سيل الليل محمد المخزنجي

قصة قصيرة

- 1 -

هو الذي بدأ ذلك مفاجئا إيانا في منتصف الليل. منتصف ليل ديسمبر البارد شديد البرودة في العنبر الكبير من عنابر سجن الخليفة الموحش والمرعب كأنه خرافة قديمة استيقظت في زماننا. الحيطان الحجرية العالية والطاقات المدورة الضئيلة قرب السقف البعيد. المصاطب الآجرية لصق الحيطان والأرض المدكوكة والمسفلة بالقار، ثم البوابة التي تشبه في صعودها وهبوطها المقاصل... من القضبان التي تتجه رءوسها المدببة إلى أسفل كحزمة من الحراب ترفعها جنازير حديدية وتخفضها نفس الجنازير. وتحدث في حركتها صريراً بشعاً خاصة عندما يتم فتحها في منتصف الليل مثلما حدث.

ورأيناه فوق رءوسنا وسط حشد من عساكره.

كان نحيفاً وبعيداً عن تأنق الضباط في ملابسهم الرسمية رغم أنها نفس الملابس. بها شيء ما كأنها غير مكوية رغم أنها مكوية، أو ضيقة أكثر من اللازم رغم مناسبتها لقوامه النحيف. شيء ما كان بها. ثم إن عيناً من عينيه كانت مشدودة الجفن السفلي قليلا إلى تحت من أثر اندمال جرح عميق وكسر بالعظم الوجني كانت عيناً مرعبة، وكان على العموم يوحي بالرعب حتى أنني توقعت أنه جاء ليلتقط بعضا منا ليتسلى بتعذيبهم في هذا الليل، وقد كان ذلك وارداً في تلك الأيام التي أطلقت فيها الأيادي الخرساء. لكنه لم يكن ينتقي. لقد أخذ يطوف بنظراته فوق رءوسنا ونحن قعود على الأرض ثم ينظر إلى الحيطان والأركان والسقف، يتشمم، ويعيد التشمم ويبدي امتعاضه ثم يسأل: لماذا الرائحة كريهة.

أمر بألا ننام حتى يتم تنظيف المكان وتختفي الرائحة.

أي رائحة في هذا المكان الشاسع ذي السقف البعيد شديد الارتفاع وكأننا في عنبر أحد المصانع.

أي رائحة يمكن أن يطلقها هذا البرد القابض على كل شيء.. الحيطان والأرض وأجسامنا المكومة والمرتجفة على عري هذه الأرض. وقد كنا أكثر من خمسين إنساناً لا يطلب أحدهم أن يذهب إلى المرحاض إلا نادرا حتى لا يتلقى بعض الضربات مقابل الاستجابة لطلبه الغريب، هذا إذا تمت الاستجابة إليه وهو ما يندر حدوثه. ثم إننا كنا قليلا ما نأكل أو نشرب في هذا السجن الغريب الذي لا يعترف بأن البشر يأكلون ويشربون، ربما لأنه سجن "ترانزيت" يمر به السجناء العابرون من سجن إلى سجن أثناء ترحيلهم في انتظار نقلهم إلى محافظاتهم البعيدة. سجن الأيام القليلة المفزعة الذي يأتمر بأمره هو المأمور صغير السن والرتبة.

وقد أمر بالماء بعد منتصف الليل البارد فجيء له بالماء.

خرطوم الحريق الهائل مدوه حتى قلب العنبر وأمسك هو "بالباشبوري" وراح العساكر يرمون فوق رءوسنا الدلاء وقطع الخيش وهم ينتهروننا ثم أمر بفتح الماء. فانفتح الجحيم. أي برد سائل ومندفع ومطرطش ولادغ بمباغتته في كل الحالات وكان يكنسنا أمامه. كان يوجه الماء نحو أحد الأركان فيرتد الماء متسارعا كأنه سيل يجرف من لبثوا في أماكنهم. ثم يغير مكان انصباب الماء فيأتي السيل من الجانب الذي هربنا إليه وتندفع كتلتنا إلى مكان آخر حتى لم يعد هناك مكان لا يتدفق إليه الماء غير المصاطب التي وضع العمال عليها أشياءهم، ولم يعد من خيار إلا التمرد أو التقاط الدلاء وقطع الخيش وتجفيف المكان ونقل المياه إلى المرحاض الذي فتحوا الطريق إليه. وما بين الأمرين وجدت نفسي الشخص المسئول عن الاختيار خاصة وقد بدأت نذر التمرد من الشبان الصغار قليلي الخبرة الذين جيء بهم من المطارات إلى السجن الذي لم يتوقعوه لفقد جوازات سفرهم أو الالتباس في أسمائهم أو غير ذلك.

كانوا صغاراً بينهم من لا يتجاوز السابعة عشرة. خبازون ونجارون ونقاشون وعمال بناء قضوا فترات في الغربة كدحوا فيها وعادوا ببعض المال وبعض الأشياء التي ظلت معهم وكدسوها على مصاطب العنبر: تليفزيونات وأجهزة تسجيل وقطع أقمشة وهدايا للأهل. وكانت هذه بالذات هدفه القادم لو حدث تذمر إضافة لالتقاط من يمكن التقاطه من المتذمرين للتعذيب. ولقد بدأ التذمر زفرات وشتائم مكتومة ودفقات بكاء أيضا وكان عليّ أن أسرع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كان عليّ أن أقودهم أنا من يكره أن يقود أو يقاد. وإذ بخجلي المستعصي أمام سيل الماء ينجاب وأتقدم لالتقاط أول دلو وأول قطعة خيش واستنفر الشبان للعمل، ولم يترددوا إذ أحسوا بأن تصرفي هذا ينطوي على حكمة ما ظنوا أنهم لن يدركوها سريعا وراحوا يلتقطون قطع الخيش والدلاء تباعا وفي ازدياد.

وبدأت أجد وسيلة لقتل السأم في هذا الليل بهذا العمل. يندفع الدفء مع الحركة حتى يبلغ طرف الأطراف ولا تحس ببرودته أقدامنا التي نعريها له ولا أيادينا العارية. ويصير الأسفلت البارد والمبلول مدغدغاً بلطف لبطون أقدامنا ثم تبدو الرحلة من العنبر إلى حيث ندلق ما جمعنا من الماء في المرحاض مثيرة. قطار ذاهب وآخر عائد على أرض الدهليز المبلطة بالبازلت. دلاء تتقارع وصيحات تتعالى وأقدام تلبط ومياه تبقبق ويشتعل الليل بحرارة لم يكن أحد يتوقع مصدرها. ويبدو لي سيل الماء الذي يدفعه نحونا في مثل هذه اللحظات وكأنه يصيب واديا عطشان في صحراء قاحلة فيحييها بالخضرة. وكان قد بدأ يدرك نشوتي فيوجه الماء خاصة نحو قدمي وينفعل وهو يفعل ذلك حتى ينحني ويفتح فمه على صيحة لا يطلقها عندما يدرك موقعه كمأمور سجن في مواجهة مساجين. وفي هذه البرهة من فتح فمه أرى ما أرى فينقلب كياني.

تخمد نشوتي وتتغير رؤيتي للسيل وله. وأنشق إلى الشيء ونقيضه...

- 2 -

رأيت لسانه المعضوض عميقا وكثيرا فعدت أنظر إلى جرح وجنته واكتشفت أثر جرح هناك عند الحاجب وثالث في بروز الجبهة ورابع على جسر الأنف.. آثار جروح متهتكة ومندملة. هذا شخص وقع على وجهه وتكرر وقوعه على هذا الوجه ولا بد أنه وقع بكامل طوله غائبا عن الوعي حتى لم ينج من أثر الارتطام بالأرض إلا ما كان غائرا منه.

هذا مريض بصرع مزمن تواتيه نوبات صرع كبرى. وضع الطبيب في داخلي تشخيصه وأسرع السجين المعني في ذاتي يلتقط خيط هذا التشخيص ومن الطبيب يشده.

ولم يعد السيل سيلا يجري في وديان صحراوية عطشى فيحييها بالخضرة. صار السيل قسـوة غبية تندفع محطمة البيوت وتقتلع الشجر وتترك الأرواح في العراء. وارتفعت في جانب من النفس ضرورة وقفه، بل أقسى: إمكانية تحطيمه. وكان الطبيب في الجانب الآخر من نفسي يترو!. وهو، كعهـده، ظل يظهر فيما بعد منتصف الليل. ترتفع البوابة المقصلة ونراه فوق رءوسنا ثم يأمر بالماء ويندفع الماء، وأندفع أنا... بل يندفع نصفي السجين. صارت العبارات التي كنت أوجهها لإحماء همة زملائي الصغار موجهة لإصابته... وكنت أفتعل الاستمتاع أقصى الاستمتاع بجمع المياه من فوق الأسفلت، يوجه نحوي تيار مياهه الجارفة فأعلن تهليلي ببركة المياه وأشمر. أجمع المياه "بفلة" الخيش في حمية وتسارع، وأعطي لتسارعي إيقاعا كأنني أرقص في حراكي وهو يجن. يصوب نحو قدمي فأتهلل. نحو يدي فأتهلل أكثر. وتتجادل عيوننا النظرات المحرقة. أعرف أنه يغلي وهو يعرف أنني أؤجج فيه النار لكنه لا يدرك هدفي. هدف نصفي السجين، أن أشحنه بأقصى الانفعال حتى ينفجر... حتى يدخل في النوبة، يرتعش (باشبوري) المياه بين يديه ثم يطلق صرخة الصرع المرعبة قبل أن يهوي بطوله على الأرض. على مرأى من عساكره المأخوذين والمساجين الذين سيربكهم الأمر. يهوي متشنجا في مياه السيل التي أطلقها ثم ينتفض وينتفض وينتفض. يعض لسانه حتى الإدماء ويبتل حتى عظامه.

وكان الطبيب داخلي في فزع.

الطبيب الذي ردد قسم أبوقراط في حفل التخرج ويهزه تعبير شرف المهنة. شرف مقاتلة المرض واستخدام الطب للخير فقط. كيف يسمح بإحداث متعمد للمرض وبهذا الاستغلال الوحشي لعطايا الطب؟!.. كيف يقف متفرجاً ينتظر الانتقام من الشر بشر آخر؟.. وكان الطبيب يتردد ويتردد. ثم في اللحظة الأخيرة يندفع ويرفع سكين التيار الصاعق. تيار شحن هذه البؤرة في مخ هذا الضابط الممسك بباشبوري المياه، يسلطه نحو قدمي، نحو يدي وكأنه يطلق صوبي نيران مدفع رشاش. لولا خيط رفيع يوقفه لاندفع وصب المياه عليّ مباشرة أو ربما انتزع مسدسه من الجراب المتأرجح في خاصرته وأطلق عليّ النار لينهي هذا التحدي من سجين لديه. لكن هذا بالذات ما يوقفه: أنني سجين وأنه مأمور ولا ينبغي أن ينزل إلى حد كشف منازلته لسجين ثم إنه غير مخول بإطلاق النار. كنت أعرف هذا وأتمادى. يتمادى نصفي السجين حتى يبدأ رشاش الماء في أول الارتعاش بين يديه المهتزتين عندئذ يقفز الطبيب ويوقف الشحن. بل يفرغ الشحنة بكلمة يرضي بها كبرياء المأمور المرتعش: "كفاية علينا يا حضرة المأمور. تعبنا". "تعبتم؟" ويجلجل صوته بالضحك. يصب قليلا من الماء ثم يتوقف ويمضي منتشيا بانتصاره. لكن إلى متى؟

كان نصفي الأخر يتساءل ويعلن ضجره ويتحفز أكثر.

- 3 -

لقد اكتشف الكمين... لا بد أنه رجع إلى المكاتبات التي وردت إليه والتي سيعيد تصديرها أثناء ترحيلي. ولا بد عرف أنني طبيب أمراض نفسية وعصبية على وجه التحديد. فلقد جاء في موعده بعد منتصف الليل. وقف واضعاً يديه في جيبيه وأخذ يتأرجح في عظمة. ثم حانت منه إلتفاتة إليّ وأفلتت منه العبارة "إيه يا دكتور المجانين" كان يريد إهانتي. لكنني لم أنتبه إلى ذلك إذ أخذت بالتساؤل عن كيف عرف اختصاصي. أخذ يقلب وجهه في الأركان وجريا على عادته الأخيرة بدأ يتشمم لكنه لم يأمر سريعاً بالماء. تأخر في إصدار أمره حتى أن أحد عساكره سأله: "نمد الخرطوم يا باشا" ورد بعد برهة: "لا. لا. الريحة معقولة، يناموا أحسن"، وكان ينظر نحوي بإيعاز وتهكم. ولم أنم ولم ينم كثيرون. وامتد الأرق طويلا حتى الفجر.

لقد كانت برودة المياه وتجفيفها ينهكانا حتى أننا نسقط في نوم عميق فور أن ينزلوا البوابة ويبتعدوا عن العنبر. صرت من جديد شخصا واحدا: مجرد طبيب سجين يسحقه أرق ليل السجن الموحش.. ويفتقد منازلة الماء.

 

محمد المخزنجي