هجرة اليهود السوفييت بين الأيديولوجية والتطبيق

هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل هي المرحلة الرابعة في توالي هجرات يهود العالم إلى فلسطين المحتلة. ولكنها أخطر هذه المراحل لأنها سوف تحدث نقطة تحول في التركيب السكاني والاجتماعي لإسرائيل وتدفعها نحو مزيد من التوسع.

تبنت ثورة البلاشفة سنة 1917 فكرة العالمية، وذلك تماشيا مع مبادئ ماركس التي تظهر في ندائه إلى عمال العالم بأن يتحدوا ضد الرأسمالية العالمية، ومن ثم فقد كان توجه ثورة 1917 إلى إدانة الفكر القومي الذي ترسخ في أوربا خلال القرن التاسع عشر، كما أن البلاشفة لم يقروا الانتماء الديني كأساس لتركيب الجماعات، وترتب على هذا المبدأ إسقاط امتيازات الكنيسة الأرثوذكسية.

وقد كان من باب أولى أن ينسحب نفس الموقف على الحركة الصهيونية، وبالفعل أدان البلاشفة الصهيونية ووصفوها بأنها حركة بورجوازية، ولذلك حظرت نشاط الأحزاب الصهيونية وإن كان ذلك يدخل في إطار الحظر العام للتعددية الحزبية في الاتحاد السوفييتي، وقد أدان السوفييت في نفس الوقت الحركات اللاسامية أي المعادية لليهود، وكانت هذه الحركات لا تزال قوية في أوربا الشرقية على خلاف غرب أوربا حيث أخذ التسامح الديني ينتشر بفعل تأثير الثورة الفرنسية، وقد نتج عن ذلك تمتع اليهود بحرية كاملة في النشاط الاقتصادي كما أتيح لهم الوصول إلى أعلى المناصب السياسية.

ومن المفارقات أن تنشأ فكرة الوطن القومي اليهودي في دول أوربا الوسطى بين يهود ألمانيا والنمسا حيث امتدت آثار هذا التسامح، ومن المعروف أن الحركة الصهيونية تحسب كأحد التيارات القومية الجديدة وهي تتناقض مع فكر الحركة الشيوعية التي لم تصفها فقط بأنها بورجوازية، بل اعتبرتها أيضا اتجاها رجعيا معاديا للثورة. على أن وجود عدد كبير من اليهود بين صفوف القائمين بثورة 1917 بما في ذلك شخصيات قيادية مثل تروتسكي أدى إلى نوع من التناقض ما بين النظرية والتطبيق، ويمكن القول إن التحاق اليهود بثورة 1917 كان بمثابة رد فعل على ما تعرضوا له من الاضطهاد في ظل الحكم القيصري، ولا سيما في عهد الاتحاد الروسي، وهو حزب رجعي اعتمد عليه القيصر نيقولا الثاني للثأر من العناصر التحررية التي اشتركت في ثورة 1905، وقد عرف حزب الاتحاد الروسي باضطهاده للأجناس غير الروسية التي عاشت في ظل الإمبراطورية القيصرية.

وقد وجد اليهود في الفكرة العالمية التي تبناها الشيوعيون بعض أوجه الشبه مع دعوتهم الصهيونية التي لها أيضا سمة عالمية بشكل مختلف، فهي تدعو إلى تجمع اليهود من شتى أنحاء العالم رغم اختلاف ثقافاتهم وتباعد أوضاعهم الاجتماعية، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت بعض المحللين السياسيين يبالغون في تأثير "اليهودية العالمية" على ثورة البلاشفة حتى قيل إن بريطانيا أصدرت تصريح بلفور في 2 نوفمبر سنة 1917 إثر نجاح ثورة البلاشفة لتثني هؤلاء عن فكرة الصلح المنفرد مع دول الوسط وتحافظ على مبدأ التحالف المعقود بين روسيا والحلفاء، معنى ذلك أته كان من بين أهداف تصريح بلفور استرضاء البلاشفة المتأثرين بنزعة اليهود إلى إنشاء الوطن القومي.

حل التناقض

ولكي نحل هذا التناقض علينا أن نتابع التطبيق العملي الذي اتبعه النظام السوفييتي إزاء تعدد الجنسيات التي شكلت الاتحاد، فمن المعروف أن الشيوعيين اهتموا بالمحافظة على الثقافة القومية لكل جنسية من الجنسيات التي تزيد على مائة داخل الاتحاد السوفييتي، وإذا كان الحكم الذاتي الذي تمتعت به الجمهوريات طبقا لتعدد الجنسيات لم يكن له أي أثر سياسي من حيث حرية الجمهورية في التخطيط الاقتصادي، فقد سمح بحرية إحياء التراث الوطني، وكان من الصعب تطبيق مبدأ الحكم الذاتي أو الحرية الثقافية لليهود باعتبارهم إحدى الأقليات في الاتحاد السوفييتي، وذلك لأسباب مختلفة، منها أن اليهود متفرقون في مختلف أجزاء الاتحاد السوفييتي، ومنها أنهم اصطنعوا لغات المناطق التي يعيشون بها، إذ إن اللغة الدارجة التي كانوا يستخدمونها في القرن التاسع عشر والتي تعرف بلغة الييدش، أخذت تندثر في القرن العشرين.

مراحل الهجرة اليهودية

يمكن تقسيم الهجرة اليهودية نحو فلسطين إلى أربع مراحل بصفة عامة، تبدأ المرحلة الأولى مع نهاية القرن التاسع عشر وتمتد حتى وضع فلسطين تحت الانتداب، وتواكب المرحلة الثانية عهد الانتداب البريطاني ما بين 1920 وحتى قيام الدولة العبرية سنة 1948 وتشغل المرحلة الثالثة الفترة الواقعة ما بين قيام إسرائيل وحتى أوائل السبعينيات، أما المرحلة الرابعة فهي التي تبدأ من السبعينيات ومازالت ممتدة حتى الوقت الحاضر، وهي المرحلة التي تشهد الهجرة الجماعية من الاتحاد السوفييتي وتشكل خطرا لا يقل عن عهود الهجرة السابقة حيث إن معدلات عدد المهاجرين فاقت في السنوات الأخيرة كل المعدلات السابقة، وعلى أقل تقدير توازي عهد الهجرة الذهبي عند تأسيس إسرائيل خلال السنوات الأولى من 1948 - 1951 وتشكل هذه الهجرة تهديدا لمستقبل السلام بين العرب وإسرائيل، وهي من أهم القضايا المطروحة على المستوى العالمي.

وإطلاق وصف هجرة على المرحلة الأولى ينطوي على شيء من التجاوز، والأصح أن توصف العملية بأنها تسلل جماعات يهودية صغيرة إلى فلسطين بقصد الاستيطان، وبدون موافقة السلطات العثمانية الحاكمة حين ذاك في فلسطين، وقد أنشئت قبل سنة 1914 بضع مستوطنات زراعية في ظروف صعبة وكان من بين المتسللين في هذه الحقبة بعض يهود روسيا القيصرية بالإضافة إلي يهود القسم البولندي الخاضع حينذاك للإمبراطورية القيصرية.

وتعتبر الجالية اليهودية التي سكنت هذه المنطقة من أكبر الجاليات اليهودية في العالم، إذ قدرت حينذاك بما يتراوح بين مليونين ونصف وثلاثة ملايين، ويبدو أن حكم القياصرة الروس كان عامل طرد ليس لليهود فقط بل للجنسيات الأخرى الخاضعة للإمبراطورية، وللروس أنفسهم وهكذا بلغ عدد الذين غادروا البلاد منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى سنة 1914 مليونين ونصف مليون، وهم يزيدون على مجموع اليهود الذين غادروا أوربا في عهد النازية.

ولم يتجه إلى فلسطين سوى نسبة ضئيلة جدا من اليهود، بل كان مقصد الجميع في ذلك الوقت هو بلاد غرب أوربا والولايات المتحدة حيث تسود الديمقراطية ومجال الأعمال الواسع للرأسمالية.

ومن المعروف أن الانتداب البريطاني سهل الهجرة الجماعية اليهودية إلى فلسطين، إذ كان من بين أهدافه المعلنة إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، ولم يكن شهر العسل بين اليهود ونظام الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفييتي قد انتهى بعد طوال عهد الانتداب البريطاني، لذا أصبحت أقطار شرق أوربا هي المصدر الأول لتغذية الهجرة اليهودية إلى فلسطين بينما قدم يهود غرب أوربا المال والعون السياسي.

وقد يطرح بهذه المناسبة سؤال، وهو: هل كفل النظام الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفييتي مثل هذه الحرية؟ والإجابة واضحة، وهي أنه لم يكفل حرية النشاط الاقتصادي، لكنه أراد أن يجعل من نفسه نقيضا للنظام القيصري في كل شيء، ومن بين هذه النقائض محاولة دمج اليهود في المجتمع السوفييتي، وكانت بعض الإجراءات تتماشى مع هذا الهدف منها على سبيل المثال إلغاء تسجيل الانتماء الديني على البطاقة الشخصية، ومنها إتاحة الفرص لليهود مثل غيرهم للوصول إلى أعلى المناصب، وبعد قيام النازية اتحدت أهداف اليهود مع السوفييت لمناهضة هذه الحركة اللاسامية في ألمانيا، وسعى لتفينوف وزير خارجية الاتحاد السوفييتي وهو من أصل يهودي، إلى تقوية عصبة الأمم وقيام تكتل يجمع الاتحاد السوفييتي إلى بريطانيا وفرنسا لمواجهة النازية.

ومن مظاهر هذا التعاون بين النظام الشيوعي واليهودية العالمية تزعم اليهود للحركات الشيوعية في الشرق الأوسط كما حدث في فلسطين، كما أن نموذج هنري كوريل ودوره الهام في قيادة الحركة الشيوعية المصرية يعد دليلا آخر على الصلة ما بين التيارين: تيار الحركة الشيوعية العالمية والحركة اليهودية ذات الصبغة العالمية أيضا، ومن المفترض أن اليهودية العالمية تختلف عن الحركة الصهيونية ذات الطابع العنصري والتي سيطرت على يهود فلسطين، ويبدو وكأن قيادة الكومنترن المسئولة عن الثورات الاشتراكية في العالم قد أدركت خطأ الاعتماد على الأقليات اليهودية في قيادة الحركات الشيوعية بالمنطقة العربية فقررت ما سمي (بتعريب الأحزاب الشيوعية في المنطقة).

لم يحل هذا التلاقي بين اليهود والنظام الحاكم في موسكو دون غرس بذور الشك في قلب ستالين، فخلال عامي 1937 و 1938 قام بعمليات تطهير واسعة شملت بعض اليهود، وحينما لاحت نذر الحرب في الأفق فقد الثقة في لتفينوف، فعين في وزارة الخارجية شخصية روسية صميمة هو مولوتوف الذي قلب السياسة الخارجية الروسية رأسا على عقب، وعقد معاهدة عدم الاعتداء مع ألمانيا النازية.

هكذا فسرت بعمر المراجع التحول المفاجئ في السياسة الخارجية السوفييتية سنة 1939 مما يطرح سؤالا هاما وهو: هل أخفقت سياسة دمج اليهود في الاتحاد السوفييتي رغم الإجراءات التي أشرنا إليها؟

ندرة هجرة اليهود السوفييت

والحق أننا إذا تأملنا فيما يحدث الآن من توجه جماعي لليهود السوفييت إلى إسرائيل فإننا نستطيع القول بأن سياسة الدمج أخفقت، ويتحمل اليهود أنفسهم قدرا كبيرا من المسئولية عن هذا الإخفاق، لأن تضخم عقدة الانتماء للعرق الممتاز جعلت ولاء اليهود السوفييت للكرملين أمرا مشكوكا فيه.

غير أن تفكير هؤلاء اليهود في الهجرة إلى فلسطين لم يحن بعد رغم أن بريطانيا خففت القيود عن الهجرة في فترة الحرب العالمية الثانية وما تلا ذلك من وجود معسكرات للاجئين اليهود في أوربا، فإنه لم يُلحظ من بين هؤلاء اللاجئين يهود سوفييت، بل كان معظمهم من دول شرق أوربا، ومن المفارقات أن يكون دافع هؤلاء اليهود إلى مغادرة بلادهم هو الفرار من الجيش الأحمر الذي زحف على بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وغيرها فصارت الجاليات اليهودية الكبيرة هناك تخشى من تطبيق النظام الاشتراكي، يؤكد ذلك تعليق مراسل اسوشيتدبرس (وكالة الأنباء الأمريكية المعروفة) حينما زار معسكرات اللاجئين اليهود في أوربا عام 1946 بمناسبة تحقيقات اللجنة الأنجلو أمريكية، فقال: إن الكثيرين منهم كانوا يرتدون ملابس أنيقة ويحملون معهم ثروات منقولة مما غلا ثمنه وخف وزنه، إنهم ليسوا بالتأكيد من ضحايا النازية، والأرجح أن عدم مشاركة يهود الاتحاد السوفييتي في موجات الهجرة التي وفدت إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل السبعينيات يعود إلى سياسة الانغلاق وضرب الستار الحديدي على الكتلة الشيوعية بأسرها، وإن لم يحل ذلك دون تأييد السوفييت لقرار التقسيم ثم لقيام الدولة العبرية سنة 1948 وربما وجد الاتحاد السوفييتي بعض الذرائع الأيديولوجية هذا التأييد، فمن الناحية السياسية تسمح إسرائيل بشرعية الحزب الشيوعي بينما الأقطار العربية تحظر قيام هذه الأحزاب، ومن الناحية الاجتماعية أقام اليهود في فلسطين مزارع جماعية شبيهة بالكولخوز السوفييتي، وكانت إسرائيل تبدو وكأنها تسير على مبدأ الحياد.

على أنه لم تمض ثلاث سنوات على قيام إسرائيل حتى تأزمت العلاقات بينها وبين الاتحاد السوفييتي بمناسبة عملية تطهير جديدة في سنة 1951 وجهها ستالين بالدرجة الأولى ضد شخصيات يهودية، ولا سيما أطباؤه الذين شك في حسن نواياهم نحوه، ولذلك لم يكتف بمنع اليهود السوفييت من الهجرة، بل حث دول شرق أوربا الخاضعة له على حظر الهجرة على سكانها اليهود.

على أية حال فإن إسرائيل خلال هذه الحقبة من 1948 - 1951 لم تكن بحاجة إلى قدوم اليهود السوفييت أو يهود شرق أوربا، إذ إن يهود الدول العربية توافدوا بأعداد كبيرة على إسرائيل بطرق مباشرة أو عن طريق العبور إلى إحدى الدول الأوربية ومنها إلى إسرائيل لعدم سماح بعض الدول العربية بهجرة اليهود إلى فلسطين، ومن ثم توقفت قدرة إسرائيل على استيعاب المهاجرين عند هذا الحد.

ومن المفارقات أن يفتح باب الهجرة من أوربا الشرقية من جديد سنة 1956، وهو نفس العام الذي شهد العدوان الثلاثي على مصر، وما استتبعه من تقارب عربي سوفييتي، لذا يفسر المؤرخون هذا التحول بوقوع أزمة اقتصادية في بولندا تمثلت في نقص المواد الغذائية، كما قيل أيضا إن البولنديين حقدوا على الأقلية اليهودية التي احتلت بعد الحرب مراكز قيادية في الحزب الشيوعي.

العودة إلى الهجرة الجماعية

استقرت معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل في نطاق محدود إبان الخمسينيات والستينيات إذ كان لابد أولا من استيعاب الموجات الكبيرة التي توافدت خلال السنوات الأولى من قيام الدولة.

ومن جهة أخرى تدخلت العلاقات الدولية كعامل مؤثر على الهجرة السوفييتية، ذلك أن توثق علاقات مصر وسوريا بالاتحاد السوفييتي جعل الكريملين يعيد النظر في فتح باب الهجرة من بولندا وأوربا الشرقية، فعاد إلى ممارسة الضغوط لحظر الهجرة، بل لوحظ خلال تلك الحقبة أن إسرائيل صارت بالنسبة للعديد من اليهود مجرد معبر إلى غرب أوربا أو الأمريكتين، كذلك واجهت الدولة العبرية ظاهرة الهجرة العكسية أي مغادرة المستوطن بعد فترة من الإقامة، وقد سُجل نحو 21 ألف حالة من هذا النوع بين سنتي 1952 و 1954 مما أزعج السلطات كثيرا.

إذن ماذا حدث في أوائل السبعينيات لكي يبدل الاتحاد السوفييتي سياسته فيسمح بالهجرة ثم يرفع القيود شيئا فشيئا إلى أن تصبح الهجرة الجماعية المكثفة أمرا مباحا.

في تقديرنا أن هزيمة يونيو 1967 قلبت الموازين في عدة مجالات منها تراجع دور التأثير العربي في إضعاف النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، وهذا الأمر الذي كان يستفيد منه السوفييت إبان الحرب الباردة، ومن ثم يسعون لإرضاء العرب.

وفي آخر زيارة له إلى موسكو سنة 1970 نصح السوفييت عبد الناصر بالتوجه إلى الغرب بحثا عن حل معضلة النزاع مع إسرائيل، وعلى الجانب الإسرائيلي فإن اتساع رقعة الأراضي المحتلة أغرى المهاجرين بالقدوم، صحيح أن سياسة بناء المستوطنات في تلك الأراضي لم تنشط إلا في السبعينيات إلا أن فكرة الضم راودت المسئولين في الدولة العبرية ولم يثنهم عن ذلك إلا الكثافة السكانية العربية، ولم تتعرض هذه الكثافة للخطر إلا في السنوات الأخيرة عندما انهمر سيل الهجرة اليهودية السوفييتية وظهرت بوضوح سمة الصراع الديموجرافي.

وقبل أن تتضح ملامح الوفاق الدولي كان الاتحاد السوفييتي قد أعاد حرية الهجرة إلى إسرائيل ببعض الشروط، ففي سنة 1971 سجلت 13 ألف حالة هجرة زادت في العام التالي إلى 31 ألفا. وبهذه المناسبة طرح موضوع تهجير اليهود للمناقشة في الدوائر السوفييتية، فالمخابرات الـ "K. G .B" اتهمت اليهود بإثارة القلاقل بين الجنسيات المختلفة وأنها تشجع النزعات العرقية، فمن الأفضل في رأيها التخلص من الجاليات اليهودية، وأيد البعض الهجرة من قبيل المصلحة الذاتية، فخروج اليهود يتيح إخلاء عدد من الشقق التي يحتاج إليها العديد من المواطنين السوفييت في المدن.

مهما يكن فقد تراجعت هجرة اليهود السوفييت بعد حرب أكتوبر ولم يلبث الغرب أن تدخل في هذه القضية بعد قليل، وذلك في مؤتمر الأمن الأوربي الذي عقد في هلسنكي سنة 1975، وضم 35 دولة من الشرق والغرب، وبضغط من الولايات المتحدة أصدر المؤتمر وثيقة مطولة عن حقوق الإنسان تشتمل على نص بحق المواطنين في التنقل والهجرة، وكان المقصود بهذا النص في الدرجة الأولى هو تعهد الاتحاد السوفييتي بإطلاق حرية الهجرة لليهود سواء إلى إسرائيل أم غيرها.

والواقع أن التدهور الاقتصادي الذي بدأت آثاره تظهر في نهاية السبعينيات قد دفع باليهود وبجنسيات أخرى من سكان الاتحاد السوفييتي إلى الهجرة، وعلى عكس ما حدث في 1971، 1972 من اتجاه المهاجرين إلى إسرائيل فإن معظم المهاجرين السوفييت بعد مؤتمر هلسنكي، وحتى سنة 1989 اتجهوا إلى غرب أوربا والأمريكتين وإلى الولايات المتحدة بصفة خاصة مما اضطر الأخيرة إلى اعتبار اليهود السوفييت لاجئين سياسيين حتى لا يدخلوا في الحصص المقررة لكل جنسية حسب القانون الأمريكي الصادر في سنة 1924.

ويبدو أنه بعد توافد أعداد كبيرة من اليهود السوفييت ضاق الأمريكيون بهم ذرعا، ففرضوا القيود على دخولهم الولايات المتحدة منذ 1989، وهو أحد الأسباب التي تفسر تعاظم الهجرة الجماعية الأخيرة إلى إسرائيل عامي 1990 و 1991.

على أنه توجد أسباب أخرى تفسر هذه الظاهرة منها سرعة انهيار الاتحاد السوفييتي سياسيا واقتصاديا، ومنها تطبيق جورباتشوف بصورة فعالة لمبادئ الحرية، وعلى رأس هذه الأسباب ظروف الموقف العربي منذ اندلاع أزمة الخليج وما تبعه من انقسامات صرفت الأنظار عن هذه القضية الخطيرة بالنسبة لمستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة، فحدود إسرائيل الأصلية لا تستوعب مثل هذه الأعداد من المهاجرين.

وقد لوحظ أن المهاجرين السوفييت يتمتعون بامتيازات خاصة لإغرائهم بالقدوم، فلهم حرية اختيار المكان الذي يقيمون فيه، ومع أن 90 %. فقط من اليهود السوفييت عاشوا في مناطق ريفية فإن إسرائيل استعدت لتحويل مهنة من يريد منهم إلى الزراعة، وذلك لاستخدامهم في انتشار العنصر اليهودي سواء داخل إسرائيل أم في الأراضي العربية المحتلة، ذلك أن اليهود السوفييت لا يشكلون فقط مادة بشرية للاستيطان بل إنهم ينقلون إلى إسرائيل عناصر أكثر فعالية في المجتمع بحكم تطورهم الثقافي والعلمي، وقد يكونون بالإضافة إلى ذلك عنصرا قتاليا في حالة نشوب صراع مسلح، واليهود السوفييت يضيفون إلى العناصر الوافدة من أوربا قوة بشرية ترجح كفتهم على عناصر اليهود الشرقيين الذين هم أقل تطورا.

إذن فإن ظاهرة الهجرة الجماعية من الاتحاد السوفييتي تشكل نقطة تحول في تركيب إسرائيل السكاني والاجتماعي وتدفعها نحو سياسة التوسع.