مؤسسات الدولة بين النظم الإسْلاميّة والنظُم الغَربيّة

حتى الآن والأنظمة العربية السياسية لا تعرف الاستقرار، فعلى مدى السنوات الماضية تبدلت هذه الأنظمة وتباينت اتجاهاتها. وعلينا أن نتساءل . . ما سر هذا الاضطراب وما هي المنابع التي يمكن أن نستقي منها الأنظمة التي تناسبنا؟..

في ظني أن أخطر ما واجه أمتنا في التاريخ المعاصر هو ما يتعلق بنظمها السياسية وأنظمة الحكم فيها، وذلك على المستويين النظري والتطبيقي. وبقيت هذه المسألة عقدة العقد في بلادنا. موضوع واحد اختلفت أسماؤه على مدى مائة وخمسين سنة، أسمي في البداية باسم "التنظيمات" في الدولة العثمانية منذ 1839، ثم أسمي بالمسألة الدستورية، ثم أسمي بالمسألة الديمقراطية، ثم يسمى اليوم باسم التعددية التي تنعقد لها الندوات وتحرر عنها البحوث.

وعلى مدى قرن ونصف، لم نر تجربة حكم ونظام سياسة استقرت لأكثر من جيل في أي من أقطارنا، لا تكاد تزيد التجربة الواحدة على ثلاثين عاما ثم يتلوها وضع آخر، من نظم لا حزبية إلى نظم تعدد حزبي، إلى نظم حزب واحد إلى تعدد حزبي مرة أخرى، ومن توزيع للسلطة إلى توحيد للسلطة ثم إلى توزيعها، ومن حكومات مدنية إلى حكومات عسكرية إلى حكومات خليط، إلى حكومات مدنية.

ونحن هنا لا نجد نظما تحولت أو تغيرت فقط، ولكننا نجد عددا من الأنظمة يتكاثر في مساحة زمنية محدودة، كما نجد نظما ظهرت وأعيقت فلم يتح لها المدى الزمني الذي يمكنها من أن تكتمل هياكل وأبنية وآثارا، وأن أيا منها لا يكاد يتشكل حتى ينقض ويقام غيره. ولا يخفى ما يحدثه ذلك من اضطراب شديد في أبنية المجتمع وهيئاته.

إن ذلك لم يؤد إلى اضطراب مؤسسي في الأبنية التنظيمية فقط، بل هو يؤدي إلى الاضطراب في بلورة التحديات الاجتماعية التي تتشكل في إطار نظام معين، والتي تنمو وتتبلور مع استقرار أبنية هذا النظام، وما يدعمه من علاقات وأنساق، ذلك أن لكل نظام أسساً شرعية عامة تصدر عنها تفصيلات أحكامه وتقوم بها المراكز القانونية والاجتماعية، وله مجموعة ضابطة من الأوامر والنواهي تتسق مع أصوله، وكل ذلك يترسب في التشريعات التي تصدر بالتدريج تعبيرا عن هذا النظام وتجسيما له في المجتمع من حيث العلاقات بين الأفراد بعضهم والبعض الآخر، ومن حيث الأبنية المؤسسية والتكوينات الجماعية ووظائفها، وهذا ما قصدته بالتحددات الاجتماعية التي تتشكل في إطار النظام.

التقليد ومشاكله

يذكر الدكتور عبد الحميد متولي أستاذ القانون الدستوري، في واحد من كتبه الهامة العديدة عن نظم الحكم في الإسلام وفي الغرب، يذكر أن بعض الرحالة شاهد في وسط إفريقيا نوعا من القرود، تبني أكواخا مثل التي يبنيها البشر تماما، ولكنها تحيا فوقها لا بداخلها، وهذا في رأي أستاذنا الكبير هو عيب التقليد ومشكلته.

وفى 1908 صدر في مصر كتاب مترجم بعنوان "رسائل مصري لسياسي إنكليزي كبير في سنة 1905"، وتضمن أربع عشرة رسالة عثر عليها في أوراق برلماني إنكليزي كبير، جاء فيه أن نظاما نشأ في مصر فجأة في يوم واحد وبالقوة القاهرة وعلى يد أمة أجنبية، وجعلوا نظامه على نمط نظامات بلاد بعيدة، فرموا به شعبنا دون أن ينبهونا إليه، ولا راعوا عواطفنا وإرادتنا وأخلاقنا الوطنية وتقاليدنا القومية، إن أفضل الشروط التشريعية تكون فائدتها لأول مرة قليلة، ولا يكون لها نفع مطلقا فيما بعد إلا إذا كانت موافقة لميول الشعب الذي وضعت من أجله وعاداته وشعائره الدينية وتقاليده القديمة.

وبعد خمسة وثمانين عاما، نسمع موسوفيني رئيس أوغندا يفتتح مؤتمرا للقيادات الإفريقية عقد في كامبالا في مايو 1991، ويقول إن المشكلة الرئيسية في إفريقيا الآن أننا لم نعد نعرف ما هي المشكلة، وأننا نسمع عن البريسترويكا في الاتحاد السوفييتي فنريد أن نستوردها، ونسمع عن الوحدة الأوربية فنسعى لسوق واحدة مثلهم، إننا نطبق الحلول الخاصة بالشعوب الأخرى على مشاكلنا دون أن نحدد بالضبط ما هي هذه المشاكل، وشرح نيريري رئيس تنزانيا هذه النقطة بقوله: إن لدى الإفريقيين أيديولوجية اشتراكية من غير هياكل اشتراكية وأفكارا رأسمالية دون رأسمال، وديمقراطية دون مؤسسات ديمقراطية وحركة هجرة إلى المدن من غير تصنيع.

معايير الانتقاء

أردت بالفقرات السابقة أن أشير إلى ظواهر المشكلة، وما من باحث في النظم السياسية أو في القوانين والشرائع أو في علوم الاجتماع، إلا وينظر في فاعلية النظم وآثارها في إطار ظروف البيئة الاجتماعية وأوضاعها، ومجمل العقائد والأعراف السارية فيها، ورغم ذلك لا نكاد نستبين أثرا لهذا الفهم فيما تجري الدعوة إليه وفيما يطبق من تجارب الغرب فكرا ونظما، المشكلة أنه استقر في الوعي الجماعي لدى النخب المثقفة في بلادنا أن الفكر والنظم التي تفتقت عنها الأوضاع الأوربية الأمريكية في القرنين الأخيرين لها قيمة مطلقة بالنسبة للبشرية بعامة.

من بداية القرن التاسع عشر، ومع ظروف المواجهة السياسية والعسكرية التي جرت بين أوربا والمنطقة العربية الإسلامية، ومع ظهور التفوق الغربي بدأ سعي المفكرين والقادة في بلادنا لإدراك مكامن القوة في الغرب يحاولون نقلها، ومكامن الضعف في مجتمعاتهم يعملون على تلافيها. وجرى ذلك في مجالات الإنتاج والدفاع العسكري، وكذلك في النظم والأفكار والقيم، ونهاية ذلك القرن كان لهزائم العرب والمسلمين أمام القوة العسكرية الاقتصادية الأوربية المؤيدة بالتفوق العلمي والتنظيمي، كان من ذلك ما اختل به ميزان التقدير في أيدي مفكري العالم الإسلامي وقادته، وجاء الاقتحام العسكري والسياسي مما اضطربت به تماما معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب وما لا يفيدهم، وشلت القدرة على التمييز بين النافع والضار، وانطمست الفروق بين التجديد والتقليد، وبين النهوض والتغيير، وبين الإصلاح والاستبدال، ومن يومها ونحن ندور حول ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من فكر الغرب ونظمه، وما الذي نستبقيه وما الذي ننهيه من الفكر الموروث ونظمه.

لا بأس من الخلاف بطبيعة الحال، ولا بأس من التجريب، ولكن البأس كله يقوم حول أسلوب الخلاف الذي يجري بطريقة لا تفضي إلى الصواب قط، والبأس أيضا يقوم في التجريب الذي لا نستخلص منه الدلالة قط، أما الخلاف فيكاد يستقطب في فترات كثيرة حول الأخذ المطلق أو الترك المطلق، وأما التجربة فكل من ذوي النظر المسبق يستخلص منها ما يفيد نظرته المسبقة، أي أنه يستخلص منها البرهان المؤيد له وليس العبرة التي أفضت إليها، وهكذا تنتهي التجارب بقول: "ألم أقل لك"!

أهم ما أراه لازما للخروج من هذه الحلقة المفرغة، هو أن نتبين الأوضاع التي انبعث منها فكر الغرب ونظمه، وننظر فيما يقابلها من أوضاع أمة المسلمين والعرب، وننظر في مدى التماثل ومدى التباين، ثم ننظر في أوضاع الحاضر هنا وهناك.

أول ملاحظة، أن قارئ التاريخ الأوربي منذ القرن السابع عشر، يستطيع أن يتتبع وقائعه في سياق أحداثه الداخلية، من النظام الإقطاعي والدولة الرومانية المقدسة ونشأة المدن وخروج الفكر الإصلاحي من الفكر الكنسي البابوي المهيمن ثم ظهور فكر التنوير ثم نشأة الوحدات القومية الأوربية ونظم الحكم الديمقراطية، وهكذا، مع الصراع والحروب وما شابه، فقد كان الجديد يظهر في جوف القديم ويتركب من مادته، كان تاريخا فيه عنف وغلظة ولكنه كان تاريخ مجتمعات آمنة فيما يتعلق بأوضاعها الخارجية بعد أن هدأت الدولة العثمانية ولم تعد مصدر خطر على أي من شعوب أوربا، لذلك كان جهد الأوربيين يسعى لتفتيق الفكر واكتشاف النظم التي تفيدهم في ترتيب أوضاعهم الداخلية، في علاقة الوحدات الأوربية بعضها ببعض، سواء الوحدات الاجتماعية أو السياسية.

وفي مقابلة هذا الوضع فإن قارئ التاريخ الإسلامي العربي من بدايات القرن التاسع عشر الذي بدأنا منه مجمل الأفكار والنظم السياسية الحديثة، يلحظ أنه لا يمكنه تتبع وقائع هذا التاريخ في إطار أحداثه الداخلية وحدها، ولا يستطيع متابعته بمعزل عن المواجهة مع الغرب وغزو الغرب لأراضينا ثم سيطرته عليها، فالظرف لدينا كان ظرف مخاطر خارجية ذات سيطرة وهيمنة على أحداث الداخل.

والملاحظة الثانية، أن الغرب قد عرف خروج جديده من قديمه، بحيث إن المجتمع ظل يتشكل من مواده المحلية بقدر الإمكان، وتتسلسل أطر الشرعية فيه من حال إلى حال في إطار المفاهيم الأساسية التي تشكل خصائص الفكر والحضارة الأوربية وما اعتاده الناس في ذلك، البروتستانتية ظهرت من الفكر الكنسي الغربي، وقانون نابليون بلور الخبرة القانونية الرومانية الكنسية، والديمقراطية استفادت في تشكيلها من نظم المجالس القديمة، وهكذا.

أما بالنسبة لنا، فقد حدث العكس، لأن الجديد لم يظهر من القديم، إنما ظهر اقتحاما أو وفودا من سياق تاريخي آخر من مصدر حضاري مغاير، وهو لم يأت انبثاقا من وضع قائم، بل جاء تقليدا لسلوك أفراد ونماذج هيئات ومؤسسات وبرامج تعليم في المدارس، فلما انتشر ذلك استدعى النظر الفلسفي ومعايير الاحتكام الشرعية الآتية من الغرب، وأدى ذلك إلى نوع من الازدواج والانفصام في المجتمع، شمل معظم المؤسسات الفكرية والتعليمية والسياسية والاقتصادية والإدارية، صرنا بيئتين بعد أن كنا بيئة واحدة، وليس الفارق فارق قديم وجديد، إنما هو فارق تكوينين منفصل أحدهما عن الآخر في النشأة وفي أوضاع الزمان والمكان معا.

الشورى والديمقراطية

بمراعاة هذه الأمور علينا أن ننظر في أوضاع "التنظيمات"، أي نظم الحكم والسياسة في بلادنا، ونحن هنا نتنقل بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الغربية، والسائد في الحوار الدائر على مدى العقود الأخيرة، أن نجري المقارنات بين النظام الإسلامي والنظام الغربي تباهيا بتفوق أيهما على الآخر، أو نجهد لعقد وجوه التشابه والتماثل، وكل ذلك يجري على طريقة فقهية لاستنباط الأحكام من النصوص ورسم التصورات العامة لهذه الأحكام.

وفي تقديري أن الأمر هنا لا يكفيه النظر في النصوص ودلالاتها، بل يتعين أن نتتبع المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي كان المجتمع الإسلامي يدير شئونه من خلالها ومن خلال علاقاتها بعضها ببعض، إن النظام هو أداة تحريك الفكر، والمؤسسة هي وعاء التحرك للأفكار السياسية والاجتماعية، لقد أرقنا مدادا كثيرا في الحديث عن الشورى، واجتهدنا في بيان ما إذا كانت الشورى معلمة فقط أم ملزمة أيضا، ولكننا لم نبحث عن كيف كانت الشورى تمارس في حياة الناس وفي نظم الحكم، وما هي هيئاتها.

قد لا يتسع المجال للإفاضة في هذه النقطة، ويكفي هنا أن نشير إلى كيفية النظر في الأمور، والحديث عن الشورى يقترن بالحديث عن الديمقراطية، فنذكر الشورى بوصفها التطبيق الإسلامي الديمقراطي، ونحن عندما نريد أن نعقد المقارنة في هذا الشأن، يتعين أن نقيمها على أساس مؤسسي، والسؤال من الناحية المؤسسية يثور على النحو الآتي، إن المميز الأساسي للنظام الديمقراطي الغربي، أن الحاكم لا يجمع بين سلطتي التنفيذ والتشريع، وأن من يملك التنفيذ إنما يقوم به بواسطة ما يجمعه من مال الدولة يقيم به أجهزة التنفيذ، وما يملكه من أدوات العنف "المشروع" يمضي بسطوتها أوامر الدولة، ويكفل لها القدر اللازم من الانصياع، بينما سلطان التشريع يرد من مجمل ما يجمع عليه الرأي العام في المجتمع مما يظهر فيه صالح الجماعة ونفعها.

إن كان هذا هكذا، فيتعين أن نبحث في التكوين المؤسسي للدولة عن كيفية التمييز بين هذه الوظائف في الأداء العام لها، والمسألة واضحة في التنظيم الغربي، فثمة مجالس تنتخب تقوم بوظيفة النيابة عن الشعب وتتصل بتيارات الرأي العام من خلال الأحزاب، وتتحدد سياسات الدولة وقراراتها بما تقرره الغالبية العددية في هذه المجالس، أما في المجتمع الإسلامي فهي تحتاج إلى دراسة واستطلاع لمن كان يقوم بهذه الوظيفة في ذلك المجتمع ويتعين ألا نكتفي بالحديث عن النصوص التي تحض على الشورى وتقررها، ولا أن نكتفي باستنباط المعاني من هذه النصوص.

إن التاريخ هنا يقوم بدور هام، أي دراسة وقائع الماضي وما كان يجري فيه، ونحن عند دراسة المؤسسات يتعين علينا أن نتقن جانبين من جوانب المعرفة: الفقه والتاريخ، لكي نستخلص ما إذا كان ثمة وجود مؤسسي أم لا. أما من حيث الفقه فنلحظ أن الفقهاء الذين تحدثوا عن الإمامة والولاية العامة قد حصروها في مجال التنفيذ، أو فيما يسمى بمصطلحنا المعاصر "وظائف السلطة التنفيذية"، ونلحظ أن الإمام الجويني مثلا يحظر على الأمير أن يتعرض لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل عليه أن يقر كلا منهم على مذهبه ولا يصده عن مسلكه (الغياثي، تحقيق الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب، الفقرة 277)، ثم نلحظ أن ابن عبدالسلام مثلا يميز بين وظائف الفقه ووظائف القضاء، وهكذا.

وأما من حيث التاريخ فنلحظ أن أوضاع التعامل وتنظيم العلاقات في المجتمع الإسلامي، قد استقرت على أن ثمة نوعين من التشريع، هما ما يسميه الشيخ عبد الوهاب خلاّف تشريعات "الدرجة الأولى" وتشريعات "الدرجة الثانية" والنوع الأول هو الأحكام المنزلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والنوع الثاني هو اجتهادات الفقهاء لبيان الحكم الشرعي فيما لم يرد فيه نص قرآن ولا سنة وهي لا تتعلق بحالات فردية، ولكنها تتعلق ببيان حكم عام أو حالة عامة، مما اعتدنا على أن يتناوله التشريع بالمصطلح الحديث له، وكلا النوعين يخرج بذلك عن الولايات والإمارات، والنوع الثاني يكسب حجيته بالتقبل العام له في ظل الحاكمية العليا للقرآن والسنة، فهو نوع تشريع شبيه بما تصنعه المجالس النيابية، وإن كان ينقصه الإجراءات والضوابط التي وضعت حديثا، أتصور أن علينا واجبا كبيراً يتعين، أن نقوم به بشأن إعادة البحث والتحقيق في الأوضاع المؤسسية التي قامت في المجتمعات الإسلامية وأساليب تشكلها وطرائق عملها، هذا جزء هام من واجبنا في معرفة ذاتنا.