توجهات اجتماعية, فلسفية, ومتعة جمالية.. جديد جعفر إصلاح

إصلاح بين الحين والآخر بعرض أعماله في أوقات متباعدة فهو المقل في إنتاجه، وينحو نحو البساطة أكثر وأكثر مع مرور الزمن. قبل أن ينتهي العام المنصرم وفي ديسمبر الماضي يحسم أمره ويعرض أعماله التي أنجزها على مدار السنوات الخمس الفائتة بقاعة بوشهري للفنون بالكويت. نجد فيها مجموعة من الأعمال تصب في صميم الحياة ومتغيراتها وذات مضمون اجتماعي، يمارس فيها الفنان حالة من التواصل والنوعية بغية تحريك المشاعر بلغة تشكيلية وصيغ دقيقة بأحاسيس قريبة للنفس، ومحببة للمشاهد.

وفي مجموعة أخرى من أعماله المعروضة يظهر فيها الفنان جانبًا آخر من نشاطه الفكري والفلسفي وما ينشده من الغوص في المعرفة الكونية وما يرتبط بجوهر الإنسان، برؤية يظن بها معرفة باطن الحقيقة.

يقدم لنا إصلاح أعمالًا صاغها بألوان الإكريلك ويصوغ أعماله ببساطة وسيطرة على مسطح القماش بألوان الإكريلك ويلفت نظرنا بقدرته على ذلك حتى لو استخدم لونًا واحدًا، وهذا ما يفعله في الغالب ونراه في لوحات الطبيعة الصامتة ومجموعة لوحاته التي تناولت الفتيات أو النساء على الشاطئ وغير ذلك من لوحات هذا الجانب في توجهاته، عندما يتحيز للفرح والسعادة ويسعى لتحقيق قيم فنية وجمالية أخرى.

ولوحات جعفر إصلاح عمومًا هي وليدة محاولات وجهد مبذول ونتاج تجارب عديدة ويمثل العنصر الإنساني بها أساسًا في غالبيتها. وإن وصفت بعض أعماله بالبساطة والتلقائية يجب أن تنتبه إلى أنه ليس بالتلقائية وحدها ينشئ أعماله وفنه نشاط تركيبي وبنائي معماري. ومن خلف ابتكاره عمل مهاري إنتاجي تشكل من مجموعة خبراته وحسه ووجدانه. ولفن الرسم واستخدام الخط أهمية خاصة في أعماله ويقول عنه آلان بوسكيه Alian Bosquest الكاتب والناقد الفرنسي (1919 1998): إنه موهوب متعدد الملكات حتى وإن كان قد اشتهر عن حق بسبب موهبته في الرسم.

واستحوذ حلّه وترحاله وسفره المتكرر لبعض دول الشرق والغرب صاحبة التميز الفكري والثقافي والفني في العالم جانبًا كبيرًا من اهتمامه ساهم في إثراء مخزونه الإبداعي، وأصبح بالنسبة له ضرورة حياتية من أجل المزيد من العلم والمعرفة والتواصل مع فنانيها، والاطلاع عن كثب على تجاربهم الفنية والإنسانية، مما صبغ تجربته بحرية البحث والتجريب لكل المدارس والاتجاهات دون استبعاد أي منها.

الفن ومضمونه الاجتماعي

بالرغم من معيشته متنقلاً ومقيمًا بروما وباريس والهند والقاهرة وبالي منذ العام 1972 حتى اليوم، على فرض اعتقاده بأن وطنه هو فسيح الكون سخّره الله سبحانه وتعالى ليحيا فيه الإنسان، إلا أننا نجده في لهفة دائمة وقلق مستمر على مستقبل بلده الآسر لخاطره ووجدانه، نراه منشغلًا ومتفاعلاً مع المتغيرات والمشكلات والسلبيات التي تطفو على سطح مجتمعه, ما دفعه إلى أن يتوجه متوسلًا أعمالاً فنية موضوعية هادفة وثيمات ذات مضمون اجتماعي لا تنقصها الجرأة في الطرح مخاطبًا بها البصر والبصيرة لدى المتذوقة محبي الفنون وليست من باب التهكم أو التجريح، لا سمح الله, ومستفيدًا من حريته وحقه في التعبير، هي حالة من الحب التي يعليها الفنان بنظرته الإيمانية لشتى مناحي الحياة وتظهر موقفه وهو الأكثر وعيًا بدور الفن الاجتماعي والأخلاقي, بفرض أن الفن يعد واحدًا من المجالات الرئيسية في المجتمع يؤدي دورًا ورسالة.

يطل إصلاح على مجتمعه المعروف بالتحفظ, بالتأليفات ذات المساحات الكبيرة التي قد تمتد للوحة تكمل بأخرى, يعالج فيها افتراضات تنشد الحقيقة وتتحمل مغزاها الإنساني والاجتماعي.

في ظروفنا الراهنة، نواجه مرحلة محملة بالأحداث والتحديات ينوء بها كاهل مجتمعاتنا، نستشعر منها حاجتنا الملحة لدعم التوجهات الاجتماعية والثقافية الإيجابية وتجديدها والدفع بها. من هنا تأتي الأهمية المضاعفة للدور المأمول من الصفوة المثقفة، فقد أثبتت التجارب السابقة في مجتمعات كثيرة أن الفن أداة أصيلة وعظيمة الفائدة في تأسيس المجتمعات الناجحة.

وتشكل أعمال إصلاح (النهضة، وشهر رمضان وولائم القطط، والحرامية هنا، والحفلة) تجربة بارزة في إنتاجه أخيرًا وبحثه الجاد الذي يستهدف به تسجيل موقف يتلاءم ورؤيته ووعيه الاجتماعي، استقاها من أيام حياته وخزانة ذكرياته وانفعالاته المكبوتة.

في أسلوبه المتميز بالبساطة والتسطيح أو اللاتجسيم، كان لقدراته وعطاءات أدواته الفنية أثر في تكوين وتركيب الأعمال، تحكمه العلاقة بين الشكل والفراغ.

ويتجلى أسلوبه الذي لا تخطئه عين تحكمه علاقات تصويرية وثيمات لها دلالاتها الرمزية ومن الخطوط والشكل والفراغ تتوضح قدراته على التركيب والتكوين المعماري مع أن أعماله يحكمها التسطيح والخطوط.

في هذه الأعمال تتكثف رؤيته وعشقه لفن الرسم وامتلاكه لناصية التعبير الخطي وإتقانه له وتمكنه ليسيطر به على كامل عمله بثقة وبعيدًا عن أي تردد. وتأتي صياغته في هذا الاتجاه الدعوي والاجتماعي أقرب لرسوم الأطفال ولزمات البراءة والعفوية التي تميز رسومهم.

دعوة المجتمع لتجديد عاداته

في اهتمامه بالدعوة الإصلاحية البصرية، يطل الفنان على مجتمعه في أكثر من ميدان، بغرض الاهـــتمام بتــــبني عادات جديدة والحث على ممارستها بما يعود على الناس بالخير.

وفي لوحتيه هواء الربيع، والدراجة يدعو إلى تحديث عاداتنا ومواجهة المتغيرات في حياتنا اليومية والتشجيع على استخدام الدراجة الهوائية كوسيلة تنقل من جديد, للحفاظ على البيئة من آثار الانبعاث الحراري والتلوث المدمر للبيئة وخطرها المحدق بنا وبكوكبنا.

وفي اهتمامه بهذا الجانب، نجده قد أصدر كتابه «الدراجة ألبوم صور» مجموعة من الصور الفوتوغرافية خلال زياراته المتعددة لكثير من بلاد العالم، تحتفي بالدراجة وبالدعوة إلى انتشارها، فكما هي وسيلة مواصلات تتناسب مع أصحاب الدخول الضعيفة، اقتناؤها كأداة رياضية يساعد في التغلب على أشهر أمراض العصر المنتشرة في مجـــتمعات الدول المتقدمة التي تعاني منها الغالبية من الناس بسبب الاستخدام الدائم للـــسيارة وقلة الحركة البدنية.

الأعمال ذات البعد الفلسفي

ربما يمثل البعد الفلسفي الروحاني الجانب الأهم في حياة جعفر إصلاح وتعتبر من أكبر وأحب مقارباته لنفسه، فنلاحظ أن كثيرًا من أعماله يتأسس على قاعدة روحانية وبعدًا فلسفيًا صوفيًا، ويرجع السبب في ذلك إلى دراسته ومعرفته طريق التصوف مبكرًا عام 1976.

التصوف في الفن نعني به تجسيدًا لرؤية فنية وليس بمفهومه التقليدي الشائع دينيًا، والتصوف ليس حياة سلبية يعتزل صاحبها المجتمع الذي ينتمي إليه ويهرب من المواجهات الحياتية، إنما فلسفة حياة تغيرية في انفتاح وحركة دائمة وحرية تلقائية تهدف إلى الارتقاء بالنفس الإنسانية أخلاقيًا ومجاهدة الأهواء وتصفية النفس عن طريق التأمل والتفكر، والتعمق بما يتجاوز الظاهر إلى الباطن ومحاولة الكشف عن الجانب الآخر للأشياء والتآلف بين المتناقض منها, فالليل ليس بنقيض للنهار إنما هو وجه آخر لليل، وتكملة له.

وعن مسيرته في العطاء التشكيلي على هذا النحو قدم إصلاح الكثير من إسهاماته على مدار سنوات مضت في مجال البعد الفلسفي والروحاني، وخص معرضه الأخير بقاعة بوشهري للفنون في الكويت في هذا التوجه بأكثر من عمل تشخيصي (الفكر شجرة الخلود عيون الحكيم وداعًا للملذات انكسار الروح حروب الوهم)، رسوم وضرب من التصوير لنشاط فكري يَظُن به الفنان إصلاح باطن الحقيقة ويعيننا على أن نفهمه بعيدًا عن الرؤية الظاهرة أو محاكاة للواقع المرئي وفقًا لما يراه في سعيه إلى الفوز بكبد الحقيقة التي تظهر دلالته التصويرية بغرض التوجه إلى الجوهر، فلا يعني له أبدا دقة المحاكاة إنما يعني التعبير الهادئ بما يملك من حساسية لخصائص عناصره المرسومة ورموزها.

ويعتمد إصلاح في هذه الأعمال على الطاقة الروحية، ونفحة الزهد تتضح في الخطوط والمساحات وتنزيل اللون على سطح القماش.

كما نجده مراعيًا لقوانين الإيقاع والاتزان التي تبنى عليها فسيولوجية كل الكائنات الحية كالمسافة الزمنية لعملية التنفس يبن الشهيق والزفير وترتبط بقوانين الطبيعة وإيقاع الحياة كما نعرفه في التناسق الكوني Universal Harmony والأجرام السماوية وعلاقتها ببعضها بعضًا والمطابقة والملائمة للمزاج الإنساني. ويعتبر الكثيرون أن عنصر الإيقاع والاتزان أهم قيمة إنسانية في كل الأعمال الفنية عبر التاريخ.

موضوعات تحقق الجمال والمتعة

حينما نكون إزاء معرض لجعفر إصلاح هو حصيلة مجموعة أعماله خلال فترة السنوات الخمس الماضية يثير انتباهنا جانب آخر من توجهاته هي لوحات تعبر عن طبيعة صامتة، توليب أبيض وأحمر السيدة والزنبقات والسيدة مع طاولة الشاي، ومجموعة لوحاته للشاطئ والسابحات وثلاث مظلات على الشاطئ وأزرق وأبيض، أعمال نتأكد فيها من رصانة التصميم وامتلاكه الناصية الخط المرسوم تلخيصًا معبرا يوظفه بمدى ما يملك من حساب حسي دقيق، مبرزًا خصائص عناصره المرسومة سواء كانت عنصرًا جامدًا في الطبيعة الصامتة، أو عنصرًا إنسانيًا يشكّل عادة أساسًا في غالبية أعماله، فهو يعرف دائمًا الصياغة الفنية العالية في رسومه وعلاقات الأشكال مع بعضها بعضًا ومع كامل المساحة في حالة هادئة من التعبير، ويتضح ذلك التمكن منذ بداياته الأولى، حيث نال إصلاح دراسته الأكاديمية الجيدة في جامعة بيركلي بكاليفورنيا 1966 -1971 وعلى أيدي فنانين عالميين كبار من أمثال كيتاي وبللين وغيرهما.

لقد أوفى وأصاب د. مصطفى عبدالمعطي الفنان المصري المعروف عندما كتب عن إصلاح، بأنه يتفرد بشخصية مستقلة ويتجلى ذلك في قدرته على توظيف عناصر التشكيل في تصميم شكلي لوني محكم، كما أنه يؤكد مدى ثقافة الفنان ووعيه لمعاصرته وهضمه فنون الثقافة الأوربية التي شاء لها الله أن تكون هي حضارة العصر، إضافة إلى تشبّعه بتراثه وحضارته الإسلامية والبيئية.

وبالرغم من قلة إنتاجه وشح أعماله فهو لا ينتج أكثر من ثلاثة أعمال في السنة، إلا أنها تتميز بالمساحات الكبيرة التي يحلو للبعض تسميتها بالجدارية على مثيلاتها في الحجم، فإصلاح صاحب قدرة على صياغة لوحات كبيرة ويسيطر عليها ببساطة وتكوينات معمارية متوازنة وخطوط مرهفة ومتقنة.

وإصلاح في هذا الجانب لا يعول كثيرًا على موضوع اللوحة ولا يرى له أهمية كبيرة، فقيمة العمل الفني لا تقاس بقيمة موضوعه، منسجمًا في ذلك مع رأي الفلاسفة عندما يعرفون النشاط الفني ويرجعونه إلى مفاهيم الجمال واللذة واللعب..، ويتميز إصلاح بتفرّده الخلاّق في هذه الأعمال ولا يعنيه هنا أن يرى دقة المحاكاة بل القيم الفنية التي تحقق البهجة متحيزًا للفرح والسعادة والاستمتاع باللوحة بوصفها عملًا جماليًا من الحياة ولها.

في مجموعة لوحاته المرتبطة بنساء تحت المظلات على شاطئ البحر وعلاقة الطبيعة بالسماء والماء والرمال والبشر، يتطرق بألوانه غير المألوفة أحيانًا مستخدمًا خامة الإكريلك، واللافت هنا قدرته على صياغة بعض هذه الأعمال بلون واحد أو درجات وربما يدخل على استحياء لونًا آخر.

وفي العموم هي أعمال هامسة شاعرية تلمح فيها ثقافته الشرقية والروحية وصدى تراثه الإسلامي ورفضه للتقاليد والعادات المكبلة لحرية وحقوق الإنسان والمرأة على وجه الخصوص، فإن كانت المرأة هي رمز للجمال والبهجة للحياة، فلابد من احترامها والمحافظة عليها، وأن نشملها بالتقدير والرعاية والحفاظ على كرامتها، ونلحظ على سبيل المثال في لوحات الشاطئ مدى التزامه بتقدير المرأة واحترام خصوصياتها ويرفض الاعتداء على إنسانيتها من أي امتهان أو تعرية لجسدها حتى لو كانت على شاطئ البحر بغرض السباحة والاستمتاع بأشعة الشمس.

وفي بعض أعماله يقوم إصلاح بعملية تحضير مسبقة (إسكيزا) كدراسة أولية لبعض الموضوعات كوسيلة لحل مشكلة ما، ويمكن اعتبار هذه الدراسات في النهاية عملاً قائمًا بذاته وليس مجرد رسم تخطيطي (كروكي)، كما يعتبرها الكثير من النقاد رسومًا ذات قيمة فنية ومرجعية يعتد بها لتتبع عملية الإبداع الفني التي يسلكها الفنان.
--------------------------------
* ناقد فني من مصر

 

يحيى سويلم*