جيورجيوني «الفلاسفة الثلاثة»

جيورجيوني «الفلاسفة الثلاثة»

ثمة غموض كبير يحيط بسيرة الرسام البندقي جيورجيوني، أما أعماله فيحيط بها غموض أكبر يجعل منها ألغازًا وميدانًا خصبًا لقراءات لا تمت إلى بعضها بصلة.

فاستنادًا إلى مؤرخ الفن فازاري، نعرف أن جيورجيوني من مواليد مدينة صغيرة تبعد عن البندقية نحو 40 كيلومترًا، وأنه خلال فتوته كان يُعرف باسم «زورزو». ولكنه اكتسب اسم جيورجيوني (ومعناه جورج الكبير) خلال نجاحه الكبير في البندقية، وربما لتمييزه عن رسام آخر أقل شأنًا كان يُدعى جيورجيو.

ظهرت موهبة الرسام عندما كان في مطلع العشرينيات من العمر، إذ إنه في العام 1500م، كان في الثالثة والعشرين من عمره عندما طُلب منه أن يرسم الصورة الرسمية لدوق البندقية. ولكن وفاته المبكرة عام 1510م، عن عمر لم يتجاوز الثلاثة والثلاثين عامًا، وكثرة مقلِّديه، وقلة التدوين الدقيق الذي حظيت به أعماله، يجعل عدد اللوحات التي وصلتنا من هذا الرسام، والتي تأكد المؤرخون والخبراء أنها بريشته، لا يتجاوز الست لوحات، ومن بين هذه المجموعة الضئيلة هناك لوحة «الفلاسفة الثلاثة».

رسم جيورجيوني هذه اللوحة عام 1509م بناءً على طلب من أحد تجار البندقية، ويُدعى تاديو كونتاريني، عُرف عنه هوسه بالخيمياء وعلوم الغيب.. ويرجح بعض الخبراء أن أحد تلامذة جيورجيوني هو الذي أكمل هذه اللوحة، وإن كانت مساهمته فيها غير ذات شأن. نرى في هذه اللوحة ثلاثة رجال في الطبيعة، وفي الأفق بعض التلال التي تحتضن قرية صغيرة. أما السؤال عمن هم هؤلاء وماذا يفعلون، فهذا هو اللغز.

من بين كل لوحات جيورجيوني وربما من بين كل ما في تاريخ الفن من لوحات، كانت هذه اللوحة ولا تزال مادة لإطلاق أكبر قدر من الفرضيات المختلفة التي لم يحسم منها شيء بالبرهان المؤكد.

تقول إحدى أكثر القراءات واقعية وأقربها إلى المنطق، إن الرجال الثلاثة يمثِّلون ثلاث حقب حضارية مختلفة. الشاب الجالس أرضًا ويحدِّق بالكهف ويبدو عليه أنه يأخذ قياسات معينة هو ممثل عصر النهضة الأوربية الفتية آنذاك. والرجل باللباس العربي في الوسط هو رمز توسع الحضارة الإسلامية في عصر نضوجها، والعجوز باللحية البيضاء الذي يمسك بورقة ثمينة يخبئها في ملابسه هو رمز الحضارة اليونانية، الأصل القديم للحضارة الأوربية.

ولكن هناك قراءات أخرى لا تمت إلى هذه اللوحة بصلة. فهناك من يرى أن موضوعها مستوحى من التوراة، أو من علوم من الخيمياء والفلك.. حتى أن بعض المواقع على شبكة الإنترنت يستعرض هذه اللوحة من منظور بعض الجمعيات السرية بغية تأكيد انتماء جيورجيوني إليها. وبعض هذه القراءات جاء في سياق رسائل جامعية يفترض بها أن تكون في غاية الرصانة. ولكننا نرجِّح أن القراءة التي قدَّمناها هي الأقرب إلى الحقيقة.

تبقى الملاحظة الجمالية وهي أن أسلوب جيورجيوني في معالجة الملابس والضوء والظل تذكر إلى حد بعيد بأسلوب مؤسس مدرسة البندقية جيوفاني بيلليني، وتعزِّز الاعتقاد بأنه درس فن الرسم لبعض الوقت عند زعيم مدرسة البندقية، ليرث عنه هذه الزعامة لاحقًا، بحيث ظلت هذه المدرسة تحت تأثير جيورجيوني لنحو نصف قرن بعد وفاته.
---------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.

 

عبود طلعت عطية*