مستقبل المكتبات.. د. إسماعيل سراج الدين

مستقبل المكتبات.. د. إسماعيل سراج الدين

تظهِر تجربة المكتبة الرقمية العالمية لمحات مما قد يحمله المستقبل للمكتبات. ويثير هذا سؤالاً هو: هل عرض كل المواد في صورة رقمية وإتاحتها لنا أينما كُنَّا بالمنزل أو بمقر عملنا، سيكونان الهدف من المكان الذي نطلق عليه اليوم «مكتبة»؟ وكما أسلفنا القول بأن بعض هذه المكتبات بدأت بالفعل في الاتجاه نحو التخلص من الكتب، إلا أن الخدمات المكتبية مازالت مهمة بالنسبة للمستخدمين. فهناك على الأقل خمس وظائف خاصة ستقوم بها هذه المؤسسات الجديدة في الألفية الثالثة:

أولاً: ستستمر في الاحتفاظ بالنسخ الأصلية، وستظل المخطوطات والطبعات الأولى لها السحر نفسه علينا؛ حيث تحمل القطع المادية قيمة وأهمية خاصة بها أكثر من مجرد كيانها المادي. وستعود إمكانية الرجوع إليها على الزائر بمتعة ورؤى جديدة محتملة.

ثانيًا: ستصبح المكتبة ملتقًى لأصحاب الأفكار المتشابهة ومن لهم اهتمامات بموضوعات معينة، فستكون ملتقًى مهما يستدعي الماضي ويحيطنا بكنوز التراث، ومكانًا لإلهام المثقفين والجمهور بصفة عامة.

ثالثًا: ستظل بعض المواد - لأسباب مادية ومؤسسية - بعيدة المنال بالنسبة لأغلب الناس مقابل مبالغ رمزية توفرها المكتبات فقط داخل المكتبة. وبالإضافة إلى ذلك، ستكون للمكتبات بنية تحتية متكاملة للباحثين والفنانين والنقاد، مما سيمكِّنهم من إيجاد جميع المواد والمرافق التي يحتاجون إليها في مكان واحد وبخدمة ممتازة.

رابعًا: ستكون المكتبة بمنزلة جسر مناسب بين أفراد الشعب خاصة الباحثين منهم، ونظام الأرشيف الوطني والدولي. وستكون المكتبات المكان الوحيد الذي تستطيع فيه المؤسسات الأرشيفية التعامل مع المشكلات المعينة المتعلقة بهذه المشروعات.

خامسًا: ستستمر المكتبات في إقامة برامج خاصة، يشترك فيها الأطفال والشباب وآباؤهم، من خلال مشروعات اجتماعية وتعليمية رائعة ستبقى ما بقيت المجتمعات. وقد يتغير محتوى هذه المشروعات مع تطور العالم من حولنا، خاصة بالأسلوب الجذري الذي وصفته، ولكنها ستستمر مع ذلك. إن الانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ ينطوي على أكثر من مجرد انتقال للمهارات، بل يشمل معرفة من نكون وإلى أي مكان ننتمي. فالثقافة تُعبر عن نفسها في كل مكان؛ ولذلك ستبقى المؤسسات الثقافية جزءًا من المستقبل الذي نسعى إليه كما كانت جزءًا من ماضينا.

وأخيرًا، ستزيد أهمية المكتبات في هذه المرحلة التي تنهمر فيها المعلومات الإلكترونية ذات الجودة الشديدة التباين، فوجود الكثير من المعلومات له نفس مشكلات وجود القليل جدًّا منها لمن ليسوا على دراية كبيرة بالمادة التي يبحثون عنها. وستساعد المكتبات عن طريق تنظيم مجالات معرفية مترابطة، وعن طريق المشاركة في الانفجار العالمي للمعلومات. فلن تكون المكتبات مجرد مستودعات للكتب والمجلات، بل ستكون بوابات مهمة يستكشف من خلالها الدارسون والجمهور بصفة عامة المصادر الكثيرة والآخذة في التنامي التي ستكون في متناول أيديهم.

مكتبات الغد الإلكترونية

إن المكتبات جزءٌ مهم من المشهد الثقافي لأي بلد؛ حيث إنها تحفظ إنجازات الماضي وتتيح هذا الإرث الإنساني المشترك للجميع، كما أنها مكونات أساسية للنظام التعليمي والتدريبي، وأداة مهمة لنشر قيم العقلانية والتسامح والنظرة العلمية. ولكثير من المكتبات وظائف مهمة للوصول إلى الجمهور، ومع ذلك فهي أيضًا جزء ضروري من جهود البحث العلمي والتنمية التي تدفع النمو الاقتصادي المعاصر.

وتواجه الدول الأقل نموًّا مشكلات الوصول إلى أحدث الأبحاث (الموجودة غالبًا في المجلات العلمية)، والمواد المرجعية (الموجودة غالبًا في المكتبات)، وقواعد البيانات (بعضها يخضع لحقوق الملكية)، وهذا كله يمثل قيودًا على هؤلاء العلماء الطامحين أو الباحثين الممارسين. وكانت التكلفة عالية جدًّا على الميزانية الوطنية، وغالبًا ما حَدَّ نقص العملة الصعبة من قدرتهم على شراء المواد المطلوبة، حتى المؤسسات المركزية مثل المكتبات الوطنية والجامعية. وقد تفاقمت هذه القضية بشدة في العقد الأخير بالكميات المتزايدة من المعلومات والمجلات والمطبوعات. ومع ذلك تمر المكتبات الآن بتغيرات كبيرة في بداية الثورة الرقمية. وبالفعل، الثورة الرقمية والتقدم الهائل الذي حدث في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فتحا فرصًا لمعالجة ذلك كما لم يحدث من قبل.

إن الاتجاه القديم لجمع الكتب والمواد المكتوبة الأخرى بأسلوب سهل الاستخدام وفي أماكن ثابتة يمكن أن يجتمع فيها المهتمون، هذا الاتجاه دائمًا ما واجه عددًا من القيود منها:

التكلفة الكبيرة لجمع المواد وفهرستها وحفظها.

ومحدودية الاختيارات المتاحة في مكان واحد.

وصعوبة الوصول إلى إلى المواد في المجموعات الضخمة (مثل مكتبة الكونجرس والمكتبة الوطنية الفرنسية والمكتبة البريطانية... إلخ)؛ حيث يضطر الشخص الذي ينجح في الوصول إلى المكتبة ويطلب كتابًا، أن ينتظر لمدة قد تصل إلى ساعة حتى يخبره أحد المكتبيين أن الكتاب مع شخص آخر.

وتتهاوى قيود المكان والزمان فجأة نتيجة لثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وشيوع استخدام التكنولوجيا الرقمية الجديدة لإنتاج ونشر منتجات العقل البشري: النص والبيانات والموسيقى والصورة والصوت ... التي توحدت كلها الآن في صورة البت والبايت بلغة الصفر والواحد.

إن التقدم الذي حققته ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات - خاصة فيما يخص القدرة على الربط التي توفرها شبكة الإنترنت وسهولة التعامل مع واجهات الاستخدام الخاصة بها، أدى إلى ثورة في ممارسة العلوم، فمن خلال نشرها على شبكة الإنترنت تتاح المواد الآن بصورة فورية للباحثين في كل وقت ومكان. وأصبح تحميل الملفات سهلاً، كما أصبح تعليق العديد من الناس عليها يتم بصورة شبه فورية.

وفي هذا السياق، ظهر العديد من الأسئلة لفكرة المكتبة والإطار القانوني الذي يتم من خلاله استخدام المواد. وأصبحت أنظمة حقوق الملكية الفكرية التي عرفناها وعملنا بها تواجه تحديات مع تحرك المكتبات نحو الأنظمة المُهَجَّنة؛ بحيث استمرت المكتبات في أداء وظائفها التقليدية من حيث الإعارة وخدمات المراجع للمواد المطبوعة، بالإضافة إلى الوظائف الجديدة وهي تقديم المواد الرقمية المتوافرة على الإنترنت.

وتظهر مزايا المكتبات الرقمية بناءً على التكنولوجيا الجديدة في:

الوصول الفوري والسهل للمواد على الإنترنت طوال اليوم، وعدم الحاجة للتواجد الفعلي في مكان وجود المواد الرقمية، وسهولة إتاحة نُسَخ من المواد الموجودة في مكتبة ما في مكتبات أخرى بلا مقابل يُذكر وبالجودة نفسها كالمادة الأصلية، وسهولة البحث اللامتناهية في المواد الموجودة بصورتها الرقمية، والحفاظ على تحديث المواد أصبح سهلاً، خاصة بالنسبة للأماكن التي تُعتبر بعيدة عن مراكز النشر وتوزيع المعرفة.

وبفضل الجهود التي تقودها مؤسسة كارنيجي ميللون تتاح الأعداد القديمة للمجلات العلمية بالمجان للفقراء في الدول النامية، وهي هبة كبيرة ولا تقدر بما فيه الكفاية.

ونمتلك الآن مصادر أكاديمية هائلة متاحة على الإنترنت، كما بدا منذ عدد من السنوات حين أتاح معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أغلب مواده التعليمية على الإنترنت.

ومع ذلك تظهر العديد من المشكلات وهي:

تقادم المواد المادية، وتقادم المواد تقنيًّا، إنشاء معايير موحدة للرقمنة، وإيداعها في ملفات، وصيانة المواد لإتاحتها بسهولة بصورة موحدة، وقضية حقوق الملكية الفكرية في العصر الرقمي.

ويتعامل مع أول ثلاث مشكلات منها عدد من المكتبات الكبرى والأرشيفات التي لها اهتمام مباشر بإنشاء نظام مناسب لإدارة الموارد الإلكترونية التي يفوق نموها أي شيء عرفه التاريخ الإنساني. وبالفعل يزيد كم من المواد المنتَجة في صورة إلكترونية على كل ما تم إنتاجه في صور ورقية، ويزداد هذا الحجم بدرجة هائلة تصل إلى 10% أو أكثر كل سنة.

والمشكلة الأكثر تعقيدًا هي إدارة حقوق الملكية الفكرية في العصر الرقمي، والتي كانت موضوع دراسة كبيرة بعنوان المعضلة الرقمية ، والتي أصدرها المجلس الأمريكي الوطني للبحوث (NRC) عام 2000، ووضع بعناية فيها إطارًا للقضايا، إلا أنه لم يأتِ بتوصيات صارمة لأكثر هذه القضايا خطورة. فالاختيار اليوم- على وجه التحديد- بين من يحاولون استخدام التكنولوجيا الجديدة للحفاظ على نظام «حقوق الملكية المحفوظة» الذي مرّ بتطورات كثيرة خلال تاريخ الطباعة الورقية الطويل من جهة، وبين من يؤمنون بأن مواد العصر الرقمي الجديد تتطلب اتجاهًا جديدًا مناسبًا لإمكانيات التكنولوجيا الجديدة من جهة أخرى. فقد تطور مفهوم حقوق الملكية في زمن كان فيه عمل نُسخ ورقية هو آلية إنتاج ارتبط بها عمل نسخ إضافية بالجهد الإضافي وانخفاض الجودة. ولكن تكنولوجيا اليوم الرقمية تقوم بإنتاج عدد غير محدود من النسخ المتماثلة الجودة دون أدنى جهد. ويمكن - بالإضافة إلى هذا - الوصول إلى هذه النسخ من أي مكان متصل بشبكة الإنترنت. ومن ثم، نحتاج إلى تطوير اتجاهات جديدة تقوم بحماية حقوق المبتكرين مع السماح بإتاحة المواد للجميع بسهولة وبصورة مناسبة بدلاً من تطوير تكنولوجيا جديدة (مثل العلامات المائية وتقنيات أخرى)؛ لحماية نموذج عمل «حق المؤلف» الذي ظهر في زمن مضى.

وتتطلب التكنولوجيا الجديدة نماذجَ أعمال جديدة، وتعد إنجازاتُ هنري فورد، وبيل جيتس، ومايكل ديل أمثلةً على مدى نجاح تطويع نماذج الأعمال بما يتناسب مع الابتكارات والتغيرات التكنولوجية. فتطويع نموذج الأعمال - في حالاتهم - للتكنولوجيا الجديدة (خط الإنتاج ونظام التشغيل الخاص بالحاسب الآلي واستخدام الإنترنت في المبيعات بهدف الاستغناء عن الموزِّع)، هو ما مكَّنهم من سبق منافسيهم. وأحدث جيف بيزوس وموقع «أمازون» ثورة في البيع بالتجزئة عبر الإنترنت. وبيَّن بيير أميديار ما يمكن لشبكة الإنترنت أن تقوم به لتيسير المعاملات بين البائعين والمشترين. ويعد مخترعا جوجل لاري بيج وسيرجي برين أبرز الأمثلة الأخرى التي تُظهر كيف يمكنك استخدام طرقٍ جديدةٍ لتوفير خدمات رائعة بالمجان وتحقيق أرباح وفيرة (الإعلان الموجه).

وأينما تأخرت الشركات الموسيقية وناشرو المطبوعات في الإتيان بنماذج أعمال جديدة سَبَقَهم آخرون، ففي الموسيقى، كان في الأساس ستيف جوبز iTunes»، و«iPod» (والآن «iPad») هم من بَيَّنُوا لنا كيف تنعكس التكنولوجيا الجديدة على نماذج أعمال جديدة. فلاقت إمكانية تحميل الملفات الصوتية مقابل مبالغ زهيدة في نموذج «iTunes» نجاحًا باهرًا. ودخل موزعو الكتب مثل «سوني» و«أمازون» وقاموا بثورة في هذا النظام، فكان جهاز «Reader» لسوني، وجهاز «Kindle» الذي أطلقه أمازون، وجهاز «iPad» الصادر عن «آبل» إشارة إلى الأسلوب الذي ستُقرأ به الكتب في المستقبل.

وفي مجال البحث والنشر كانت الثورة الرقمية من العمق؛ بحيث تحدَّت مفهوم تنظيم المعرفة ذاته. فاليوم تزيد أهمية كثافة روابط النص التشعبي الموجودة في مادة ما داخل مجال مترابط من المعرفة، عن مجرد حجم المادة نفسها. كما أن وجود محركات بحث قوية مثل «جوجل» غير من عملية البحث، وأصبح عدم وجود مادتك في مجال منظم معين يساوي عدم وجودك أنت على الإطلاق! وستصبح هذه الصفة الاستبعادية أكثر خطورة مع اتساع هذه المجالات وازدياد أعداد المستخدمين.

إن وجود أرشيف رقمي لشبكة الإنترنت (سِجِلّ محفوظات الإنترنت الذي أسسه «بروستر كيل» بكاليفورنيا) يجعل مسألة المواد الرقمية المتاحة مثيرة للجدل. وسيضمن وجود نسخ مكررة من هذه المواد في عدد من المراكز - منها مكتبة الإسكندرية بمصر - دوام إتاحتها في مواجهة الكوارث المادية والسياسية التي من الممكن أن تدمر هذه المواد. ويفتح استعداد بعض المؤسسات البارزة (مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)؛ لإتاحة موادها التعليمية على الإنترنت، ولتكوين مجتمعات ممارسة قادرة على إنتاج كم هائل من المواد لاستخدام الباحثين والمدرسين في كل مكان بالعالم (مثل مبادرة مشروع المليون محاضرة BA Science Super Course الذي يتيح مواد تعليمية خاصة بمجالات الصحة وعلم الأوبئة)، يفتح فرصًا جديدة للباحثين من كل العالم خاصة في العالم النامي، والذين هم إلى اليوم أقل حظًّا بالمقارنة بزملائهم في الدول الصناعية.

واليوم، ونحن على أعتاب ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ونرى بالكاد ملامح التنظيم الجديد للمعلومات، يجب علينا أن نستعد لإعادة اكتشاف أنفسنا، وأن نفكر في إحداث تغيير جذري وليس عارضًا.

ويجب علينا أن نقوم بمراجعة بعض المفاهيم المعروفة في ضوء التكنولوجيا الجديدة، وهي:

النشر، والتحقيق العلمي، وحق المؤلف، والاستخدام العادل، والإعارة بين المكتبات.

إن كلَّ ما سبق أساسي لممارسة العلوم ونشر المشروعات العلمية، وللإنتاج الأدبي والثقافي، ولنشر المنتجات الثقافية داخل الدول وعبر الحدود في كل العالم؛ ولذلك من الضروري التعرض لكل منها بتفصيل أكثر.

النشر

قامت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بطمس الفاصل بين الطبع والنشر والتوزيع الخاص والعام. فهل تعتبر المواد المنشورة على موقع إلكتروني خاص منشورةً، بحيث يمكن لأي شخص أن يضع أية مادة على الإنترنت، وهذا ما يفعله أغلب الناس؟ انظر فقط على مواقع «فيس بوك»، أو «يوتيوب» أو «فليكر». الآن تقوم مكتبة الكونجرس ذاتها بجمع الأخبار (tweets) من موقع «تويتر».

فما آثار امتلاك معلومات بكلتا الصورتين (الرقمية والورقية) في الوقت نفسه؟ فالآن يوزع فيلم السينما على دور العرض ويعرض على الشاشات التقليدية، كما يعرض على التلفزيون ويباع على شرائط فيديو وأقراص DVD. فبكل بساطة، غيرت الأستوديوهات نماذج أعمالها في ضوء التكنولوجيا الجديدة.

والطباعة حسب الطلب والموجودة بالفعل في صورها البدائية، قد تكون هي المستقبل إلى جانب الكتب الرقمية. ولكن أيًّا ما كان الأمر، فأنا على اقتناع بأن الأسلوب التقليدي لنشر وبيع الكتب سيندثر، وعلينا أن نركز على النماذج الجديدة التي ذكرناها والتي توضح جميعًا ابتعادًا جذريًّا عن النماذج التي ظهرت في عصر الطباعة. ويجب أن يكون اهتمامنا هنا بأن تقام نماذج النشر الجديدة بطريقة تضمن الإتاحة القصوى لكل المعلومات في كل مكان، مع ضمان العوائد العادلة للكاتب وأصحاب الحقوق المجاورة (الناشرين والموزعين).

التحقيق العلمي

هل تقع على مجتمع العلماء أية مسئولية لفرض نوع من المعايير الدنيا في النشر الإلكتروني (المساوي الإلكتروني للتحقيق العلمي للمجلات العلمية)؟ وكيف سيتم ذلك؟

من ناحية أخرى، إن لم يعالج مجتمع العلماء الممارسين هذه المسألة فماذا ستكون المخاطر الكامنة في وجود نظرية الخلق والتطور والتنجيم بجانب علم الفلك؟ هل تقع أية مسئولية على المجتمع العلمي لإعلان الفرق بين العلم والدجل؟ وأيًّا ما كان الأمر، فكيف يتم هذا في بيئة يمكن فيها لأي شخص - وأعني حرفيًّا أي شخص - أن ينشئ موقعًا إلكترونيًّا ذا اسم علمي؟

تمر المجلات العلمية المتخصصة بأزمة مالية، ولا يمكن إصدار المجلات المتخصصة بالصورة التقليدية دون تكاليف باهظة، مما يجعل أسعار الاشتراك بها فوق قدرة الجميع عدا القليل من المكتبات والمؤسسات والأفراد. ويؤدي عدد المشتركين المتضائل إلى ارتفاع سعر الوحدة أكثر، ولا يمكن أن يستمر هذا في الوقت الذي يجب أن تسمح ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بطرق متعددة في نشر الأبحاث المتخصصة في مجتمعات العلماء والباحثين النائية والصغيرة نسبيًّا.

والتحقيق العلمي أحد أكثر المشكلات التي تُذكر ضمن العقبات التي تَحُول دون نجاح هذه المجلات الرقمية. ولكن بالطبع، من الممكن أن يُسمح بوجود عملية التحقيق العلمي على بعض المواد المنشورة على الإنترنت عبر بوابات معينة، مع استخدام وسائل تقييم أخرى للمواد التي قد يقدمها مجتمع الممارسة، وهذا تغيير مطلوب إن كان لنا أن نسمح بوجود مخزون كبير من المعرفة على الإنترنت.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك حالة خاصة وهي مشروع «المليون محاضرة» بمكتبة الإسكندرية. والمشروع عبارة عن مجموعة منظمة من العروض التقديمية لمحاضرات متاحة بالمجان يستفيد منها مدرسو العلوم حول العالم. كما يقدم المشروع قسمًا خاصًّا للمحاضرات الخاصة بالحاصلين على جوائز نوبل سواء كانوا هم من ألقوا المحاضرات أم كانت المحاضرات عنهم، هذا بالإضافة إلى موضوعات أخرى. والمشروع مبني على مشروع محاضرات علم الأوبئة الذي طورته جامعة بيتسبرج بالفعل، والذي تتعاون فيه مع مكتبة الإسكندرية ومنظمة الصحة العالمية، والتي قامت باختبار تقنيات تقييم تُشرِك مجتمع الممارسة في التصويت بدرجات؛ لتقييم كل محاضرة على حدة، مع إمكانية التعرف على من يقومون بالتصويت، سواء كانوا علماء زملاء أم أكاديميين أم طلبة أم من الجمهور. وتساعد إحصاءات التحميل ووظائف أخرى على إتمام النظام. وفي سياق آخر، سمح موقع «أمازون» بالتصويت لاختيار المواد المفضلة للمستخدمين ليستعين بهذه المعلومات مشترون آخرون، بل إن الموقع يسمح للمستخدم بأن يقوم بكتابة عرض كامل لوجهة نظره في المنتج. ونموذج آخر للتحقيق العلمي هو موسوعة الحياة (www.eol.org)، التي يمكن أن يضع فيها أي مستخدم الصور دون فحصها في إطار أصفر؛ للدلالة على أن الصورة هي اقتراح أحد المستخدمين، وتحذر القراء من أن هذه الصورة لم تحقق، ويختفي الإطار الأصفر عن الصورة إن تم تحقيقها.

وكل هذا مجرد بداية لما سيأتي في المستقبل، وتبين هذه الأمثلة أن هناك المزيد في الاتجاه نحو الممارسة الرشيدة أكثر من التحقيق العلمي المطول.

حق المؤلف وحقوق الملكية الفكرية

يجب أن تتاح أكبر كمية ممكنة من المواد العلمية في صورة رقمية على الإنترنت لتصل إلى الأماكن البعيدة. ونحتاج إلى أساليب جديدة لاستبدال الحقوق المحفوظة بطرق مناسبة أكثر لحماية حقوق الملكية الفكرية ومكافأة المبتكرين، مع مؤازرة الصالح العام في الحصول على أوسع إتاحة للمعرفة بأقصى سرعة ممكنة.

وقد خلق النظام الحالي العديد من المشكلات، من الأعمال اليتيمة للعدد الكبير من الكتب التي توقفت طباعتها ومازالت محمية بحق ملكية، ومدة ملكية صاحب العمل الطويلة بصورة غير منطقية، وإزالة متطلبات الفهرسة هي من أسباب العديد من المشكلات الموجودة اليوم، وتدعم هذه المزاعم العديد من الدراسات.

فلنتخيل عالَمًا فيه الآتي:

كل أعمال العالم متاحة على الإنترنت: قراءتها بالمجان وتحميلها بمقابل...

وتذهب الأموال للكتّاب والناشرين مع كل مرة يتم فيها تحميل الكتاب، ويمكن للكُتاب أن يقوموا بنشر كتبهم بأنفسهم إن أرادوا، وأنظمة تسعير بمستويات للتعرف على القوى الشرائية لدول بأكملها، وتقوم مناطق كاملة بالاشتراك وليس مجرد مؤسسات منفردة، ويتم تطبيق الاستخدام العادل وخدمات الإعارة الرقمية بين المكتبات ومعاملات أخرى بصورة إلكترونية، وأكثر من هذا بكثير...

إنني على يقين بأن أغلب المخاوف المتعلقة بحقوق الملكية المذكورة لا تستند إلى أي أساس، فكل هذه المشكلات لها علاقة بنماذج الأعمال؛ حيث تعامل فيها التكنولوجيا الحديثة بطريقة نماذج الأعمال القديمة، محمية بذلك خلف أسوار قانونية خلقتها ضغوط هائلة من جهات مستفيدة.

الاستخدام العادل

يواجه مبدأ الاستخدام العادل تحديًا، فالبعض يراه حقًّا أساسيًّا عند وضع مادة ما في العلن (أي نشرها بالمفهوم التقليدي)، ويراه آخرون استثناء للاحتكار الكامل الذي يُمنح لكاتب أو ناشر المادة. وأنا شخصيًّا أميل إلى التعريف الأكثر تحررًا وإن اختلف العديد من المحكِّمين مع اتجاه «الحقوق» في مسألة الاستخدام العادل. ومن يتفق مع هذه الفكرة يؤسس وجهة نظره على أن الحقوق المحفوظة تُعطى كجزء من هدف مزدوج: مكافأة المبتكرين وضمان إتاحة الابتكار للجميع.

إلا أن الإتاحة الشاملة لنتائج الأبحاث العلمية والمخرجات الثقافية يمكن بل يجب أن تستخدم بصورة موسعة بلا أية سرقة أدبية. فالنسخ المنتجة بهدف التعليم والمحاضرات أو المناقشات أو المناظرات، يجب تشجيعها ضمن كل القيود الممكنة لدرجة لن توجد معها قرصنة تجارية للعمل أو أية خسارة ملموسة للكاتب أو الناشر.

وستتعامل المكتبات الرقمية المستقبلية مع المواد صعبة المنال (Gray Literature) بصورة إلكترونية. ويجب عليها أن توفر بوابات للمشاركة بمواد التدريس، وأن تستخدم هذه البوابات الإلكترونية التي تديرها بعض المكتبات لتنظيم مشاركة المعلومات بصورة رقمية بين المدرسين والباحثين من خلال نموذج يصنعه مجتمع ممارسة يقدم ويحسن المواد المتاحة للجميع من خلال البوابة.

الإعارة بين المكتبات

كانت الإعارة بين المكتبات لمدة طويلة وسيلة تُثري بها المكتبات مجموعاتها التي تقدمها للمستخدمين، إلا أنها وسيلة محفوفة بالمخاطر عندما تكون المواد إلكترونية، ولكن هذا لا يصح، فيجب تشجيع الإعارة الإلكترونية بين المكتبات، فإنها ستكون أكثر كفاءة وفاعلية، ويمكننا دراسة واستكشاف العديد من نماذج التعامل مع مخاوف الإفراط في النسخ، من استخدام الأعراف التقليدية إلى برامج الحاسب الآلي المحدودة أو المرتبطة بمدة زمنية محددة.

التحرك ضروري الآن

القرن الجديد مليء بالوعود التي يمكن بالكاد تخيلها. وتفتح ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأبواب التي أغلقتها التكنولوجيا القديمة. ومن الضروري أن ينهض الآن المهتمون بالناس الأقل حظًّا في العالم لضمان أن تفيض فوائد التكنولوجيا الحديثة للمعرفة بسهولة، على كل الإنسانية وليس فقط على مواطني العالم الصناعي المحظوظين. وسنربح ما أنفقناه مرات ومرات بفيض الابتكار والمعرفة الذي سيولده 80% من البشر المقيمين في هذه الدول الفقيرة، والذين سيمكن لمواهبهم ومهاراتهم أن تزدهر بفضل مكتبات الغد الرقمية الجديدة.

المستقبل: القيم الإنسانية

وراء مسألة المعرفة تكمن مسألة القيم، فبمقدار ما تسود القيم الإنسانية - التي نحترمها جميعًا - العالمَ الجديدَ، ستكون الأعمدة السبعة للثورة المعرفية الجديدة هي الأعمدة السبعة للحكمة التي لطالما قَدَّرَها وسعى إليها البشر.

تخلق القيم مجتمعًا من مجرد مجموعة من الأفراد، فالقيم تتمم المعاملات وتربط الفجوة بين الأجيال. فالقيم هي التي تجعل المجتمع الإنساني مستحقًّا صفة الإنسانية. وأصبحنا نعتمد اليوم على نظامنا التعليمي لدعم ما يقوم به الآباء في المنزل من زرع للقيم الصحيحة في عقول أبنائهم الصغار. والمدرسون هم المثال الحي في عملية تشكيل القيم بالنظام التعليمي إلى جانب ممارسات الطلبة أنفسهم.

وتشمل القيم إمداد الشباب بالإحساس بوجود هدف أسمى من مجرد الربح المادي. فالقيم تحوي كرامة الفرد والاحترام المتبادل وهو أساس الحوار المتحضر، فتسمح لأطفالنا بأن يكبروا مؤمنين بأن قيم الحق والخير والحرية والعدالة أكثر من مجرد كلمات خاوية. وتعزيز هذه القيم جزء من تعزيز ثقافة الإنسانية وثقافة السلام.

وبالفعل، على كل إنسان أن تكون له حريته الفردية وهويته كجزء من جماعة. ووجود نظام فعال من القيم في نظامنا التعليمي سيضمن ألا تكون هذه الهوية الجماعية على حساب هويتنا المشتركة كبشر، وألا يقف احترام الحياة الإنسانية عند أي حدود سياسية. والقيم العالمية جزء ضروري من المجتمع الذي نصنعه في بداية الألفية الجديدة.

وهنا ستفتح الثورة المعرفية الجديدة - التي وصفتْ أعمدتها السبعة للتو - فرصًا هائلة للجيل الجديد وسيتحَوَّل بها - كما أعتقد - المشهد المجتمعي كما عرفناه في الأجيال الماضية بصورة كامل, وسيكبر هؤلاء الصغار في عالم ستؤخذ الأعمدة السبعة فيه كمُسلَّمات وستبدو طبيعية كالهواء الذي يتنفسونه. وسيعتمد - ما إن استخدموا التكنولوجيا الجديدة لخلق عالم من السلام والرخاء والكرامة للجميع - على القيم التي ستسود هذا الجيل القادم، وهذا يتطلب التوازن بين تحرير الفرد وتجانس المجتمع، بين الاحتفاء بالتعددية والوعي بإنسانيتنا المشتركة، وحينها فقط سنتمكن من تعزيز السلام المبني على المساواة والعدل؛ سلام من شأنه أن يسمح لكل فرد بأن يستفيد من الفرص الرائعة في مدارس الغد، وأن يكتمل بفضله ازدهار قدراتهم، وأن تعود مواهبهم على مجتمعهم بكامل النفع.

إن الكشف عن تلك المواهب سيساعد على خلق مستقبل أفضل تحلق فيه آمالنا وأفكارنا، مستقبل تخلقه قوة سواعدنا وقوة قلوبنا، مستقبل يكون فيه:

العقل جريئا والرأس مرفوعا
المعرفة حرة
العالم لم يتفتت بجدران الحدود الضيقة
تأتي الكلمات من أعماق الحقيقة
يمد الجهد كفَّه نحو الكمال
لم يتوه نهر المنطق في صحراء العادة المرهقة؟
يعدو العقل للأمام... إلى الفكر والفعل الدائمَيْ الاتساع
نحو سماء الحرية... فلتنهض بلادي.
«طاغور»

وفي الختام:

هل لنا أن نستشرف التغيرات التي من المرجح أن تجلبها الأعمدة السبعة للثورة المعرفية؟ هل سيكون في مقدورنا أن نتوصل إلى الترتيبات المؤسسية التي تتطلبها تلك التغييرات، وأن نستشرف تلك التداعيات؟ لا أعتقد ذلك؛ فلن نعرف مدى النجاح إلا بالإدراك المتأخر. ولا يمكننا اليوم سوى طرح الأسئلة والتعبير عن الآمال.

وهل يمكننا الادعاء بأننا قد وضعنا تصورًا لحجم التداعيات التي ستفرضها علينا الأعمدة السبعة للثورة المعرفية الجديدة؟ هل نعرف ما الذي ستفعله تكنولوجيا المستقبل بقدرتنا على استحضار روح الماضي والصور الملهمة من أجل مستقبل جديد؟ من الذي يمكنه الإجابة عن ذلك؟

لا توجد إجابات شافية وافية للعديد من التساؤلات التي طُرحت ضمنيًّا فيما سبق، ففي عصرنا الحديث يتسنى لنا استخدام مصطلح «questers» الذي أطلقه دانيال بورستين، في إشارة إلى هؤلاء الذين يدركون أن المعرفة والتعبير الثقافي رحلة وليسا مقصدًا، ويدركون أن الأهمية الأكبر تكمن في طرح أسئلة كثيرة لا في إيجاد إجابات حاسمة.
----------------------------------
* مدير مكتبة الاسكندرية - مصر

 

إسماعيل سراج الدين*