توماس ترانسترومر: شتاءٌ ساخنٌ.. أشرف أبو اليزيد

توماس ترانسترومر: شتاءٌ ساخنٌ.. أشرف أبو اليزيد

حين التقيت الدكتورة جيل رامسي؛ أستاذة الأدب العربي في جامعة أوبسالا بمملكة السويد، قبل أكثر من عقدٍ، وكنّّا في العاصمة العُمانية مسقط، قالت لي جملة لا أنساها: «يمكنك أن تزور السويد لأي شيء، عدا الطقس». كانت تلك إشارة إلى قسوة المناخ في شبه الجزيرة الاسكندنافية، برودته، صقيعه، وربما لونه الأبيض السرمدي، أو رماده الذي يسكن السحاب. ولكن حين أهدتني رامسي، في لقاء بالكويت قبل خمس سنوات، أنطولوجيا الشاعر توماس ترانسترومر «ليلاً على سفر»، التي ترجمها علي ناصر كنانة، وراجَعتْها هي، أحسست أن مناخ السويد تبدَّل. كانت هناك شمسٌ، وكان هناك ربيعٌ، وكان هناك فردوسٌ مستعادٌ. فالشاعر السويدي الذي نال جائزة نوبل للعام 2011 شيد عالمًا ثريا من مفردات تكاد تلهب الأصابع حين تمسُّها. فكيف صنع ترانسترومر عالمه، وكيف أصبح شتاؤه ساخنًا؟

لم تأتِ التفاتتي للشعر السويدي اليوم، وحسب، فقد كتبت عنه مرتين - في «العربي» - الأولى عن شاعرها الأشهر جونار أكيليف، في ديوانه «حكاية فاطمة»، والثانية حين عرضت لأنطولوجيا «الشعر السويدي المعاصر»، وحين أعود اليوم إلى السويد فليس فقط لأن شاعرها فاز بأكثر الجوائز الأدبية شهرة، وإنما لأنني أرى في ذلك الشعر النائي عن مساحة الشعر المقروء على نحو واسع بالعالم، معادلاً موضوعيًا للشعر العربي، الذي دنت مشاكل أمته من أذني العالم، لكنه صم السمع عن إبداع تلك الأمة. لا تخلو التجارب المترجمة عن العربية، شعرًا، من محاولات فردية، وإطارات ضيقة، وطبعات محدودة، وبطولات وهمية، مما يجعل من فوز شاعر عربي بالجائزة نفسها ضربًا من التنجيم، ولذلك ظلت أسماء الشعراء العرب في القائمة المرشحة تتردد من قبيل الفولكلور السنوي، الذي يشبه الرقص على مسرح جبلي خلا من الجمهور.

أعود إلى توماس ترانسترومر (المولود في 15 أبريل 1931، بالعاصمة السويدية ستوكهولم)، فأحسد الثلاثة، الشاعر، والمترجم، والمُراجعة، الذين التقوا معًا بإخلاص ليجعلونا نقرأ ذلك الديوان الفذ.

يكاد يقول الشاعر المُقِلُّ لنا، قبل أن نقرأه، إن كثرة كغثاء السيل، تذهب كزبد البحر. لذلك من عجب أن نعرف أن ما كتبه ترانسترومر طيلة فترة الإبداع الشعري لا يتجاوز مساحة ديوان واحد مما ترميه المطابع في وجهنا كل يوم بترهات تحمل صبغة الدواوين! فمنذ بدأ الكتابة، وكما يقول علي ناصر كنانة في مقدمة ترجمته، قدم الشاعر الضنين خلاصة شعره في تلك السطور القليلة: 17 قصيدة (1954)، في 25 صفحة, وأسرار على الطريق (1958)، في 20 صفحة، والسماء غير المكتملة (1962)، في 25 صفحة، رنين وآثار (1966) في 34 صفحة، الإبصار في العتمة (1970) 15 صفحة، من الجادَّات (1973) 14 صفحة، الجزر الشرقية ـ قصيدة (1974) 20 صفحة، حاجز الحقيقة (1978) 23 صفحة، الساحة الوحشية (1983) 18 صفحة، من أجل الأحياء والموتى (1989) 25 صفحة، الجندول الحزين (1996) 23 صفحة، وله فضلاً عن تلك القائمة التي توقفت في الكتاب المنشور لترجمة ترانسترومر العربية، قصائد «هايكو» أخرى في 2001، ومجموعة بعنوان «سر كبير» في 2004. وبغض النظر عن الجدوى المهمة للعدد الضنين من الصفحات، للشعر المكتوب على المدى الطويل من السنوات، وهو ما يوازي 6 صفحات سنويًا! فإننا لا نسائل هنا عن عدد الكلمات والقصائد والدواوين، بقدر ما نخاطب التجربة، وهو ما أراه في السطور اللاحقة من هذا المقال.

ومصدر حسدي للمترجم، الذي أعد أطروحة ماجستير عن هذا الشاعر، أنه أتيح له أن يحاور الشاعر، كي يسأله، فيأخذ برأيه وتفسيره، حتى في عنوان المجموعة، وهذا يشكل جهدًا منهجيًا تكون ثماره مكتملة ومفيدة للقارئ العربي، الذي يندر أن يطلع على تجربة مثل هذه من دون أن تنال جائزة نوبل! أما مصدر الغيرة الأخير فهو من الدكتورة جيل رامسي، فهي بحسها الإنساني المتواضع، أمهلتني فترة للتفكير كي تكتب عن ترانسترومر، بعد أن هاتفتها في السويد، وهي التي راجعت القصائد العربية المترجمة، ولكنها يبدو أنها اكتفت بما قدمت من جهد جعل من تلك الأنطولوجيا العربية خير بوابة للدخول في عالم ترانسترومر، أو ولوج شتائه الساخن، الذي أقرأه من خلال مختارات في ترجمة علي ناصر كنانة.

ألعاب الشعر والضوء

بداية يبدو تأثر الشاعر بصيغ القصيدة القصيرة، أو المقاطع المحددة في قصائد أطول. هكذا يمكن أن نقرأ قصائده كما نقرأ قصيدة هايكو يابانية تخاطب شيئا في الطبيعة، تكرر أمرًا في الإيقاع، وترسم صورة مفاجئة. في قصيدة «أبريل والصمت». يقول ترانسترومر:

الربيع يهجعُ قاحلا، الخندقُ ذوت العتمة المَخملية/ يزحفُ إلى جانبي/ دون انعكاسات./ ما يضيءُ فقط/ هي الأزهارُ الصفراء./ وحدها تضيء./ أُحْمَلُ في ظِلِّي/ مثلَ كمانٍ/ في صندوقِه الأسود./ الشيءُ الوحيدُ الذي أريدُ قولهُ/ يلمعُ خارج متناول اليد/ كما الفضة/ في محل الرهونات.

القصيدة نموذج لما أراه لعبًا بالضوء وقرينه الظل، ولع وتولُّهُ بالمقابلات والمتناقضات، الإلحاح على استيلاد كامل قدرة الألوان، هكذا تتكرر الدكنة بمفردات مباشرة (العتمة/ دون انعكاسات/ ظل/ أسود) أو غير مباشرة؛ حيث تشير مفردات أخرى إليها كالهجوع (الليلي)، والخندق (وهو بالضرورة معتم) الذي أعتبره معادلاً بصريًا لصندوق الكمان، ولِمَ لا والخندق بالقصيدة مخملي، تماما كصندوق الآلة الموسيقية؟! وفي مقابل العتمة، تضيء ألوان الأزهار الصفراء، (كالشمس والذهب)، في مقابل لمعان الفضة، البعيدة عن اليد، فلم تكن وحدها في محل الرهونات، بل إن الربيع نفسه مرهون بالغياب.

بعض الأخطاء المطبعية جعلتني أعود أحيانًا إلى الأصول الإنجليزية للقصائد، مثل «مايس» صفحة 30، وقصد بها شهر مايو، وهذه المفردة من قصيدة «أوراق كتاب الليل» المترجمة بالإنجليزية «صفحة من كتاب الليل»:

ذاتَ ليلة (مايو) نزلتُ/ في نور قمري بارد/ حيث كان العشابُ رماديًّا/ والأزهارْ/ بيْدَ أنَّ العطرَ أخضر./ انزلقتُ إلى أعلى المنحدر/ في تلك الليلة المصابة بعمى الألوان/ فيما أحجارٌ بيضٌ/ تعطي إنذارًا للقمر. / مرحلة/ طولها عدة دقائق/ وعرضها ثمانية وخمسون عامًا./ ومن ورائي / خلف المياه المشعة كالفسفور/ كان يوجد الساحل الآخر/ ومن يحكمون./ بشرٌ لهم مستقبل/ عوضًا عن وجوه.

ومرة أخرى؛ نتحدث عن مقابلات واضحة، ولعب بالضوء والظل، ومزج للألوان، وسيرة ذاتية لمرحلة من العمر، يستطيع القارئ لهذه القصيدة وما سواها أن يتعرف على ملمح كتابي في نسق ترانسترومر الشعري.

موسوعة أعلام

لكن الملمح الثاني في قصائد ترانسترومر هو موسوعة الأعلام التي يستدعيها شعره؛ وهُم ـ للمفارقة الكبيرة ـ أعلام من خارج الجزيرة الاسكندنافية، وكأنه منحاز لقراءة تراجم أعلام العالم، سيستدعي - مثالا - داموقليدس، أحد رجال حاشية حاكم سيراكوزا في القرن الرابع، الذي دعي لوليمة الحاكم، بعد أن ربط فوق رأسه سيفًا تمنعه عنه شعرة حصان، فسعادة يهبها الحاكم الظالم معرِّضة للخطر (انظروا إلى حاشية المخلوعين)، يقول ترانسترومر في قصيدته «البلاد غير الآمنة»، وفي شلال من الصور العتيقة كهَرم، والجديدة كذاكرة هاتف ذكي:

مندفعة إلى الأمام ترسمُ مديرة المكتب علامة (X)/ بينما تتأرجح أقراطها مثل سيف داموقليدس/ كفراشة مرقطة تصبح غير مرئية على الأرض/ يندمج الشيطان مع الجريدة المفتوحة./ خوذة لا يحملها أحد تستولي على السلطة./ السلحفاة تهرب طائرة تحت الماء.

كتابٌ شعري من الأعلام في ديوان ترانسترومر، نشير مثالاً إلى: المسيح عليه السلام، والموسيقي الألماني ريتشارد فاجنر (1813 - 1883م)، والمكتشف والمبشر الاسكتلندي ديفيد ليفينجستون (1813 - 1873م)، ورسام البحر الإنجليزي وليم تيرنر (1775 ـ 1851م)، والفنان التشكيلي الهولندي فان ديلفيت فيرمير (1632 - 1675م)، والمبشر البلجيكي جوزيف دي فويستر أو باتر داميان (1840 - 1889م)، والكاتب الفرنسي أندريه جيد (1869 -1951م)، بل أحيانًا يستدعي أبطالاً خياليين من القصص، مثل أليس في بلاد العجائب، أو بيرسفون ملكة العالم السفلي في الميثولوجيا اليونانية. ويواكب هذا الاستدعاء للبشر استدعاء آخر للغات مختلفة، ومفردات قاموسية وشعبية من ألسنة خارج بلاده بالمثل، وبالتالي ومن الضروري وجود إشارات أكثر من أن تُحصى إلى أماكن جغرافية عديدة تتماسّ مع، أو تنأى عن شبه الجزيرة الاسكندنافية، بل لعلنا لا نستغرب وجود باجودات الشرق، تلك الأبراج المعمارية الدينية في قصيدة لشاعر سويدي مثله.

ولا تفوتني الإشارة إلى تلك العين الأنثربولوجية للشاعر توماس ترانسترومر، وهي عين أجدها لصيقة بشعر التأمل في الطبيعة، حيث لا يرى الشاعر البشر وحسب هم الأحياء، بل هناك النباتات والأشجار والحيوانات، مما يجعل من شعره موسوعة موازية لفضاء أنثربولوجي ثري، يكتب عن الغابة وأشجار البتولا والبلوط والزيتون، والأرض المغطاة بالعشب وأوراق خضراء، وأزهار الأوركيد، والورد البري، وحشرة اليعسوب والصرصور والفراشة البيضاء أو البصلية، والسحالي والثعابين، وأسماك الرنجة وقناديل البحر وطيور العندليب والأوز البري والوقواق.

الملمح الأخير في شعر ترانسترومر هو النزعة الدينية التي تتبدى من خلال صور كثيرة، ومفردات تتوزعها قصائده. ودائما ما يستحضر صور الكنائس، سواء في قداس الأعياد أو مراسم الدفن أو حتى في الزيارات السياحية. في قصيدته «شوارع في شنغهاي»، يصف الأسماك في الحوض تتحرك بلا انقطاع، تعوم وهي نائمة، إنها نماذج للمؤمن، دائما في حركة. وفي قصيدته «استراحة قصيرة في حفلة أورغن» يرى البشر كأنهم ـ دون أن يدروا ـ يؤدون طقوسهم الدينية:

الأورغن يكفُّ عن العزف ويعمُّ الكنيسة صمتٌ مطبق لثوانٍ وحسب. يتسرب الطنين الضعيف لحركة المرور؛ الأورغن الأكبر. أجل، نحن محاطون بتمتمات المرور التي تدور حول جدران الكاتدرائية، هناك ينزلق العالم الخارجي مثل فيلم شفاف، وذي ظلال مُكافحة بنعومة.

ربما يقول ترانسترومر معبرًا عن شَلله: «نحن مسامير حية دُقَّت في المجتمع!» لكنه آمن بالشعر، فحرك به الوجدان، حتى وهو مقعد اليوم يستطيع أن يجدد الحياة في السكون من حوله.

-------------------------------------

أنكسرُ على عتباتِ اللّيلْ
تذروني الريحُ على العتباتْ
تذروني في تيه السّاحاتْ
آهٍ،
أتفكّكُ
أتفتّتُ
أتلاشى،
أشتاقْ
أن تحضنني كفٌّ،
تُئويني
في العتماتْ!

ملك عبدالعزيز

 

أشرف أبو اليزيد