مدينة فاس.. وفن الطرب الأندلسي السيد لحسن بوغانم

لم ترتبط مدينة فاس بالفتوحات الإسلامية فقط. ولا بذلك التراث البديع الذي وضع بصمات أهله من أدباء ومفكرين ومهنيين وحرفيين وغيرهم، ولكنها تحتفظ لنفسها بميراث أصيل ضارب في التاريخ هو فن الطرب الأندلسي.

لم تحاول كتب التاريخ أن ترصد الدور الموسيقي لمدينة فاس بكل تفاصيله، وإنما أشارت بعض من كتب التراجم إلى جزء منه حين تحدثت عن بعض العلماء، وغيرهم من رجال المدينة. إن رصد هذه الريادة ينطلق من جملة من المعطيات التي نعتقد أن تكافلها يوحي بالصورة النهائية عن هذا الدور. ويقدم تصورا شبه نهائي عن مظاهر النهضة التي ساهمت بها هذه المدينة في كل ما يمس التراث، والتراث الموسيقي بعض من كل.

وأول هذه المعطيات الموقف الإيجابي للسلطان أو من ينوب عنه في تشجيع الموسيقى وتعلمها، وقد أخبر المؤرخون مثلا أن السلطان سيدي محمد بن عبدالرحمن قد أقام مؤسسة خاصة كل روادها يتعلمون فيها الموسيقى على يد من اختارهم لهذه المهمة من "معلمي" الوقت. ومن الممكن الحديث أيضا عن التشريعات والقوانين التي كانت تنظم الحرفة حرفة تعاطي الموسيقى ووجود أمين لها وخضوعه من الناحية العلمية لسلطة المحتسب، فهذا الموقف الرسمي يمكن اعتباره إسهاما علميا في الاعتراف بالدور الذي تلعبه الموسيقى في حياة الناس.

وثاني هذه المعطيات التسامح الديني الذي كانت تقابل به هذه الصناعة ذلك بأن علماء المالكية، في الغرب الإسلامي كانوا على العموم لا يرون بأسا في الترويح عن النفس ساعة بعد ساعة حتى لا تكل. ما دام المأثور من كثير من الأحاديث الشريفة لا يمنع شيئا من ذلك. وقد يبلغ تسامحهم هذا حدا دفع ببعضهم إلى وضع مؤلفات تفتي في هذا الأمر.

على أن تسامحهم هذا لم يكن وتسامحا مطلقا، وقد رفضوا من الغناء مها كان فيه حظ من نشوة السكر، وهذا هو السر في إقبال بعضهم على تغيير الأشعار التي يبدو فيها ظاهر من ذلك، وقد أباحوا استخدام الألحان الموسيقية في حلقات الذكر رغبة في تعميق الشعور بأثر الكلمة واللحن على النفوس، وقد كان كثير من الشيوخ على دراية كاملة بالطبوع الموسيقية وبما يناسب منها في المقامات والمقالات ويستخدمون ذلك في حلقات الذكر والسماع التي كانوا يعقدونها.

وثالث هذه المعطيات وجود حركة علمية مصاحبة لعملية التعليم، تبدأ بجمع الأشعار المغناة وتنقيحها كما حدث بالنسبة لمجموع "الحايك" ومجموع "الجامعي" ومجموع "بنيس" وكناش وزان.

وتنتهي بالحديث عن القضايا الكبرى التي تتعلق بعلم الموسيقى البحت وما يتصل به من معرفة الطبوع الأربعة وعلاقتها ببناء النفس وارتباط ذلك بالنوتات الموسيقية ومقاماتها، سواء كان ذلك متضمنا بمقدمة المؤلفات كما في مقدمة "كتاب الحايك"، أو كان ذلك مستقلا كما في أرجوزة الحوات، ورسائل البوعصامي. ومن المؤكد أن هذه الصفة العملية هي التي أعطت لهذه الموسيقى سمة وجعلتها محصورة في الطبقة المحدودة من المتعلمين، وبهذا تفسر صفة (الفقيه) التي كانت تصاحب أسماء كثير من المشتغلين بهذا الفن.

عازفون مهرة

رابع هذه المعطيات وجود مجموعة كبيرة من الحفاظ ومهرة العازفين الذين كانوا يقومون بدور الناقل لهذا التراث، ذلك بأن الموسيقى الأندلسية لم يكن لها من سبيل في تداولها ونقلها من جيل لآخر إلا طريق الرواية الشفهية والعلمية. وقد كان دور كبار الحفاظ والعارفين هو مراقبة هذه الرواية خوفا من التحريف أو الزيادة أو النقصان، ولهذا كان "المعلم" يلتزم بأسلوب خاص في تلقين "تلميذه"، يبدأ بتعريفه الأصول الكبرى العامة للألغام والإيقاعات، ثم ينتهي به إلى النوبات والميازين والصنعات، وغالبا ما يلتزم في ذلك طريقة التدرج من السهل إلى الصعب ومن البسيط إلى المركب. ومن الانصراف إلى التصييرة، إلى القنطرة، ومن الصنعة البسيطة "التخليلة" إلى الصنعة المركبة "صنعة الشغل" فإذا أحسن ما ذكر ارتقى به إلى النوادر من الصنعات، وهكذا.

وخامس هذه المعطيات هو الدور التاريخي الذي لعبته مدينة فاس خلال حقب التاريخ المختلفة، وهو دور ليس المجال الآن مجال الحديث عنه جملة، ولكن التنبيه إلى بعض من جزئياته يسمح بإدراك المعنى الذي كانت تجسده هذه المدينة بالنسبة لتاريخ المغرب البشري والسياسي، ذلك أنه خلال مراحل سقوط الأندلس هاجرت إلى مدن المغرب ومدينة فاس مجموعات كثيرة ومتعددة من الأندلسيين، اتخذتها مستوطنا نهائيا لها. وقد حملت هذه الهجرات معها في جملة ما حملت الكثير من المأثور الموسيقي الأندلسي المحض والمغربي برواية أندلسية، ولا شك أنه قد قام تكامل بين الوافد والمحلي، وانتهى إلى تكون مدرسة موسيقية جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم المدرسة الموسيقية المغربية الأندلسية، وهذه المدرسة وجدت مرتعها الخصب في فاس، باعتبارها المركز السياسي والحضاري الأول في المغرب آنذاك فتعايشت فيها الألوان الموسيقية المختلفة، واستجاب كل لون لذوق ورغبة متعاطيه، ويذكر العارفون بأخبار التراث الموسيقي أنه كان بمدينة فاس أجواق للغرناطي والآلة كما كانت بها ألوان موسيقية أخرى مختلفة وكانت شهرة الموسيقي أو "المعلم" إنما تتم بهجرته إلى فاس إذا لم يكن من أهلها. هذا هو السر في استقطاب المدينة لكثير من الفعاليات غير الفاسية حيث يروي عن حفاظها أو يتخذها مستقرا نهائيا له. وكتب التراجم والأنساب نبهت إلى كثير من هذا بصيغة "الفاسي دارا" تنبيها إلى أنه كان من الذين اتخذوا مدينة فاس مستقرا لهم، ومن المؤكد أن هؤلاء الوافدين لم يكونوا يجدون كبير صعوبة في التأقلم مع الجو الموسيقي الذي كان موجودا بالمدينة خصوصا إذا كانوا يحملون معهم موهبة معينة في العزف، ويحملون بعض النوادر، وكان يوجد بمدينة فاس جوق أندلسي تطواني كان أفراده يقيمون بفندق التطوانيين، كما يستفاد أن المعلم "الكريش" وفد على مدينة فاس من طنجة، على فاس ووفد كثير من شيوخ تطوان الموسيقيين على فاس فأقاموا بها مددا معينة ثم عادوا وبعض أهل الشارون ووزان ومكناس والرباط ومراكش.

وبهذا تتم معالم الصورة النهائية عن الدور الذي يمكن أن تكون فاس قد لعبته كوسط موسيقي صالح لازدهار الموسيقى الأندلسية.

ويبقى بعد ذلك تحديد الدور وربطه بمظاهر المحافظة والتنمية، ولا يتأتى الحديث عن ذلك إلا من خلال نقطتين اثنتين، الأولى تتعلق بمجهود الأفراد الموسيقيين "المعلمين" الذين كانوا يضطلعون بأمر المحافظة على المأثور والحاج عبدالكريم الرايس على رأسهم. والثانية تتعلق وترتبط بأمر الأفراد والجمعيات التي نشأت بعيد الاستقلال 1956 والتي استفادت من معطيات النقطة السابقة فعملت على تنمية رصيد الأفراد وإغنائه بما تحقق لها من ذلك بواسطة ما سنذكره من أمر قوانينها الأساسية وطموحات أفرادها ورغبات الهواة على وجه العموم في تجمعاتهم وتظاهراتهم الموسيقية والثقافية.

الموسيقى الأندلسية وضمان الاستمرار

لقد كان الكثير من هواة الموسيقى الأندلسية بفاس يظنون أنه بعد وفاة الشيخ محمد بن عبدالسلام البريهي "1945" ستفقد الآلة استمرارها خصوصا أن بعض النابهين من تلاميذه وتلاميذ الشيوخ المعاصرين له كانوا يشاطرون الهوة هذا التخويف، وقد حتمت الظروف على بعضهم أن ينتقل خارج مدينة فاس، كما هو الحال بالنسبة للفقيه مولاي أحمد الوكيلي، ولكن حرص مجموعة من هواة الفقيه البريهي على تقليد الحاج عبدالكريم الرايس وأمر خلافة صهره وأستاذه المرحوم البريهي في وجود ابن المرحوم العازف الماهر والحافظ الموفق محمد بن محمد بن عبدالسلام البريهي، ووضعهم لربابة بين يديه، وأمرهم بالعزف في مناسبة دينية خاصة جعل الحاج عبدالكريم الرايس يقدر هذه الالتفاتة ويستعظم في ذات الوقت هذه المهمة. ومن الممكن القول إن جدية الحاج عبدالكريم قد حتمت عليه أن يتوجه أولا إلى بناء جوق قوي يعتمد على العناصر المجربة ذات النفس العالي في الحفظ والأداء، وأن يتجه ثانيا إلى تطعيم الجوق ببعض صغار العازفين الهواة الذين يمكن أن يحقق احتكاكهم بكبار العازفين ما يطلب من وراء هذا التطعيم.

بعد ذلك تمكن أن يحقق نقله نوعية على صعيد تحقيق الهيكلة الكبرى للجوق فأصبح يضم أكثر من أربعة عازفين على آلة العود مثلا، وأكثر من خمسة عازفين على آلة الكمان وعازفين على الكورديون وعازفين جديدين على الإيقاع، بالإضافة إلى المسمع المشهور الحاج محمد لخصاصى. وبعد الاستقلال أصبح جوق فاس الأول مقارنة بالاجواق الأخرى الأندلسية التي كانت توجد في المدينة.

وبالإضافة إلى الاهتمام بتكوين الجوق وخلق الانسجام بين أفراده كان الاهتمام أيضا بالمحافظة على مدرسة فاس الموسيقية ومدرسة البريهي بصفة خاصة، وهي مدرسة يهتم بالمحافظة على الموسيقى التقليدية وعدم السماح بإدخال أي نوع من أنواع التوزيع الموسيقي أيا ما كان نوع ذلك التوزيع، كما تهتم بالمحافظة على أصول الصنعة الأندلسية وأدائها الأداء الجيد والمطلوب وتتحفظ في إلحاق آلات النفخ والزمر بالجوق رغبة في المحافظة على الطابع التقليدي للأداء وما أن حل العقد السابع حتى توجهت همة المهتمين إلى إحياء بعض ما اندثر من الميازين والصنعات، فأنجز مثلا "بطايجي العشاق" كاملا وقد كان من الميازين النادرة، وأنجز أيضا درج العشاق كاملا ولم يكن مستعملا بالكامل، ثم بعد ذلك تم إحياء ميزاني قائم ونصف الحجاز المشرقي وقائم ونصف الرصد.

لكل مقام مقال

لقد كان لوجود طبقة من الهواة الدور الأساسي في إنعاش الحركة الموسيقية وتشجيع الموسيقيين على الإبداع في العزف والأداء منذ القديم، وكانت العادة في فاس أنه إذا أقام أحدهم حفلا موسيقيا بمناسبة من المناسبات، عمد إلى استدعاء كبار الحفاظ الهواة ووجوه المعرفة بالموسيقى، وأجلسهم أمام الجوقة ورئيسها، فلا، يجد الرئيس بدا من استشارتهم أولا في النوبه التي يفضلون الاستماع إليها، ثم في الميزان أو الميازين التي يفضلونها.

وقد يعزف النوبة كاملة، وتجد هؤلاء الهواة يتتبعون سير الميزاق صنعة صنعة وقد يغنونة أيضا كما يتدخل هؤلاء الهواة في اختيار "النفقة" أي الأشعار التي سيتغنى بها لتكون منسجمة مع المناسبة التي يقام من أجلها الحفل. فمناسبة الأعراس مثلا لا يلائمها من الأشعار إلا ما كان يتحدث عن الألفة والمحبة والتودد إلى المحبوب ووصف جلسات الهناء والسرور، وحفلات العقيقة أيضا لا تنسجم إلا مع الأشعار التي تتحدث عن الطالع السعيد والتهنئة والبشارة بالخير.. وبعض الميازين والنوبات لا تنسجم إلا مع أوقات معينة، فالعشاق مثلا لا ينبغي أن يعزف إلا في الصباح والماية لا يلائمها إلا العشايا، ورصد الديل والحجاز الكبير لا تعزف إلا ليلا، والحجاز المشرقي يعزف في الزوال.. وهكذا، وكل هذا كان الهواة يتدخلون فيه ويملون شروطه المعنوية على رئيس الجوق الذي يعرفه معرفة جيدة.

 

السيد لحسن بوغانم