الديمقراطية وتجاويف الخطاب الديمقراطي

في الوطن العربي هناك أشواق ديمقراطية حتى لو لم تكن هناك قوى ديمقراطية متبلورة، وربما كان هذا هو السبب الكامن وراء التنازلات التي قدمتها بعض الحكومات العربية والتي يمكن أن تشكل خطوة على الطريق الطويل الوعر للديمقراطية. فما هي معالم هذا الطريق؟.

في المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن نجد الآن تعددية حزبية وانتخابات عامة بها قدر من النزاهة، كما أن بها مقادير متفاوتة من حرية التعبير والحريات المدنية. والحكومات تسمي هذه الأمور ديمقراطية أو على الأقل جرعات مناسبة من الديمقراطية. ومعظم التيارات السياسية في هذه الأقطار لا تشارك حكوماتها هذا الرأي، وتضغط من أجل إصلاح ديمقراطي منسجم. وتمتد هذه الضغوط إلى الأقطار التي لا تملك بعد هذه العلامات مجتمعة.

ولا شك أن الأشواق الديمقراطية تتجاوز الحدود والقيود المفروضة على التطور الديمقراطي في أكثرية المجتمعات العربية، وفي هذا ما يدعو إلى التفاؤل. ومع ذلك فإننا في غمرة التعبير عن هذه الأشواق نميل إلى تجاهل حقائق عديدة، وأولاها: أن النضال الديمقراطي في الوطن العربي لا يزال متعثرا جدا، وأكثر تجارب الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي أشبه ما تكون بحديقة صغيرة محاطة بالأسلاك الشائكة يحرسها جنود مدججون بالسلاح، ولا نستطيع أن نتجاهل أن التنازلات الديمقراطية التي حدثت مراقبة بعيون باردة ومهددة في كل لحظة بقوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية، وما زالت هناك "المؤامرات" التي تستحق محاكمات فورية والزج في السجون بالمئات في أوقات الأزمات السياسية، وتكاد الحنجرة السياسية للمجتمع المدني تصاب بالاختناق. كما أننا لا نستطيع أن ننسى أو نتجاهل أن النضال الديمقراطي في الوطن العربي قابل للانتكاس ، والنكوص (ويكفينا شاهدا على ذلك أن الثورة الديمقراطية في السودان عام 1985 قد جرّت ثورة مضادة معادية للديمقراطية عام 1989).

إن الطابع المتعثر والمقابل للانتكاس للنضال الديمقراطي العربي قد يفسر جزئيا بالثقل الهائل لدولاب الدولة الذي شيد على مفاهيم غير ديمقراطية وتدرب في مدرسة التسلطية السياسية. غير أن هذا التفسير لا يكفي في الحقيقة. وعلينا أن نعترف بأن احتجاز الديمقراطية أو الانقلاب عليها هو نتيجة لمواقف سياسية واجتماعية متأزمة شاركت في توليدها الدولة بجهازها الجبار والتسلطي من ناحية، وبعض القوى السياسية المعارضة من ناحية أخرى. والمسألة لا يمكن شرحها ببساطة هكذا وكأنها مجرد أخطاء متبادلة بين الدولة أو جهازها وبين المعارضة السياسية. إننا في الحقيقة أمام ولادة عسيرة ومتعثرة للديمقراطية.. وهذه الحقيقة تعكس وضعا اجتماعيا وسياسيا حافلا بعلامات تأزم هيكلي: أي كامن في صميم العلاقات الارتكازية في المجتمع السياسي، بغض النظر - جزئيا - عمن يتولى الحكم ومن يتولى المعارضة.

تجاويف الخطاب الديمقراطي الغربي

مطلوب إذن أن نعود لاستشارة الفكر السياسي العربي، أو ذلك القطاع منه الذي احتفل بالمطالب الديمقراطية، أو أبدى اهتماما بمعالجة المسألة الديمقراطية ولو في سياق تعرضه لإشكاليات أخرى مثل الدولة، والأزمة السياسية القومية، والتيارات الفكرية والعقائدية الكبرى في الوطن العربي. وربما لا يكون من حقنا أن نأسف كثيرا للانقطاعات الحادة والمفاجئة في هذا الفكر. فكل خطاب سياسي - في العالم بأسره - له سهول وتجاويف قارية. في السهول يجري المنطق المميز لكل خطاب سريعا وسلسا مثل حصان بري. ولكنه يتعثر فجأة ويقف كسيحا أمام التجاويف وكأنه يخفي جريمة، أو يستلقي براحة أمام مناطق الإبهام والظل. والخطاب الديمقراطي العربي فيه نوعان من التجاويف القارية: تلك التي تسربت إليه من الخطاب الديمقراطي الغربي، وتلك الخاصة بالتاريخ السياسي العربي. ونستطيع أن نتوقف أمام تجويف قاري واحد في الخطاب الديمقراطي الغربي بسبب أهميته الخاصة في فهم طبوغرافية الخطاب الديمقراطي العربي.

فالخطاب الديمقراطي الغربي يقوم في جانب هام منه على اعتقاد أصبح بدهية تاريخية وهو أن الديمقراطية الغربية قد تطورت عبر أربعة قرون من الارتقاء العضوي في المجتمع السياسي الأوربي بدءا من الماجناكارتا في القرن 16 وحركة التنوير مرورا بحركات فكرية وسياسية كبرى، وخاصة الحركة الدستورية، وحركة العقد الاجتماعي والقانون الطبيعي والحركة الميثاقية والليبرالية ثم الحركات الاشتراكية الطوباوية والسندكالية والفوضوية ثم الاشتراكية العلمية والليبرالية الجديدة، والعقد الجديد ودولة الرفاهة والفكر الكينزي.. إلخ. وعبر هذه التقلبات بين مدارس الفكر الديمقراطي جاءت عملية اجتماعية وسياسية كبرى يشرحها الفكر الغربي في تعبيرات بسيطة، فمن وجهة نظر مدرسة الحداثة والمدرسة الوظيفية كان هناك ببساطة تطور تجاري وصناعي أدى إلى هدم المؤسسات التقليدية وانفلات الناس منها، ثم بناء مؤسسات حديثة استوعبت اللاجئين من التقليدية الآفلة أو المتهدمة. وتم الانتقال هكذا إلى الديمقراطية التي هي النظام الذي يتوافق مع الحداثة في المجتمع الصناعي. ومن وجهة نظر المدرسة الماركسية ثار الصراع بين الإقطاع والرأسمالية أو بين الأرستقراطية والبورجوازية انتهى بانتصار الأخيرة، ومعها الفكر الديمقراطي البورجوازي والنظام الديمقراطي المعاصر. الفكر العربي قبل بهذا التفسير البسيط لتطور الديمقراطية الأوربية. وبالتالي يصبح السؤال المصرح به أو المخبوء هو: هل يمكن حرق مرحلة من النمو العضوي الطبيعي للمجتمع نحو حالة تسمح بالديمقراطية تبلغ في التاريخ الأوربي أربعة أو خمسة قرون؟! ووراء هذا السؤال منطق قوي ومقنع. فإذا لم يكن النمو السياسي للمجتمع طبيعيا بحيث تتحول مسألة الديمقراطية من مجرد مثل أعلى للنظام السياسي مستلهم من خارج التجربة الاجتماعية القومية إلى تمدد عضوي لهذا المجتمع يستمد قانونه وضرورته من هذه التجربة القومية، فإن أي تطور ديمقراطي سيكون مصطنعا وهشا وقابلا للكسر والانتكاس. فتطور الشخص الأوربي من القن إلى المواطن ينطوي على ما هو أكثر بكثير من مجرد تغيير في الوضعية الخاصة بهذا الشخص. إنه في الواقع عملية إعادة بناء للشخصية استغرقت ردحا طويلا جدا من الزمن، واتخذت مسارا متعرجا مرة إلى الطريق الفوضوي الضيق كما تظهر حركات التمرد الفلاحية ومرة إلى الطريق التشاؤمي الديني.. حتى أصبح هذا المسار في النهاية سويا مع آخر تطورات الحداثة.

تجاويف الخطاب الديمقراطي العربي

والفكر العربي ليس بدوره غير واع بهذه الإشكالية المستمدة من تجويف الخطاب الديمقراطي الأوربي. وهو يجيب عنها بطريقتين مختلفتين جذريا.

الطريقة الأولى هي رفض الديمقراطية أو على الأقل رفض الشكل الغربي "التمثيلي" للديمقراطية. ويلتقي على هذا الرفض تيارات فكرية وسياسية كثيرة في الوطن العربي. بعض هذه التيارات يرفض الديمقراطية بكل صورها كنموذج لنظم الحكم العربية. والحجة التي يقدمها هي نفس الاعتبار السابق. أي أن الديمقراطية هي شكل حكم مستورد لا يلائم الواقع العربي ولا يتوافق مع التاريخ السياسي العربي أو الإسلامي. وبعض هذا الرفض يعود إلى مثل عليا بديلة "إسلامية أو قومية". كما أن بعض هذا الرفض يعود إلى نبذ أشمل وأعم للمدنية الغربية بالقول إنها حسية فردية، أنانية ومنحلة أو غير ذلك من الصفات. والمنطقي أن المعارضة بين العربي (أو الإسلامي) والغربي تصبح عندئذ معارضة كاملة، شبه مطلقة على صعيدي الفكر والواقع معا، أو المثالي والمادي في وقت واحد. فنماذج ومثل الحكم العربية يجب أن تكون مشتقة من التعاليم والحضارة الإسلامية كما يفسرها البعض، أو من الواقع العربي ومصالحه وحاجاته، وخاصة حاجته للتوحد في دولة واحدة، كما يصر البعض الآخر. وهناك تيارات ثانية لا ترفض المثل الديمقراطي، بها في ذلك المثل الديمقراطي الغربي ولكنها ترى أنها لا تلائم الواقع العربي ولا تقدم حلا لمشكلات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في أغلب الأقطار العربية، ولا تتفق مع المعتقدات وأساليب الفكر الشعبية. ويميز هذا التيار بين جوهر الديمقراطية من ناحية وشكلياتها ووسائلها الإجرائية من ناحية أخرى. ويرى أنه إذا كان جوهر أو فحوى الديمقراطية عالميا بالطبع، فإنها شكلا لابد أن تتأقلم بالضرورة مع الواقع العربي وأن تتلاءم مع الظروف المميزة لحقيقة معينة من التطور التاريخي ما زالت تتميز بالتأخر الاقتصادي الشديد والتعددية المجتمعية ونقص التعليم وضيق انتشار الثقافة الحديثة. ووفقا لهذه التيارات ليس هناك فائدة في إقحام نموذج سياسي مستمد من الحضارة الصناعية أو ما بعد الصناعية الغربية على واقع يفصله عنها قرون عديدة، بعد أن تكرر فشلها في أقطار عربية عديدة في فترات مختلفة من تاريخها الحديث، وأن المهم والضروري هو تخليق صيغة للحكم قادرة على انتشال الواقع العربي من تخلفه، وابتداع طريق خاص لتنميته يكون امتدادا لتطوره العضوي والطبيعي، ويفض الاغتراب والانفصال بين التقليدية والحداثة وبين الموروث والمعاصر. ويركز مفكرو هذه التيارات على ابتكار أشكال مختلفة من الديمقراطية المباشرة غير التمثيلية على مستوى القواعد الشعبية. والطريف أن هذا الاجتهاد الذي يدافع عنه بعض التقليديين بمعنى المنتسبين للفكر الإسلامي أو القومي التأصيلي يلتقي مع أحدث الصيحات والنداءات الجديدة الآتية من أوربا وأمريكا حول التعبئة الاجتماعية والسياسية ونظم الحكم "التنموية". فهذه الأخيرة تتحدث أيضا عن السياسة من أسفل، أي من مستوى القواعد الشعبية والقرى والمدن الصغيرة والتجمعات السكانية والمهنية والعمالية والفلاحية المحدودة، وعن إحياء فكرة المثقف العضوي والسياسة العضوية. وجوهر الديمقراطية هنا هو المشاركة الشعبية. ويترتب على الاعتبار السابق أنه لا توجد صيغة ديمقراطية واحدة لكل الأقطار أو المجتمعات العربية. فكل قطر عليه أن يطور صيغته الخاصة أو طريقه الخاص للديمقراطية. بل إن كل تشكيلة اجتماعية يمكن أن تطور شكلا خاصا بها للديمقراطية بمعنى المشاركة، فتكون هناك ديمقراطية رعوية، وديمقراطية فلاحية، وأخرى مدينية.. إلخ.

ولكن ماذا عن الطريقة الثانية للإجابة عن نفس الإشكالية؟ إن ما يميز هذه الطريقة هو الاعتقاد الضمني بإمكان حرق المراحل التاريخية والانتقال مباشرة إلى الحداثة، بما في ذلك الحداثة السياسية والمناسبة لصيغة الديمقراطية التمثيلية - الدستورية المعروفة بملامحها العامة والأساسية في التجارب الغربية المختلفة. وتعتبر هذه الإجابة مشابهة إلى حد بعيد للمناظرة الشهيرة بين الاشتراكيين العرب في الستينيات حول إمكان حرق مرحلة التطور الرأسمالي والانتقال مباشرة إلى الاشتراكية في الوطن العربي. كما أن هذه الإجابة مشابهة إلى حد بعيد للمناظرة الشهيرة بين الاقتصاديين العرب والتي امتدت لعدة عقود حول إمكان حرق مرحلة التطور الزراعي والتجاري ومرحلة الصناعة البسيطة (الاستهلاكية والخفيفة) والانتقال مباشرة إلى المرحلة الصناعية الحديثة - الثقيلة (أي صناعة تصنيع الآلات والمعدات). ووفقا لهذه الطريقة فإن الديمقراطية هي بحد ذاتها مدرسة للشعوب تتعلم في سياقها ممارسة قيم وقواعد الديمقراطية وترقي حواسها وعقلها السياسي وفقا لقواعد اللعبة وفحوى الفكرة الديمقراطية في وقت واحد. وأنه لا توجد وسيلة لتأهيل الأشخاص والجماعات لممارسة الديمقراطية سابقة على الديمقراطية ذاتها. ويكون من باب العسف والتصنع أن نزعم إمكان تعلم الديمقراطية في مدرسة الديكتاتورية والتسلطية.

أكذوبة النمو الارتقائي للديمقراطية الغربية

والآن لنعد مرة أخرى إلى ما أسميناه بالتجويف القاري في الخطاب الديمقراطي الغربي والذي لاحظناه ماثلا في الزعم بأن التجربة الديمقراطية قد شغلت في الغرب أربعة أو خمسة قرون من التطور العضوي الارتقائي. ونحن نسمي هذا الزعم تجويفا لأنه يدفع إلى الظل ومنطقة الإبهام حقائق التاريخ الغربي عموما والأوربي بوجه خاص. وأولى هذه الحقائق هي أننا لا نجد سندا حقيقيا للقول بأن الديمقراطية الأوربية قد تطورت عبر هذه القرون كلها بدءا من الماجناكارتا أو مرحلة التنوير. بل إننا نستطيع أن نؤكد أن الديمقراطية التي نعرفها في أوربا وأمريكا اليوم تنتسب في الحقيقة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة أكثر بكثير مما تنتسب لما قبلها. فالواقع هو أن الديمقراطية لم تكن تجربة مطردة ومستمرة نسبيا إلا كاستثناء قبل الحرب العالمية الأولى. ولا نستطيع أن نجد مثلا لديمقراطية غير منقطعة إلا في حالتي المملكة المتحدة والولايات المتحدة. أما بقية دول أوربا الغربية، بما فيها شمال أوربا فلم تكن فيها الديمقراطية نظاما مستقرا للحكم لأكثر من آماد زمنية قصيرة للغاية. وسوف نرى سريعا أن الديمقراطية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة لم تنشأ عن وعي ديمقراطي فريد لدى المجتمع السياسي بأسره، وإنما استمدت عوامل نشأتها واستمراريتها من عوامل أخرى. وترتبط بذلك ثانية هذه الحقائق وهي أن البرجوازية لم تخض صراعا حقيقيا وممتدا انطلاقا من مفاهيم ديمقراطية ضد الإقطاع "صاحب المثل السياسية غير الديمقراطية" إلا على نحو الاستثناء، وبصورة محدودة للغاية. ويشرح لنا ذلك بصورة واضحة وعبقرية حقا المفكر العظيم بارينجتون مور صاحب الكتاب الشهير "الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية" إننا نجد هذا الصراع بين البورجوازية والأرستقراطية بهذا الوضوح فقط في حالة فرنسا، وفقط إبان الثورة الفرنسية العظمى عام 1789. وحتى في هذه الحالة، فإن من باب التبسيط أن يشرح لنا الكتاب المتأخرون هذه الثورة باعتبارها نتاجا للبورجوازية: سواء من الناحية السياسية أو الفكرية. فالثورة الفرنسية سياسيا هي صنع فقراء باريس وفقراء الفلاحين أكثر منها صنع البورجوازية. وكذا، فإن من قبيل التبسيط أيضا أن ننسب جيل المفكرين العظام الذين ألبوا الأمة الفرنسية ونادوها للثورة إلى فكر البورجوازية، لقد كان فكرهم في الواقع مزيجا معقدا من النبالة الرومانسية المستمدة من أخلاق الأرستقراطية في القرنين السادس عثر والسابع عشر، وفكر التنوير، والغضب الأخلاقي المستمد من الأيديولوجية الشعبية التي تطورت عبر ثورات الفلاحين، والبحث المتسامي عن الحرية والمساواة المميز لثقافة فقراء المدن. وسريعا ما خانت البورجوازية هذه الثورة وأصبحت قطاعات منها تمثل الأساس الاجتماعي لنظام البوربون في عصر الاستعادة Restoration وللانقلابات اللاحقة. أما خارج فرنسا، فإن البورجوازية لم تطرح فكرا ديمقراطيا ولم تقد ثورات ديمقراطية، وإنما طرحت فكرا قوميا وحاولت قيادة حركات قومية. إننا لا نجد ثورة بورجوازية ديمقراطية سياسيا في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا والنمسا والمجر وهي أهم بلدان أوربا الغربية طوال القرن التاسع عشر. وإنما نجد حركات قومية (في ألمانيا وإيطاليا) وحركات إحياء جمهوري أو إمبراطوري (في إسبانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية) وفوق ذلك، فإن البحوث التاريخية الحديثة تثبت لنا أن الحرب الأهلية الإنجليزية (1641 - 1660) لم تكن ثورة بورجوازية أو صراعا بين الإقطاع والرأسمالية أو بين الأرستقراطية والبورجوازية، وإنما كانت صراعا بين قطاعين من الأرستقراطية، أحدهما يستكشف آفاق التطور الرأسمالي، دون أن يكون رأسماليا. وفيما بعد لم تشهد المملكة المتحدة صراعا قط بين الأرستقراطية والبورجوازية. وما حدث هو العكس بالضبط، أي إحداث تحويل بورجوازي لقطاع كبير من الأرستقراطية، مع إكساب البورجوازية البازغة طابعا أرستقراطيا، انتهى بانصهار اجتماعي وتكوين طبقة واحدة حققت هيمنة قوية وصلبة للغاية على الطبقات الشعبية وجعلت الثورة مسألة شبه مستحيلة. وهذا النموذج نفسه نجده في ألمانيا بشكل مختلف حيث أدت التعويضات التي دفعتها حكومة بسمارك لأرستقراطية الأراضي، وخاصة في الجنوب في مقابل إصلاح زراعي معتدل إلى تمكينها من التحول إلى الاستثمار الرأسمالي عوضا عن الاكتفاء بالريع الإقطاعي. وظهرت عملية الانصهار نفسها بين الأرستقراطية والبورجوازية. وتم إكساب البورجوازية طابعا أرستقراطيا والعكس. الأمر الذي أدى بدوره إلى إكساب الطبقة الحاكمة البازغة والناشئة عن هذا الانصهار صلابة كبيرة في وجه الحركة العمالية التي كانت تتطور بسرعة طوال القرن التاسع عشر. والأهم من ذلك هو أن الديمقراطية لم تكن في هذه الحالات أكثر من أسلوب لتداول السلطة وليست أسلوبا للحياة أو للعلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع بأسره قبل الحرب العالمية الأولى. ولم تكن هناك ديمقراطية يعتد بها في ألمانيا قبل الحرب الأولى. وفيما بين الحربين أنشئ نظام ديمقراطي هش للغاية وحافل بعوامل الفوضى وانتهى بسيطرة النازية. أما في المملكة المتحدة التي تعد النموذج الأمثل للديمقراطية، فإنها كانت أرستقراطية حرمت الشعب من عوامل القوة. وتكفينا قراءة الأدب الإنجليزي خلال القرن التاسع عشر لكي يظهر لنا أنها لم تكن تزيد كثيرا - إلا في كونها مستقرة - على الادعاءات الديمقراطية في مصر الآن مثلا. كانت الأصوات كثيرا ما تشترى. وظهرت مقاولات متخصصة في التلاعب بالأصوات. وكانت السطوة التقليدية لأسياد الأرض ذات تأثير كبير. وكان الشعب في الريف والمدينة يلزم حدوده بقسوة بالغة في الواقع وأمام القانون والمحاكم على حد سواء. وإذا كان ذلك يحدث في المملكة المتحدة حتى نهاية القرن التاسع عشر فإن أكثر منه بكثير كان يحدث في كل أوربا، بغض النظر عن مزاعم الديمقراطية.

العودة إلى بداية للبحث عن ديمقراطية عربية

فإذا كان هذا التحليل صحيحا، برغم ما فيه من نقص وابتسار - تحت ضغط المساحة المتاحة - فإننا لا نكون أمام إشكالية وجود فجوة تاريخية ممتدة زمنيا بين العرب والغرب، فيما يتصل بالديمقراطية. ويكون علينا ببساطة أن نبسط هذا التجويف المصطنع في الخطاب الديمقراطي العربي والذي يعارض ظروفنا العربية معارضة مطلقة مع ظروف المجتمعات الأوربية، وأن نتصالح مع تاريخنا ونبحث فيه بدقة عن مصادر للممارسة الديمقراطية على شتى المستويات السياسية والاجتماعية. فحتى على المستوى السياسي الأعلى سوف نجد أن أكثر من بلد عربي واحد كان يجرب أطروحات ديمقراطية مختلفة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، سابقا في ذلك الأغلبية الساحقة من البلدان الأوربية.

وانطلاقا من هذا التحليل لا يمكننا أن نسلم بجاذبية خاصة لأطروحات تسبغ على نظم سياسية ديكتاتورية فضائل ديمقراطية بالادعاء بأفضليتها فيما يتصل بتجارب وليدة وبسيطة للديمقراطية المباشرة: على مستوى القواعد الشعبية والجماعات القروية أو المدينية الصغيرة. إذ لماذا يجب أن تكون "الديمقراطية من أسفل" مقرونة في العادة بدكتاتورية قهرية من أعلى، كما يظهر من الواقع السوداني الراهن مثلا، والذي يبرره مفكرون إسلاميون بارزون ليسوا أطهار الذيل من جرائم الدكتاتورية والانقلابية والقهر السياسي؟ وعندما نبحث الأمر عن كثب بدءا من تجارب عالمية وإقليمية يمكننا استنتاج أن هناك فرصا أكبر كثيرا لضمان "الديمقراطية من أسفل" أي على مستوى القواعد الشعبية عندما تكون هناك "ديمقراطية من أعلى" أي على مستوى النظام السياسي بالمقارنة بفرصة أن تطفو الديمقراطية من أسفل إلى أعلى. فالديمقراطية التمثيلية المضمونة بالدستور والقانون ومهما انتشرت عمليات التلاعب بها تنطوي على حتمية "تمكين" Enablement الطبقات الشعبية، أي إكسابها قوة في مواجهة الدولة والطبقات المالكة. وعملية التمكين هذه هي مفتاح صيانة الديمقراطية على كل المستويات لأنها تتضمن بحد ذاتها آلية تعددية وآلية نشر للسلطة أو القوة. الديمقراطية التمثيلية وخاصة في مجتمع معقد ومأزوم داخليا وخارجيا - مثل حالة مجتمعنا العربي - حافلة بالمشاكل، ولا تضمن تلقائيا حل هذه المشاكل الخاصة بها، ولا النجاح في الاضطلاع بالمهام القومية الكبرى. غير أن التجربة تعلمنا أن هذه الديمقراطية بالذات هي البوابة الحقيقية للنجاح على المدى الأبعد لأنها هي الفرصة الوحيدة لإطلاق إبداعات الأمة بكل قواها وتياراتها وطبقاتها، وهي الشرط الوحيد لإطلاق إبداعات مفكريها ومثقفيها بحثا عن حلول أصيلة لمشاكل الأمة، بما فيها مشاكل الديمقراطية ذاتها.