السعي إلى الجلال.. قبل الجمال عبدالقادر القط

آداب كلاسيكية

كان عصر النهضة - أو الميلاد الجديد - في أوربا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر إيذانا بانقضاء العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، وأدرك الناس أن ما انقضى بين سقوط روما وابتداء النهضة كان عهد تخلف وظلمة، وأنهم يشهدون مرحلة جديدة قوامها التفتح والوعي الفردي، يمارس الإنسان الحياة فيها بكل طاقاته الفكرية والوجدانية، ساعيا إلى تحقيق ذاته بعيدا عن طغيان رجال الدين ووطأة الأوضاع الاجتماعية السابقة.

كان الخروج من نطاق العصور الوسطى والانطلاق نحو تلك الغايات الإنسانية والفكرية يقتضي الاهتداء إلى "نموذج" من تراث سابق يصلح نقطة للبداية، ووجده أدباء النهضة في تراث الإغريق والرومان الذي يمثل قمة النضج الفكري والفني، ويشبه روح النهضة بما فيه من نزعة إلى الحرية والإنسانية.

ومع اجتماع الرغبة في الحرية وتحقيق الذات، وضرورة الرجوع إلى نموذج يحتذيه الأديب، نشأ في أدب النهضة اتجاهان متعارضان لكنهما متكاملان في الوقت نفسه: اتجاه إلى التحرر والانطلاق، واتجاه يحرص على محاكاة ما في النموذج القديم من قواعد وأصول مرعية. ولما كان عصر النهضة عصر حرية لغوية وتجارب فردية في لغات كانت ما تزال جديدة بعد أن تفرعت من اللاتينية، وكان عصر الأدب القديم وليد حضارة قائمة على الحرية، فقد زال ما بين الإبداع الفردي وضرورة المحاكاة من تعارض وتآزر الاتجاهات ليحققا للأدب توازنا مقبولا بين القديم والجديد. على أن عصر النهضة أخذ يقترب من نهايته بعد قرنين من ابتدائه فتضاءلت نزعة الحرية الفردية والإبداع الفني أمام سلطان الكنيسة والملوك والحكام، وبدأت الحرية اللغوية تنكمش أمام قواعد محكمة أخذت تشيع وتقرر الخطأ والصواب، وما يجوز وما لا يجوز، وأنشئت "أكاديميات" غايتها المحافظة على سلامة اللغة وصحة ألفاظها وقواعدها، وكان من أهمها "الأكاديمية الفرنسية" التي أعيد تنظيمها عام 1635، وكان من أهدافها: "أن تمنح اللغة الفرنسية اليقين من خلال القواعد، وتحفظها نقية بليغة قادرة على الوفاء بحاجات العلوم والفنون".

ومنذ بدايات القرن السادس عشر استمد أدب "الكلاسيكية الجديدة" أصوله وقواعده من الدراما الإغريقية وانتهى في "نظريته" إلى ما يشبه نظرية "المحاكاة" عند أرسطو، فالأدب محاكاة للطبيعة، وقد فسر فلاسفة العصر ونقاده الطبيعة بأنها حقائق الحياة الكلية الثابتة، وأن قواعدها جزء من نظام كوني ثابت، وأن قواعد الفن جزء من هذا النظام له صفة الدوام والثبات. وبلغت "الكلاسيكية الجديدة" ذروة اكتمالها في القرن السابع عشر في فرنسا ثم في إنجلترا، ثم في سائر الدول الأوربية، وفي فرنسا وضع النقاد قواعد محددة للإبداع الدرامي وحكموا على الأدباء بمقدار اتباعهم أو مخالفتهم إياها، وكان "بوالو" من أبرز هؤلاء النقاد وألف كتابا عن فن الشعر عام 1674 بين فيه تلك القواعد، وظهرت طائفة مرموقة من الشعراء المسرحيين، على رأسهم الثلاثة الكبار: كورني "1606 - 1684" وراسين "1639 - 1699" وموليير "1622 - 1673"، وقد حافظ هؤلاء الشعراء - في الأغلب - على أصول المسرحية الإغريقية وعلى الوحدات الثلاث: وحدة الموضوع ووحدة الزمان والمكان وإن راعوا - إلى حد ما - شيئا من ضرورات الحياة والمجتمع في عصرهم.

أما في إنجلترا فقد تأخر ظهور الكلاسيكية الجديدة إلى أن عاد إليها من الأدباء من عاشوا في البلاط الفرنسي بعد عودة الملكية عام 1660، ومنذ ذلك الحين بدأت مرحلة جديدة في حياة الأدب الإنجليزي، وبعد أن كانت المسرحية قد حظرت على مدى ثمانية عشر عاما في عهد المتزمتين، ظهرت مسرحية الكلاسيكية الجديدة دون أن تصادف أمامها عوائق من قواعد وتقاليد قائمة.

وكان درايدن من أبرز كتاب تلك المرحلة ونقادها؟ وقد تأثر بالناقد الفرنسي بوالو فكتب مقالا عن الشعر الدرامي وقواعده عام 1668، وكذلك فعل الشاعر بوب إذ كتب رسالة شعرية تعليمية يبين فيها قواعد المسرحية كما فعل بوالو.

بين الرومانسية والكلاسيكية

وقد تبدو الأسس التي قامت عليها الكلاسيكية أكثر جلاء إذا ما قورنت بالمذهب الرومانسي الذي أعقبها بين خصومة فكرية وأدبية طويلة حين تجمدت الكلاسيكية وخنقتها المبادئ والقواعد الشكلية، فأصبحت غير قادرة على التعبير عن طبيعة مرحلة كان المجتمع الأوربي يوشك أن ينتقل إليها أواخر القرن الثامن عشر، ويقوم هذا المذهب على وجود الفرد وتجاربه الذاتية وحريته وشعوره الخاص بالحياة واستخدامه للغة.

ومن مبادئ الكلاسيكية النزعة الاجتماعية التي تحرص على بيان المشترك العام بين الناس ولا تلتفت كثيرا إلى الخصائص الفردية المميزة، لذا تبدو الشخصية الدرامية الكلاسيكية "نمطية" تمثل "الإنسان" في موقف أو أزمة أو قضية ذات طابع عام، وتعبر برؤيتها عن رؤية المجتمع، أما الشخصية الرومانسية فلها وجودها الذاتي المتميز في موقف فردي خاص تدركه بوجدانها قبل أن تدركه بالعقل والمنطق، ويسوق الإدراك الوجداني إلى الخروج عن العرف اللغوي أو القواعد المرعية أو الدلالة المعروفة للألفاظ، والاعتماد على الخيال لتصوير عواطف الفرد وإحساسه بالحياة والطبيعة، وهو في هذا يخالف التعبير الكلاسيكي الذي يحرص على اتزان الأسلوب ورصانته ويتجنب قدر الطاقة المبالغة والانسياق وراء شطحات الخيال، ويسعى إلى "الجلال" أكثر من سعيه وراء "الجمال".

ولا يعني هذا أن الكلاسيكية تخلو من العواطف أو أنها تبخس العواطف قدرها، لكن التجربة العاطفية تظل محكومة يوجهها الشاعر إلى الغاية الكلية لعمله الأدبي، ويسيطر عليها "العقل" الذي يمثل الإدراك السليم والرؤية الجماعية المستقرة، وما دام الشعر عند الكلاسيكيين محاكاة للطبيعة فلا بد أن يكون مرآة صادقة لها تعكس صورتها العقلية بعيدا عن النزعات الشخصية المتقلبة، لذلك دعا بوالو - في فن الشعر - إلى أن ترسم الشخصية كما هي في الحياة وأن يحافظ الكاتب على الوحدات الثلاث، فبدون ذلك لا يتم "الإيهام بالواقع" الذي هو غاية العمل المسرحي.

ومع أن هذه المقومات الموضوعية والفنية كانت في البداية منبع حياة للكلاسيكية الجديدة، فقد كانت - في الوقت نفسه - تحمل بذور موتها، فهي بحرصها الشديد على العقل والاتزان والوضوح، والتعادل بين الموضوع والشكل، والتنكر للذاتية، تفقد التلقائية والقدرة على الابتكار، وتتجمد في النهاية على قواعد ثابتة كانت تتغلب على ضروراتها مواهب كبيرة في البداية فتخضعها لسيطرتها، ثم انتهى الأمر إلى أن يكون للقواعد الغلبة والسيطرة بعد أن ضعفت المواهب واشتد سلطان النقاد الكلاسيكين في أواخر عهد الكلاسيكية.

العرب والكلاسيكية

كان التقاء الحضارة العربية الإسلامية بالحضارة الأوربية الحديثة أعنف هزة أصابت الوجدان العربي منذ أن لحقه الركود إبان القرون الطويلة من الحكم العثماني، وحين التقى المماليك على صهوات جيادهم المطهمة، بجنود نابليون في عدتهم ونظامهم أواخر القرن التاسع عشر لم تغن عنهم سيوفهم ولا أسلحتهم العتيقة شيئا، وأدركوا وأدرك معهم العرب في مصر والشام أنهم يعيشون عصرا قد انقضى ويواجهون حضارة جديدة لعلهم قد اتصلوا بها من قبل على نحو ما، لكنهم لم يدركوا مدى ما بلغته من تقدم في العلم والثقافة والمدنية حتى اصطدموا بها في ذلك اللقاء الحربي غير المتكافئ.

على أن العرب سرعان ما أفاقوا من صدمتهم بفضل ما بقي في نفوسهم من عراقة الحضارة، وما ظل لديهم من بعض أمجاد التراث، فبدأوا ينظرون في وضعهم نظرة واعية جديدة، وكما عادت أوربا في عهد نهضتها الحديثة إلى تراث اليونان والرومان القديم، بدأ العرب ينظرون في تراثهم ليختاروا من إبداعه وقيمه الروحية والحضارية ما يعينهم على مواجهة هذا الوضع الجديد، ومحاولة اللحاق بما يشبه حضارة ذلك الغازي وتفوقها في العلم والأدب. وهكذا بدأت في وقت واحد حركة إحياء لبعض ألوان من التراث العربي وحركة اقتباس لبعض ثمار الحضارة الأوربية في العلم والفكر والأدب والسياسة والاجتماع ومظاهر المدنية الحديثة، وظهرت - بعد أن خفت قبضة الأتراك على مصر بعد رحيل الحملة الفرنسية - طبقة من المثقفين، بعضهم ممن أعادوا دراسة التراث بروح عصرية نسبيا.

وهكذا ظهر - في مصر والشام أول الأمر - أعلام في أمور الاجتماع والحضارة والدراسات الأدبية والنقد الأدبي، تتفاوت حظوظهم من الشعور بروح العصر الحديث وقدراتهم على النظر إلى التراث بفكر وذوق جديدين، لكنهم جميعا يشتركون في إدراكهم ضرورة إحياء ذلك التراث والانتفاع بخير ما فيه وتقديمه إلى الناس في صورة تجذبهم إليه وتزيل ما بينه وبينهم من حواجز الزمان والبيئة واللغة. ومن هؤلاء الأعلام رفاعة الطهطاوي وحسين المرصفي وأحمد فارس الشدياق وناصيف اليازجي وإبراهيم اليازجي وبطرس البستاني وسليم البستاني، وكثيرون غيرهم، وقد نشروا أفكارهم ودراساتهم في كتب مفردة أحيانا وفي مجلات أدبية كان لها فضل كبير في إشاعة روح النهضة الحديثة.

الشعر يبحث عن الجذور

وإذا كانت الكلاسيكية الجديدة في أوربا قد قامت في أغلبها على إحياء تراث الشعر المسرحي للإغريق والرومان، فقد كان الشعر العربي القديم أساس النهضة في الشعر العربي الحديث، وكان الشعر - كما هو معروف - قد انتهى منذ أواخر العصر العباسي حتى ذلك الحين، إلى درك من الضعف لا سبيل إلى الخلاص منه إلا بالاهتداء إلى نقطة بدء صالحة للسير على طريق عصري جديد.

وقد أتيحت للشعر موهبة كبيرة وضعته على أول الطريق إلى النهضة الحديثة، هي موهبة محمود سامي البارودي وإن سبقه بعض الشعراء الذين مهدوا السبيل، وعاصره آخرون في بعض أرجاء الوطن العربي، لعل أبرزهم إبراهيم اليازجي "1847 - 1906" ومحمد سعيد حبوبي "1850 - 1915".

وشعر البارودي يشبه في صوره ومعجمه وبناء عبارته وإيقاعه العام، شعر الكبار من شعراء العصر العباسي، وشعر العذريين من شعراء الدولة الأموية، ومع ذلك يتميز بلمسات "عصرية" تنم عن انتمائه إلى العصر الحديث. وقد شملت حركة الإحياء الشعرية أرجاء الوطن العربي على اختلاف في البداية والمستوى لكنها جميعا ظلت تنظر إلى "النموذج" الشعري القديم وتستمد منه كثيرا من القيم، وإن خالفت في طبيعتها روح العصر الحديث إذ كانت غاية الشعراء الأولى أن يبلغوا في إبداعهم ما كان للشعر القديم من ألفاظ مختارة وبناء محكم وإيقاع جهير، تلك العناصر التي كانت تحقق له ما اصطلح النقاد على تسميته "الجزالة" أو "الرصانة" في مقابل ما اتسم به في عهود ضعفه من "ركاكة" أو "إسفاف".

أما النثر فقد فرضت عليه طبيعة العصر أن يجاري ضرورات الصحافة والتأليف في الأدب والنقد والإبداع في فنون جديدة كالرواية والمسرحية، فلم يتجه إلى إحياء أساليب النثر القديم إلا في محاولات لم يكتب لها النجاح إذ بدت بعيدة عن ذوق العصر، عاجزة عن الاستجابة لحاجات الصحافة وفنون الأدب الجديدة، وبدت "عتيقة" في ألفاظها المعجمية وفواصلها وسجعها وما يغلب عليها من صنعة البديع، واضطر بعض من خطر لهم أن يحيوا بعض أشكال النثر القديم - كالمقامة - أن يتحرروا من كثير مما كان لهم من طابع خاص مسيطر، كما فعل المويلحي في "حديث عيسى بن هشام" وحافظ إبراهيم في "ليالي سطيح".

الرواية التاريخية

على أن الكلاسيكية الجديدة قد تحققت في لون آخر جديد من ألوان النثر، هو الرواية التاريخية التي اتخذت موضوعاتها من التاريخ العربي والإسلامي في لحظاته الحاسمة، وحرص كتابها - بدرجات متفاوتة - على نقاء اللغة ورصانة الأساليب.

وكما لم تخل مسرحيات الكلاسيكية الجديدة في أوربا من التجارب العاطفية، تضمنت الرواية العربية التاريخية قصص حب ثانوية تجتذب القارئ وتغريه بمتابعة وقائع التاريخ، وكان جرجي زيدان من رواد هذا الاتجاه الذي امتد - حتى بعد انقضاء حركة الإحياء - عند كتاب عرفوا بأساليبهم البيانية الخاصة، مثل علي الجارم وعلي أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان، وغيرهم من كتاب الوطن العربي. وقد تفاوت بقاء الكلاسيكية العربية الجديدة من بلد عربي إلى آخر، ففي البلاد التي تأخر اتصالها بالحضارة الغربية، ولم تتغير أحوالها الاقتصادية والثقافية تغيرا كبيرا، عاشت الكلاسيكية أمدا طويلا وكان أدبها تقليدا للتراث القديم لا يدنو من مستواه في السيطرة على اللغة والتفوق في أساليب البيان.

حركة التجديد

وهكذا لم تعش الكلاسيكية الجديدة طويلا في ذلك الجانب من الوطن العربي، وتلاها اتجاه جديد عرف باسم "حركة التجديد" ثم ظهرت الرومانسية مخاصمة للكلاسيكية وحركة التجديد معا، داعية إلى مذهب جديد، يقوم بخلاف الكلاسيكية وحركة التجديد بوجه عام على التجارب غير النمطية، ويطلق العنان لخيال المبدع ويهديه إلى أساليب بيانية جديدة.

وبلغ من قصر الزمن الذي عاشته الكلاسيكية في تلك البلاد، أن بعض الشعراء ممن شاركوا في نشأتها امتدت حياتهم الفنية حتى أصبحوا من أعلام الحركة الرومانسية بعد ذلك.

ومع أن بداية القصص العربي كانت تلتمس نماذجها مما سبق إليه بعض القدماء، فإنها لم تلبث أن نمت في سنوات قلائل لتتحول إلى قصص وروايات حديثة متأثرة بكتاب أوربيين معروفين في فن القصة والرواية.

لكن الاتجاه الكلاسيكي لم ينقض تماما بانقضاء مرحلته في آخر القرن التاسع عشر، بل ظل يمتد في صورة تيار فرعي يسير جنبا إلى جنب مع الاتجاه الوجداني - أو الرومانسي - أو يبدو أحيانا خلال إبداع الشعراء الرومانسيين أنفسهم متمثلا في بعض ما اختزنوه من لغة التراث وأساليبه، بل إنهم كانوا يتخلون أحيانا عن أساليبهم الحديثة ويعودون إلى رصانة الشعر القديم وإيقاعه كلما أرادوا أن يعبروا عن موقف سياسي أو اجتماعي أو قومي عارض، كان للشعر العربي القديم فيه ذخيرة كبيرة يستعان بها.

والحق أن الكلاسيكية العربية - قديمها وجديدها - ظلت دائما طرفا في أية خصومة بين القديم والجديد في الشعر العربي، على اختلاف العصور، وكان الجديد يقاس بمقدار حفاظه على "النموذج" القديم وقيمه اللغوية والأسلوبية والفنية التي عرفت باسم "عمود الشعر". وحين ثار الجدل حول شعر أبي تمام ومدى خروجه على المألوف في الشعر القديم، كانت حجة أنصاره وخصومه على السواء تدور حول هذه القضية، فإذا قال أنصاره إنه انفرد بمذهب شعري جديد قال خصومه إنه لم يسبق إلى ذلك المذهب بل وجده في أشعار السابقين فأسرف فيه، وإذا دافع أصحابه عن تجديده الذي رفض ذوق المحافظين التمسوا له - هم أيضا - أصولا في الشعر القديم، واعتذروا عن بعض سقطاته بسقطات مماثلة لبعض الشعراء الجاهلين.

وحين دار الجدل بين دعاة الاتجاه الوجداني - أو الرومانسية العربية - وأنصار الاتجاه الكلاسيكي، كان محوره رفض هؤلاء الدعاة لطبيعة التجربة الكلاسيكية "الموضوعية" وأساليب الشعر الكلاسيكي وصوره التقليدية، أما أنصار الكلاسيكية فقد رموا الشعر الرومانسي بضعف اللغة والأسلوب وشطط الخيال والخروج أحيانا على المألوف في القصيدة العربية.

قضايا الشعر الحر

وحين ظهرت حركة الشعر الحر لم يتجه كثير من النقاد إلى دراسة دواعي ظهورها وطبيعتها الفنية، بقدر ما اتجهوا إلى ملاحظة خروجها على تقاليد الشعر العربي في اللغة والأسلوب، وأحيانا في الوزن والإيقاع، ورماها أنصار الكلاسيكية بأنها إفساد للذوق العربي وخروج على التقاليد لضعف الموهبة والقصور في معرفة أساليب اللغة. ويدور في هذه الأيام جدل دائم حول اتجاه "الحداثة" في الشعر، فلا يهتم شعراؤه ونقاده كثيرا بتوضيح نظريته، ودراسة قيمه الفنية دراسة مستمدة من تحليل نصوصه، بقدر اهتمامهم بمهاجمة "الكلاسيكية" والنزعات التقليدية.

أما خصوم الحداثة فيقيسون ما يرونه فقرا في اللغة وركاكة في الأسلوب وغموضا في الدلالة إلى ما في النص الكلاسيكي من ثراء المعجم ورصانة البناء ووضوح المعنى. وما زال الشعر العربي الحديث يتقاسمه حتى اليوم اتجاهات تتراوح بين كلاسيكية "عصرية" أفلح شعراؤها في المزاوجة بين رصانة القديم ويسر الحديث، في إيقاع يرضي أذواق من يطربون لموسيقى الشعر العربي التي امتدت عبر القرون، وشعر حر يقف وسطا بين القديم والحداثة ويصل إلى جمهور كبير من القراء والمستمعين بما يجمع من تقاليد التراث وقيم المعاصرة، وشعر "حداثة" يتسم بجرأة غير مألوفة على اللغة والإيقاع ويشيع فيه غموض يتفاوت من شاعر إلى آخر، ويقبله بعض محبي الشعر ويعرض عنه آخرون.

وما كان لهذه المذاهب الأدبية المتباينة أن "تتعايش" في مرحلة واحدة لولا أن المجتمع العربي - في بلاده العديدة وفي البلد العربي الواحد - لم يصل بعد إلى مرحلة حضارية متميزة حاسمة تقتضي قيام مذهب أدبي عام يعبر عن طبيعتها وحاجاتها، وتنقضي بقيامه حياة مذهب سابق كان يعبر عن مرحلة انقضى زمانها.

وستظل روح "الكلاسيكية" شائعة - على نحو ما - حتى في شعر الحداثة الذي يغلب عليه "الاقتباس" المتعمد من التراث، حتى ينتهي المجتمع العربي إلى اتساق حضاري بين بلاده ومجتمعاته وطبقاته وأجياله.

 

عبدالقادر القط