التقاليد تكبل الشعراء جابر عصفور

أوراق أدبية
طه حسين ينتقد أحمد شوقي

في كل أكتوبر تتذكر القاهرة دائما طه حسين. الأستاذ المعلم ورائد التنوير. ولكن من يتذكر أحمد شوقي شاعر العربية الكبير الذي توفي في مثل هذا الشهر منذ حوالي واحد وستين عاما على وجه التحديد؟.

في شهر أكتوبر الماضي، احتفت العواصم الثقافية العربية بمرور عشرين عاما على وفاة طه حسين وكان لاحتفال القاهرة دلالة خاصة، فذكرى طه حسين تمر هذه المرة موازية لمرور عشرين عاما على حرب أكتوبر، ومرتبطة بمواجهة القاهرة لحملات الإظلام التي تحاول القضاء على التراث التنويري الذي أسهم فيه طه حسين بما جعله رمزا للتنوير وشعارا له. ومن الطبيعي أن تغطي ذكرى طه حسين على كل ما عداها في هذا السياق. ولذلك انقضى شهر أكتوبر دون أن تتذكر القاهرة ذكرى أمير الشعراء أحمد شوقي (1869 - 1932) الذي توفي، في الساعة الثانية في ليلة الرابع عشر من أكتوبر عام 1932.

والواقع أن ذكرى شوقي ليست بعيدة عن ذكرى طه حسين. ولا يرجع الأمر في ذلك إلى أن كلا العلمين قد توفي في شهر أكتوبر، أو إلى أنهما كانا من مدرسة فكرية واحدة، فالمسافة بعيدة بين نظرة أحمد شوقي الإحيائية إلى الحياة ونظرة طه حسين الليبرالية، والمسافة بعيدة كذلك بين المؤثرات الفرنسية التي خضع لها شوقي حين ذهب إلى باريس قبل نهاية القرن التاسع عشر والتي خضع لها طه حسين حين ذهب إلى فرنسا في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، والمسافة أبعد بين نشأة أحمد شوقي الذي ولد في بلاط الخديو إسماعيل، وكان يصف نفسه بأنه:

شاعر الأمير وما

بالقليل ذا اللقب

ونشأة طه حسين الذي تربى تحت ظلال شجرة البؤس مع المعذبين في الأرض، وأودى الجهل المصاحب للفقر بنعمة بصره، وظل شبيها بأبي العلاء الذي كان يحبه، ويتحد معه عاطفيا، إلى الدرجة التي جعلته يستهل حياته العلمية بأن يصدر عنه كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" الذي نال به أول درجة دكتوراة تمنحها الجامعة المصرية عام 1914، وإذا كان أبوالعلاء هو الشاعر الأثير لدى طه حسين بنزعاته الزهدية الروحية فالشاعر الأثير لأحمد شوقي كان الحسن بن هانئ وأقرانه من الشعراء المقبلين على الحياة، المستمتعين بها.

نقد دون عداء

ولكن مع هذا البعد بين شوقي وطه حسين فقد كانت بين الاثنين مودة خاصة فترد على الذهن ذكراهما معا، وذلك من الزاوية التي كانت تعطف الناقد على الشاعر الذي يتناوله بالنقد، ويختلف معه، ويرفض اتجاهه الإبداعي العام، ولكن دون أن يصل به الأمر إلى حد العداء، أو حد الهجوم العنيف الذي لا هوادة فيه، على نحو ما فعل عباس محمود العقاد الذي وضع أحمد شوقي على "سفود" النقد في أكثر من عمل، خصوصا كتابه الديوان الذي أصدره بالاشتراك مع صديقه إبراهيم عبدالقادر المازني لهدم أعلام المدرسة الإحيائية وعلى رأسهم أحمد شوقي الشاعر الذي اختص العقاد بالهجوم عليه، والمنفلوطي الثائر الذي اختص إبراهيم عبدالقادر المازني بالكشف عن تقليديته.

وطه حسين يتفق مع عباس العقاد في النظرية العامة للشعر في النهاية، كلاهما يؤمن بأن الشعر تعبير عن وجدان صاحبه، وأن القصيدة هي وجدان الشاعر المتفرد منظوما، وأن الصورة الموحية المبتكرة هي جوهر الشاعرية. وأن النغمة الإيقاعية المهموسة هي النغمة الشعرية، وأن الشعر هو صوت الفرد المبدع المتفرد الذي يتوجه إلى قارئ فرد. ومن هنا لم يقنع كلاهما بالخصائص الكلاسيكية التي انطوى عليها شعر أحمد شوقي والتي كانت تتباعد عن النموذج الرومانسي للشاعر، ذلك النموذج الذي جمع الإعجاب به بين طه حسين والعقاد. ومع ذلك فإن نقد طه حسين لأحمد شوقي لم يشبه نقد العقاد في القسوة والحدة والعنف والإلحاح. لقد كان هادئا، متسامحا، لا يخلو من السخرية أحيانا، ولكنه لا يستبدل الخطاب العقلاني بالخطاب الانفعالي، ولا يخلط بين النقد الذاتي والنقد الموضوعي ويبقي في كتابته على المسافة التي تبقي على إمكان الحوار ولذلك اختلفت علاقته بأحمد شوقي عن علاقة العقاد، وظلت علاقة تنطوي على التقدير والاحترام والمحبة، رغم اختلاف اتجاهات الذوق وتباعد المثل العليا الإبداعية. وأحسب أن هذه العلاقة بين طه حسين الناقد وشوقي الشاعر هي التي ينبغي أن تكون نموذجا للناقد الذي يحب أن يظلل نقده روح التسامح الذي لا ينفي الاختلاف وإنما يقيمه على قاعدة تسمح، دائما، بالحوار.

وقد جمع طه حسين نقده لأحمد شوقي ونقده لقرينه وصنوه حافظ إبراهيم في كتابه الذي صدر بعنوان "حافظ وشوقي" في مارس 1933 بعد أشهر قليلة من وفاة الشاعرين. وقد استهله بدراسة بعنوان "الأدب الجديد" يلخص فيها مسيرة الأدب العربي منذ مطالع النهضة إلى وقته، ويعرض للدور التأسيسي الذي قام به محمود سامي البارودي بوصفه رائد الإحياء الذي سار في أثره أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وصحبهم الذين واصلوا مسيرة الإحياء. ولكن طه حسين يلاحظ، في هذه الدراسة، أن تجديد "النثر" كان أسبق من تجديد الشعر، وأن النثر انفتح على أفق من التطور والتغير والاتساع ومواكبة الحياة الجديدة، والإفادة من منجزات العصر وتجسيد قيمه على نحو لم يستطع الشعر أن يؤديه. وإذ يربط طه حسين هذه الظاهرة بتحرر النثر من التقاليد الراسخة التي كبلت حركة الشعر فإنه يضيف إلى سطوة هذه التقاليد ما لاحظه من كسل الشعراء، في تثقيف أنفسهم بمعارف العصر من حولهم، واستغراقهم في التراث إلى الدرجة التي تكاد تنسيهم وجودهم المعاصر، وعدم تطلعهم إلى أفق معرفي مغاير.. ويجمل طه حسين نظرته هذه، في رده على صديقه محمد حسين هيكل، الذي دخل معه في حوار حول ظاهرة تطور النثر وجمود الشعر، فيقول إن شعراءنا جامدون في شعرهم لأنهم مرضى بشيء من الكسل العقلي بعيد الأثر في حياتهم الأدبية، فهم يزدرون العلم والعلماء ولا يكبرون إلا أنفسهم ولا يحفلون إلا بها، وهم لذلك أشد الناس انصرافا عن القراءة والبحث والتفكير. وكيف يقرأون أو يبحثون أو يفكرون وهم أصحاب خيال، ومن شأن الخيال أن يصعد في السماء بجناحيه من غير تفكير ولا بحث؟ فأما البحث والتفكير فشأن العقل، والعقل عدو الخيال وهو عدو الشعر، والعقل ميزة الفلاسفة وميزة العلماء، والشعراء أجل وأعلى أن يكونوا فلاسفة أو علماء إنما هم شعراء.

الشاعر المفكر

ومن اليسير أن نلاحظ في حديث طه حسين عن كسل مدرسة شوقي وحافظ إبراهيم نوعا من السخرية المبطنة التي ترجع إلى الاقتصار على الثقافة الشعرية القديمة. وإذا كان طه حسين يعيب على الشعراء أنهم لم يطلعوا على الفلسفة، ويخوضوا في غمار الفكر، فإن ذلك يرجع إلى أمرين: أولهما إعجاب طه حسين العام بالشاعر المفكر الذي يشعر بما يفكر، ويفكر فيما يشعر به، وثانيهما إعجابه الخاص بأبي العلاء المعري شاعره الأثير. وقد رد طه حسين في أكثر من موضع عبقرية المعري إلى قدرته الفائقة على التفكير الشعري أو الفكر الشعوري، وهي مقدرة لم يرها طه حسين في أحمد شوقي الذي كان ينتظر منه ذلك على وجه الخصوص. والمؤكد أنه كان يتوقع من أحمد شوقي ما لم يتوقعه من صنوه حافظ إبراهيم، وذلك لثقافة شوقي الغربية، واطلاعه الباكر على الآداب الفرنسية، ومكانته الاجتماعية التي أتاحت له من السفر والتجارب ما لم تتحه المكانة الاجتماعية المتواضعة لحافظ إبراهيم.

ولذلك نلاحظ تركز النقد في كتاب حافظ وشوقي على أحمد شوقي على وجه الخصوص. يبدو ذلك في اعتراض طه حسين على المقدمة التي كتبها صديقه هيكل للطبعة الثانية من "الشوقيات"، حيث يذهب إلى أن أخطر عيوب شوقي الشعرية هي أن شعره لا يبين عن شخصيته ولا يشف عن وجدانه. ويبدو الاتجاه نفسه في حديث طه حسين عن المثل الأعلى وعن الذوق الأدبي، وفي نقده التطبيقي التفصيلي لقصيدة شوقي:

قفي يا أخت يوشع خبرينا

أحاديث القرون الغابرينا

وفي الموازنة الأخيرة التي أقامها طه حسين بين حافظ وشوقي وجعلها ختاما لكتابه. وإذا كانت تقليدية شوقي الإحيائية هي مصدر الضعف الشعري، ومن ثم غلبة النظم لا الشعر في ديوان الشوقيات، فإن هذه العلة تتأكد بنقيضها الذي يكشف عن المثل الأعلى للشعر الجيد. ويعقد طه حسين المشابهة الشهيرة، في هذا المجال. بين الشعر والمرآة، فالشعر الجيد، عنده، يمتاز قبل كل شيء بأنه مرآة لما في نفس الشاعر من عاطفة، مرآة تمثل هذه العاطفة تمثيلا فطريا بريئا من التكلف والمحاولة، فإذا خلت نفس الشاعر من عاطفة، أو عجزت هذه العاطفة عن أن تنطق لسان الشاعر بما يمثلها فليس هناك شعر، وإنما هناك نظم لاغناء فيه.

أصداء الماضي عند شوقي

وقد نظر طه حسين في مرآة شوقي فلم يجد فيها من شوقي إلا القليل، وجد أصداء الماضي تتردد طاغية، على نحو كان يغمر اللاوعي الشعري عند شوقي بالقوالب والتراكيب القديمة. ويبدو أن للوزن الشعري دورا مهما في عملية التداعي التي يستدعي بها البحر العروضي ونغماته من ذاكرة الشاعر كل ما يجانسه بجامع التشابه الصوتي. وذلك ما حدث بالفعل في قصيدة شوقي التي كتبها بمناسبة انتصار كمال أتاتورك والتي مطلعها:

الله أكبر كم في الفتح من عجب

يا خالد الترك جدد خالد العرب

فهذا المطلع نفسه ليس سوى ترجيع لمطلع آخر من الوزن نفسه والقافية نفسها من قصيدة ابن النبيه الشاعر المصري التي تبدأ بهذا البيت:

الله أكبر ليس الحسن في العربي

كم تحت لمة ذا التركي من عجب

ويبدو واضحاً أن الوزن المتحد والقافية وتكرار النغمة وتكرار كلمة التركي وما صاحبها قد قادت إلى أن بيت شوقي الذي كتبه في موضوع جديد قد أصبح تقليدا لشعر قديم.

ولكن طه حسين يكشف عن مزلق تقليدية أحمد شوقي من منظور آخر، حين يتحدث عن شعراء الغرب، بوصفهم النموذج الذي يضرب به المثل لشوقي وأقرانه كي يتحرروا من التقاليد، ويصلوا الشعر بالفكر، ويحدقوا بأبصارهم في الطبيعة من حولهم، ويتأملوا بشعر الفكر دلالات الكون من حولهم، ويتوقف طه حسين بوجه خاص عند بودلير ليدرس من خلال شعره علاقة الحرية بالفن، وهو الموضوع الأثير جدا لدى طه حسين. وخلاصة رأيه أنه لا فن دون حرية، وأن إبداع بودلير المتميز إنما يرتبط بقدرته على تحطيم الأعراف التي كبلت غيره، وتدمير القيود التي عاقت إبداع سواه. وإذا كان الذوق العام قد ثار على بودلير، ورفض شعره عندما أصدر ديوانه الشهير "أزهار الشر"، فإن ثمرة هذا الديوان كانت إبداعا خالصا، ظل يردد اسم صاحبه عبر السنوات والعقود. وذلك ما كان يريده طه حسين من أحمد شوقي، أن يتمرد على قيوده، وأن يتحرر من سطوة المكانة الاجتماعية التي قيدته إلى قصر الخديو، ومن سطوة التقاليد التي جعلته لا يكاد يفارق التقاليد، ومن سطوة العرف الأدبي العام الذي جعله لا يغادر قواعد اللياقة.

حرية الإبداع

إن الإبداع حرية، والنقد كذلك إبداع حر عند طه حسين. ولذلك يقول في نقده لشوقي وأضرابه إنه يصر على حريته حين ينقد قصائدهم، فقد تعود هذه الحرية وحرص عليها وأكبرها عن أن يضحى بها في سبيل إنسان مهما تكن منزلته من الناس، وبهذه الحرية كتب طه حسين ما كتب عن أحمد شوقي. وانتهى إلى أن شعره لا يحقق المثل الأعلى الذي يؤمن به. وإذا كان لم يجد صورة شخصيته في شعره، حين تباعد هذا الشعر عن ذات صاحبه، وطغت عليه النقلية والخطابة والغيرية، فإنه لم يجد البعد الذاتي من وصف شوقي الشهير للطبيعة، وذلك لأن شوقي لم يقف إزاء الطبيعة ليعكس عبر مرآتها مشاعره، أو يتأملها التأمل الشعري الذي تميزت به المدرسة الرومانسية، وإنما توقف شوقي عند الطبيعة ليحصيها في تشبيهاته، فتحدث عن "البسفور" كأنه يراه، وكان شعاره في الحديث عن الطبيعة:

تلك الطبيعة قف بنا يا ساري

حتى أريك بديع صنع الباري

وأحسب أن تلك هي نقطة الضعف الوحيدة في نقد طه حسين لأحمد شوقي. أعني أنه حاول أن يسقط على شعر شوقي مفهومه الخاص للشعر، ولم يتوقف الوقفة المطلوبة لتبين مفهوم شوقي المغاير، فضلا عما يمكن أن تنطوي عليه الكلاسيكية الإحيائية من قيم شعرية خاصة. ولو فعل طه حسين ذلك لاكتشف أن لشعر أحمد شوقي رؤية مغايرة للعالم، رؤية قد لا تكون رؤيتنا الخاصة، ولكنها تظل رؤية تنطوي على جمالها الخاص وقيمها المتميزة. والبعد الأخلاقي قرين البعد الروحي في هذه الرؤية، كلاهما يتحول إلى وعي بدائرية الحركة في الكون، ووعي بمصير الإنسان العابر، وإدراك للحياة من حيث هي دورة من الصعود والهبوط.. وما أكثر القيم اللافتة التي ينطوي عليها شعر شوقي لو نظرنا إليه من خلال هذا المنظور. لكن إذا حاسبناه من منطلق رومانسي بحت، ومن زاوية تقصر قيمة الشعر على إبانته عن شخصية صاحبه فإن جوانب كثيرة من شاعرية شوقي تنغلق أمامنا. ولا تبرز لنا. وهذا هو ما حدث مع نقد طه حسين لشوقي الذي استطاع أن ينفذ إلى جانب من شعر شوقي، وهو الجانب التقليدي، ولكنه لم يجاوز هذا الجانب السلبي إلى الكثير غيره من الجوانب الإيجابية.

نقاد أكثر تسامحا

وإذا كانت هذه النتيجة تعلم النقاد ألا تكون نظرتهم النقدية نرجسية خالصة، بالمعنى الذي لا يعجبون به إلا بالشعر الذي هو صورة من ذوقهم، فإنها تفيدنا معرفة بنقد طه حسين، من حيث تمثله للنموذج الجمالي نفسه الذي تمثله العقاد في نقد شوقي. ولكن يظل الخلاف بين الناقدين لافتا في التعامل النقدي مع الشاعر شوقي، فقد ظل طه حسين محافظا على نبرته الهادئة، وحواريته التي كانت أكثر تسامحا من جدلية العقاد