حِراك الدولة المدنية
حِراك الدولة المدنية
المواكب للحوار حول القضايا الإسلامية الراهنة، وبخاصة ما يتصل منها بالجانب السياسي، وفي مقدمتها إشكالية الدولة، يلمس في يسر غياب الوعي في جل الحالات بأن الفكر الإسلامي قد توقف عن الاجتهاد والتجديد منذ القرن السادس الهجري، ولا غرابة في ذلك فقد بدأ خط ازدهار الحضارة العربية الإسلامية يتجه نحو الانحدار غداة تقلص دينامية المدينة العربية الإسلامية، وسيطرة ظاهرة الإقطاع العسكري من جهة والمذهب السني الأرثوذكسي: الأشعرية من جهة ثانية. وما برز بعد ذلك من فكر تجديدي هنا وهناك كان نادرا لا يندرج ضمن مد حضاري شامل ومتنوع كما كان الأمر في القرن الثالث، أو الرابع للهجرة. من الأسماء القليلة التي أضاءت بفكرها في مرحلة الأفول ابن رشد الحفيد (520-595) في مجال الفلسفة، وحازم القرطاجني (608-684) في فنون البلاغة والنقد، وابن خلدون (732-808) في مجال الفكر السياسي والتاريخ، وتلميذه المقريزي (766-845) في الإنسانيات. أما الظاهرة الطاغية فهي ظاهرة المتون والشروح والحواشي، وقد توافق ذلك مع انتشار الطرق الصوفية والزوايا في مرحلة المماليك. قطيعة معرفية وهكذا نستطيع الحديث دون مبالغة عن قطيعة معرفية أو تكاد في مجال التجديد المعرفي امتدت ثمانية قرون، وهي المرحلة التاريخية التي عرفت سقوط بغداد، وبداية صراعين دمويين أديا إلى تفكك وحدة العالم الإسلامي، وبروز مرحلة الدويلات الصغيرة في المشرق العربي، وضياع الأندلس في الغرب الإسلامي، وأعني بالصراعين: الحروب الصليبية، وحركة الاسترداد. استطاعت الدولة العثمانية أن تعيد وحدة المشرق بقوتها الانكشارية، لكنها لم تنجح في إحياء الدينامية الحضارية التي عرفها العالم الإسلامي في القرون الخمسة الأولى للهجرة. إنني حريص في هذا الصدد على الإشارة الى أن مرحلة الأفول الحضاري المذكورة لم تعرفها الحضارة الغربية، فمسيرتها متواصلة منذ القرن الثاني عشر حتى اليوم، وهذا ما يجعل المقارنة التي يقوم بها البعض لا تستقيم منهجيا. نخبة الإصلاح برزت غداة الصدمة الحضارية التي أحدثتها حملة نابليون على مصر نخبة آمنت بالإصلاح السياسي، واقتباس معالم التحديث الأوربي، محاولة التوفيق بينها وبين التراث الإسلامي، مدركة أن القطيعة المعرفية غير ممكنة، رجال هذه النخبة هم رواد الحركات الإصلاحية التي عرفها القرن التاسع عشر، ونجد ضمنهم رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873), وخير الدين (1810-1890)، وأحمد بن أبي الضياف (1804-1874)، وبيرم الخامس (1840-1889)، واحمد فارس الشدياق (1804-1887)، وجمال الدين الأفغاني (1838-1897): ومدحت باشا (1822-1883)، وولي الدين يكن (1873-1921)، وفرح أنطون (1877-1922) ومحمد عبده (1848-1905)، وعبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) وغيرهم. ركز النهضويون العرب جهودهم على مسألتين أساسيتين: مقاومة الحكم المطلق، والسعي للإفادة من تجربة الحداثة الأوربية، مدركين ضرورة إحياء الجوانب العقلانية المضيئة في التراث العربي الإسلامي، فليس من الصدفة أن تنتشر مقدمة ابن خلدون ضمن النصوص التراثية الأولى الصادرة عن مطبعة بولاق، وقد وظف ابن أبي الضياف في تحليله للحكم المطلق فصل «الظلم مؤذن بخراب العمران» من المقدمة، ونجد بين هؤلاء من ذهب بعيدا لما طالب بضرورة الاجتهاد في النصوص المؤسسة لتنسجم مع القضايا الإسلامية الجديدة، ولا نقف في أدبيات التنويريين العرب على نظرة تقديسية لما يسمى بالسلف، فهم أناس عاديون اجتهدوا في حل مشاكل عصرهم فأصابوا وأخطأوا. فشلت الحركات الإصلاحية سياسيا، إذ لم تستطع الوقوف في وجه الحكم المطلق، ولم تتمكن أيضا من إنقاذ الأقطار العربية من الاستعمار المباشر، ولكنها نجحت فكريا، إذ في أحضانها ولدت حركات التحرر الوطني التي قادت معارك الاستقلال، وأمل المواطن العربي أن الدولة الوطنية الحديثة ستحقق أحلام النهضويين العرب، ولكنها سرعان ما انقلبت إلى دولة قامعة سيطر عليها العسكر والأحزاب الشمولية. وأود الإلماع هنا إلى المكاسب السياسية والفكرية التي تركوها لنا، ومن أبرزها تنبيت مفاهيم حديثة في التربة العربية مثل الحرية، والمواطنة، والدستور، والبرلمان، والسلطة المنتخبة، والربط بين الظلم السياسي والخراب العمراني بالمفهوم الخلدوني، فقد كانوا هادفين لما سجلوا في رحلاتهم إلى أوربا خطورة المؤسسات الدستورية، ومراقبة البرلمان للسلطة التنفيذية، وكذلك احترام الحريات العامة. نجد ذلك بوضوح في رحلة الطهطاوي «الإبريز في تلخيص باريز»، وفي «أقوم المسالك» لخير الدين، وفي «كشف المخبأ» للشدياق. بعيدًا عن القضايا المصيرية إنني أميل إلى الاعتقاد بأنه لو لم تحدث تلك القطيعة الفكرية، وتواصل الاجتهاد الذي عرفته عصور الازدهار لتم الحسم في قضايا إسلامية مطروحة اليوم، ويغرق الناس في الحديث عنها، بل يبلغ الأمر حد الصراع في فهمها وتأويلها، وهي غالبا قضايا ثانوية تؤخر، ولا تقدم، وليس من الصدفة أن بعض الجهات الدولية تغذي هذا الصراع الهامشي الشاغل عن معالجة القضايا المصيرية. الإسلام السياسي السني ظاهرة جديدة لا علاقة لها في نظري بالتجربة السياسية المتنوعة التي عرفتها عصور الازدهار، ولا بتيارات النهضويين العرب، فمن النادر أن نجد في أدبيات نخبه العودة إلى نصوصهم. ليس هدفي تناول النصوص الإسلامية التي نظمت بالأمس حياة الناس اليومية، وإنما هدفي إبداء الرأي حول السلطة السياسية، أي الدولة المشرفة على تسيير شئون المجتمع. إن إشكالية نمط الحكم في العالم الإسلامي مطروحة منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة حتى اليوم. هذا هو جوهر الإشكالية التي يحاول هذا النص إلقاء بعض الأضواء عليها. سؤال الثورات العربية السؤال المحوري الذي طرحته الثورات العربية هو: ما هي طبيعة الدولة الجديدة التي ستشيد على أنقاض مرحلة الاستبدادية العربية؟ واكتسب هذا التساؤل خطورة وإلحاحا بعدما لاح في الأفق إمكان وصول حركات الإسلام السياسي إلى السلطة. السؤال المطروح اليوم بحدة في تونس، ومصر، وسيطرح غدا في سورية واليمن، وغيرهما من الأقطار العربية هو: دولة دينية أم دولة مدنية؟ وهنا يتساءل الناس محتارين: كيف يمكن الحديث عن دولة دينية في مطلع الألفية الثالثة، وبخاصة بعد أن شاهد الناس الويلات التي عاشها، أو تعيشها اليوم دول تزعم أنها تطبق الشريعة الإسلامية؟ طفت الإشكالية على السطح بعد بروز فئات تطالب بإحياء الخلافة ذاهبين إلى القول: إنها مؤسسة دينية وهو خطأ، فالمفهوم الذي استعمل في العصر الراشدي، وهو العصر الذي يتخذه أنصار الخلافة نموذجا يحتذى، هو مفهوم لغوي بحت، ليست له علاقة بمعنى ديني أو سياسي. يقول العرب خلفته أي جئت بعده، وخلفه في قومه خلافة، أي أصبح مسئولا عنهم، واستخلف أبو بكر عمر (ر)، أي جعله خليفة لإدارة شئون الناس، والدليل أنه ليس له معنى ديني هو رفض عمر أن ينادى به فلما ولي قال للناس: ماذا ستقولون خليفة خليفة رسول الله، وماذا ستقولون لمن سيأتي بعدي، فهذا أمر لا يستقيم، أنتم المؤمنون، وأنا أميركم، فأنا أمير المؤمنين. الشكل أم المضمون? لما بدأت مرحلة الاستبدادية والتوريث مع الدولة الأموية في دمشق أعطي للمفهوم معنى ديني، وقال المفتون الجدد المواكبون دائما للركب السلطني - وما أشبه الله بالبارحة: «جاز أن يقال للأئمة خلفاء الله في أرضه»، بل ذهبوا بعيدا فوظفوا النص القرآني خدمة للسلطة، مئولين قوله تعالى «يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض.....»، ومن هنا برزت بعد ذلك مقولة «خليفة الله في أرضه»، وهي مقولة لا علاقة لها بالدعوة الإسلامية، فلم يدع أحد من الخلفاء الراشدين أنه خليفة الله في أرضه. لا أدري ما هو نمط الخلافة التي يريد البعض إحياءها، والنسج على منوالها؟ - خلافة معاوية بن أبي سفيان الذي شرع لأول مرة للحكم الوراثي في الإسلام، ولمن سلمه؟ سلمه لابنه يزيد الذي قتل جلاوزته النساء والأطفال في كربلاء، وسبى حفدة الرسول (ص)، وأرسل بجيشه إلى المدينة، لما رفض سكانها بيعته، فاستباحها وانتهك الحرمات، وسبى سكانها، وقتل الآلاف، وبينهم عشرات الصحابة. - أم خلافة أبي العباس السفاح؟ وقد لقب بالسفاح لكثرة ما سفك من الدماء، وقد تفنن في الصلب والإحراق. - أم خلافة عبد الحميد الثاني، وقد لقب بالسلطان الأحمر لكثرة ما سفك من الدماء؟ ليس هدفي من الإشارة إلى بعض الأمثلة، وهي غيض من فيض، الإساءة إلى التاريخ الإسلامي، فهذه النماذج من الاستبداد لا علاقة لها بمبادئ الإسلام وقيمه، وهي أساليب استبدادية ارتكبت باسم المسيحية كذلك، ورفع الصليب في مقدمة حملاتها الدامية، وإنما هدفت إلى ذكر المآسي التي ارتكبت لما وظف الدين لخدمة الاستبدادية العربية، وأصبح الخليفة ظل الله في أرضه يتصرف في رقاب الناس باسمه. انتشرت يومئذ عشرات الأحاديث الموضوعة لإضفاء القداسة على الخلفاء مثل «إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار»، وفي نص آخر أن النبي (ص) قال: «الأمناء ثلاثة جبريل وأنا ومعاوية» وفي حديث آخر موضوع دون ريب قال رسول الله (ص): «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»! توظيف الدين سياسيًا هدفت أيضا إلى الإشارة بأن توظيف الدين لخدمة الطغاة استمر في التاريخ السياسي من معركة صفين حتى اليوم، ولم تسلم منه الثورات العربية الراهنة. إن الدارس لفكر التيارات الإسلامية يلمس نقطة ضعف واضحة في مرجعياتها نتيجة عدم دراسة التجربة التاريخية للمجتمع الإسلامي دراسة دقيقة وموضوعية، وهي تجربة ثرية ومتنوعة، ويلاحظ أن أنصارها يقفزون على التاريخ، ويطعنون أحيانا في حقائق تاريخية سجلها أجدادنا بكل أمانة، ودون مركبات، ذلك أنهم أدركوا أن ما ارتكب من ظلم ناشئ عن سلطة سياسية غير شرعية، ولا علاقة له بالإسلام، وإنما الإسلام اتخذ مطية، كما يتخذ اليوم في كثير من الحالات. هناك مفهوم آخر طفا إلى السطح غداة اندلاع الثورات العربية، وهو مفهوم ما ضوي ضبابي، وأعني بذلك مفهوم «السلف الصالح»، وقد انطلق من المفهوم اللغوي، فالسلف هم لغويا المتقدمون، وسمي الصدر الأول من التابعين «السلف الصالح»، وهو الجيل الذي جاء بعد الصحابة، ولكن من هؤلاء؟ هل يمثلون فئة اجتماعية منسجمة، ولها رؤية خاصة بها؟ تتحدث المصادر عن جيل اعتزل الصراع السياسي بعد محنة صفين، ومحنة استباحة جيش يزيد مدينة الرسول (ص)، ثم بعد ذلك استباحة جيش الحجاج مكة في الصراع الأموي الزبيري، ونستطيع القول دون مبالغة: إن السلف الصالح يمثلون جيل اليائسين من حل إشكالية السلطة في المجتمع الإسلامي فبعدوا واعتزلوا، وبعضهم تنسك، ولعل ما تميز به جيلهم رفضهم خدمة السلطة الاستبدادية، وينسى من يتخذ اليوم «السلف الصالح» مثالا يقتدى به أنهم عاشوا في مرحلة تاريخية معينة لها قضاياها الخاصة جابهوها بأساليب عصرهم فأصابوا وأخطأوا، شأنهم في ذلك شأن الجيل الذي سبقهم، جيل الصحابة. لا حرج أن يتأثر الناس اليوم بقيم الرموز البارزة في جيل السلف الصالح مثل سعيد بن المسيب الذي رفض بيعة توريث ابني عبد الملك بن مروان فحلق شعره، ونتفت لحيته، وأوقف في السوق يتفرج عليه الناس، أما أن تتخذ تجربة السلف لتطبق بعد مرور أربعة عشر قرنا، وفي عصر العولمة فذلك أمر غريب، ومنطق أشد غرابة. ويقول الأتباع اليوم: إن سبب تدهور العالم الإسلامي وتخلفه هو عدم الأخذ بنموذج السلف الصالح! متى كانت المجتمعات تتقدم، أو تتأخر لأسباب دينية. * * * وعندما أعود لإشكالية الدولة الدينية والدولة المدنية أبادر قائلا: إن الدولة الدينية التي عرفها التاريخ الإسلامي هي دولة المدينة أيام الرسول، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وانقطاع الوحي أصبحت الدولة مدنية فيما يتعلق بسياسة تسيير شئون الناس، فالإسلام لم يأت بنمط معين للسلطة السياسية، بل ترك المسلمين أحرارا لاختيار النموذج السياسي المنسجم مع العصر الذي يعيشون فيه، لم يشر واحد من الصحابة المجتمعين في سقيفة بني ساعدة لاختيار من سيتولى تسيير شئون الدولة الفتية إلى عامل ديني، ولم يحتج الصحابة من قريش في مطالبتهم بالسلطة، قائلين: إن النبي (ص) من قريش، بل قالوا: إن العرب لا ترضى بهذا الأمر في غير قريش، وأبو بكر كان يشير يومئذ إلى زعامة قريش السياسية والاقتصادية، وهي زعامة قد مر على تأسيسها وتطورها أكثر من قرن ونصف، واعترفت بها القبائل العربية. لو كان للعامل الديني أية علاقة بطبيعة السلطة في الإسلام ما تجرأ الأنصار منافسة بني هاشم، ومطالبتهم برئاسة الدولة بعد وفاة الرسول (ص). --------------------------------------- نلبس في الصباح، في المساء ملك عبدالعزيز
------------------------------
* كاتب تونسي
أقنعة من العقود والملابس المزركشة
نُخفي بها الجراح
نَشُد في الطريق قامة أثقلها الألم
ونبتسم
والجرح غائر وناغر في قلبنا
يا صاحبي تقول لي:
أغنية عن النجوم والزهور والمطر
وفي فمي دماء أخوتي!
يغص قلبي..
تخنقني الحروف.