المواد أو الحقوق.

رابعا: نقص الفعالية المؤسسية:

فعلى المستوى المؤسسي هناك بالفعل تكاثر واضح في الهيئات المكلفة بالرقابة والتحري والتوثيق لانتهاكات حقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية النوعية، غير أن هناك قيودا كثيرة تحد من فعالية هذه المؤسسات فيما يتعلق بردع الانتهاكات الجسيمة لحقوق لإنسان وترتيب عقوبات دولية حقيقية ضد مرتكبيها، يكفينا لأغراض هذه الدراسة السريعة أن نذكر فئتين فقط من هذه القيود.

الفئة الأولى والأقل أهمية هي الصعوبات البيروقراطية ومنها طول الإجراءات المتبعة في اللجان السبع المكلفة بمتابعة انتهاكات حقوق الإنسان وتأخر تقديم التقارير وتعقد عملية الرقابة والقيود على الاتصالات الفورية اللازمة للتحقيق والإنذار المبكر بالانتهاكات.. وغير ذلك.

أما الفئة الثانية وهي الأكثر أهمية فتتصل بمتانة تكامل الوسائل القانونية والمرجعية القانونية - السياسية لعمل هذه اللجان، فعدم وجود قانون جنائي ومحكمة جنائية دولية لحقوق الإنسان يعني أن يظل أداء الأمم المتحدة في مجال الوفاء بالحقوق وردع ومعاقبة منتهكيها أداء نظريا ومعنويا صرفا، بل انه قد صار من الملح والضروري وضع النقاط على الحروف فيما يتصل بالطبيعة الإلزامية والعالمية للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وإيجاد آليات قضائية وتنفيذية حقيقية وكاملة، فوفقا للبروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يحق للأشخاص التقدم بشكوى أمام اللجنة المشكلة لهذا الغرض بحق دولهم وفيما يتعلق بانتهاكها لحقوقهم، وتقوم اللجنة بالتحقق من صحة الشكوى ومطالبة الدول بدفع الانتهاك، غير أن العملية بالرغم من اشتمالها على جانب قضائي وهو التحقيق تفتقر إلى بقية جوانب العملية القضائية وخاصة إصدار حكم ملزم، وتبدو عملية التحقيق أقرب إلى المدخل الدبلوماسي والتفاوضي أكثر منه إلى المنهج القضائي، ويصدق ذلك بصورة أكبر على آلية الشكاوى الفردية التي أنشأها القرار 1053 للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة، إذ تتلقى سكرتارية لجنة حقوق الإنسان نحو 120 ألف شكوى في المتوسط سنويا، ولكن معالجة اللجنة لهذه الشكاوى لا تزيد كثيرا على مجرد جمع المعلومات اللازمة لتقديم تقارير.

لقد قللت هذه الصعوبات كلها من مدى فعالية الأمم المتحدة في حماية حقوق الإنسان، كما يبدو أن ما يتوافر من حماية لا يتسم بالانسجام والاستقامة والشمول لجميع الحالات دون تمييز لأسباب سياسية.

تطوير نظام الحماية الدولية

ولكن هل معنى تلك الشواهد السلبية كلها فيما يتعلق بتقدير دور الأمم المتحدة والقانون الدولي لحقوق الإنسان في ترتيب الحماية الواجبة لهذه الحقوق أن هذا الدور منعدم أو ضئيل؟ وهل تبرر النظرة النقدية لدور الأمم المتحدة الاتجاه المتشكك والساخر الذي ينصرف عمليا إلى الدعوة لإهمال هذا الدور أصلا أو الانصراف عن تطويره؟ الواقع أن هناك اتجاها بهذا المعنى في الصحافة الشعبية في كل مكان، وخاصة في بلادنا العربية.

أما البحث المدقق فإنه غالبا ما يصل إلى تقدير متوازن ورؤية نفاذة تدعونا لمزيد من النضال من أجل تطوير دور الأمم المتحدة في حماية حقوق الإنسان.

وبأي مقياس، فقد لعبت الأمم المتحدة والقانون الدولي لحقوق الإنسان دورا بارزا ولا يستهان به في الوفاء بجانب مهم من حقوق الإنسان ومن المؤسف أن الأجيال الحالية التي لم تشهد مدى جسامة الانتهاكات السائدة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتمكن من تقدير ما تم تحقيقه من حقوق بما يكفي من توازن وموضوعية، يكفينا في هذا الصدد الإشارة إلى حقيقة أنه بفضل الوعي الجديد الذي أنشأه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وبقية التجديدات الكبرى في القانون الدولي لحقوق الإنسان، صار من الممكن أن تحصل 87 أمة على استقلالها السياسي، وحقها في تقرير المصير في فترة قصيرة على نحو قياسي امتدت بين عامي 1957 و 1980.

ويمكننا كذلك أن نشير إلى انخفاض ملحوظ في عدد الحروب الدولية والخسائر الإنسانية التي تسببت عنها، فقد انخفض عدد الحروب الدولية من 38 في الفترة 1900- 1949 إلى 25 فقط في الفترة 49 - 1989، وانخفض عدد ضحايا الحروب بنسبة 95% في نفس الفترة. ولا تتوافر مؤشرات رقمية أخرى عن ظواهر مثل شيوع التعذيب والاعتقال التعسفي والاختفاء الإجباري، والنفي الممتد والإعدامات والاغتيالات والعقوبات الجماعية وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وفيما يتعلق بالحماية الدولية لحقوق الإنسان فإنها قد صارت إحدى الحقائق التجديدية الكبرى في عصرنا، فلم يكن أحد يستطيع من قبل مجرد الاحتجاج على قيام دولة بمعاقبة أو اعتقال أو تعذيب مواطنيها، وقد صار ذلك أمرا شائعا إلى الدرجة التي تجعل حتى الدول التي تمعن في انتهاك حقوق مواطنيها مضطرة لأخذ الرأي العام العالمي قيد الاعتبار.

غير أن من الضروري أيضا أن نشير إلى أن الحماية الدولية لحقوق الإنسان لم تتقدم بعد إلى الدرجة التي نستطيع معها أن نتوقع بثقة إمكان ردع الانتهاكات الجسيمة أو وقفها، بل وهناك حالات من الانتهاكات الجسيمة التي نشهدها أمام أعيننا دون أن نستطيع حراكا حيالها، مثل جريمة الإبادة الجماعية للسكان المسلمين في البوسنة والهرسك وغيرها من المناطق، ومع ذلك فإن الموقف السليم من هذا الأمر ليس أن نصرف أنفسنا عن مهمة متابعة تطور الحماية الدولية لحقوق الإنسان بل إنه يتقوم تحديدا في استمرار النضال من أجل متابعة التطوير وتعميقه وتوسيعه إلى أقصى حد ممكن عمليا.

وربما يكون ضارا أن نتعلق أكثر من اللازم بالآمال - أو الأوهام - التي تدعونا لتوقع النجاح الفوري، فالنضال من أجل وضع أسس متينة للحماية الدولية، والحماية على جميع الأصعدة لحقوق الإنسان هو نضال طويل وشاق، وقد يتعرض لنكسات مؤلمة، وهذا هو مثلا الواقع الذي أسفر عنه مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان الذي سنحكي قصته في مقال مقبل.

 

محمد السيد سعيد