خلف الستار محمد عبدالملك

     لم أعرف أن هذا الفندق يطل على مقبرة المدينة.. كنت مرهقا بعد رحلة طويلة شاقة، وليس لي إلا أن أنام. فتحت الستائر وانكشفت لي قبور متجاورة. قبور تتجمع وتلتقي، تخرج من مكانها وتتزحزح وترتجّ كالماء، وتطفو إلى الأعلى،جامحة تضرب بعضها البعض، والشواهد تنهار بلونيها الرمادي والأبيض، أما القبب الصغيرة فكانت ملفوفة بخرق خضراء،لم أخبر زوجتي بالأمر، كانت مشغولة بالاستحمام بعد السفر الطويل، أسمع رشرشات الماء على البلاط وأرى الأباجورات الموضوعة بعناية.

لم أغلق الستارة، ولفت انتباهي دخول جماعات من الرجال بجنازة من الباب الشرقى للمقبرة: كان الرجال يرتدون ملابس بيضاء ناصعة، وكانت النساء من خلفهم يمشين كالغربان بعباءات سوداء. لا إراديا فتحت النافذة، جاءني هواء هذه المدينة الساخن الذي يبرد في الليل. كنت أريد أن أتبع صوت هذه الجنازة، سمعت الولولة أولا، جاءتني مع هبوب الريح من الشرق. كانت البوابة التي دخلوا منهـا منهكة لها حديد صدئ، النصف الآخر من البوابة كان ساقطا على الأرض، وضعوا الجنازة على الأرض وارتفعت زغاريد. التقى النساء والرجال واختفت الجنازة.

ماذا لو شاهدت زوجتي هذا المنظر؟! وكيف اخترنا هذا الفندق لشهر العسل؟ اتخذت قراري بالفرار من هذا الفندق في أقرب فرصة. لن أخبر زوجتي، لكنها ستفتح الستارة بالحتم. نمت على المقعد الذي بجوار السرير وأنا أنتظر دوري لدخول الحمام.

كانت الرحلة بالطائرة طويلة استغرقت عشر ساعات. رحلات الترانزيت متعبة، لم أفق إلا في الليل. عندما فتحت عيني كانت زوجتي جالسة أمامي عند ميز التواليت تصلح زينتها. قالت لي دون أن تلتفت: - نمت 5 ساعات، وتركتك ترتاح، فالليلة سنسهر حتى الصباح. لم أجبها، كنت لا أزال في حوزة النوم. نمت بثياب السفر. حلمت أحلاما مفزعة. كان رأسي ثقيلا. قلت لزوجتي:

- كيف نمت؟

- على المقعـد.. وبعـد ذلك حملتك بصعـوبـة إلى السرير..

- أنا نهضت بنفسي؟

- بمساعدتي..

أخفيت على زوجتي صور الحلم الذي رأيته.

كان الضوء في الغرفة خافتا، ينبعث من الأباجورات في جوانب السرير. انتبهت إلى الستارة عن يميني، وحمدت الله أنها مازالت مغلقة. كانت زوجتي نائمة طوال الوقت أيضا. قالت لي:

- قرأت برنامج السهرة في هذا الفندق وحجزت طاولة لشخصين..

هل أخبر زوجتي عـن المقبرة؟ قلت لها:

- سننتقل من هذا الفندق غدا.

قالت:

- أنا مرتاحة هنا، لا داعي للتغيير.

- أظن أننا أخطأنا فى ذلك.

- هو فندق خمس نجوم؟

- نعم، لكن موقعه غير مناسب.

- من أي جانب.. هو وسط المدينة؟

- نعم..

رددت، لكنها ستعرف، لابد أن تفتح الستارة بعد قليل، هذا هو طبعها، وطبع كل مسافر، يريد أن يعرف ما حوله، وما بجواره، المنظر الخلفي للغرفة.. لم بنوا هذا الفندق هنا؟ كيف ارتكبوا هذه الحماقة؟

قلت:

- على كل حال، يعجبك.

الذي المكان على موافق أنا - خلاص، يعجبني هذا الفندق. ادخل الحمام واطرد عنك كسل النوم.

قلت لها:

- لا أريد الخروج من الغرفة هذه الليلة، الظاهر أنني مصـاب ببرد، وعلىّ أن أستريح في الغرفة. كانت في كامل زينتها ففوجئت بقراري.

- هل جئنا إلى هذه المدينة الجميلة للنوم؟

- الأيام قادمة.

- وهل ينامون في شهر العسل؟

كنت مكتئبا. أصبت بالاكتئاب منذ خمس سنوات. وكان الموت يزورني كل مساء في هيئة صامتة: جسدي ممدد فوق نعش خشبي طويل، عيني مغمضة، جسدي مغطى بزيت، وهو غامق وعميق، ومجموعة من الرجال يحملونني إلى المقبرة.

غشاني العرق، ويضيق صدري، ويركض الخوف. أصاب بهلع شامل، لا أتحدث، أفحص حبات العرق فوق جبهتي في الشتاء، لم أخبر زوجتي عن الاكتئاب، ستكتئب هي الأخرى، ضغطت الجرس وأنا أقول لزوجتي:

- سنحتفل هذه الليلة في هذه الغرفة الأنيقة الممتلئة بالسجاد وصور النساء الجميلات.

فتحت زوجتي الراديو. وزارتنا الموسيقى هادئة، ناعمة، وتدفق شعور من الفرح في عينيها، رأيتها تستدير إلي، بفستانها الأسود مكشوف الكتفين، وفي شعرها الفاحم وردة صفراء. كانت غاية في الجمال. قالت وهى تزيح شعرها فتظهر عيناها النجلاوان بكل طلاوتهما الشهية:

- كما تشاء، كل مكان أنت فيه جنة.

وجاءت وطوقتني. أنعشتني العطور الجديدة الباذخة. قالت:

أ- لن أخلع فستان السهرة..

- ليكن، سأرتدي أنا البدلة، بدلة الزواج. ومن يدري، قد نخرج فجأة آخر الليل ونتجول في المدينة، ولا نعود إلا في الصباح. هذه المدينة لا تنام. تسهر وتزدان بالأضواء وتعمها الحركة. ويرتاد العشاق حدائقها ومقاهيها. مدينة صاخبة للمتزوجين حديثا والعشاق، والعابثين في الحياة. وسمعت طرقا بالباب فقلت:

- النادل؟

فتحت الباب، ودخل النادل وأخرج دفترا من جيبه:

- ماذا تطلبين يا بشرى؟

- كأسا من الحليب.

- وأنا أريد بيرة مثلجة..

بشرى إبراهيم:

دخل زوجي صلاح الحمام. كنت أسمع صوت الماء والموسيقى الهادئة. دفعني اللاشعور إلى الستارة. عجبت كيف غفلت عنها كل هذا الوقت. فتحت الستارة ورأيت مقبرة. شـواهد قبور صامتة وناتئة، قببا كثيرة داكنة. وكلابا تجوس بين الضوء الذي يكشف عن جوانب من شواهد القبور. وقفت صامتة. لم أتوقع ذلك. مقبرة بجوار فندق؟! ما السر؟ ما المنفعة؟ شعرت بانقباض، يجب أن نرحل غدا من هذا المكان.. الآن؟ لا.. دفعنا للفندق أجرة اليوم.. غدا في الصباح، صلاح مريض ولا يستطيع الانتقال كما يبدو، وسينزعج من هذا الانتقال السريع، غدا في الصباح أخبره بالأمر. سأغلق الستارة، يجب أن تبقى هذه الستارة مغلقة الليلة، الليلة على الأقل، حتى لا نفسد هذه الليلة، حتى يبقى صلاح في حالة متوازنة، لو أخبرته بالأمر فقد يكتئب، بالحتم سينزعج كثيرا، هو الحساس المرهف يكتشف مقبرة في مكانه، في غرفته، كنت أشعر أن المقبرة تزحف إلينا، هنا في جانب الفندق، تدخل الدهليز، وتتخلل الجدران.. وتستقر على السرير.. المقبرة تتحول إلى أثير.. تزحف وتدخل في كيان الفندق، كأنها جزء منه، وكأنها بنيت مع الفندق، وستزال معه.

أحسست بحميمية إلى المقبرة، كنت أذهب إليها الآن بنفسي، أقترب من الشواهد والقبور وأنام على الأسمنت السميك تحت الضوء والظلمة المختلطة، أشعر بالندى المحمول على نبات ظاهر بين القبور. الشواهد تتحرك، تقفز، وجدران المقبرة تنتكس وتميل. أسمع صفير زوجي داخل الحمام. إيقاع الموسيقى الذي يتحول. الستارة مفتوحة ليس كلها.. سأخفي الأمر عن زوجي صلاح.. ليعلم غدا في الصباح.. نكون قد استرحنا، وبعد نوم عميق نرحل. لكن هل تبقى الستارة مغلقة إلى الغد؟ وماذا لو أراد أن يفتح الستارة؟ كيف أمنعـه؟.. لم أخش الموت كثيرا في حياتي. هو أمر عادي، أتوقعه كما أتوقع خروج زوجي من الحمام، كان أهلى يعجبون من ذلك. وفسروا هذا بغلاظة القلب. انا مؤمنة بالله.. وهذا سر ألفتي مع الموت.. لكن زوجي.. آه! أعرف أنه مكتئب، ويتعاطى دواء الاكتئاب، ويخفي عليّ ذلك. الله يرحمنا. لن أدعه يفتح الستارة. لم يضيئون هذه المقبرة؟.. ولم هذه الأضواء الضاجة على امتداد هذه المقـبرة؟ ولم في وسط المدينة؟ وهذه نافورة ماء منطلق، وسيارات جرارة جميلة تصعد الطريق الجنوبي، ومقاه كثيرة هرجة تقابل المقبرة والفندق، وخمارات، ومراقص.. فتحت النوافذ ذات الزجاج السميك، وانحدرت إليّ موسيقى من أسفل قاعات الفندق، أنا في الدور الخامس، وجاءتني الموسيقى من الدور الثاني.

في هذا الدور المطعم الفخم ذو الثريات الكبيرة الموحية والرخام. الفرقة ستغني هنا في الطابق الثاني. والمرقص في الطابق الأول. سأشتري وردا من سوق الفندق العام. ليت صلاح يوافق على الذهاب إلى الحفل، هل ينعشه الدوش الساخن؟ أرأه يصفر؟ من يدري؟ سنذهب إلى الحفلة الصاخبة، الصاخبة جدا. الموسيقى تفد إلي وتتخللني، أكاد أرقص. أرقص، كنت أرقص. الموسيقى التي أحبها.

أريد أن أخرج من هذه الغرفة، أن أطير، أطير.. لن أدع صلاح ونفسي في حجرة مقفلة، أنا وهو وفي شهر العسل!.. لن أدع حبيبي ينام عابسا حزينا، سنخرج.. سنخرج، أعرف كيف أقنعه.. التذاكر في يدي.. وإذا لم يوافق سأزعل، وإذا زعلت فهو لا يقدر على زعلي.. سيوافق. كان صلاح خارجا من الحمام.. منتعشا، وجاءتني سخونة بخار الحمام. كانت الستارة مقفلـة.

لا أدري لم نظر إلى الستارة أول ما خرج من الحمام. قلت:

- صلاح.. أنا أريد أن أسهر، يبدو لي أن الحفلة في الطابق الثاني جميلة.. إعلاناتها باهرة.

- تظنين ذلك؟

- نعم.. لم يخب ظني قط.. وهذه مدينة الطرب والحياة. والفندق خمس نجوم!

- ما يعجبنى فيك با بشرى هذا التفاؤل المفرط.. لا أدري بسببك ام بسبب الدوش الساخن، أشعر بتغير والظاهر أننا سنغير رأينا.

صلاح هاشم:

كيف فاتتني هذه الفكرة، كان علي أن أدعوها أنا للخروج، لأهرب بها من هذه الغرفة.. لن تفكر في فتح الستارة إذا كانت خارج الغرفة. نذهب إلى السهرة. ولا أعتقد أن مطعم الفندق- حيث تقام السهرة - مفتوح على المقبرة. هذا مستحيل.. المطعم سيكون بالحتم في واجهة المدينة، الواجهة الضاجة بالنوافير والأشجار.. لأوافق على اقتراحها دون تردد.

بشرى إبراهيم:

كم كنت سعيدة عندما سمعت زوجى صلاح يقول لي بسرور وترحيب:

- لنسهر في المطعم السفلي في الدور الثاني، نفسي مفتوحة للحياة، ارفعي صوت الموسيقى.

- التذاكر جاهزة يا صلاح.. حجزنا منذ أول دخولنا.

- هذا شأن النساء دائما، تواقات للحياة.. وهذا أجمل مزاياهن العريقة.

- كنت مصممة رغم تعب السفر أن نسهر هذه الليلة، ألم يذهب التعب مع النهار؟

- أين البيرة! البيرة المثلجة؟!

حمل زوجي البيرة وصبها في كأس طويلة وارتفع الزبد إلى أعلى الكأس. بعد دقائق ارتفعت قهقهاته عاليا في الغرفة، كان يرتدي بدلته الزرقاء، ويكمل زينته، ويجرع البيرة بين آن وآخر، ويماز حني كعادته، كنت أجلس بجانب الستارة، ويبدو أنني نسيت. غمرني صلاح ببهجة مفاجئة سريعة..

نسيت، يبدو أنني نسيت.. قال لي:

- تعلي أريد أن أهمس في أذنك.. وقبلني قبلة حارة..

- إلى السهرة!

قالها، وهويمسك يدي ونفتح الباب ونخرج.

صلاح هاشم:

في الطريق إلى السهرة، إلى الطابق الثاني، سبقنا الهرج في الفندق، الندل الحاملون الزجاجات والفواكه. الخدم بملابسهم الزرقاء السماوية وهم يحملون الحقائب. الأزهار والنباتات الخضراء في الممرات.. والنساء الجميلات طبعا، بالملابس الجديدة للسهرة.. كلهم كلهم يتدفقون في المصعد الكبير في اتساع غرفة.. إلى الطابق الثاني.. ضغطنا على زر الطابق الثاني فقط.. وأعلن الضوء الأصفر بداية وقوف المصعد.. زرافات كنا.. الموسيقى، والجو الحالم، الأضواء الخافتة والديكور الكلاسيكي القديم، والطاولات تتوسطها سلة الفاكهة والنادلات الجميلات، كان المطعم يغص بالحضور من جنسيات مختلفة، رنين الضحكات وهي تتشظى. أعطيت النادل البطاقة فقـادني إلى طاولة صغيرة بجانب لوح زجاجى كبير عريض.. خلف اللوح الزجاجي كانت المقبرة أيضا في مكانها.. وكأنها تنتظرنا هنا أيضا.. دهشا جلست. لم تلحظ زوجتي شيئا حتى الآن.. قلت للنادل:

- هل يمكن تغيير هذا المكان؟

أشار إلى الناس المتزاحمين على المقاعد وقال:

- هذا هو المكان الوحيد الموجود.. طلب هذا المكان كثيرون قبل أن تجيء. أنت محسود يا سيدي..

هذا المكان يطل على المدينة.. وتستطيع من هنا أن تكشف كل القاعة! قلت:

إذن.. شكرا.. لا بأس!

بشرى إبراهيم:

كنت أعرف أن صلاح سينزعج لو عرف الأمر. كنت في غاية الدهشة، إذ لم أتوقع أن تكون المقبرة هنا أيضا في السهرة، بين الناس.. وأن أحسها تندقم في الظلام المحيط بالأسوار والمدينة والفندق والطاولات.

كنت خائفة أن يكتشف صلاح ذلك فجأة.. وقلت للنادل:

- أرجو أن تجد لنا مكانا آخر فيما بعد..

قال النادل:

- سأحاول..

صلاح هاشم:

قررت ألا ألتفت إلى الوراء. أعطيت المدينـة والمقبرة ظهري، وأعطت بشرى المقبرة والمدينة ظهرها. كنا بهذه الهيئة نقابل "الباند" وصالة الرقص تماما. وجدت في هذه الهيئة ما لا يخالف التآلف والتناسق مع "الباند" وصالة الرقص التي توجهت الأجساد والأنظار إليها. كنت مأخوذا بالحفل، والرقص والموسيقى، نسيت، لكننى بين آن وآخر كنت أفكر في بشرى.. لا أريدها أن تعرف.. أنا نسيت وهي قد لا تنسى لو علمت بـالأمر، قضينا سهرة ممتعة ورقصنا في حلبة الرقص، وفي إحدى الصولات وكنا عائدين إلى مقعدينا من الحلبة الصاخبة وجدنا أنفسنا نقابل المدينة ونحن نمسح عرق الرقص، ولم نعط المدينة ظهرنا بعد ذلك.. رأينا كل شيء معا، وعرفنا كل شيء معا، وعرفنا أننا كنا معا نعرف الحقيقة ونخفيها عن بعضنا البعض.. فضحكنا للنكتة. في غرفتنا، في الدور الخامس كانت الستارة مفتوحة، حين غبنا في عناق طويل، لم نكن نرى أو نعرف شيئا، أو نحس إلا بوجودنا، أنا وبشرى في المكان.

 

محمد عبدالملك