حوارنا أمام تحديات الواقع واحتمالاته

حوارنا أمام تحديات الواقع واحتمالاته

هناك أفراد وجماعات مهتمة بإشاعة السلام، بالحوار وتوسيع مساحة الروح والمعرفة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين خاصة، وعلى المستوى الوطني والمسكوني، وبينهم وبين عموم أهل الأديان، أو الانتماءات الفكرية، التي تلتقي أو تبتعد قليلاً أو كثيرًا، عن مسلمات الأديان العقائدية المشتركة، أو المختلفة، على أساس الجامع الإنساني الذي يفترض أن يكون السلام أساس التدين وشغله الشاغل.

هذا الإطار الجامع، من شأنه أن يمكننا إذا أردنا واشتغلنا منفردين ومجتمعين، من التعرف إلى حالات وأسباب وآفاق التوتر، للمشاركة في إنتاج الأفكار والأنشطة اللازمة لتفادي الصراعات أو التخفيف من آثارها، وهذه وظيفة دائمة، لأن أسباب التوتر وإرادة أربابه، كانت ومازالت وستبقى جاهزة لتغليب الشقاق على الوفاق، بين أهل الأديان والمذاهب وداخل المذهب الواحد، مادامت أنظمة المصالح متعددة ومتعارضة، وإن كان يمكن التوفيق أو الجمع بينها، لتجنب الصراع، فإن أرباب السياسة والإدارة من دون استثناء، وبنسب متفاوتة، يتجاوزون دواعي التوفيق بما تقتضي من تسويات تاريخية من شأنها أن تسهم في تجنب الانفجار أو تأجيله أو تبريده، أو إنهائه (بشكل جذري)، إلى إعادة إنتاجها وتضخيمها، تمهيدًا لتفجيرها في حروب كونية أو إقليمية أو محلية، تجد عادة في الفوارق الدينية الطبيعية، مادة يمكن استخدامها بالتظهير والتضخيم، لإحداث هذه الحروب أو إطالة أمدها أو مضاعفة آثارها السلبية، والانتهاء إلى تسويات قاسية على الأطراف الضعيفة، من دون أن تكون امتيازات الأطراف القوية أو مكاسبها، ذات مردود إيجابي، إلا في حدود تأمين مصالح تقع في موقع التوافق أو التواطؤ بين الحكام والطبقات الاجتماعية العليا الضيقة على حساب الفقراء أصحاب المصلحة في السلام والذين يخسرون ماضيهم من أجل مستقبل غيرهم. ولا ينفعهم وعيهم المرضي بالفروق الدينية أو الإثنية في تخفيف آلامهم إن لم يضاعفها.

إلا أن هذه الوظيفة الإيمانية والإنسانية العظيمة، تصطدم بعدم قدرتنا الكافية، أفرادًا أو جماعات، على المعرفة الدقيقة والاختصاصية بالسياسات المتنافسة أو المتحالفة أو المتصارعة، لأنها مملوكة بشكل شبه حصري لأجهزة تزداد فعاليتها بانحصار أفرادها وزيادة سريتها.. إن الأفراد والطبقات والفئات الحاكمة، شديدة الحرص على عدم إتاحة الفرص أو إتاحتها بشكل ضيق جدًا وطبقا لاحتياجاتها، لأمثالنا في أداء وظيفتنا العلاجية أو الوقائية، لأنها ترى فيها انتقاصًا من دور سلطتها أو حرفتها السياسية، من قبل أفراد معنويين أو هيئات معنوية، عفوية أو منظمة، تحمل هموم الاجتماع العام المحلي أو الإنساني، وتنصب نفسها، بمقتضى التزامها الديني، كمؤسسات اجتماع أهلي أو مدني، موازية للسلطة، وإن كانت لا تهدف إلى نقضها بل إلى نقدها وتسديدها، فإنها غير مسموح لها بمنطق (ما)، تراه السلطة من ضروراتها، وإن كانت بعض الإدارات السياسية في بعض الدول (الولايات المتحدة مثلا في عهد بوش الأب) وأمام هزات عنيفة في دورة الإنتاج الاقتصادي وارتداداتها الاجتماعية العميقة، وقد لجأت إلى مواقع فردية ومؤسسات اجتماعية أهلية فاعلة لتوكل إليها جزءًا من عملية الترميم أو العلاج.. فإن إدارات أخرى في منطقتنا، أشد مركزية وأقل معرفة وأهلية وأكثر تقليدية أو اختزالاً لاجتماعها في فرع ديني أو إثني أو سلالي من مكوناته أو حزبي على الرغم من مجاهرتها الخادعة والمراوغة بالتقدمية أو المدنية أو العلمانية وتؤله الحاكم! تزداد رغبتها في الانفراد والمركزية المشددة والإلغاء، عندما يتردى أداؤها وتهتز مصداقيتها، فتعمد إلى العنف المباشر وغير المباشر، ضد أي حركة نقد أو اعتراض أو احتجاج على سلوكها المسبب الأول للأزمات، بالتخلف والفساد والإفساد وتجاهل المطالب الشعبية التي يفرضها قصور الدولة وتقصيرها والمستجدات في الحياة وضروراتها والتي تتحقق من خلالها حقوق الإنسان والموطن في الخبز والحرية على أساس المواطنة وتحت سقف القانون والحقوق الإنسانية. ما يشكل عادة بيئة ملائمة لإنتاج التطرف في الفئات أو الطبقات أو الطوائف المهمشة قد تستغلها قوى تشترك معها في هويتها الفرعية على حساب الشراكة الوطنية غير المتاحة أو المضيقة من قبل السلطة الحاكمة، وتذهب بها بعيدًا عن المصلحة العامة، وبعيدًا عن الديمقراطية كخيار ملائم للحلول العميقة نسبيًا، متذرعة بنقص الديمقراطية أو العدالة، لإلغاء الديمقراطية وإعادة إنتاج الجور والفساد، وعلى هذا الطريق تزهق أرواح كثيرة وتتحطم الأحلام المشتركة وتنهض الذاكرة غير المشتركة مضخمة ومشحونة بالحساسيات والذاكرات المفرقة.

هنا، وكما هو المشهد العربي والإسلامي الآن، تصبح وظيفتنا أشد تعقيدًا.. من دون أن يكون ذلك داعيًا مقبولا أو مسوّغا لتعطيل هذه الوظيفة، بل لعل المصاعب والانسدادات التي تعترض طريقنا بالحروب والصراعات والفتن الجارية أو المتوقعة، هي مما يؤكد ضرورة استمرارنا في عملنا، ولكننا لن نستمر بحال، إذا لم نكن أكثر واقعية وشجاعة وإصرارًا على الفعل في الحيز الممكن، على أن نعمل دائما على توسيع مساحة الإمكان، وهذا يقتضي أن نرتقي في نمط علاقاتنا من العفوية إلى المؤسسية، ومن الموسمية إلى الدوام ومن المجاملة إلى المصارحة، ومن تبسيط الواقع إلى إدراك علمي مشترك لصورته واحتمالاته وإمكانات الفعل في تحويله باتجاه الأفضل أو الأقل سوءًا. وإذا كانت هذه العناوين بحاجة إلى تفصيل، فإن تفصيلها هو شأن ورشة مشتركة غير متعجلة وليس شأن لقاء محدود أو شخص بعينه.

دلائل إضافية

ولكن بإمكاننا أن نتفق الآن أو غدًا على أن هناك أمرًا لا بد من البحث فيه، والتصميم على الوصول إلى نتائج، أعني أنه لم يعد خافيًا على أحد أن إلصاق التهمة لأدياننا ومذاهبنا في مسئوليتها عما جرى ويجري، قد أصبح أقل صعوبة لدى كثير من المخلصين وغير المخلصين، والمنصفين والمشفقين، وأن هناك من الأحداث والأفعال والأقوال الموروثة والمستجدة، ما يصلح أن يكون دليلاً لإثبات التهمة، والقوى السياسية التي تقود الصراع، أو تشارك فيه ميدانيًا، تقدم كل يوم دليلاً إضافيًا على أن أدياننا ومذاهبنا، هي البيئة الحاضنة الأولى لعوامل وبواعث ومبررات الشقاق والصراع والعنف والإرهاب، بحيث يصبح جهدنا ونوايانا وأقوالنا ومؤتمراتنا ومساهماتنا الخيرة في تخفيف آلام، أقرب إلى الأماني أو المسكنات التي تهدئ وجعًا ولكنها لا تعالج مرضًا، وهذا يهددنا بأخطار عديدة، أهمها وأسوأها أن تفاقم الشقاق مع ما يرافقه ويغذيه من خطاب ديني متطرف وقصور أو ضعف مدني، يحول العقل المدني، إلى ما يشبه العقل التكفيري في انغلاقه وتطرفه، والسلوك المدني إلى سلوك عنفي لا تتمكن دعاوى العلمنة من تغطيته (أشد الأنظمة العربية قمعًا وإلغاءً هي الأنظمة التي جاهرت بعلمانيتها).

وهذا المسار المحتمل دائمًا، يحاصرنا ليفرق صفوفنا، نحن أهل الحوار، إلى جماعات محبطة تصر على أفكارها على الرغم من تراجع فعاليتها، ومجموعات تلتحق بقطيعها الديني أو المذهبي أو الإثني أو القاري وتبرر سقوطها في التطرف بالتطرف الآخر!

إن هذا يقتضينا أن نحسب أمورنا بدقة ونتساءل: هل بإمكاننا أن نصنع سلامًا عالميًا أو وطنيًا دائمًا أو شبه دائم؟ مع الالتفاف إلى أن أمثالنا لم يفعلوا ذلك تمامًا في ظروف أقل قسوة وتعقيدًا من الظروف الراهنة.

في تقديري أن الجواب الأقرب مثالاً، هو أن نتفق على أن نصنع سلامًا ما، سلامنا، وأن نتفق عليه بشكل نهائي ونؤسسه على معرفة حقيقية بأدياننا والمشتركات فيما بينها ونقر أن في تراثاتنا ما يفرق كما أن هناك ما يجمع، فلا بد من أن نتشبث بالحياة لنغلب ما يجمع على ما يفرق، وبشجاعة تمكننا من الادعاء أن مصداقيتنا الدينية أقوى وأعمق بكثير من دعاوى الآخرين، ونوسع مساحة السلام من دون أن نحتكرها، بل نفتحها أمام أجيالنا الآتية لنؤمن الاستمرار في توسيعها وتوسعها، من دون أن نفصل ذلك عن الواقع أو نحوله إلى ترف ثقافي أو أكاديمي، بل لا بد من الشغل المنظم والمتراكم والمتنامي، على اختيار الحالات التي نمارس فيها وظيفتنا، في ترسيخ قيم الحوار والسلام والعيش المشترك، مدعومًا هذه المرة بتدبير أنظمة مصالح وتنمية مشتركة تجمع المختلفين تنمو باستمرار حتى لا تتحول في أوقات الصراع إلى ذكرى طيبة ومقطوعة، وشئون كالطفولة والمجاعة والأوبئة والكوارث الطبيعية والمرأة مجالات ملحة ومتاحة.

حاضن أمومي

هل تستطيع مؤسساتنا الدينية الكبرى أن تحتضن هذا التوجه وتعتبره مشروعها الروحي والإنساني؟ هي ونحن بحاجة ماسة إلى ذلك، لأن مؤسساتنا الاجتماعية التي اختارت هذا المسلك، وإن كانت تتكاثر أعداده وأعداد المنخرطين فيها، فإن احتدام الصراعات وانتشارها يهددها بالضمور وقلة الإنتاجية، إن لم يتوافر لها حاضن وحام ومساعد أمومي كبير. وهنا، فينا من يشك في إمكان ذلك ومن لا يشك، ولا بد من أن نتباحث في هذا الأمر، علنا نقوي الظن بالخير على الشك، فنحمل مشروعًا مستقبليًا موضوعيًا وجادًا، بعد مدارسة طويلة ومعمقة، إلى مؤسساتنا المحلية والمسكونية.. فإن لم نجد آذانًا صاغية اتفقنا على أن نتدبر أمرنا وحدنا.

هذا وأنا أرى انتشار الربيع العربي فيعتريني كثير من الرضا على إسقاط الباطل وإزهاقه، ولكني لا أرى الحق في مستوى وضوح الباطل نفسه، مايبرر لي خوفي من المستقبل، على أني هذه المرة، وفي ما يعود إلى المستوى الديني من المسألة وتعقيداتها، لا أرى أن المعني هو هذه المنطقة أو هذا المشرق القلق وحده، ومن النرويج إلى بريطانيا بعد البوسنة والهرسك إلى أمكنة غربية أخرى وكثيرة، كل الوقائع والمؤشرات تؤكد أننا أمام احتمالات متشابهة إن لم تكن متطابقة. وقد يكون الآتي هو حرب كونية جديدة، لا أستطيع أن أخمن أطرافها، تحل كوارثنا العظيمة بأعظم منها، تمهد لإعادة إنتاج المشاكل بشكل أكثر إيلاما وبشاعة، فهل يمكن أن نطمح أو نطمع بالتأسيس لأطروحة حضارية وثقافية مشتركة، تتكافأ فيها الأطراف المنتجة لها، لاعلى أساس القوة أو الثروة، بل على أساس جدل المعرفة والثروة والحاجة، أي القوة العادلة أي التي تلزم التعدد بالاحتكام إلى الوحدة والتوحيد والمحبة والمشاركة.

إني أعتذر إذا ما تنصلت من تقديم رؤية ولو تقريبية لواقعنا العربي، لأني لا أملك معطيات دقيقة تخولني قولاً دقيقًا وصائبًا أو تقريبيًا في الأقل. وعلى الرغم من بقع الضوء الكثيرة فإني لا أستطيع أن أتجاهل بقع الظلام، الأقل أو المساوية عددًا ونوعًا، ولكن الظلام قد يغلب. فلا بد أن نصنع شموعًا ونضيئها لمنعه من ذلك. وإلا فلنتعاون على ألا نقع في الظلام ولا نكون ظلاميين باستقالتنا أو سكوتنا عن الظلم والظالم. إن المؤسسات الدينية الكبرى والصغرى، العالمية والمحلية والإقليمية، لن تستطيع أن تحمي نفسها من عاديات العصف والعسف الفكري المتعاظم إلا بتجديد دورها من خلالها تجديد فهمها للدين والاجتماع الذي هو سيرورة جارية ومتعرجة وملأى بالرجاء والخطر معًا، أكثر منه كينونة ناجزة، كما أن الاعتداء والوسطية أصوب وإن كان أصعب من التطرف.

إننا في لبنان، وفي جنوبه خاصة، ننظر بخوف وحسرة في الليل والنهار إلى منازلنا ودور عبادتنا الإسلامية والمسيحية وكأنها موقتة في عمرانها وكأننا موقتون في سكناها والصلاة فيها، بسبب التدمير المتعاقب والقتل العشوائي المتكرر، وبقاء شعب فلسطين من دون سلام حقيقي، فكيف لنا أن نطمئن ونمنع التطرف هنا. وهناك متطرفون على حدود بلدنا لا رقيب عليهم ولا حسيب، لا يرتاحون إلا إذا دفعونا إلى التطرف غطاء لتطرفهم. وهنا بالذات تكمن مشكلتنا كأهل حوار واعتدال ونبدو وكأننا نعمل خارج الواقع والتاريخ. ولا ينالناإلا المديح اللفظي من ذوي النوايا الحسنة والهجاء القاسي ممن يعشقون الفصال والصراع من أعداء الوفاق.

لقد سبق لنا، لبنانيين وعربًا، أننا تصرفنا بعد استقلالنا الوطني بشكل يدل على أن الذاكرة الاستعمارية لم تعد عقدتنا، ولكن الإدارات الغربية، لا المسيحية، كما يظن البعض أو يعتقد أو يتمنى، كانت وبنسب متفاوتة وطرق مختلفة تعدينا إلى هذه الذاكرة الأليمة وتجعلنا نرى مستقبلنا في ماضينا خانقًا ومخيفًا.

إن الشعوب الغربية تشاركنا صادقة فرحنا بسقوط الحكام المستبدين والأنظمة المستبدة، واحدًا بعد الآخر، ولكن هناك شكًا موروثًا في مسلك الحكومات الغربية التي تبدي اهتمامها بشكل أو بآخر، ونحن نذكر أن هذاالباطل الاستبدادي ما كان ليستمر هذا العمر الطويل ويقصّر أعمارنا، لولا الاحتضان الغربي لأسياده ورموزه حتى بدا أن أهم هموم الدول الغربية هو حماية الاستبداد العربي والشرقي بديمقراطيتها، من دون أي اعتبار لنا ولهذاالتناقض الرهيب! فهل ينصحنا أصدقاؤنا من أهل الغرب الآن بأن نعد أنفسنا وشعوبنا بأن الدول الغربية لن تصادر ربيعنا العربي وتشارك في جعله خريفًا دائمًا أو زمانًا بلا فصول كأنه القدر الغاشم. وهل تترك لنا أو تساعدنا كما نتفق معها، لا كما تشاء وحدها، على إحقاق حق شعوبنا في دول حديثة مدنية جامعة وحاضنة بالديمقراطية والقانون لاجتماعها التعددي، ولا تساعد أحدًا على محاصرة هذا المطلب من خلال دعمها لمستبدين جدد.
----------------------------
* مفكر وباحث من لبنان

--------------------------------------

يا أنجم يا حلم صباي
ورفيقة أوهامي النّضرة
لم لا تأتين.. إليّ بأمراس لدنه
من صنع يديك
خيطًا من نور أصعد فيه
وأرود مروجك، وافرحي
لو أن يديك
مسحت بحنانٍ أعطافي
وتمشت في جسدي رعدة
من مس يديك

ملك عبدالعزيز

 

هاني فحص