قصص على الهواء

 قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

لست من هواة الثرثرة في الكتابة «ولا في الحياة»... وأعتقد أن الكاتب المتلعثم لا الثرثار هو أقرب الكتاب إلى قلب القارئ وذهنه معًا، لأن حالة التلعثم هي خليط من التردد والتفكك والشك في معنى الكلمات والميل لتأكيد التناقض. تلعثم الكاتب بحثًا عن أسلوب، أمر يرتبط بطموح الكتابة الجديدة، المارقة، الخارجة عن ثبات اليقين، والتي تعي الفرق الهائل بين الثرثرة والتلعثم. يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن الأسلوب إنه حالة من التلعثم ينتجها الكاتب من داخل لغته، على أن تكون هناك ضرورة لهذا التلعثم. التلعثم هو أن يكتب الكاتب كالغريب في أرضه. يؤكد دولوز في حواراته أن: الكتابة الصغرى - أو كتابة الأقلية - هي أن يصير الكاتب غريبًا في لغته، أن يصير أقلية «بمعني أن يصبح فعلًا وبلا أدني محاكاة مجنونًا، طفلا، امرأة، متلعثمًا، غريبًا». تفتيت النص إلى وحدات صغيرة يمكن أن نطلق عليها «مقاطع» يسمح بالدخول في عالم الاحتمالات الذي تطرحه القصص، ويسمح بقدر من النجاح في إبراز قيمة التلعثم، دخولاً وخروجًا من منطقة العجز عن الحسم نفسها أو رفضه بوعي.

  • القصة الأولى: «التتار» محمد محمد مستجاب (مصر)

يكتب محمد مستجاب مشهدًا شديد الحسية مولعًا بالتفاصيل متسقًا مع بنية القصة الحديثة حيث تتقاطع أصوات عديدة من داخل البطل نفسه، ومن همهمات الطريق والحدث الواقعي. عنوان «التتار» مغرٍ وجذاب.. الوصف يكاد يشعرنا بملمس وحرارة الجو ويذكرنا بصوت وحركة الزحف المتوازي، الأسطوري في هيئة سحالي وثعابين، والواقعي في هيئة سيارة على طريق ساكنة مهجورة. هكذا تباغتنا لحظة سرقة لم تتم كما باغتت البطل وأخرجته عن وعيه دافعة به إلى حد الجنون.

  • القصة الثانية - «يوم جديد قد بدأ» هديل خلوف (سورية)

هنا تبدو صورة أخرى من صور الرتابة والتكرار، في مشهد يتكرر على محطة الباص، حيث تغرق شذى في أفكارها وهي في الطريق للعمل وتنتهي القصة بابتسامة عابثة وتصميم على كسر الروتين.. وهو ينكسر لأن الحركة تسمح بكسره.

  • القصة الثالثة: «بداية ونهاية» - عبد السميع بنصابر (المغرب)

يقترب الكاتب على حذر واستحياء من منطقة الكتابة عن الكتابة من خلال العمل على بناء نص موازٍ للحياة، يفسرها ويؤثر فيها أثناء الكتابة.. ربما يفاجئنا شيطان الأدب كشخصية في هذا النص لأنه يذكر بالكليشيه المعتاد عن الكاتب الملهم، لكن القصة تنتهي من حيث بدأت بشكل يجعل للبداية معنى جميلاً وهو ما ينقذها من السقوط النهائي في بئر الفذلكة الأدبية.

  • القصة الرابعة: «الخروف الأزرق» - سلوى محمد (اليمن)

هنا عودة للشكل المعتاد للقصة الكلاسيكية التي تصف مشهدًا مكررًا لزيارة امرأة لا تلد لأحد الدجالين الذي يأمرها بأن تبحث عن خروف أزرق يحقق لها أملها في الإنجاب. وعلى الرغم من كلاسيكية الحكي ومشهدية القصة التي تستسلم لعناصر الوصف المعتادة لهذا الجو المحاط بالبخور والاحباط، بالأسرار والدجل، إلا أن صوت الكاتبة يبرز هنا وهناك في غضون الوصف ليعد بشيء أعمق مما تكتفي بإظهاره.

  • القصة الخامسة: «الهوية» - أحمد خيري (العراق)

يقدم الكاتب شخصية استبطانية تعرض نفسها على القارئ من منطقة التلعثم التي أشرت إليها في البداية، يقول البطل الهامشي عن نفسه: «أنا نصف مثقف.. نصف متعلم.. نصف رجل.. نصف علماني.. نصف متدين.. وملحد في أكثر الأحيان.. نصف قروي ونصف متمدن.. فأنا لا أنتمي لأي شيء .. لا المدينة تؤويني ولا الريف يعترف بي .. وفي النهاية أنا ضائع بين الحالتين». ثم تعرض القصة قسمًا من حياة الشخصية يخرج من منطقة الاستبطان لمنطقة الحكي. هذا التيه الذي تدخلنا فيه القصة ينفتح على حقائق تدور في فلك التاريخ العام.

----------------------------
«التتار»
محمد محمد مستجاب (مصر)

خلت المدينة من السحالي.

الهدوء يغمر الأفق، ويضغط على الأعصاب، وشمس الصباح العادية لم تتغير، رنين التليفون في هذا الوقت المبكر أثار القلق، تركت الفراش مكونًا أخدودًا، جاء صوت صديقتي في المدينة الجديدة، بمرحها وقالت:

- إنها ستمر عليّ للذهاب إلى السوق التجاري الجديد.

نشاط كلماتها ومرحها أجبراني على التوجه إلى الحمام ثم ارتداء ملابسي.

***

ظل الناس يطاردونها بحثًا عن مفتاح الجنة.

مازالت الشمس عادية، واليوم ثقيل بدون ملامح كالسابق، سهرت طوال الليل بين التدخين والأوراق وملل القراءة، والبحث عن وظيفة، وتصلب عيني في سقف الحجرة بدون رجعة، بعض الشاي سيمدني ببعض الحيوية والحماس، صوت نفير السيارة، أربك الكوب الساخن في يدي، واستمر اهتزازه وأنا أغلق باب الشقة.

***

كمنت السحالي في الجبال.

كان الجو حار حينما تحركت السيارة، حاولت أن أبدو مرحًا، تحدثنا في أكثر من موضوع خلال خمس دقائق، نغمات الراديو جاءت كطوق نجاة من حرارة الشمس ورتابة الحديث، على الطريق الذي أنشئ للمدينة الجديدة، والذي يربطها بالعاصمة القديمة الشائخة، عمال يثقبون بطن الطريق لوضع مواسير المياه، في الجهة الأخرى عقارات جديدة خاوية، لم تصبح قبورًا للبشر بعد، وإن كانت تجاهد كي تحاكى الطبيعة، حاولت صديقتي مداعبتي بنكتة قديمة، ضحكت ضحكات مكتومة شاحبة.

***

ندب الناس حظهم العاثر لفقدهم مفتاح الجنة.

الصمت يغمر المدينة، حاولت أن أجد حركة تكسر ثبات الجماد، لكن الحركة الوحيدة كانت في السيارة المتأرجحة، حاولت أن أكون يقظًا كي أفتح كياني كله لأمتص مشهد الصحراء.

وفي منتصف النهار، وفي وهج حرارة الصيف، وعند اللحظات الحاسمة الدقيقة التي تصطدم فيها أشعة الشمس فوق أسفلت الطريق، وبسعف النخيل على مدخل المدينة، وبالسراب على الرمال - وجدته واقفًا يتصبب عرقًا في ذلك الجحيم، ففي منتصف الطريق كان ثمة أحد أفراد الشرطة برتبة رائد، يقف وحيدًا أسفل الشمس، ظله أسفل قدميه، كأنه حارس قديم يقف في مواجهة الزمن.

***

وبدأت الثعابين تتسرب.

زادت الشمس من حرارتها، أشرت لصديقتي أن تتوقف، لعلنا نفعل خيرًا، ونلتقطه من هذا المكان الحار المهجور، ويكون لنا عونًا عند خالق الكون، أشرت إليه ودعوته للجلوس في المقعد الخلفي، كي نوصله إلى مكان قريب، يستطيع منه أخذ سيارة بالأجرة، راحة مباغتة انتابتني وأحسست بفرح السماء بي، لم أتبين ملامحه، شاب طويل، ووجوه مكفهر، وانطلقت صديقتي، لم يمضِ على صعوده السيارة لحظات، أدرت رأسي لسؤاله عن أقرب مكان لنزوله، فوجئت به يمسك حقيبة صديقتي ويفتشها، تركها بسرعة خاطفة، أعوذ بالله..!، لو أمسكت به، لو زعقت، لو صرخت، لو سببته، فسوف يثير قلق صديقتي الضعيفة في القيادة، ونحن على الطريق السريع، أمرتها في هدوء بأن تقف، وأمرته بأن يخرج من السيارة، أي شيطان، وأي فكر داهمه كي يجعله في لحظات، وأنا أحاول مساعدته وإنقاذه من نيران جهنم، أن يسرقني، أو يسرق صديقتي؟!

خرج من السيارة، يتراقص العرق نقاطًا فوق حاجبيه.

قال: شكرا..

قلت: لا داعي للشكر..

غار، ولم تشعر صديقتي بشيء.

***

الفحيح أيقظ الناس.

الشمس أصبحت سعيرًا، وهو في مجال رؤيتي في مرآة السيارة الجانبية، مددت يدي وأمسكت حقيبة صديقتي، وأعطيتها لها، كي ترى إن كان شيئًا فقد، عبثت في الحقيبة وبعد لحظات أجابت:

- كل شيء موجود.. النقود والهاتف الخلوي وأوراقي.

حمدت الله، أخذت الحقيبة كي أضعها على المقعد الخلفي، فوجئت بمسدسه راقدًا، المفاجأة نفضت رتابة وثقل وحرارة النهار، أخذته وأخفيته في جيبي، أمرتها بأن تتحرك بسرعة.

***

وداهمهم الاضطراب والحيرة.

بدأت العربة تتحرك، نظرت في المرآة، وجدته يهرع خلف السيارة، لامسها بأطراف أصابعه في جنون، أمرت صديقتي بالتوقف، جاء من ناحيتي وهو يلهث وينظر كالمصعوق في المقعد الخلفي، في بلاهة تساءلت: هل حدث شيء؟

بأنفاس لاهبة لاهثة أجاب: أن سلاحه لم يعثر عليه.. وأنه قد يكون فقده على المقعد.

خرجت من السيارة، وأشرت له أن يبحث، اندس في السيارة واتجه مباشرة يبحث في الحقيبة مرة أخرى، الغبي، الملعون، بكف يدي قبضت على رقبته وضغطت عليها، سحبته خارجًا وأنا أخرج المسدس من جيبي.

***

ظلوا يبحثون عن المفتاح.

اضطربت الشمس وأغرقت المكان بشياطين جهنم التي تظهر في عز الظهر، رفع ذراعيه مستسلمًا مذهولا بدون أن آمره، فحجب الشمس عن عيني، ماذا أفعل بك في تلك المنطقة المهجورة؟

قلت زاعقًا: سأمسح بك وجه الأرض.. وأدفنك في جوفها.. وأشطر رأسك بطلقة ثمنها قروشٌ قليلة.

***

في رأس وذيل الثعبان.

اصطبغ وجه الشمس بحياء الرجفة الأولى، مازلت مصممًا على سرقتنا، راعني أني ظللت ساكنًا والمسدس في يدي، ساكنًا لهذا السكون الذي احتضن الطريق، انبطح راكعًا أمامي، حاول تقبيل حذائي، تراجعت للخلف، وأزحته بقوة، أطلقت طلقة في الهواء، أحدثت ثقبا في الشمس وهرب الغمام، عيونه ازدادت اتساعًا، وقلبه اضطرابًا، ويده ارتعاشًا، وعقله عجزًا.

***

فزعًا.. هربت الناس للجبال.

توقفت الأنفاس بالرغم من حرارة الجو، ظل منحنيًا، ونقاط العرق تسحّ على وجهه الكريهة، لماذا يحاصرني السيئون والجهال وناكرو الجميل؟، نظر في وجهي وبكى، الدموع العفنة تسيل على وجهه الجاف، لم تروِ دموعه تضاريس وجهه المتعطن، بل زادته شحوبًا وخنوعًا واستسلامًا، خرجت صديقتي من السيارة وحاولت التماسك وبصقت على وجهه، بدأ يتودد إليها ويستعطفها أن أرحمه، تراجعت ودخلت سيارتها، ظللت ساكنًا قابضًا على المسدس، موجهًا فوهته إلى رأسه، لدرجة عدم الرغبة في تحريك يدي عن الزناد حتى الآن.

وبدأت المدينة تعج بالثعابين.

----------------------------
«يوم جديد قد بدأ»
هديل خلوف (سورية)

ترن ترن .. ترن ترن ترن .. ترن ترن ترن ترن .........

رنين المنبه هذا ! .. استيقظت شذى غاضبة قاطعة عهداً على نفسها بتغيير النغمة المزعجة تلك .. سوف تضع أغنية لفيروز أو ما شابه , ثم تذكرت أنها لن تستيقظ سوى بهذه الطريقة .. إن صوت فيروز و الألحان الأخرى تغريها بمواصلة النوم دوماً ..

نهضت بتثاقل و مشت تجاه المرآة .. تحب دوماً بدء يومها بمطالعة وجهها .. اليوم فقط خطر لها هذا الخاطر : " ربما أيامي منحوسة وسيئة لأني أبدأها بالنظر إلى وجهي هعهعهع " , ابتسامة باهتة لاحت على وجهها ..

" لكن فلأكن منصفة .. لو أن أيامي كانت بنصف جمال وجهي إذن لغدت نهارات مشرقة دوماً ! " .. هي اليوم في الثلاثين .. حسناء قليلة الحظ في الثلاثين على حد قولها .. لا تعرف متى بدأ التذمر بالتحول عندها إلى هواية يومية , تذمر من النوع الذي لا يسمعه الآخرين .. أو بالأحرى هي لا تدع أحداً بمعرفته ..

كل يوم الروتين نفسه .. الاستيقاظ في العاشرة والنصف .. تشغيل الراديو .. ترتيب الغرفة .. وضع الإفطار لأمها العجوز .. ثم اللحاق بالباص والذهاب إلى صالون تصفيف الشعر ( مكان عملها العتيد ) .. ثم العودة في الثامنة لتجلس أمام التلفاز مع أمها العجوز بعد الانتهاء من ترتيب المنزل بالطبع .. فالسهر حتى الثانية صباحاً بالقراءة و النوم .. لماذا لم تدرس ؟؟! لأنها حسناء قليلة الحظ و خاوية العقل كما تقول هي عن نفسها !

اليوم بالذات بلغ المؤشر في عدّاد الإحباط حده الحرج .. شعور لزج كريه يجثم على روحها .. و عندما كانت واقفة على موقف الباص أحست بأن دمعة وقحة تحاول الإفلات من عينها و تصر على ذلك ! .. هي لم تعد تحب رؤية المدام مودي ( اسمها ميادة لكنها تنظر إليك بازدراء إذا تجرأت بكل وقاحة و ناديتها بذلك ! ) لم تعد تحب رؤية النساء المتحذلقات المتعاليات بعد اليوم .. نفس الأحاديث و نفس السخافات تتكرر يومياً .. لكن .. ماذا تعرف " غير هذه الصنعة؟ "

" أنا الغبية كان يجب أن أكمل دراستي " .. قالت هذا و لفحة ثلجية غمرت و جهها و جعلت روحها تنكمش على نفسها أكثر ..

صعدت إلى الباص و سارعت إلى أخذ مكانها في المقعد ذاته .. المقعد الثالث على اليمين .. هي تحب هذا المقعد فعدا عن كونها تجلس في هذا المكان بالذات طوال 10 سنوات إلا أنه مثالي حقاً .. فهو يتيح لها مراقبة الشارع عبر النافذة و بنفس الوقت مراقبة الصاعدين إلى الباص .. تشعر بمتعة حقيقية في محاولة سبر أغوار كل شخص ومراقبة حركاته وطريقة لباسه .. كم من مرة اكتشفت أشخاصاً يرتدون قمصانهم "عالمقلوب " فكتمت ضحكة لذلك , و كم من مرة رأت تعبير الغباء ذاك عندما يكتشف الصاعد أنه لا يحمل نقوداً .. متعة حقيقية !

اليوم هي منطوية على نفسها لذلك اكتفت بإسناد رأسها إلى النافذة و مراقبة الطريق .. أشخاص يروحون و يجيئون .. شاب و فتاة يضحكان في هذا الجو الثلجي و كأن حالهما يقول "فلتزأر العاصفة .. نحن معاً و نمتلك العالم ! " ..

" أين يذهب كل الشباب الوسيمين ؟ دائماً هناك فتاة أخرى .. فتاة ذكية قد سبقتك أيتها البلهاء ! "

كانت مقتنعة بأن في أيامنا الحالية الفتاة هي من تجد الشاب و ليس العكس .. بماذا تفسر كونها وحيدة إذن ؟

" عندما كان هناك سامي أظهرت براعتك في بيان جبنك و سلبيتك .. انتظرته ليعترف لك بحبه و نسيتي بأنك أوحيتي إليه بأنك لا ترينه أصلاً ! "

تقول أمها العجوز : كل صديقاتك قد تزوجن فماذا ينقصك أنت ؟ فتنظر إلى أمها بحيرة و تصمت .. ربما لأن حظها قليل .. ربما هكذا فقط ..

تقول صديقتها مرام و هي تهدهد طفلتها : أنتِ يا صديقتي مغرورة .. مغرورة و تحسبين نفسك .. ماكان اسمها ؟ .. نعم .. تحسبين نفسك ماري انطوايت و العرسان على باب القصر ..

فتجيبها شذى : لكن ماري انطوانيت لم تكن جميلة .. هذا عدا عن أنها كانت متزوجة من لويس السادس عشر و كانت تذهب إلى قصر فرساي و أ .. فتقاطعها مرام بأعين متسعة و قد وقفت عن هدهدة طفلتها : مغرورة و متحذلقة أيضاً ! .. سبحان الله !

مستوى الكبرياء لديها أكثر من اللازم , هي تعرف ذلك .. أو هو أكثر من اللازم بالنسبة لفتيات اليوم ؟! .. ليتها تدري ..

هاقد وصل الباص إلى وجهته .. تفرق الجالسون كلٌ إلى وجهته أيضاً .. لا أحد يخطر بباله أن يتوقف للحظة و يستمع إلى خواطر "سندريللا " الحزينة هذه و يحاول مساعدتها .. نهضت بتثاقل أيضاً لتنزل .. سيكون عليها أن تقطع الشارع ذاك و تدخل من المفرق الثاني لتصل إلى صالون "مودي مودا فور هير ستايل " ..

" هوذا يوم روتيني آخر يا شذى .. سيمضي كما قبله فلا داعي للإسراع أرجوك ِ " .. شعاع شمس قد بدد الغيوم قليلاً و سقط على وجهها .. سقطت حقيبتها و انحنت لتلتقطها فرأت أنها قد تلوثت بالطين .. ضحكة طفل عذبة جعلتها تلتفت إليها .. رأت طفلاً قد تلوث فمه و أنفه بالشوكولا يشير إليها ضاحكاً ..

" أنا حقيبتي ملوثة بالطين , و أنت ملوث بالشوكولا .. نحن متعادلان إذن " .. التهم الطفل قضمة أخرى من قطعة الكاتو و قال لها و هو يلهث من فرط الانفعال : أضحك على "جاكيتك " الممزق !

تحسست ظهر "الجاكيت " الجلد الأنيق و استطاعت لمس الجلد الممزق .. لابد أن مسماراً في مسند كرسيها المفضل قد أكمل النحس اليوم ! ..

تخيلت وجه مودي المتقلص و هي ترمق جاكيتها الممزق و حقيبتها الملوثة بالطين فابتسمت ساخرة .. نظرت إلى الطفل لترى يده الممدودة ببقايا الكاتو وهويقول : هذه لك .. كي لا تبكي ..

اتسعت ابتسامتها أكثر لتعلن عن ضحكة .. و قرصت التفاحتين الحمراوين على خدي الطفل معابثة .. خلعت "الجاكيت" و وضعته على يدها .. و في اليد الأخرى حملت حقيبتها الملوثة بالطين .. لن يكون هناك مودي مودا اليوم .. و ابتعدت بخطوات راقصة سعيدة تحت أشعة الشمس ..

؟ هي حرة و بصحة جيدة و تمشي في الشمس .. ألا يكفيها هذا ! ..

----------------------------
«بداية ونهاية»
عبد السميع بنصابر (المغرب)

(...)» آنئذ، شعر بدبيب الأسف يزحف على كيانه. لماذا غرز فيها كل سهام الغضب تلك، وتركها مضرجة في دموعها؟ تطلع إلى قسماتها البريئة في أسى. ما أظلم الرجال! أي غبي هذا الذي يسيء إلى هذا المخلوق اللطيف..! كيف نسي أنها رفيقة العمر وأم لأبنائه.. كيف؟

تسللت يده إلى أناملها الناعمة، لكنها سحبتها منه، ثم هرعت إلى المطبخ باكية.. إذ ذاك اعتصره الندم، فأطرق هامسا: الله يلعن« ...

ما كاد الكاتب يتم عبارته الأخيرة.. حتى مرق من رأس القلم، وفي لمح البصر دخان أفعواني بلون الحبر. دار الدخان وانفتل أمام ناظريه كعاصفة صغيرة، ثم التأم شيئا فشيئا فوق المائدة، حتى أضحى بهيئة كائن غريب.. وفجأة، قصف أذنيه بصوت كالرعد:

- لن تفعلها بي مرة أخرى..!

رمى الكاتب بالقلم وزحزح الكرسي بجسده إلى الخلف صارخا هو الآخر في ذهول:

- بـ.. بسم الله.. الرحمـ....ـن.. الر..ر..ر..رحيم! مـ..مممن.. ممن أنت؟؟!!

قهقه الكائن الدخاني بصوت مرعب:

- تخاف مني، ولا تتردد في الإساءة إلي؟

ارتجفت شفتا الكاتب وتحشرجت الكلمات في فمه، وهو يتأمل الجسم الكالح الذي ينتصب فوق المائدة، فقال جزعا:

- من.. تكون.. أنا.. لا.. أعرفك!قال الكائن الغريب مشيرا إلى آخر سطر من القصة:

- أنا الذي كنت ستكتب اسمه هنا..

فكر الكاتب برهة والاستغراب يقضم روحه، ثم ما لبث أن صاح مرعوبا مرة أخرى:

- ماذا؟ الشيطان؟ أعوذ بالله من...

وما إن سمع الشيطان كلامه، حتى بادر بمقاطعته محذرا:

- إياك! إياك أن تفعل! إياك أن تتفوه بتلك العبارة!

إثر ذلك كبح الكاتب لسانه، وقد ناء صدره بوجيب قلبه. ولكن، لم كل هذا الذعر؟ فقد يستطيع إجلاءه متى أراد. يكفي أن ينطق بالكلمات السحرية. استجمع أنفاسه بعدما اطمأن إلى سلطته وهو يحدق في غرابة شكل المخلوق. فلأستمتع بهذه اللحظة الثمينة التي لم يظفر بها أحد قبلي. هكذا قال لنفسه، ثم أشعل سيجارة. سره أن يمتلك زمام الأمر، فقال بهدوء:

- جميل.. أنت الشيطان إذن!

حرك الشيطان رأسه الصغير ذا القرنين المستفزين إيجابا، فوضع الكاتب رجله اليمنى على اليسرى..

- الشيطان يقف أمامي! أراه ويراني.. ما أسعدني! والآن، بربك قل لي ماذا تريد مني؟

قال الشيطان بتوسل:

- بربك أنت الذي ماذا تريد مني؟ ماذا فعلت بك يا أخي حتى تقحمني في كل قصصك، ولا تذكرني إلا ملعونا؟!

أفرد الكاتب ذراعيه مبتسما، ثم قال ببداهة:

- لأنك الشيطان ببساطة.. ألست موقد الفتنة، ومذكي المصائب جميعها؟!

عقب الشيطان حانقا:

- لا يا صاح! غلط في غلط!

تساءل الكاتب:

- كيف أيها المارد؟

أجاب الشيطان:

- حسنا، فلنأخذ على سبيل المثال ما كتبته قبل برهة؛ بطل القصة خانته زوجته، ولما علم بذلك غضب وحاول معاقبتها، ولكي تجد للنص مخرجا ارتأيت أن تجعله يلعنني لتفض النازلة.. فبالله عليك ما دخلي أنا في كل هذا؟؟؟

خيمت ملامح الجدية على وجه الكاتب، وقال موضحا:

- أولا، أنا لم أذكر ذلك؛ قلت فقط إن البطل من خيل إليه ذلك لأنه شكاك بطبعه، ومثل تلك الوساوس لا تكون سوى من بديع الشياطين.. والكل يوقن بذلك.. فهل جانبت الصواب في قولي؟؟

أجاب الشيطان في خبث:

- نعم أيها الكاتب الكبير، لقد حدت عن الحق وضللت سواء السبيل.

تفجرت مراجل الحيرة في نفس الكاتب فانتفض قائلا:

- ماذا تقصد ؟؟

ابتسم الشيطان قائلا:

- ألم تقل في قصتك إن الزوجة سحبت من البطل يدها لما حاول تقبيلها؟؟

- أجل!

- وقلت أيضا أنها هرعت باكية إلى المطبخ ..

- بالتأكيد!!

رد الشيطان بحزم:

- أنصت يا عزيزي، أنت لا تدرك أمرا بالغة أهميته؛ تلك الحركات التي ندت عن الزوجة، دليل دامغ أنها فعلا أتت شيئا نكرا، ولذلك لم تستطع أن ترى الزوج المسكين يحاول استرضاءها وهي الآثمة والمجرمة في حقه. هن كذلك! ثق بي!

تساءل الكاتب والحيرة تمتشقه:

- كيف؟ كيف ذلك؟

وفي تلك اللحظة، دلفت زوجة الكاتب إلى الغرفة، ثم وضعت فنجان القهوة أمامه، وهي تقول مداعبة:

- ما بك يا حبيبي تتكلم لوحدك هكذا؟ قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

وما إن نطقت بعبارتها حتى تبخر المخلوق الأسود من فوق المائدة، فاستدار الكاتب نحوها هاويا على خذها بصفعة قوية. اندلقت القهوة على الورقة، وتراجعت المسكينة إلى الوراء في ذعر ويدها على خذها. هزها من تلابيبها وهو يصيح:

- لماذا طردته؟ لماذا؟ ماذا فعل لك؟

تسمرت الزوجة في مكانها وجلة. كانت سحابة الصمت التي رانت على الأشياء كافية لينتبه الكاتب إلى ما اقترفت يداه. أسبل جفنيه، وطفق يستعيد شريط ما حدث.. آنئذ، شعر بدبيب الأسف يزحف على كيانه. لماذا غرز فيها كل سهام الغضب تلك، وتركها مضرجة في دموعها؟ تطلع إلى قسماتها البريئة في أسى. ما أظلم الرجال! أي غبي هذا الذي يسيء إلى هذا المخلوق اللطيف.. كيف نسي أنها رفيقة العمر وأم لأبنائه.. كيف؟

تسللت يده إلى أناملها الناعمة، لكنها سحبتها منه، ثم هرعت إلى المطبخ باكية..

----------------------------
«الخروف الأزرق»
سلوى محمد (اليمن)

أطلت برأسها الصغير الواجف والحيرة تنطق من وجهها.. توقفت هنيهة وبدت عليها علائم التفكير المضطرب.. كان القلق يمزقها والخوف يضنيها والمستقبل يرعبها وليس أمامها خيار آخر دغدغت أنفها روائح البخور المحترق وانعكست في عينيها صور دامعة لشموع مضيئة.

كان المكان الذي تجلس فيه أشبه بوكر ثعلب بري فقد شذ في شكله عن البيوت القليلة الأخرى المجاورة وأن لم تكن بأحسن حال منه.. الظلام يجثم على جميع أنحائه بينما تبكي الشموع الشاهدة بصمت وترسل دموعها مع دموع المعذبين والحيارى نهراً من الألم والضياع..

"الكنبة" المهترئة التي جلس عليها هي وأخريات أمثالها تنوء بحملها ويعلو أنينها معزوفة نائحة يبكي لها الكبار وينام عليها الأطفال..

الأصوات الهامسة تتأوه .. تشكي.. تعلو حيناً وتتلاشى حيناً آخر.. لقد أصبحت جزءاً من هذا العالم المغمور المليء بالسحر والكذب والدجل وأصبحت من زوار هذا العالم منذ أمد ليس بالبعيد.. وتنهدت وهي تذكر الأيام والليالي.. الشهور والسنين التي قضتها في انتظار ذلك الوهم الكاذب الذي لم يأت وربما لن يأتي.. لن يأتي وفكرت بفزع: يالله إن كان ذلك صحيحاً هل سأعيش حياتي منتظرة ؟ وزوجي وأهله والناس ماذا سيقولون ؟ وإلى متى أظل معلقة بين الأمل واليأس.. بين الرجاء والخيبة ؟ وشدت "ستارتها" البالية برعب وهي تفكر في المجهول.. ودارت عيناها فيمن حولها بلا هدف والفراغ يملأها وتصعدت روائح البخور قوية كثيفة لتحجب الوجوه الجاحظة المحرقة بها ويتراقص لهب الشمعة الباكي وهي تتأملها بيأس وقلبها يحترق، وترقرقت دمعة حارة في مآقيها وخبئ نور الشمعة لهنيهة ذارفة دمعة صافية انحدرت على الطاولة العتيقة.. بينما كانت دموعها تندر ساخنة مالحة لتبلل أطراف " لثمتها" الموضوعة بإهمال. لقد تعبت بحثاً وكلت جرياً وراء كل طبيب ومتطبب ووراء كل وصفة ودواء.. ومازالت كما هي.. لم يجد ذلك نفعاً سوى أن أضاف غضوناً من المعاناة إلى وجهها الصغير وجبالاً من الهم فوق قلبها المتعب العليل.

زوجها لم يعد يحتمل.. رغم أنه لم يقل شيئاً.. هو راض ومتفهم.. لكنها تعيسة ومعذبة.. هو لا يقول شيئاً ولكنها تعرف أن عينية تقولان أشياء. ماذا تعمل؟ وكيف تتصرف؟ لقد لجأت إلى القريب والبعيد.. إلى الصديق والعدو ولكن!! أحنت رأسها بخضوع وهي تسمع تلك الأصوات للمرة المائة وهي تصرخ في أذنيها بوحشية: لا أمل.. لا أمل.

تعالى الهمس حواليها وهي تسمع وقع أقدام هادئة تقترب وحفيف ثوب يبعث على الرهبة والصمت.. وحدقت العيون بالباب الكئيب وما هي إلا لحظات حتى ظهرت امرأة في منتصف العمر.. تطلعت إليها بفضول.. كانت امرأة ضخمة هادئة يعلو وجهها الصلابة والثبات.. تلبس رداء أسود وتلف رأسها بطرحة سوداء تنتهي بخرز ملونة، كانت تحمل المبخرة في إحدى يديها وتشير إليها باليد الآخر فقد حان دورها.. نظرت إلى الوجوه الميتة حولها تلتمس نظرة تشجيع أو حتى عزاء وعندما ارتدت نظراتها خائبة نهضت وهي تلملم أطراف "ستارتها" وتسوي من وضع "لثمتها" ولسانها يهذي بكلمات محتضرة وكانت منها التفاتة إلى الشمعة وتابعت دمعتها التي تساقطت بوهن ثم خطت وراء المرأة صامتة.

الممر ضيق والرطوبة تخنق الأنفاس رغم رائحة البخور الطاغية وشعرت بغثيان حاد يعتريها من جراء هذا الجو الخانق ولكنها مضت صامتة.. وسرعان ما توقفت المرأة وأشارت إليها بالانتظار وطرقت بابا مغلقاً بأحكام وارتجفت المرأة وراء الباب ولم يطل انتظارها فقد خرجت وهي تدعوها للدخول وأحست بأن قدمها لم تعد قادرة على حملها..

وأصلحت من وضع "ستارتها" للمرة العاشرة وخطت نحو الباب.. لم تر شيئاً في بادئ الأمر فقد احتقنت عيناها بالدمع من جراء البخور واختفت معالم الغرفة في ضباب خانق واحتوتها نوبة سعال حادة سرعان ما انتهت عندما جاءها ذلك الصوت يأمرها بالجلوس وجلست صاغرة لا تجرؤ على رفع عينيها.. وساد صمت رهيب.. وعندما انقشعت موجة الدخان الأولى شعرت ببعض الراحة وجاءها صوته من إحدى زوايا الغرفة المظلمة يسألها ما المشكلة ؟

لم تجرؤ على النظر وأجابت بوهن: زوجي.

- أكملي.

- يريد طفلاً.

صمت ولم يجب وحاولت هي أن تجيل النظر في هذا القبر المرعب.. لا نافذة له ولا حتى ثقب لمنفذ هواء.. وارتعش لهب الشمعة مع ارتعاشه قلبها وهي ترنو بطرف عينها إلى الزاوية المظلمة .. ولم تتبين شيئاً سوى شبح جثته الجالسة يكتنفه السواد وخفضت عينيها بسرعة عندما بدأ في الهمهمة ومناداة ملوك الأنس والجان وارتفع صوته منذراً وهو يلقي بجفنه من البخور في المبخرة ووضعت يدها على فمها خوفاً من القيء ودار رأسها وأسماء الجن والشياطين تطن في أذنيها. لم تدر ماذا يقول أو حتى ماذا يفعل.. إنها تريد طفلاً وهذا هو ما جاءت من أجله.. لسوف تتحمل عدة دقائق أخرى وعندها ينتهي الكابوس.. نعم سينتهي.. ولم يتركها تذهب بعيداً فقد خاطبها بنفس ذلك الصوت الآتي من أجواف القبور قائلاً: ستلدين عندما تذبحين خروفاً أزرقا..! عبرت الكلمات ممر أذنيها بدون معنى.. اصطدمت بجدار الممر مرات ومرات تبحث عن صدى معناها وتلاشت جوفاء.. خروف أزرق !!! لو أنه أخبرها بأنها ستلد عندما تعود إلى بيتها الآن لما كانت أكثر دهشة مما هي عليه الآن .. أتراه يمزح ؟

وهل هناك خروف أزرق ؟ كاد السؤال أن يفلت من زمام شفتيها لولا مخافتها من غضبه واكتفت بسؤال قائلة: وأين أجد هذا الخروف الأزرق؟ .

أجابها بلهجة يشوبها الضيق والغضب.. أبحثي وستجدين، وعندما أدركت بأنه ينتظر ذهابها نهضت بتباطؤ.. وفي عقلها يكمن ألف سؤال وسؤال، تتحرق لهفة لسؤاله إياها.. هل ستلد حقاً؟ وهل وهل وهل؟؟.

ولكنها تخاف ذلك الشبح الصامت في زاوية الغرفة ومضت في نفس الممر الضيق لتقابل ذات المرأة الضخمة وتحاشتها منفعلة.. لم تعد ترى تلك الوجوه الميتة الصفراء ولم تعد تسمع الهمس القاتل كما لم تعد تشم الرائحة الخانقة، كان الطفل الأمل الصغير الذي حملت بترعرعه في تربة قلبها وباحتضانه بين كفي يديها.. كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وكان لهب الشمعة يرقص الرقصة الأخيرة وحامت حشرة حول اللهب وما لبثت إن احترقت بنارها وخبا اللهب.. لفظ أنفاسه الأخيرة..

----------------------------
«الهوية»
أحمد خيري (العراق)

أنا ملاذ .. يدللني أبي ويقول لي " ملاذ كرد " نسبة لمعركة جرت في التاريخ " ...

شاب كردي بامتياز ..

نصف مثقف .. نصف متعلم .. نصف رجل .. نصف علماني .. نصف متدين .. وملحد في أكثر الأحيان ..

نصف قروي ونصف متمدن .. فأنا لا انتمي لأي شيء .. لا المدينة تؤويني ولا الريف يعترف بي .. ففي المدينة أشعر بأني قروي وفي القرية أشعر أني مدني .. وفي النهاية أنا ضائع بين الحالتين ..

مهزوز الشخصية .. أمشي بارتباك وخوف ، لا أعرف من أي شيء أخاف ، ولكنه شعور كامن في داخلي .. شعور زرعوه فيّ منذ آلاف السنين..

أخاف من الله .. من السلطة .. من المعلم ومن رئيسي المباشر .. أمامهم أنا لا شيء ..

ثقافتي رغم أنها لا تنضب فأنا لا استطيع أن أقنع حتى زوجتي وأولادي بوجهة نظري ,, والآخر دائماً هو من يفرض علي رأيه .. الآخر رغم ضآلة ثقافته وقلة معرفته فهو قادر على فرض رأيه ..

ثقتي بنفسي معدومة تقريباً .. في أي مجلس أنا فيه اشعر بضآلتي وبأنني أقل قدراً وقيمة من أي واحد في المجلس .. اجتماعياً اشعر بالخجل من كل شيء حتى المرأة التي هي هي كل شيء بالنسبة لي ( الأم والأخت والصديقة ولها كل الحقوق ) رغم ذلك أشعر بأنني ضعيف تجاهها وبأنني أنا المسؤول عن مآسيها .. الغربة هي انتمائي ، فلا وطن لي وكل الأماكن هي غريبة علي .. حتى بيتي وسكني وسكن أهلي.. والحياة هي الغربة الأكبر بالنسبة لي ..

لم استطع أن أفهم أن الحياة جميلة وهي تستحق أن تعاش .. وإن فهمت ذلك وأدركته عجزت عن التعامل معها ...

أنا ملاذ الكردي .. لا هوية لي ولا انتماء ولا وطن ...

منذ آلاف السنين والأرض التي أعيش فوقها والمرسومة على الخرائط بعض الخرائط وليس كلها .. لأن الكثيرين محو اسمي من خرائطهم .. فمنذ آلاف السنين وأنا لم استطع أن أجمع هذا الشتات وتلك الأجزاء المقسمة مني في كلمة واحدة ..

والكل منذ ذلك الزمن .. زمن تقسيمي صار يستخدمني لأجل مصالحه وغاياته .. ورغم كل ما مرَ فوق رأسي لم أتعلم أن أفعل شيئاً من أجل نفسي ومصلحتي ..

كل الحضارات التي مرت على هذه المنطقة والتي بنت لنفسها مجداً وعزة أنا وعلى أكتافي بنت ذلك العز والمد .. والأمم التي أنشأت لنفسها إمبراطوريات عظيمة أنا من كنت وراء ذلك..

سنوات كثيرة مرت علي .. تعرضت من خلالها لشتى أنواع الإبادة والقهر والموت وعلى يد تلك الأمم والإمبراطوريات التي نهضت على أكتافي أنا .. وفي كل مرة كنت أحمل الرمق الأخير من وجودي وألجأ إلى الجبال لأحمي ما تبقى من وجودي وتاريخي .. وعندما كنت أنزل منها أخسر كل ما خبأته وادخرته وبنيته .. هناك مقولة تعبر بصدق عن هويتي وشخصيتي وهي معروفة لدى الشعوب الأخرى وهي: أني أكسب كل المعارك في ساحة القتال وعلى الأرض وعندما أجلس إلى الطاولة أخسر كل انتصاراتي .. فأعود مدحوراً إلى وكري إلى الجبال التي أصبحت هي هويتي وانتمائي ..

ورغم ظهور أمم واختفاء أمم .. بقيت أنا خارج التاريخ .. ولم يدون اسمي على خرائط العالم.. لا أدري لماذا تعاملني الحياة بهذه القسوة ؟ ولماذا تتعامل الشعوب معي بهذه الفوقية والدونية؟

رغم حبي للحياة وللديانات وللشرائع والمعتقدات التي جاءت عليها .. والتي كنت أقتنع أومن بها أكثر من أصحابها .. ورغم أفناء نفسي في خدمتها .. لا أدري لماذا ؟

ولا أنس الحادثة التاريخية التي تحدثت عنها أمم الأرض قاطبة ودخلت كتب التاريخ من خلال مؤرخيها العظام .. وسأذكر لكم الحادثة علها تضع الأصبع على النزف الذي أعانيه ..

ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية اجتمع الحلفاء المنتصرون في الحرب وأخذوا يرسمون الخرائط ويوزعون البلدان والأوطان كقطعة كاتو ..

قام أحد الزعماء ووضع ( قطرميزاً ) على الطاولة وفيه حية سوداء .. صرخ الزعماء .. ما هذا أيها الصديق ؟ نظر الزعيم في عيونهم وابتسم ثم قال: إنه ملاذ الكردي ...!

ومنذ ذلك اليوم .. لم يعد لأسمي مكان على الخرائط وفي كتب التاريخ.

هذه هي حالتي أنا ملاذ الكردي الذي هطلت من الجبال .. بعد آلاف السنين من العزلة والهروب..

عملت في تلميع الأحذية وكرسوناً في المطاعم الشعبية .. وفي اليانصيب .. ومارست شتى الأعمال الحقيرة ..

وعندما اشتغلت على نفسي قليلاً وطورت مداركي لألحق بركب الحياة والحضارة .. وتعلمت.. درست دخلت الجامعات والمعاهد .. استخدموني رأس حربة في بنادقهم وسيوفهم .. في الجيش لا أخدم إلا على الجبهات الساخنة .. وفي الوظيفة لا استلم إلا الأعمال الشاقة .. وعندما أصبحت كاتباً .. كنت بعد كل أمسية أقدمها لا أذهب إلى المطعم لأنتشي بل كانوا يأخذونني إلى أحد الفروع وهناك يفرغون كل حقدهم وجهلهم علي أنا الذي أصبحت متعلما ومثقفاً .. ويتسلون بي ويلعبون على انتمائي وحسبي ونسبي .. حتى أوصلوني لحالة الرعب من كلمة " كردي" التي كانوا يرمونها علي وكأنها مسبة " أنت كردي..؟"

جعلوني أخاف من كل شيء .. حتى من أخي الذي صار يخاف مني بدوره .. جعلونا نخاف من بعضنا في البيت الواحد ..

أنا ملاذ .. " ملاذ الكرد " كما كان يحلو لأبي أن يسميني..

نصف المثقف، ونصف المتعلم ونصف الكاتب ونصف الاجتماعي ونصف السياسي ونصف... نصف كل شيء .. أخجل من كل شيء .. حتى من أمي وأبي عندما أقول لهما ( أنا أحبكما ) ومن وزوجتي التي اخجل أن أصارحها بمشاعري .. فتعتبرني غبياً .. ومن رئيسي المباشر الذي ينعتني هو الآخر بالغباء .. وهو يعرف تماماً أني على حق.

ولكن للأسف فرغم كل هذا فأنا النصف الفارغ من كل شيء من التاريخ والجغرافيا.. والدين والحضارة والانتماء .. وللآن ما زلت أبحث عن نصفي الممتلئ.
------------------------------------
* روائية وناقدة من مصر مقيمة في كندا.

 

مي التلمساني