البحث عن مدن المعرفة العربية: د. سليمان إبراهيم العسكري

 البحث عن مدن المعرفة العربية: د. سليمان إبراهيم العسكري

تبدَّلَ وعيُ البشرية بالعلم والعالم باختلاف العصور، فأخذ العلماء يصفون عصورهم بالجديد الذي جاءت به، فهناك عصر المطبعة، وزمن الآلة، وعصر الثورة الصناعية، وزمن التكنولوجيا، وعقد الكمبيوتر، وهكذا الأمر مرورًا بالذرة والإنترنت وصولاً إلى الوقت المتناهي الصغر، في الفيمتو ثانية، والذكاء الاصطناعي للإنسان الآلي، والهواتف الذكية، وهي تسميات ارتبطت بأهم ما في حقبها من تطور، وأفضل ما بها من ابتكارات، وأكثر ما غير البشرية بواسطتها من اختراعات، وبتنا لا ننتظر قرنًا ليمر حتى نسمي الجديد، بعد أن بات الجديد يعيش بيننا كالماء والهواء، نتنفسه، ونعمل به، بل ونستخدمه كما كان الأطفال يستخدمون دُماهم في قرون خلت. لكن المفهوم الأبرز، الذي وجدته يستحق التوقف والتأمل والحديث عنه، مبتعدًا عن مواصلة الحديث عن مجريات أحداث عالمنا العربي اليومية، ولو أن موضوعنا هذا في صميم احتياجاتنا ومن متطلبات نهوضنا، هو ما تناوله كتاب «مدن المعرفة»، حيث إننا يمكن أن نعايش كل ذلك العلم - السابق واللاحق - في تلك المدن، وما أحوجنا اليوم إلى مدن تنقلنا من حال إلى حال، ومن عصر إلى عصر، وتغرس التنمية ولا تكتفي باستيراد منتجات التقنية.

  • مدن المعرفة ليست حالة جديدة، فالنهضة التي عاشتها الأمم في عصورها الزاهرة، والحضارات في أوجها الزاهي، كانت ابنة لمدن المعرفة.
  • مدن المعرفة هي التي تجذب إليها صناع الحضارة، وتقوم على كاهلها مهمة رعاية التطور والتنمية.
  • نحتاج إلى بناء مدن معرفية، يقوم اقتصادها على رأس المال المعرفي، ولا تعتمد كلية على ودائع نفطية، مدن يتسع صدرها لأجيال قادمة عليها عبء التحاور مع عالم حقق قفزات مذهلة واسعة، في تطور البشرية وارتقائها بشكل متسارع.
  • في سنغافورة، يعزى النمو المستقبلي في قطاعات عديدة مثل الرعاية الصحية وتقنية المعلومات والاتصالات وخدمات التعليم، والضوئيات، وتكنولوجيا النانو إلى القدرات المعرفية.
  • لا يمكن اعتبار عملية إنشاء مدينة المعرفة أمرًا سهلا، أو سريعًا، حيث تحتاج محاولات إنشاء هذه المدينة إلى الدعم الفعال للمجتمع كله، ففي برشلونة، مثلًا، شارك في صياغة ذلك التحول أكثر من 200 مؤسسة يعمل بها مليون و600 ألف نسمة!.
  • إذا كانت الزراعة هي أعمال المناطق الريفية فالثقافة هي أعمال المدن، وهو ما جعل مشروع «متحف جوجنهايم» بمدينة بلباو في إقليم الباسك الإسباني يسمح لهذه «المدينة الجديدة» بأن تحتضن الإبداع والتعليم والثقافة والترويح والرياضة والسياحة، وكل الخدمات المتطورة.

هذا الكتاب صدر مترجما إلى اللغة العربية مؤخرا (أكتوبر 2011) في سلسلة «عالم المعرفة» عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، بدولة الكويت، يقدم لنا محررُه فرانشيسكو خافيير كاريللو جُمَّاعًا للأفكار التي يصف بها الأكاديميون والخبراء تلك المدن، ونماذج لها حول العالم.

في البداية يصف كاريللو القرن الحادي والعشرين بأنه قرن المدن، تطبيقا لحقيقة الهجرات المتنامية للسكان من الريف إلى الحواضر، وهي الهجرات التي بدأت مع الثورة الصناعية، واستشرت حتى استشرست اليوم! فمنذ قرنين لم يتعدَّ سكانُ هذه المدن نصفًا بالمائة من الوجود الإنساني على الأرض، وقبل ثلاثة عقود لم يزد سكان المناطق الحضرية عن ثلاثين بالمائة من جملة سكان العالم، أما الآن فالنسبة تتخطى الخمسين بالمائة، ومن المتوقع أن تصل إلى 75 في المائة بحلول العام 2025م.

وهو أيضًا يصف القرن الحادي والعشرين نفسه بأنه قرن المعرفة، حيث تحول بعد الحرب العالمية الثانية أكثر من 50% من إجمالي الناتج المحلي، لعدد متنام من الدول الصناعية، من التنمية المادية إلى التنمية القائمة على المعرفة، وتواترت تأكيدات الأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والبنك الدولي، على الأهمية الحاسمة للاقتصاد القائم على المعرفة منذ نهاية القرن الماضي، حيث بتنا في خضم مرحلة جديدة من الحضارة، تكون فيها القيمة المرتبطة بالمعرفة، هي القوة الدافعة للاقتصاد والحياة والمجتمعات البشرية.

كانتْ لنا مدنٌ

لكنني قبل أن أستطرد في الحديث عن النماذج (الحديثة) التي صنفها الكتاب لتلك المدن المعرفية، عنَّ لي خاطرٌ، وهو أن مدن المعرفة ليست حالة جديدة، فالنهضة التي عاشتها الأمم في عصورها الزاهرة، والحضارات في أوجها الزاهي، كانت ابنة لمدن المعرفة التي احتضنتها تلك الأمم وشيدتها تلك الحضارات في أزمنتها.

وإذا كان يعنينا العلم العربي، فقد كان الأرقى في الفترة بين القرنين الثامن والرابع عشر الميلاديين، وتفوق على العلم في الغرب والصين معًا، وساهم في كل حقل معرفي وتجريبي، سواء تحدثنا عن الرياضيات أم الفلك، أو تناولنا الطب أو البصريات، والسبب في نهضة العرب وتفوقهم البارز - آنذاك - هو ما أتاحته لهم مدنهم المعرفية، بمفهومها الشامل، من أدوات للبحث والتجريب والابتكار، حيث بدأت حركة الترجمة الكبرى لتراث العلم اليوناني، بعد أن ظل مجهولا منذ انهيار الإمبراطورية اليونانية (ومدنها المعرفية أيضًا) في القرن الخامس الميلادي.

وقد استخدمت تلك الركائز اليونانية للانطلاق، فاستطاع الفلكيون العرب - مثالا - بفضل مؤقت الجامع الأموي في دمشق ابن الشاطر (المتوفى في 1375م) أن يحسنوا النظام البطلمي من خلال العمل في مرصد مدينة مراغة، غربي إيران، وقد نسخ كوبرنيكس - بعد ابن الشاطر بمائة وخمسين سنة - النماذج التي صنعها فلكيو مراغة، ومن أسمائهم نذكر الأردي (توفي 1266م)، والطوسي (توفي 1274م) وقطب الدين الشيرازي (توفي 1311م). كما لم يصل أحدٌ قبل الحسن بن الهيثم (المتوفى في 1040م) إلى ما وصل إليه في علم البصريات، وهو العلم المهم في التاريخ القديم، وكانت له أهمية تماثل قيمة الفيزياء في العلم الحديث.

ولن نفيض بذكر أسماء وأعلام، ينتمون إلى حواضر العرب والإسلام، بين دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وغيرها، وهو الأمر نفسه لدى الحضارات غير العربية، في الشرق والغرب، من شيآن في الصين إلى فلورنسه في أوربا، فالخلاصة هي أن مدن المعرفة هي التي تجذب إليها صناع الحضارة، وتقوم على كاهلها مهمة رعاية التطور والتنمية.

درسٌ كبير من مدينة صغيرة

ويذكر مؤلفو الكتاب نماذج عدة، تستحضر روح المدن المعرفية الجديدة، ومن بين النماذج التي تعطينا درسًا تاريخيًا، نموذج (راغوزا) الذي كتب عنه ليف إدفنسون، وهي المدينة التي يعدها (حالة تاريخية مميزة لمدينة المعرفة). فقد كانت مدينة وجمهورية معًا على ساحل المتوسط، أو بصورة أدق ساحل البحر الأدرياتي، وكانت مستويات المعيشة بالمدينة في القمة لخمسة قرون، وظلت محافظة على استقلالها كذلك في القرون الخمسة، وكان ذكاؤها وأمنها في الفترة من العام 1301م إلى 1806م نموذجًا للقرن الحادي والعشرين، فقد عُدَّتْ أسطورة في العلاقات الدبلوماسية، وكانت قوتها السياسية استثنائية، فكان تجارها يضربون في أنحاء الإمبراطورية العثمانية الشاسعة، متمتعين بمزايا حرمت منها الدول الغربية الأخرى، وكانت الطبقة الحاكمة الذكية سياسيًا والخبيرة تجاريًا تستغل كل الفرص لمضاعفة ثروة جمهورية راغوزا، وفي نهاية القرن الخامس عشر كانت الجمهورية تمتلك أكبر أسطول تجاري في البحر الأدرياتي، وخلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر كان لديها 60 سفيرًا أو مكتبًا دبلوماسيًا في أغلب المدن الكبرى على ساحل المتوسط، وفي العام 1806م، ولأول مرة في تاريخها، احتل نابليون راغوزا، لتختفي المدينة بعدها بعامين، واليوم يطلق عليها مدينة «دوبروفنيك» في دولة كرواتيا.

وقد استخلص أحد طلاب ليف إدفنسون عوامل استدامة مدينة راغوزا وحددها في «الذكاء والأمن الاسترتيجي المنظم، والقوة السياسية والدبلوماسية الحكومية، وروح المدينة والتماسك الاجتماعي، والتنوع بفضل كثرة الهجرات، وثراء الحياة الثقافية وتعدد لغات الكتابة، والبيئة العلمية والتقاليد المعرفية، والموقع والوضع السياسي الجيد والبنية التحتية للنقل والاتصالات...».

لقد اخترت هذا النموذج لأدلل على أمرين، الأول أن حجم الرقعة الجغرافية ليس مرادفًا للقوة أو الضعف، والثاني أن الحرب هي التي أودت بحياة راغوزا، ولذلك فإن تعزيز السلام يعطي قوة مضافة للمدينة، حتى لا تنتهي، إكلينيكيًا أو تاريخيًا، كما حدث للحواضر التي ازدهرت ثم اندثرت أو خبا دورها وتراجع تأثيرها.

ما هي مدينة المعرفة؟

لكن ذلك التعريف الخاص بحضارات سادت ثم بادت، يختلف جذريًا عما يحاول كتاب «مدن المعرفة» توصيفه، ففي الفصل الأول، من أصل 20 فصلاً بالكتاب، يضع لنا كوستاس إرغازاكيس، وكوستاس ميتاكسيوس وجون ساراس (الجامعة التقنية الوطنية، أثينا، اليونان)، تعريفات أساسية بأن مدينة المعرفة هي: «المدينة التي تستهدف التنمية القائمة على المعرفة، عن طريق تشجيع الإبداع والتشارك والتقييم والتجديد والتحديث المستمر للمعرفة، عبر التفاعل المستمر بين مواطني المدينة أنفسهم، وبينهم وبين مواطني المدن الأخرى، حيث تؤدي ثقافة تشارك المعرفة، وكذلك التصميم الملائم للمدينة، وشبكة تكنولوجيا المعلومات، والبنية التحتية لها، إلى دعم هذه التفاعلات».

وتعريف «مدينة المعرفة» لا يقتصر على ما سرده أبناء الجامعة التقنية الوطنية في اليونان، بل نجده في مقدمة كل نموذج من نماذج مدن المعرفة المذكورة بالفصول الأخرى، وهكذا تتناثر الأفكار على مدى أكثر من 450 صفحة لتصف لنا «المناخ العلمي الحاضن»، إن جازت التسمية، لمدن المعرفة، فمصدر الثروة لم يعد موجودًا في الموارد التعدينية وخلق رأس المال في معدات المصانع والمنتجات المصنعة، وإنما عبر شبكات المعلومات، ولا يعتمد خلق الثروة في اقتصاد الأفكار على البنية التحتية أو المكونات الصلبة إلا بشكل أقل مما نتصور بكثير. ومدينة المعرفة قد تكون واحة تقنية تجمع أكثر التقنيات تقدمًا في مجال المرافق، والبنية التحتية ترتبط فيما بينها بأكبر قدر ممكن من أشكال الاتصالات والمعاملات، وهي مدينة ذكية تعمل في هيئة تطوير المعلومات والاتصالات، وهي مجتمع للمعرفة، لا يعتمد اكتساب المعرفة فيها الآن وفي أية مرحلة عمرية، على قدر مسبق من التعليم، وهي مدينة للتعلم تنتهج مبادئ التنمية المستدامة تعتبر التعلم وظيفة مجتمعية أساسية لها، وهي مدينة البحث العلمي، ومراكز البحث الدولية، وهي مدينة الأحداث المعرفية.

ولا يمكن اعتبار عملية إنشاء مدينة المعرفة أمرًا سهلاً، أو سريعًا، حيث تحتاج محاولات إنشاء هذه المدينة إلى الدعم الفعال للمجتمع كله. ففي برشلونة، مثلا، تحمل مجلس المدينة واللجنة التنفيذية لوضعها ضمن مدن المعرفة الرائدة العبء لتنفيذ مخطط تحول المدينة، ودعمها كمدينة للمعرفة وجعل هذا المفهوم جزءًا لا يتجزأ من السياسات الداخلية لقطاعات داخلية أخرى كالسياحة والثقافة، والتنمية العمرانية. وقد شارك في صياغة ذلك التحول أكثر من 200 مؤسسة يعمل بها مليون و600 ألف نسمة.

وفي العاصمة السويدية، ستوكهولم، تم تبني أجندة مشتركة تحت عدة إجراءات عناوينها «المدينة الخضراء» و«مدينة المعرفة»، و«مدينة الأحداث»، و«مدينة التصميم»، و«مدينة تقنية المعلومات»، وهي أجندة كلفت صناع تحول المدينة الجديدة نحو ملياري يورو كبداية، مما جعلها في العام 2004 إحدى أفضل الوجهات العالمية وأكثر المواقع شعبية لعقد المؤتمرات والمناسبات.

وفي ميونخ، وبفضل ازدهار بنية المدينة التجارية، ووجود مؤسسات البحث العلمي والتطوير، تمكنت المدينة من إيجاد التمويل المستمر للمعرفة النظرية، لإنتاج وتنظيم ونقل وتخزين المعرفة. وتضم المدينة في الوقت الحالي أكثر من 700 مكتبة تعمل كمصادر معرفية تعزز انتقال وانتشار المعرفة، وفي شبكة الإنترنت ذات النطاق الواسع تأتي ميونخ في المرتبة الأولى بين المدن الألمانية جميعًا.

أما التاريخ الصناعي الثري لمدينة مونتريال في كندا فقد شهد تطورًا ملحوظًا في العقود الأخيرة، حيث هاجرت الصناعات إلى بلدان توفر العمالة الأقل أجرًا، مما جعل المدينة تتجه إلى الاستثمار في القطاعات الرائدة التي تحركها الأنشطة المعرفية المبتكرة، وإيجاد بيئة تسمح للمشاركة بين الجامعة ومصانع التكنولوجيا المتقدمة والمؤسسات الثقافية.

نماذج عالمية

ويطير بنا الكتاب إلى سنغافورة ليقترب من تجربة النمو الاقتصادي المبهر الذي تحقق في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، من خلال استمرار إعادة الهيكلة الصناعية والارتقاء بالمستوى التقني، حيث ساهمت الصناعات القائمة على المعرفة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي من 48 في المائة بين عامي 1983م ـ 1985م إلى 56 في المائة في عام 2001م (كما يقول محررو الدراسة: كارولين وونغ، الجامعة الوطنية الأسترالية، وتشونغ جو تشوي، المدرسة الوطنية العليا للإدارة، كانبيرا، أستراليا، وكارلا ميلير، جامعة توينتي، أنشيده، هولندا).

وقد مكن التزام سنغافورة بالتنمية المعتمدة على الاقتصاد المعرفي خلال الفترة من 1995 إلى 2005 من التحول السريع والناجح إلى اقتصاد صناعي جديد. ويعزى النمو المستقبلي في قطاعات عديدة مثل الرعاية الصحية وتقنية المعلومات والاتصالات وخدمات التعليم، والضوئيات، وتكنولوجيا النانو إلى القدرات المعرفية في سنغافورة، وعلى هذا النحو تعتبر سنغافورة المكان الذي يتفاعل فيه إنتاج المعرفة وحيازتها ونشرها وتطبيقها لدعم الاقتصاد وخلق الدوافع الرئيسية للنمو والثروة وخلق فرص العمل في جميع الصناعات التي حولت سنغافورة من قرية صيد في أوائل القرن التاسع عشر إلى اقتصاد السوق الحر بدرجة عالية من التطور والنجاح في القرن الحادي والعشرين، متمتعة ببيئة خالية من الفساد بشكل ملحوظ وأسعار مستقرة وأحد أعلى معدلات الناتج المحلي الإجمالي للفرد في آسيا (25.979 ألف دولار أمريكي في العام 2004) طبقا لقسم الإحصاء في سنغافورة، 2004). ويعتبر اقتصاد سنغافورة إلى حد كبير نتاج الصلات المشتركة بين الرؤية التنموية، والإعداد المؤسسي، والبيئة التجارية.

لقد تحقق ذلك بفضل إستراتيجيات قامت بدمج سنغافورة في الاقتصاد العالمي للاستفادة من الخبرات والمعرفة والتقنية العالمية، وتوفير بيئة للأعمال الحرة تدعم قدرة الشركات على مواجهة التحديات، وتتيح الحرية اللازمة لتوليد الأفكار والابتكار بهدف توليد الأعمال غير التقليدية ودعم النمو، مع دعم التعاون بين الشركات العالمية ذات المستوى المرتفع ونظيرتها المحلية في المجالات التخصصية، مما جعل سنغافورة مركزًا رئيسيًا على المستوى الإقليمي لجذب الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات وكذا الشركات المحلية، بما يجعل سنغافورة قاعدة لإنتاج المنتجات عالية القيمة وتقديم الخدمات المرتبطة بالتصنيع لفروعها التابعة لها في الإقليم.

والأمر لا يرتبط بالمعرفة في مجال الاستثمار والصناعة والتقنية وحسب، بل يمتد إلى الثقافة الرفيعة، وهو نموذج مدينة إقليم الباسك شمال المملكة الإسبانية، وبالتحديد في مدينة بلباو. إن المدن العالمية، على النقيض مع المدن والعواصم والموانئ أو المناطق الصناعية التاريخية التي سبقتها، لم توجدها الاعتبارات المكانية والجغرافية، ولكن ما أوجدها هو قدرتها على التكيف. ومن الواضح أن كثيرًا من المدن، وخصوصًا تلك العواصم الوطنية والمراكز المالية الدولية من الدرجة الأولى والموانئ الكبرى أو المراكز التاريخية، لديها الإمكان لتحويل نفسها إلى مدن عالمية، لكنها لا تضمن النجاح. والعملية هي اختيار المصير والمهمة والقيام بالمبادرات المحلية، وهذا هو ما حدث مع مشروع تنشيط بلباو وبيئتها الحضرية.

وكما هي الحال في العصور الوسطى، فإن المدن الآن هي العنصر الأساسي لتطور الحضارة. وإذا كانت الزراعة هي أعمال المناطق الريفية فالثقافة هي أعمال المدن، وهو ما جعل مشروع «متحف جوجنهايم» ينجح، فقد اختار مجتمع الباسك الساكن في المدينة العريقة، والمهملة، خلق مساحات إقليمية جديدة ستشكل نوعًا من الفضاء يسمح بتعايش المواطنين، كما ستسمح هذه «المدينة الجديدة» بأن تحتضن الإبداع، والتعليم والبحوث والمساعدة الاجتماعية، والثقافة والترويح والرياضة والسياحة، والنقل والخدمات اللوجستية والتجارة، والسوق والعمالة المؤهلة، والإنتاج والتصنيع وجيل من الخدمات المتطورة.

وهكذا بفضل الاتفاق بين مؤسسات الباسك ومؤسسة سولومون ر.جوجنهايم بدأ مشروع ثقافي فريد من نوعه هو متحف جوجنهايم في بلباو. ويوفر هذا المتحف للباسك وللمجتمعات الأوربية الحصول على مقتنيات من أكبر وأثرى مجموعات الفن الحديث والمعاصر في العالم، بجانب القدرة على «التعليم المنتقل» في حقل واسع من الفنون، وإتاحة الفرصة للوصول إلى تكوين جديد لفهم المعرض والترويج له وتمويل الفنون. وحتى الآن المتحف يقدم فرصة فريدة لدمج الثقافات المختلفة، وقبل كل شيء فإنه يشكل معلمًا بارزًا للعمارة العالمية، وتعبيرًا فريدًا فاصلاً بين القرنين العشرين والواحد والعشرين. ووراء كل ذلك، فإن الطابع القيادي لهذا المشروع والتناسب الطبيعي داخل هيكل تنشيط بلباو يساعدان المدينة على القرب من تحقيق الأهداف المذكورة سابقًا، والتي ستحكم المساحات الاقتصادية القادمة.

وقد أعادتني مدينة مانشستر المعرفية التي تناولها الكتاب (بلانكا ك. جارسيا، جامعة مانشستر)، إلى سنوات الدراسة، وكنت شاهدًا على بدء جزء من ذلك التحول المعرفي الذي جعل منها مدينة معرفية جامعية، حين شهدت افتتاح مكتبتها الجامعية العملاقة تحت رعاية ملكة بريطانيا.

كانت مانشستر تقع على حافة الإمبراطورية الرومانية، وقد أسسها فيلق روماني تمركز في حصن ماميوسيام، واعتبرها حكام الجنوب مقاطعة حدودية، ولم يتم التعامل معها كبلدة إلا في العام 1838م، حيث كانت الثورة الصناعية هي المحرك الذي جلب التغيير السريع إلى المدينة. وبحلول العام 1850، كان تعداد سكان مانشستر قد بلغ 316 ألف نسمة، وأصبحت المدينة توأما لبلدة ستيفن بلاكبول ذات الآلات والمداخن الطويلة. وكان في المدينة قناة سوداء ونهر أرجواني تفوح منه رائحة الصبغة الكريهة، وكتل ممتدة من المباني تعمل فيها مسابك المحركات البخارية الرتيبة، كرأس فيل أصيب بالجنون، كما يصفها تشارلز ديكنز، لكن أفظع الأماكن كانت تلك التي تقع في أطراف مانشستر، حيث كتل النفايات وفضلات الذبائح والقاذورات بين البرك الراكدة في كل الاتجاهات، حيث الجو المسمم والظلام السائد بسبب الدخان المنبعث من عشرات المداخن الطويلة للمصانع، وعجت هذه الأماكن بحشود من النساء والأطفال ذوي الملابس الممزقة. وبسبب كونها «عاصمة القطن» والمركز الشمالي للتجارة والصناعة والاتصالات في المملكة المتحدة إبان الثورة الصناعية، أصبحت مانشستر كذلك «مدينة الصدمة» التي تفشت فيها «المصانع الشيطانية» المنعزلة لصناعة الغزل، لتضم أسوأ الظروف المعيشية للطبقة العاملة في العالم آنذاك.

لكن مانشستر بوصفها معقلًا لمختلف أشكال الراديكالية، وموطنًا لطبقة سكانية ضخمة من العمال (فيما مضى)، ومهد الحركة العمالية الحديثة، والمدينة التي ألهمت الألماني فريدريك إنجلز مفكر الماركسية وصديق واضعها كارل ماركس، ومشاركه في كتابة البيان الشيوعي، حيث كانت دومًا على حافة التغيير الرائدة أو الدامية، وقد رصدت الدراسات بها فجوات تمثلت في وجود فجوة مهارية كبيرة، فهناك 120 ألف شخص من دون مؤهلات وهو أكثر من المتوسط العام في إنجلترا، وهناك فجوة واضحة في مؤسسات الأعمال، حيث يحتاج الإقليم إلى 40 ألف شركة أخرى للوصول إلى المتوسط الوطني، فضلًا عن وجود فجوة في الابتكار، وقطاعات المعرفة، والتوظيف، حيث يقل العدد عن 80 ألف شخص عن المتوسط العام في إنجلترا. ورأى الباحثون أن جوًا عامًا من الحرمان ظل مهيمنًا على إقليم مدينة مانشستر لأكثر من مائتي عام، بوجود تلك النقائص في نواحي رأس المال البشري والاجتماعي، ورأوا أن رأس المال الاجتماعي لن يصبح حصان طروادة لتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي من دون زيادة المهارات العالية والمعرفة والتعليم في المدارس والمنظمات والمجتمعات.

هكذا بدأ التفكير في مستقبل مجتمع المعرفة، وشكلت مانشستر في الأعوام الأخيرة معظم رأسمالها الاجتماعي الرئيسي من خلال شراكة إقليم المدينة مع ذوي الصلة من الحكومة والجمهور والقطاع الخاص بما قدم أثرًا إيجابيا بالمجالات المهمة للبنية التحتية الاقتصادية الاجتماعية للمدينة. واتسعت فكرة الشراكة مع مدن أخرى في المملكة المتحدة والحكومة المركزية وممثلي الاتحاد الأوربي والمدن الأوربية الأخرى. وفي المستقبل، يتوقع أن يشكل رأس المال الاجتماعي هذا أهم اللحظات في رحلة مانشستر نحو التحول إلى مدينة معرفة، كما أنه يجب ألا نتجاهل مستوى التعليم الجامعي حاليًا في مانشستر ومركزها الرياضي، خاصة في كرة القدم، وما تجلبه للمدينة من رءوس أموال استثمارية وسياحية.

والنموذج الأخير الذي نستحضره يأتينا من أقصى الشرق، الصين، (ستيفن تشن، الجامعة الوطنية الأسترالية)، حيث تؤدي الشركات الأجنبية دورًا مهمًا في تنمية الصناعات عالية التقنية هناك. ومن الطرق التي اتبعتها الحكومة الصينية للوصول إلى هذا الهدف: حدائق التقنية والعلوم الإقليمية، حيث تقدم حدائق العلوم عدة حوافز لتشجيع الاستثمار وتكوين الشركات الجديدة في الحدائق. فمثلا تعفى الشركات الجديدة من ضريبة الدخل العام لمدة عامين. وتلغى الضرائب على استيراد المواد والأجزاء المستخدمة في إنتاج البضائع التي تصدر، وتحول الأصول غير الملموسة، كرأس المال الفكري، إلى رأسمال نقدي.

لقد أنشئت أول حديقة تكنولوجيا وافقت عليها الحكومة المركزية في الصين في بكين العام 1988، بالقرب من جامعة بكين وجامعة تسنغها، والعديد من مراكز البحوث التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم. وفي العام 1991 وافق مجلس الدولة على إنشاء 26 حديقة أخرى. وتبعتها 25 في العام التالي. وأنشئت حديقة يانغ لين للتقنية الزراعية في العام 1997، مما وصل بإجمالي عدد حدائق التقنية الوطنية إلى 53، وبالإضافة إلى ذلك، فقد أنشأت الحكومة المحلية عددًا من الحدائق العلمية، ومعظم الحدائق (35) تقع في المقاطعات الساحلية، وخمس منها فقط تقع في غرب الصين. وتستضيف عواصم المقاطعات أو البلديات المركزية التي تشرف عليها الحكومة العديد من الحدائق (22). ومعظم المدن المضيفة - ما عدا يانغ لين - تعد مدنًا كبرى ذات قاعدة صناعية قوية. وتنوع المدن المضيفة وحدائق العلوم في الصين يعطي فرصة قيمة لبحث العلاقة بين حدائق العلوم ومدنها المضيفة.

ومن بين أكبر 500 مؤسسة في العالم، هناك أكثر من 160 منها لديها استثمارات في بكين. وفي العام 2003، زادت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 19،8% لتصبح 2،1 مليار دولار، ويتدفق الاستثمار الأجنبي إلى بكين وتشمل المجالات التي جذبت أكبر استثمارات أجنبية: التصنيع، ونقل المعلومات، وخدمات الكمبيوتر والبرمجيات، وتجارة العقارات، والاستئجار والخدمات التجارية، وغيرها. وهونج كونج هي أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي في بكين. وبقية المستثمرين الكبار يأتون من كوريا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وسنغافورة وألمانيا.

مستقبل مدننا

واختتم الكتاب وأنا أتساءل عن مستقبلنا نحن في خضم ذلك كله. وإذا كنا قد نجحنا، في محيطنا الإقليمي بشبه الجزيرة العربية، في بناء مدن حضرية فهل يحالفنا النجاح في تحويل هذه المدن، أو بعضها، إلى مدن معرفية، يقوم اقتصادها على رأس المال المعرفي، ولا تعتمد كلية على ودائع نفطية؟ وهل تخطط مدن عربية أخرى، كانت لها صولات وجولات على مدار قرون مضت، في أن تستعيد مكانها ومكانتها؟ الأسئلة يسيرة وإجاباتها عسيرة، والمسيرة تبدو طويلة، ولكن يكفينا أن نبدأ، وأن نحاول، وأن نسعى لبناء مدننا المعرفية العربية التي يتسع صدرها لأجيال قادمة عليها عب التحاور مع عالم حقق قفزات مذهلة واسعة، في تطور البشرية وارتقائها بشكل متسارع يومًا بعد يوم.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري