ملك عبد العزيز.. همس القصيدة (شاعر العدد)

ملك عبد العزيز.. همس القصيدة (شاعر العدد)

كانت تتمشى في أفق قصيدتها الخضراء الممتلئة برائحة الشجر الذي أحبته في شوارع القاهرة التي عشقتها عندما حانت نهايتها فجأة في ذلك العبق الأخضر وفي وسط القاهرة. انسحقت الشاعرة الحالمة ملك عبدالعزيز تحت أغصان شجرة عتيقة انتهى عمرها فجأة فهوت في اللحظة التي كانت الشاعرة تمر من تحتها وهي تفكر، ربما بمشروعها الأثير الأخير وهو الإشراف على إصدار ما تبقى لديها من مخطوطات زوجها الناقد الراحل محمد مندور.

فحتى ذلك الحين كانت قد أصدرت له من بعد رحيله عدة كتب جمعتها من بين أوراقه وأبحاثه غير المنشورة، وبقي لديها له وربما لها ايضا الكثير مما لم ينشر بعد.

توحدت ملك عبد العزيز في تلك اللحظة الفارقة مع الشجرة القاتلة، وكان اللون الأخضر الذي انسحب من نسغ الشجرة يتماهى مع الدم الأحمر الذي انسحب من عروق الشاعرة فرحلتا معًا متوشحتين بالأخضر والأحمر بعد أن أهدتا الحياة أجمل ما لديهما؛ ظلال القصيد، وشعرية الظلال. ولعل من اللافت أن الشاعرة كانت قد فتحت موهبتها في تلك المنطقة الممتدة ما بين ظلال القصيد وشعرية الظلال، فأنتجت كل قصائدها مبللة بندى الظلال وشميمها الفاتن.

ولدت ملك عبد العزيز في مدينة طنطا المصرية في العام 1921، وتوفت في القاهرة في العام 1999 بعد أن أصدرت آخر دواوينها الشعرية بعنوان أرادته أن يكون عنوان مرحلة تقترب من النهاية وهو «شمس الخريف». لكن شمس الشعر لا تغيب حتى لو كانت شمسًا خريفية محلقة في سماء بعيدة جدًا. ولشمس ملك عبد العزيز أكثر من صورة في مشهد الشعر العربي المعاصر منذ أن أشرقت بين أروقة ذلك المشهد من خلال ديوانها الأول والذي أصدرته في العام 1959 بعنوان أرادته أيضا عنوان مرحلة فكان «أغاني الصبا». وعلى الرغم من أن كثيرًا من الشعراء ينظرون عادة إلى أغاني صباهم باعتبارها تجربة بدائية مقارنة لها مع مجمل تجاربهم الشعرية فإن ملك عبد العزيز لم تكن من ذلك الفريق، خاصة أن أغاني صباها حملت نفسًا شعريًا جديدًا أهّلها لأن تجوس في فيافي القصيدة العربية الجديدة لاحقًا بثقة لافتة. فالشاعرة التي انزوت قبل رحيلها بسنوات طويلة عن مشهد الضوء الخاطف في رحاب إعلام الشعر والثقافة كانت أحد الشعراء العرب الذين انفتحوا منذ بداياتهم على تجارب الشعر الحديث، ولذلك يمكن النظر إليها باعتبارها أحد أهم الأصوات الشعرية العربية التي قدمت القصيدة الجديدة في صيغتها التفعيلية بخصوصية، كما أنها، وفقًا لبعض النقاد ومؤرخي الأدب، من أوائل شعراء القصيدة الجديدة، وتشهد بعض قصائد ديوانها الأول والتي كتبتها في أربعينيات القرن العشرين على أنها سبقت كلاً من صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي في كتابة القصيدة الجديدة. بل إنها تشير في بعض لقاءاتها إلى أنها كانت تكتب ذلك النوع من الشعر وهي مازالت على مقاعد الدراسة مغرمة بالتجريب ومتخذة منه طريقًا إلى التجديد حتى إنها لم تكن تتورع عن إلقاء قصائدها التفعيلية الجديدة في حضرة أستاذها في كلية الآداب عميد الأدب العربي طه حسين، لكنها وكما يبدو جليًا وقعت ضحية العقلية النقدية والتاريخية الذكورية السائدة في الثقافة العربية، فأسقطت من قائمة التجديد المعلنة شعريًا لمصلحة أسماء ذكورية تسيدت المشهد إعلاميًا لزمن طويل.

تميزت ملك عبد العزيز بقصيدها الرومانسي ذي الحس الهامس والصدى البعيد، والذي يبدو أن زوجها الناقد المرموق محمد مندور قد اخترع أحد أهم مصطلحاته النقدية في توصيف القصيدة الحديثة بسبب قراءته لذلك القصيد عندما وصفه بـ «الشعر المهموس». ولهذا ارتبط ذلك المصطلح بملك عبد العزيز ارتباطًا وثيقًا، وصارت قصائدها على وجه التحديد والخصوص نموذجه التطبيقي الأوضح لاحقًا.

وإذا كانت ملك عبد العزيز قد أغرمت بالتجديد والهمس الشعري الذين ساعداها على خلق شخصية شعرية فريدة من نوعها، ككل شخصية شعرية حقيقية وموهوبة، فإنها لم تكن لتنعزل عن محيطها الثقافي والإنساني في دائرة تلك القصيدة الهامسة، وكانت حاضرة في كل مناسبة قومية أو وطنية أو إنسانية أو اجتماعية من دون الوقوع في شرط المباشرة والتقريرية فقد كانت مخلصة لروح الشعر ووفية لعفوية خالصة.

أصدرت ملك عبد العزيز، التي لم تعمل إلا في مجال الكتابة والصحافة منذ تخرجها في كلية الآداب في العام 1942، عدة دواوين شعرية منها: «أغاني الصبا» و«قال المساء» «بحر الصمت» و«أغنيات الليل»، و«المس قلب الأشياء». ثم ختمت محاولاتها الشعرية المتقدمة بديوانها الأخير «شمس الخريف» والذي كانت قد اختارت له، حسب ما يروي أحد أصدقائها، عنوانًا آخر هو «ما تبقى» لكنها عدلت عنه بناء على نصيحة للناقد محمود أمين العالم فقررت حينها تكون شمس الخريف هي أخر ماتبقى لديها من شعر حتى ذلك الحين..ويبقى الأفق مفتوحًا للبحث بين ما تبقى لها من أوراق عن قصائد لم تنشر بعد.

ومن أعمالها الإبداعية الأخرى مجموعة قصصية يتيمة عنوانها «الجورب المقطوع».

وقد أصدرتها في العام 1962 قبل أن تقرر أن تتخلى عن محاولاتها القصصية لتعود إلى الشعر وتظل تحاول التجريب في رحابه المفتوحة دائمًا.

 

 

سعدية مفرح