كان عام 1992
بحق هو عام الكوارث الطبيعية فقد شهد هذا العام مجموعة من الزلازل والفيضانات
والأعاصير التي دمرت كثيرا من مناطق المعمورة، وأحدثت خسائر بشرية واقتصادية ضخمة،
كما تفاقمت فيه مظاهر تدهور البيئة، مثل اتساع ثقب الأوزون وارتفاع معدلات تلوث
الجو ومياه البحر والتربة، وإلى الحد الذي دفع بمنجم من كوريا الجنوبية لتحديد يوم
معين في العام الماضي لنهاية العالم. وربما لم يكن من قبل المصادفة أن يكون هذا
العام هو العام الذي عقد فيه مؤتمر "قمة الأرض" في ريو دي جانيرو الذي حضره مختلف
زعماء الدول وحشد كبير من العلماء المختصين، وأثيرت فيـه لأول مرة على صعيد عالمي
مشكلـة الحفاظ على البيئة على كوكب الأرض. وزادت الصورة قتامة حينما رافق ذلك كله
استمـرار استيلاء الكساد الاقتصادي على البلاد الصناعيـة وما أدى إليه من ارتفاع
معدلات البطالة وتدهور مستوى المعيشة في بلاد كـانت تفاخر بأنها وصلت إلى " دولة
الرفاه " والقضـاء على الفقر. أما في بلاد شرق أوربا والاتحاد السـوفييتي السابق
فقـد تدهـور فيها الناتج المحلي الإجمالي بمعـدلات قياسية، وأصبحت البطالة تزيد
على 25% من حجم القـوى العـاملة، ووصل معدل التضخم إلى أكثر من 800% بعد اختفاء
النظام الاشتراكي والتحـول نحو الرأسمالية. وفي بلاد العالم الثالث كانت الصورة أشد
وأنكى، حيث تدهـورت أوضاعهـا الاجتماعية والاقتصادية إلى أدنى مستوى لها منذ
الحرب العـالمية الثانيـة بعـد أن تـوقف النمو الاقتصادي وزاد جيش العاطلين، وعجزت
الدولة عن الاستمرار في أداء خـدماتها تحت وطأة الديون وعذاب برامج الإصلاح
الاقتصادي. ووصلت الأمور إلى قمة مأساتها حينما تفشى الجوع المضي للموت في كثير من
مناطق إفريقيا، خاصة بعد زيادة عمليات التصحر والجفاف فيها.
الضغط على
الطبيعة
فهل تثأر الطبيعة
لنفسها؟
هذا السواق
يذكرني الآن بكتاب شهير، كنت قد قرأته في مطلع حياتي العلمية عن المشكلة السكانية
في العالم من تأليف الكاتب " وليم فوجت " تحت عنوان "الطبيعة تثأر لنفسهـا ". وقـد
حـاول مؤلف هذا الكتاب (مع مؤلفين آخرين سبقوه إلى ذلك) إحياء الفكر المالتوسي-
نسبـة إلى القس روبرت مالتوس- ينتهي إلى استخـلاص نتيجة معينة مفادها أن هـذا النمو
الاقتصادي والبشري المفرط الذي حققـه العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قد
أدى إلى الضغط على موارد الطبيعـة، مما أخل بالتوازن بين سكـان هذا الكوكب وما يزخر
به من ممكنات. كـما أشار فوجت إلى أن سر التخلف والفقـر والجوع في بلاد العـالم
الثالث سببه الجوهري هـو ذلك النمو الكبير الذي يتكاثر به سكان هذه البلاد على نحو
يفوق كثيرا حجم الموارد الاقتصادية المتاحة فيها، وأنه لا أمل إطلاقا أمام هذه
البلاد لكي تنطلق نحو معارج النمو إلا بالقضاء أولا على هذا الاكتظاظ السكاني.
وأكثر من هذا كان " فوجت " يعتقد أنه لا يحق لهذه البلاد أن تطالب بالمعونات
الاقتصـادية مـن الغرب المتقدم إلا إذا تمكنت أولا من إخماد تلك الانفجارات
السكانية الموجودة بها.
وفي عام 1970
حـذر بـول إرليش عـالم الأحيـاء بجامعة ستانفورد في كتابه " القنبلة السكـانية " من
أن العالم سوف يشهد مجاعات هائلة في يوم ما خلال العقد الثامن من هذا القرن، وأنه
سوف يموت جوعا مئات الملايين من البشر، اللهم إلا إذا سبق موتهم على يد وباء مثل
الطاعون، أو بفعل حرب تستخدم فيها الأسلحة النووية، أو أي عامل آخر. وحذر الأخوان
وليم وبول بادوك في كتابهما " مجاعة 1975" لما من حدوث المجاعات بسبب الأعداد
البشريـة التي تنمو بمعدلات كبيرة. وليست وسائل تنظيم النسل بذات فائدة لمستقبل
الأيام وهما يشبهان الأمر بقاطرة تسير بسرعـة هائلـة، والقاطرة هي النمو السكاني
المرتفع. لتفاجأ عند المنحنى بعقبة لا يمكن تجاوزهـا رابضـة على خط السكك الحديدية،
وهي الإنتاج الغذائي الراكد.
نادي روما.. وحدود
النمو
وحينما تصاعدت في
بداية السبعينيـات من قرننا الحالي، أزمـة الطاقة. والتلوث البيئي، وخطر استنزاف
الموارد الطبيعيـة غير القابلة للتجدد، كانت مجموعة " نادي روما " قد وضعت تقريرها
الأول في عام 1972 الشهير تحت مصطلح " حدود النمو " الذي راح يبشر، منذ ذلك الوقت،
بوقوع كارثـة عالمية قبل انتهاء القرن الحالي. وفي هذا التقرير عالجت مجموعة نادي
روما العالم كوحدة واحدة، وتناولوا في نموذجهم الرياضي ، السكـان والصناعة والزراعة
والموارد المعدنية والتلوث البيئي (وهي المتغيرات التي افترض أنها تنمـو بمعـدل
رأسي Exponential) وانتهوا إلى رسم صورة
سـوداء لمستقبل البشرية، تتمثل معالمها في زيادة الوفيات ووقف النمو البشري
والاقتصادي. وسبب هذا السواد في تلك الصورة هو انتهاء المواد الأولية وتلوث
البيئـة، ولمنع وقوع هذه الكارثة ينبغي وقف النمو السكاني والنمو الاقتصادي حتى
يمكن الـوصـول إلى حـالة من التوازن البيئي الاقتصادي، وهذا التوازن يتحقق عندما
يبقى عدد السكان ورأس المال في مستوى ثابت.
التفكـير إذن في
أن الحياة على كوكبنا تسير من سيىء إلى أسوأ كـان قـد ظهر في بداية السبعينيات
حينما اندلعت الأزمة الاقتصادية العالمية في السنوات الأولى من هذا العقد وأنهت
بذلك سنوات الازدهار اللامع التي شهدتها مختلف مناطق المعمورة في أعقاب الحرب
العالمية الثانية (سواء في الدول الرأسمالية الصناعية أو في الدول التي كـانت
اشتراكية، وإلى حد ما، في بلاد العالم الثالث). وقد أدى تسارع ميكـانيزمات هذه
الأزمة إلى تعريض منظومة الدول الرأسمالية الصناعية لحالة من التفكك والانقسام
والركود طـويل المدى وإلى اختفاء منظومة الـدول الاشتراكيـة وإلى إفقـار وبؤس بلاد
العالم الثالث. وخلال ذلك كله عانى البشر في كل أنحـاء المعمورة بدرجـات متفاوتـة،
من هذه الأزمة (البطـالة، تدهور مستوى المعيشة، زيادة عدد من يقعـون تحت خطر الفقر
المطلق، تدهور وتلوت البيئة... إلى آخره).
الانتحار
الجماعي
فهل يعني ذلك أن
العـالم يسير إلى نـوع من الانتحـار الجـماعي، وبشكل يؤكد صحة ما تنبأ به روبرت
مالتس في نظريته عن السكـان التي كـانت تقول إنه في ضـوء التباين الذي ينمو بـه
البشر (من خلال المتوالية الهندسية 2: 4: 16..) الذي تنمو به الموارد الاقتصادية
(من خلال المتوالية الحسابية: 1: 2: 3: 4..) فإن الطبيعة في ضوء قوانينها الأزلية،
تقوم الآن برد فعل مضـاد لتصحيح الاختلال بين البشر وبيئتهم الطبيعيـة، لأن البشر
لم يستجيبـوا للموانع الإيجابية الاختيارية التي نادى بها مالتس للحد من هذا
التباين (تأخير سن الزواج، التعفف، منع الفقراء من الزواج..)؟
لقد غلبت النزعة
المالتوسية على غالبية من كتبوا في مشكـلات البيئة والمشكلة السكانية، بل وحتى على
تفكير المنظمات الدولية وعلى المجتمعين في مؤتمر ريو دي جانيرو. ففي رأيهم أن سر ما
يشهده العالم الآن من تدهور لنوعية الحياة على كوكبنا يرجع إلى النمو السكاني
المرتفع، وأن مسألة التكاثر السكـاني سوف تلغي أي تقـدم يمكن أن تحققه البشريـة في
المستقبل، وأن العبء الأكـبر في الحد من النمـو السكـاني سيقع على عاتق البلاد
النامية التي تمثل المصـدر الرئيسي لتكـاثر البشر. ومن المعلوم أن عدد سكـان الأرض
يبلغ اليوم 4، 5 مليار نسمة، وأنه من المتوقع أن يصل - حسب تقدير صندوق الأمم
المتحدة للسكـان- إلى عشرة مليـارات في عام 2000، مع العلم أن معـدل نمو سكـان
العـالم قـد انخفـض إلى 7، 1% في عام 1990 بعد أن كان 1. 2% في عام
1970.
ومع عدم إغفالنا
لأهمية الحد من النمو السكاني، إلا أن إلقاء تبعـة كل الكـوارث التي يشهـدها الآن
كوكبنا (كوارث طبيعية، اقتصاديـة واجتماعية) على المتغير السكـاني فقط فيه تعسـف
كبير وقفز فـوق الحقائق وهروب من التفسـير الموضـوعي لطبيعة تلك الكـوارث وأسبابها.
كـما أن الـدعوة المستمرة التي أصبحت مملة، لضرورة تكثيف برامج تنظيم الأسرة للحد
من النسل في البلاد النـامية لا تستند على. أساس سليم لفهم طبيعة التكاثر البشري
والمشكلة السكانية في هذه البلاد، فالسلوك. الديموجرافي للبشر لا يجوز النظر إليه
على أنه مجرد ميل غريزي للتكـاثر، كـما هو الحال للكائنات الحية الأخرى (الحيوانات
والنباتات والحشرات) بل هو سلوك اجتماعي على درجـة عالية من التعقيد لأنـه يتوقف
على المحيط الاجتماعـي الذي يعيش فيه الإنسان. وعملية تكاثر البشر وهذا المحيط
يشكـلان وحـدة لا تنفصم. وإذا كـانت الكـائنـات الأخرى تعتمد في تكاثرها على المحيط
الطبيعي أو البيئي الذي تعيش فيه، دون أن تكـون لها القدرة على التأثير في هـذا
المحيط، فإن البشر على خـلاف ذلك يستطيعـون أن يـؤثـروا على هـذا المحيط الطبيعي
ويغيروه لصالحهم. ولئن كانت الطبيعـة التي يعيش فيها الإنسان لم تشهد أي متغيرات
يعتد بها منذ عشرة آلاف سنـة، فإن المحيط الاجتماعي الـذي يعيش فيـه الإنسان والذي
يتحدد بالنظام الاجتماعي للإنتاج، قد تغير بشكل مستمـر خلال هذه الفترة. وفي غمار
هذا التغيير الذي يطرأ على المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، يتغـير أيضا
السلوك الديموجرافي له.
السلوك الديموجرافي
للإنسان
إن تكاثر البشر
لا يعتمد إذن على مجرد العلاقات البيولوجية (معدل المواليد ومعدل الوفيات ومعدل
الخصوبة) فحسب ، بل على مجموعة كبيرة من العوامل ذات الطابع الاجتماعي الاقتصادي،
مثل درجة سيطرة الإنسان على الطبيعة ، ومدى تطور قوى الإنتاج وطبيعة علاقات الإنتاج
السائدة، فضلا عن مجموعة أخرى من العوامل المجتمعية والقيمية مثل العادات والتقاليد
ونظام القيم، إلى آخره. فكل هذه العوامل تتفاعل مع بعضها البعض لتؤثر في النهاية
في السلوك الديموجرافي للإنسان. كما أن الدراسات السكانية المعاصرة قد أثبتت أن
السكان متغير ذاتي التنظيم Self- regulated بمعنى أن السكان يميلون من تلقاء أنفسهم إلى تنظيم
أعدادهم عند مستويات معقولة حينما يرتفع مستوى المعيشة ويتغير نمط
الحياة.
حتى دونما حاجة
إلى برامج للتنظيم أو دعاية أو إرشاد وهذا ما تشير إليه خبرة االدول المتقدمة التي
اختفت فيها المشكلة السكانية عبر تقدمها الاقتصادي والاجتماعي ، بل إنه ثبت أن
أفضل نتائج حققتها برامج تنظيم الأسرة كانت في البلاد النامية التي حققت معدلات
معقولة في تقدمها الاقتصادي والاجتماعي. كما أثبتت هذه الدراسات أيضا، أن المشكلة
السكانية في العالم الثالث ليست سببا للتخلف بل هي نتيجة له، وأن جوهر هذه المشكلة
لا يكمن في أنها مجرد تناقض يقوم بين النمو السكاني وحجم الموارد الاقتصادية
المتاحة (كما يقول المالتوسيون) بل هي تناقض يقوم بين النمو السكاني وطبيعة النظام
الاقتصادي الإجتماعى السائد الذي يعجز عن أن يوفر مقتضيات النمو الحقيقي والتقدم
الاجتماعي وما يأتي في ركاب ذلك من زيادة في الدخل وفرص للتوظف والإعاشة وترقية
مستوى المعيشة. وكما أن السكان يؤثرون في التنمية ، فإن التنمية تؤثر أيضا في طبيعة
النمو السكاني. كما أن العدالة الاجتماعية تمثل بعدا رئيسيا في حل المشكلة السكانية
، فقد يتحقق النمو الاقتصادي وتستأثر بثماره قلة من السكان، في حين تظل الأغلبية
الساحقة تعاني من الفقر والبطالة والجوع وبالتالي تظل المعضلة السكانية بغير
حل.
نمط الإنتاج
الرأسمالي ومسئوليته
وإذا تساءلنا
الآن: من الذي دمر البيئة وأضر بنوعية الحياة على كوكبنا؟ ومن الذي استنزف موارد
الطبيعة ولوث هواءها ومياهها وتربتها؟ هل هم سكان العالم الثالث الذين يتكاثرون
بمعدلات أكبر من غيرهم في مناطق المعمورة الأخرى؟
الواقع يقول إن
المسئول الأول عن ذلك كله هو نمط الإنتاج الرأسمالي الذي كانت له السيادة في العالم
الذي حكمته معايير السوق والأنانية والربحية الضيقة وأن العالم الثالث كان ضحية هذا
النمط. إن الأرقام تتحدث، على سبيل المثال، عن أن دول الشمال الصناعي التي تفم 25%
من سكان العالم تحصل على 90% من الناتج القومي العالمي، وأن هذه الدول تستهلك 70%
من موارد الطاقة في كوكبنا و 75% من معادنه و 85% من أخشابه، وأن التكنولوجيا التي
قامت على اعتبارات الربح والتي طورها الغرب الصناعي وما خلفته من منتجات جديدة هي
التي لوثت الهواء والمياه والأراضي على هذا الكوكب. والأرقام تشير أيضا إلى السفه
الشديد في الاستهلاك الذي تميزت به نوعية الحياة في الغرب الصناعي. ما بالنا إذا
علمنا أن ما يتناوله المواطن الأمريكي من طعام يزيد ثلاثين مرة على ما يتكلفه إطعام
المواطن الهندي، وأن طفلا واحداً في الغرب الصناعي يستهلك كقدر ما يستهلك 125 طفلا
في الشرق؟ والحقائق تشير أيضا إلى أن دول الغرب الصناعي في سعيها لتحسين البيئة
لديها ترتكب جريمة إلقاء النفايات السامة والخطرة في بلاد العالم الثالث. والحقائق
تشير بأصبع ثابتة لا تهتز، إلى أن جانبا من تدهور البيئة والبؤس في بلاد العالم
الثالث سببه هذا الاستغلال البشع الذي وقعت فيه هذه البلاد من جراء اندماجها
وتكاملها مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي يستنزف مواردها وخيراتها عبر آليات
الديون والتبادل غير المتكافئ وصفقات الغذاء وشراء الأسلحة والتكنولوجيا. ولنأخذ
هنا آلية الديون التي أصبحت تجبر هذه البلاد على أن تستنزف ثرواتها ومواردها
الطبيعية من أجل مزيد من التصدير للحصول على العملات الصعبة اللازمة لدفع الفوائد
والأقساط. إن دولا كثيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية اضطرت أن تقضي على مساحات
شاسعة من غاباتها لكي تصدر كميات متزايدو من الخشب لدفع أعباء هذه الديون. وحينما
ترتفع أسعار الطاقة في البلاد النامية بسبب الضغوط التي يمارسها صندوق النقد
الدولي والبنك الدولي على هذه البلاد، فإن أعدادا كبيرة من الفقراء ومحدودي الدخل
يضطرون إلى استخدام أنواع معينة من الوقود الرخيص (الأخشاب والفحم..) التي تسبب
المزيد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون. كما تضطر الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد إلى
قبول دفن النفايات السامة في أراضيها لقاء حفنة من الدولارات للوفاء بأعباء الديون
وتأمين الحد الأدنى الضروري للواردات. إن الذي دمر البيئة واستنزف مواردها ولوثها
هو إذن نمط النمو الرأسمالي الغربي الذي حكم العالم وما تفرع عنه من علاقات داخلية
وعالمية. وإذا استمر هذا النمط دون تعديلات جوهرية، فلا مهرب أمام البشرية من
التدهور المستمر لنوعية الحياة على كوكبنا.
كارثة .. أم مجتمع
جديد
في ضوء هذه
الحقيقة التي ينزعج منها الكثيرون، جاءت النتائج الباهرة التي توصل إليها مجموعة
العلماء والمفكرين في مؤسسة باريلوتشي Bariloche بالأرجنتين تحت قيادة أميلكا هيريرا في تقريرهم الشهير
الذي نشروه تحت عنوان "كارثة .. أم مجتمع جديد"، وهو عبارة عن نتائج نموذج رياضي
يختلف عن نموذج نادي روما. وقد كانت القضية التي شتغلت بالهم ليست هي رسم صورة
تنبؤية عن مستقبل العالم لو استمرت الاتجاهات الحالية على ما هي عليه، بل كانت
قضيتهم هي رسم معالم طريق جديد لمجتمع إنساني مثالي يستطيع الإنسان فيه أن يشبع
حاجاته الأساسية (الغذاء والكساء والمسكن والتعليم والصحة والبيئة النظيفة) باعتبار
أن إشباع تلك الحاجات شرط ضروري للبقاء ولكي يتمكن الفرد من المشاركة الفعالة
والإيجابية في بيئته الاجتماعية والحضارية. وقد توصل صانعو هذا النموذج إلى أن
المشكلات التي يواجهها العالم الآن مثل (نقص الغذاء والطاقة وتلوث البيئة وتدهور
نوعية الحياة ...) هي مشكلات ذات طبيعة اجتماعية وسياسية وليست ذات طبيعة حتمية
لأنها تقوم على التوزيع غير المتكافئ للقوة بين البلاد وداخلها ، والنتيجة هي القهر
والاغتراب. من هنا خلص النموذج إلى أن مواجهة تلك المشكلات لا تكون بوقف النمو أو
تقليل النمو السكاني ، بل بالسعي لخلق مجتمع جديد لا يكون فيه الإنتاج محددا بقصد
الربح والاستهلاك البذخي، بل يتحدد بالاحتياجات الأساسية والاجتماعية للفرد، وعلى
أساس المساواة والمشاركة الكاملة لكل الأفراد في صنع القرارات المهمة (قضية
الديمقراطية) وبحيث يكون تنظيم الاستهلاك والنمو الاقتصادي على نحو يكفل الانسجام
والمواءمة بين الإنسان والبيئة، أما فيما يتعلق بالنمو السكاني المرتفع الذي يرتبط
بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والحضارية ، فإن أفضل وسيلة لضبطه هي تحسين مستوى
معيشة الناس.
ويؤكد نموذج
باريلوتشي على أن قهر التخلف والفقر والجوع في العالم الثالث، وتحرر الإنسان من ذل
الخضوع للضرروة لا يمكن أن يتم من خلال تتبع دول هذا العالم لنفس خطى التطور التي
مر بها العالم الرأسمالي المتقدم "ليس فقط بسبب الاستحالة التاريخية لمثل هذا
التتبع في إطار الظروف الاجتماعية / السياسية الحالية، ولكن - وهو الأهم - لأنه
أمر غير مرغوب فيه، إذ إن هذا ينطوي على إعادة الأخطاء نفسها التي أدت إلى الوضع
الحالي بتدهور البيئة الاجتماعية والمادية ، فهذه الأخطاء هي حصاد نسق مدمر من
القيم".
مصير البشرية ودور
البشر
وفي النهاية ،
يخلص نموذج باريلوتشي إلى أن مصير البشرية لا يتوقف في النهاية على عقبات طبيعية لا
تذلل، ولكن على عوامل اجتماعية سياسية يمكن للبشر تعديلها ، ولكن هذا ليس سهلا على
الإطلاق، لأن تغيير نظام وقيم المجتمع، كما بدل التاريخ، أصعب بكثير من قهر الحدود
الطبيعية، ولكن تنفيذ هذه المهمة هو الطريق الوحيد المتاح للتوصل إلى بشرية
أفضل.
ويبقى في
النهاية أن نقول إن الطبيعة التي عبست بوجهها للبشرية في العام الماضي لم تكن تثأر
لنفسها من النمو السكاني المفرط، بل كانت في الحقيقة تصرخ من وطأة نمط إنساني جديد.
وعندئذ سنجد أن العصر الذهبي للبشرية لا يقع خلف ظهرها، بل يكمن في الأفق أمام
عينيها.