الدكتور عبدالحسين شعبان وجهاد فاضل

 الدكتور عبدالحسين شعبان وجهاد فاضل

محنة العراق بين الديمقراطية والحرية

يعرض هذا الحوار مع الدكتور عبدالحسين شعبان لثلاث قضايا فكرية وأدبية، أولاها محنة الديمقراطية في العراق القديم وفي العراق الحديث على السواء، إذ المعروف أن تجربة الديمقراطية في العراقَين معًا كانت تجربة هشّة قصيرة العمر، وكأن هناك جينات أصلية في العراق ذاته، إذا جاز التعبير، تعيق نموّ وتطور الديمقراطية، فكرًا وممارسة. في العراق القديم كان زمن المأمون، ومن إليه مجرد ومضة في ليل دامس، في حين سادت أزمنة استبداد أخرى طويلة من رموزها الحجاج والسفّاح. فإذا أتينا إلى العصر الحديث، لاحظنا أن العراق ما أن يودّع عصرًا استبداديًا حتى يستقبل عصرًا استبداديًا آخر مع بعض الاستثناءات التي لا تغيّر من المبدأ العام الذي أشرنا إليه.
فإلام نردّ أسباب هذه الظاهرة؟
ثانية هذه القضايا هي تجربة ودور الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في تاريخ العراق الحديث. للدكتور عبدالحسين شعبان دراسة مطوّلة عن الجواهري، الشخصية المثيرة للجدل وخاصة حول مواقفه بين اليمين واليسار، وصراعه حول جنسيته العراقية مع ساطع الحصري مدير المعارف خلال فترة الملك فيصل بن الحسين، فكيف نقرأ الجواهري اليوم قراءة باردة ومنصفة في الوقت نفسه؟
ثالثة هذه القضايا هي قضية التسامح، وحول فقه التسامح في الإسلام، كتب د. عبدالحسين شعبان كتابًا جميلاً. فماذا يعني التسامح، وهو عنقاء حياتنا العربية اليوم، في حين أنه الفريضة الغائبة والواجبة معًا؟ ولكن هل يعني التسامح مساواة الضحية بالجلاد على سبيل المثال؟
الدكتور عبدالحسين شعبان مفكر وباحث وحقوقي عراقي معروف، له العديد من الدراسات والأبحاث التي تتوزع بين الفكري والأدبي، وأبرز ما تتصف به نزعتها الإنسانية والتنويرية. وقد بدأ الكاتب المعروف جهاد فاضل الحوار معه بسؤال عن محنة الديمقراطية والحريات في العراقَين القديم.. والحديث. وكان هذا جوابه:

- إن وجهة النظر هذه تمثل رؤية قريبة إلى الواقع إلى حدود غير قليلة، علمًا بأن الديمقراطية كمفاهيم وحقوق وقوانين ومؤسسات، وبالتالي كنظام، لم يبدأ الحديث عنها إلا في القرنين الماضيين، وجاء تدرّجيًا وتراكميًا أي أنه لم يأت دفعة واحدة، حتى انتشر واتسع بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استكملت أوربا الغربية مسارها نحو الديمقراطية بعد القضاء على ديكتاتورية سالازار في البرتغال وتوجهت إسبانيا نحو الديمقراطية بعد وفاة فرانكو الذي حكمها نحو 40 عامًا، وانتهاء بعهد الجنرالات في اليونان، وذلك في أواسط السبعينيات، ولحقتها أوربا الشرقية أواخر الثمانينيات، لاسيما بانهيار جدار برلين في العام 1989 وتفكك المنظومة الاشتراكية ذات الأنظمة الشمولية وانحلال الاتحاد السوفييتي في العام 1991.

الدولة العراقية المعاصرة

وإذا أردنا الحديث عن الدولة العراقية المعاصرة، فسنلاحظ أن تشكيل هذه الدولة شابه الكثير من النواقص والثغرات، بل إن تشكيلتها بحد ذاتها منذ التأسيس كانت تمثل إشكالية تفرّعت عنها مشكلات تعتّقت مع مرور الأيام، وانكشفت بالتدريج، بعد تراكم طويل الأمد. ولعل المشكلة الأولى التي عانت منها الدولة العراقية تتلخص في أن التراكيب «الحكومية» لم تؤسس وفقًا لأسس صحيحة الديمقراطية، بل كانت هشة وناقصة ولم تأخذ بالاعتبار إرادة السكان بمختلف تنوّعاتهم الثقافية وتعدديتهم. وازداد هذا الأمر ضيقًا وانحسارًا مع تطور الدولة وبيروقراطيتها من خلال التجربة العملية. لاحظ أن دستور عام 1925 كان دستورًا متقدمًا على زمانه، على الرغم من أن البريطانيين ووزارة المستعمرة البريطانية، هي التي هيّأت الظروف لكتابته.

بتقديري لم يكن هناك مشروع ديمقراطي في العراق، بقدر ما يمكن اعتباره توجّهًا جنينيًا لبعض آليات الديمقراطية، والأقرب هو إرهاص ديمقراطي حاول واضعو الدستور العراقي الأول (القانون الأساسي 1925) بثّه في بعض ثناياه، إلا أن هذا الدستور وضع على الرف تدريجيًا، بل أُهمل في السنوات الأخيرة لاسيما في الخمسينيات، حين تمت تهيئة الأجواء لمشروع النقطة الرابعة الأمريكي والمعاهدات البريطانية - العراقية والأمريكية - العراقية لعام 1954 التي تكيّفت لما بعد معاهدة العام 1930 ومعاهدة بورتسموث العام 1948 التي أسقطها الشعب.

وكانت تلك الإجراءات تحضيرًا لحلف بغداد الذي انعقد في العام 1955 وانضم إليه العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا. وكان الحلف رأس حربة ضد الاتحاد السوفييتي، لاسيما في دفع بلدان المنطقة لتكون جزءًا من النفوذ الغربي والصراع الدولي في عهد الحرب الباردة، مع إهمال وجود «إسرائيل» كبؤرة توتر وعدوان في المنطقة، ومن جهة أخرى ضد حركة التحرر الوطني، لاسيما بصعود دور جمال عبدالناصر، بعد كسر احتكار السلاح بشرائه من تشيكوسلوفاكيا في العام 1955، فضلاً عن نقطة انطلاق ضد التيار الماركسي والتيار الديمقراطي والتيار القومي العربي.

وعلى الرغم من أن مشروع القانون الأساسي (الدستور) أعدّ في وزارة المستعمرات البريطانية من قبل المستر يونيك والسير بونهام إدوارد (مستشار العدلية العراقية) وذلك المندوب السامي برسي كوكس، ومشاركة عراقية ضمّت وزير العدلية ناجي السويدي ووزير المالية ساسون حسقيل، وفيما بعد لجنة برئاسة عبدالمحسن السعدون وعضوية السويدي ورءوف الجادرجي، فقد كان متقدمًا في عهده، إلا أن المستوى المتدني من الممارسات اللاديمقراطية أفرغه من محتواه، فإضافة إلى تزوير الانتخابات، شهد العراق في فترة الخمسينيات قمعًا مكثفًا بإصدار قوانين ذات عقوبات غليظة لما سمّي «مكافحة الأفكار الهدّامة»، حيث كان بالإمكان اتهام كل وطني عراقي بها، من المنتمين إلى اتحاد الطلبة وإلى منظمة أنصار السلام ورابطة المرأة، إضافة إلى أعضاء الأحزاب الوطنية الأخرى. وكانت الأحكام العرفية حالة شبه دائمة، كما تقلّصت حرية التعبير إلى حدود كبيرة جدًا، وساءت علاقات العراق مع سورية ومصر.

وبموجب هذه القوانين تم سحب الجنسية العراقية عن عدد من الشخصيات العراقية المعارضة، بينهم كامل قزانجي وتوفيق منير اللذان أبعدا إلى تركيا وعزيز شريف وكاظم السماوي وعدنان الراوي وآخرون، وجرت الهيمنة على البرلمان وألغي الرأي الآخر، الأمر الذي هيأ الظروف لانقلاب عسكري، حدث يوم 14 يوليو عام 1958 وأيّده الشعب.

أما المشكلة الثانية فهي المشكلة الكردية، التي ظلّت مستفحلة، وشهدت كردستان ثورات وانتفاضات عدة. فبعد معاهدة سيفر العام 1920، التي أعقبت ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية العام 1919 والتي اعترفت ببعض حقوق الأكراد، حصلت المساومة الدولية في معاهدة لوزان العام 1932 مع تركيا، وتم التنكّر للقضية الكردية التي غابت من الأروقة الدولية حتى العام 1991 عندما عادت بصدور قرار مجلس الأمن 688 في 5 أبريل، القاضي بوقف القمع الذي تعرّضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، معتبرًا هذا القمع تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن الدوليين.

أما المشكلة الثالثة التي عانت منها الدولة العراقية، فهي بعض الممارسات الطائفية التي ابتدأت مع تأسيس الدولة بصدور قانون الجنسية الأول رقم 42 لسنة 1924. ومن المفارقات أن هذا القانون صدر قبل الدستور، وقد وضع درجتين للجنسية «أ» و«ب»، ولم يعتمد على كون العراقيين هم المواطنين بالتأسيس طبقًا لمعاهدة لوزان العام 1923، وإنما جعل من هم من التبعية العثمانية عراقيين، أما غيرهم فعليهم اكتساب الجنسية العراقية. والأكثر من ذلك اشترط القانون «شهادة الجنسية» كوثيقة داعمة للجنسية، وحرم الكثير من عرب العراق من الجنسية العراقية الأصيلة، ممن لم يكن لديهم تبعية عثمانية، وبذلك بذر بذرة التمييز الطائفي قانونيًا، علمًا بأن مفهوم الجنسية كرابطة قانونية وسياسية حديثة لم يكن قد استقر آنذاك، فقد اعتبرت عشائر عربية معروفة كانت ترفض الجنسية العثمانية للتخلص من الخدمة العسكرية، غير عراقية أو أدنى «عراقية» من عراقيين آخرين قبلوا بالجنسية العثمانية، سواء من الأرمن أو الأتراك أو الكورجيين أو الهنود أو غيرهم. في حين أن قبائل بني كعب وبني أسد وآل مالك الذين ينتقلون ما بين العراق وإيران على الحدود الشرقية، أصبح بعضهم عراقيين من الدرجة الثانية، بعد اكتسابهم الجنسية، ولكن حتى هذا الدستور الذي حدد الحريات والحقوق بشكل أولي جرى التراجع عنه لاحقًا.

  • كان الشاعر محمد مهدي الجواهري من ضحايا هذا القانون عندما كان ساطع الحصري مديرًا للمعارف في العراق؟

- بالضبط كان هذاعام 1926 - 1927 وذلك يوم تقدّم الجواهري بطلب للحصول على وظيفة معلم، حينها طولب بالجنسية العراقية، فاحتار الجواهري. ما معنى الجنسية وهو العراقي؟ وما امتيازات الجنسية؟ واتّضح أن جنسيته إيرانية، فطُلب أن يتقدم لاكتساب الجنسية العراقية، فوافق على الفور، علمًا بأنه لم تكن له علاقة لا بإيران ولا بالجنسية الإيرانية، والتي كما أشرت حصلت عليها بعض العوائل والأسر العربية العريقة، لاعتبارات لا علاقة لها بالانتماء أو الهوية.

أزمة كتاب في التاريخ

أما القضية الثانية التي تصدّرت المشهد السياسي، فتتعلق بكتاب ألّفه مدرس التاريخ اللبناني أنيس زكريا النصولي، وقد أثار الكتاب ردود فعل كثيرة، عندما حاول مؤلفه تمجيد الدولة الأموية بما اعتبر مساسًا بآل البيت، الأمر الذي وقف ضدّه بعض أصحاب الاتجاهات الطائفية مثلما دافع عنه الاتجاه الطائفي الآخر. في حين انتصر لحرية التعبير بعض الشباب من مختلف الانحدارات الطائفية. وقد ساهمت حكمة الملك فيصل الأول في فضّ الاشتباك بشأن القضية، فقام بتعيين الجواهري في تشريفات البلاط الملكي لوقف الفتنة الطائفية المندلعة، لاسيما بين ساطع الحصري مدير المعارف في حينها وعبدالمهدي المنتفجي وزير المعارف في حينها، والتي كان مادتها الجواهري، كما عبّر عن ذلك في مذكراته وفي حواراته معي وهي منشورة في كتاب لي عنه.

  • طبعًا الجواهري في أصوله البعيدة ينتمي إلى الفرس ولكنه تعرّب طبعًا؟

- بعض الذين حصلوا على الجنسية العراقية كانوا من أصول فارسية، ولكن بعضهم كان من آرومة عربية، إلا أنهم فضّلوا اكتساب الجنسية الإيرانية للاعتبارات والامتيازات التي أشرت إليها. وفي كتابي «من هو العراقي؟» رويت كيف دار الحوار بين الرئيس الأسبق عبدالسلام محمد عارف والوزير حسن الدجيلي، وذلك على هامش مناقشة دستور العام 1964، وعندما دار الحديث بينه وبين الرئيس عارف حول مفهوم الجنسية أو علاقة بعض عرب العراق بالجنسية، روى له الحادثة التالية ومفادها أن والده قد جاء إلى النجف للدراسة في الحوزة العلمية، وعندما عرض عليه القنصل الإيراني الحصول على الجنسية الإيرانية وافق على ذلك، وذهب لملء الاستمارات للحصول عليها.

وأردف الدجيلي قائلاً: يا سيادة الرئيس، أنا إذن بمحض الصدفة «عربي»، فردّ عليه الرئيس عارف ولكنك من خزرج، فقال الدجيلي نعم، ولكن لو كان والدي أخذ الجنسية الفارسية لأصبحت إيرانيًا الآن. وهناك أشخاص من قبائل عربية معروفة أخذوا الجنسية الإيرانية، ليس حبّا بإيران أو حتى لاعتبارات مذهبية، وإنما للتملّص من الذهاب إلى الخدمة العسكرية، حيث كانت الدولة العثمانية تسوق أعدادًا غفيرة إلى ساحات المعارك ويذهب الغالبية الساحقة منهم بلا عودة، وتختزن ذاكرة الجيل من العراقيين قصصًا وروايات مؤثرة، بعضها نقله عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي، خصوصًا ما حصل في الحرب العالمية الأولى وخلالها.

ظلّت الجنسية مشكلة تعاني منها الدولة العراقية منذ عام 1924 حتى العام 2003، لاسيما وقد صدر عدد من قوانين الجنسية أو أجريت بعض التعديلات عليها، لكنها جميعها امتازت بالتشدد والإبقاء على الفقرات التمييزية بشأن الفئتين «أ» و«ب» مثل صدور قانون عام 1963 رقم 43، وهذا القانون كرّس التمييز واشترط مرة أخرى وجود شهادة للجنسية العراقية، مثل القانون رقم 42 لسنة 1924، وصدر العديد من قرارات مجلس قيادة الثورة التي شدّدت على هذا الموضوع حتى العام 2003، وكان أخطر هذه القرارات القرار رقم 666 الذي صدر في 7 مايو عام 1980، والذي تم بموجبه سحب الجنسية من عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية المزعومة، وقسم منهم عرب أقحاح خدموا اللغة العربية والأمة العربية مثلما هو الجواهري بعمارته الشامخة التي زادت على 20 ألف بيت، وقسم من آل الحيدري أيضًا، وقسم من آل الخليلي من أعلام الثقافة والآداب في العراق. وظلت هذه المشكلات تعاني منها الدولة العراقية، ومازالت تعاني حتى الآن، خصوصًا وقد تداخل بعضها بالمعكوس أحيانًا.

  • طبعًا هذا شرح وتفسير للعوائق التي أعاقت تقدم مؤسسة الديمقراطية في العراق الحديث. ولكن مشكلة الديمقراطية في العراق موجودة في العراقين معًا: العراق القديم والعراق الحديث. ومَن أساء إليها ليس الحكام وحدهم، بل النخب المفكرة سواء ممن تولى السلطة أو لم يتولها. الشيوعيون أساءوا إلى حرية الرأي، كما أساء أعداؤهم، والاثنان كانا يمثلان زهرة الفكر في العراق يومها. ونتج عن هذا التنكيل العام بالحرية ملف يمكن أن يشكّل موسوعة للمذابح التي لقيتها الحرية والديمقراطية في العراق.

- دعني ألفت انتباهك إلى أن أحد المؤرخين والتراثيين الجادّين عندنا كتبوا عن تاريخ التعذيب في الإسلام وهو هادي العلوي، كما أصدر عبود الشايجي موسوعة اسمها «موسوعة العذاب» وتتألف من سبعة مجلدات وهي مهمة جدًا، وبالإمكان الآن كتابة عدد من المجلدات استكمالاً لتاريخ التعذيب في العراق واحتدام وحدّة وشراسة الصراع ما بين القوى السياسية والاجتماعية في العراق.

الثورة أوقفت التطور!

ومع الأسف الشديد، قطعت ثورة 14 يوليو 1958 خط التطور التدريجي في العراق على الرغم من كل السلبيات التي تحدّثنا عنها في العهد الملكي، ولكن كان بالإمكان أن يحدث تطور وتراكم تدريجي، وإن كان بطيئًا، لكنه طويل المدى لإرساء دعائم توجهات نحو الديمقراطية حتى وإن كانت جنينية أو ملتبسة، لاسيما من خلال تدخلات السلطة التنفيذية، خصوصًا فيما يتعلق بالانتخابات التي تزوّر بأشكال مختلفة، لكنها كانت تشكّل أساسًا كان يمكن البناء عليه.

توقفت ثورة 14 يوليو في الأشهر الأولى من عمرها ولم تستطع أن تتقدم إلى الأمام بخصوص قضية الديمقراطية، فبعد أن أنجزت انسحاب العراق من حلف بغداد ومن الكتلة الإسترلينية وحررت الاقتصاد العراقي من تأثيراتها، وألغت المعاهدات والاتفاقيات مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وأقامت علاقات متوازنة مع العالم بما فيه الدول الاشتراكية السابقة وغير ذلك، أبقت على فترة الانتقال التي زادت على أربع سنوات ونصف السنوات، وقد تبخّر كل حديث عن الديمقراطية وإجراء انتخابات ودستور دائم، وبقي الدستور المؤقت الذي كتبه الشخصية الديمقراطية البارزة حسين جميل يحكم العراق من 14 يوليو 1958 حتى 8 فبراير 1936 عندما حصل الانقلاب البعثي الأول، ولعل الدستور المؤقت الأول كان أقرب إلى إعلان دستوري وليس دستورًا بما تعنيه الكلمة من معنى.

وبعد الانقلاب سنّ قانون المجلس الوطني وكان «مؤقتًا» أيضًا وبعد الانقلاب الذي حصل مجددًا في 18 نوفمبر 1963 سنّت حكومة عبدالسلام عارف دستورًا جديدًا مؤقتًا آخر عام 1946. وعندما حصل الانقلاب البعثي الثاني سنّ دستور جديد مؤقت أيضًا في سبتمبر عام 1968، وسنّت حكومة الانقلاب دستورًا مؤقتًا آخر عام 1970، واستمر هذا الدستور يحكم العراق 33 عامًا وهو دستور مؤقت إلى أن وقع العراق تحت الاحتلال عام 2003.

للأسف الشديد لم تكن علاقة النخب السياسية والفكرية العراقية إيجابية مع الفكر الديمقراطي ومع قضية الديمقراطية، ولا أستثني حزبًا أو جماعة أو تيارًا منها.

كانت القوى الرئيسية بقضّها وقضيضها بعيدة عن التوجه الديمقراطي، وهي أميل إلى الشمولية، وإن كانت هناك استثناءات محدودة جدًا، ودعني أتحدث عن الحزب الوطني الديمقراطي ودور كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد ونخبة من المثقفين اليساريين الديمقراطيين مثل عبدالفتاح إبراهيم، وامتدادات جماعة الأهالي وعدد من أساتذة الجامعات بمن فيهم إبراهيم كبة، ومحمد سلمان الحسن، ولكنها كانت نخبًا محدودة التأثير.

أما التيار الأساسي الذي سيطر على الشارع آنذاك، فقد كان الحزب الشيوعي، يقابله التيار القومي بقيادة حزب البعث والأحزاب الناصرية وكان الصراع ما بين التيارين قد دفع بالبلاد إلى جادة العنف المفتوح والمستمر، ومارست الحركة الشيوعية ونظام عبدالكريم قاسم عنفًا فكريًا وسياسيًا ضد الحركة القومية، كما نظمت محاكمات افتقرت إلى المعايير القانونية الدولية وشروط المحاكمة العادلة، وقد عرفت بـ«محاكمات المهداوي»، وكانت أحكامها اعتباطية، وأصدرت أحكامًا غليظة وكانت قاعة المحكمة عبارة عن منتدى للخطابات ومهرجانًا صاخبًا، الأمر الذي وفّر تربة لبذرة العنف مجددًا في العراق بعد أن كان نوري السعيد قد هيأ لها، لاسيما بإعدام الضباط الأربعة الذين شاركوا في حركة رشيد عالي الكيلاني وهم: يونس السبعاوي وفهمي سعيد ومحمود سليمان وكامل شبيب، وقد سبق هذه الموجة الدموية انقلاب بكر صدقي عام 1936 وهو أول انقلاب عسكري في العالم العربي.

أعتقد أن أحد الأسباب الأساسية لغياب الديمقراطية في العراق هو ضعف الثقافة الديمقراطية وشحّ الوعي الديمقراطي، لاسيما عدم الإقرار بالتعددية والتنوّع وقبول الآخر والاعتراف بحق الاختلاف والمنافسة الشريفة، الأمر الذي غلّب الاحتكام إلى القوة والسلاح أحيانًا لفرض الرأي.

ولعل السبب يعود أيضًا إلى أن الوسائل التربوية ومناهج الدراسة والتعليم كانت بعيدة عن التوجّه الديمقراطي، فضلاً عن الكوابح الاجتماعية البدوية والقبلية والعشائرية التي تشكّل عقبة أمام التوجه الديمقراطي، في ظل شحّ الحريات، لاسيما حرية التعبير وحجب الحق في تشكيل الجمعيات والنقابات وضعف أو انعدام المشاركة وغير ذلك.

  • المشكلة تتمثل في أن الديمقراطية عندما افتُقدت في تاريخ العراق الحديث لم يصب الضرر العراق وحده، بل أصاب الأمة العربية أيضًا، التي كانت تنظر إلى العراق على أنه سيكون «بروسياالعرب»، أو الدولة التي ستوحّد العرب. ولكن ذلك لم يحدث نتيجة الصراعات الحزبية والممارسات الخاطئة، وكل ذلك أساء إلى قضية العرب الرئيسية، وهي الوحدة.

- ثمة عوامل كثيرة ساهمت في غياب الديمقراطية عن العراق، منها ما يعود إلى الصراع الدولي الذي كان سائدًا في فترة الحرب الباردة. وقد أدّى ذلك إلى استقطابات شديدة، لاحظ مثلاً الدور الذي لعبه الجيش في قيادة التحوّلات والانقلابات، والسيطرة الاستعمارية الطويلة الأمد.

على أن الديمقراطية تظل بناء تراكميًا تدرجيًا سلميًا، إنها بحاجة إلى مؤسسات مثلما هي بحاجة إلى قوانين وآليات، وقبل كل شيء إلى توافر إرادة للإصلاح والتغيير. وهنا يمكن لفت النظر إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 81 لعام 2000 وعنوانه «حول تعزيز الديمقراطية وتوطيدها»، وقد ورد فيه أنه لا نموذج واحدًا للديمقراطية، ولو أن الديمقراطيات تتقاسمها خاصيات مشتركة، وأن هناك دورًا للمجتمع المدني يمكن أن يلعبه في هذا الإطار.

مدرسة الجواهري

  • قرأت كتابكم عن الجواهري وأعرف المودة العميقة التي كانت تربطكم به. وكل هذا واضح في الكتاب. ولكن هناك قراءات أخرى للجواهري منها التي تقسو عليه. مدح الجواهري نوري السعيد والملك فيصل الأول ثم هجاهما ومدح كثيرين من أهل اليمن قبل أن يتحول إلى اليسار ويمدح ستالين وبقية الرموز الشيوعية، لكنه طيلة عمره تحاشى، وعن عمد، أن يسير مع العروبيين العراقيين، فظل متحفظًا تجاههم، ماعدا فترة بسيطة مدح فيها البكر وتبادل فيها الودّ مع الفريق صالح مهدي عماش. فكيف تفسرون ذلك؟

- هذا الموضوع مثيرٌ حقًا، فالجواهري بحد ذاته مدرسة خاصة ومتميزة، ليس في الأدب والشعر وحسب، بل في السياسة والوطنية أيضًا، لاسيما حفاظه على استقلاليته. هذه المدرسة لا تُصنّف إلا بذاتها ولذاتها، إذ يستعصي على الباحث الذي يريد أن يختزله بوضعه أو تصنيفه مع هذا الفريق أو ذاك، مع اليسار أو مع اليمين.

ولكن يمكن القول إن الكثير من المشتركات تجمعه بالتيار العلماني بمعنى أنه أقرب إلى فصل الدين عن الدولة. وهو أقرب إلى دولة مدنية فيها مواطنة وحريات ومساواة. في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي كان اليسار أقرب إلى هذا الخط، وهو الذي روّج له في العراق، لاسيما عبر تيار جماعة الأهالي، التي تأسست في العام 1932، وكان أبرز قادتها عبدالفتاح إبراهيم الذي كتب كراس الشعبية العام 1933 وحسين جميل وعبدالقادر إسماعيل ومحمد حديد، ثم انضم إليها كامل الجادرجي ومحمد جعفر أبو التمن. وقد عاش الجواهري عنفوان اليسار لحظة صعوده وتألقه في الأربعينيات، وكتب قصائده الشهيرة في تمجيد الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، لاسيما سواستبول وستالينغراد وغيرهما.

  • ليست عروبة الجواهري محل مزايدة من بعض الشوفينيين، فقد أرّخ لفكرة العروبة شعرًا، ونظم آلاف الأبيات وعشرات القصائد التي كتبها، فعن مصر وحدها أكثر من 1500 بيت من الشعر، وهو أول مَن كتب عن فلسطين، وأكثر مَن كتب عن قضايا الوحدة العربية، حتى وإن اتهم بالشعوبية أو الانحياز اليساري، لكن عروبة الجواهري عروبة غير أيديولوجية.

- الجواهري كان عروبيًا غير أيديولوجي، وقد تحوّلت العروبة الأيديولوجية، خصوصًا مع السلطات الحاكمة إلى ديكتاتورية وإلى إلغاء الآخر، في حين أن العروبة رابطة تربط أبناء الأمة بلغتهم وتاريخهم وتراثهم ومستقبلهم، ومَن أكثر مِن الجواهري مَن ربط أبناء الأمة باللغة والتاريخ والتراث، ومن أكثر منه من استشرف المستقبل؟!

إن عروبة الجواهري عروبة منفتحة، غير سلطوية، الأمر الذي ننتمي إليه جميعًا إذا جاز لي التعبير، لأنه انتماء طبيعي ووجداني وعاطفي، سواء كان البعض أيديولوجيين أو غير أيديولوجيين، ولكن الأيديولوجيين وظّفوا هذا بالاتجاه الذي يخدم الصراع السياسي الذي كان دائرًا آنذاك.

تحطيم المرايا

توجد في العراق مشكلتان رئيسيتان في قضية العروبة، حاولت أن أعالجهما في كتابي «تحطيم المرايا/في الماركسية والاختلاف»، وقلت إن هناك ماركسيًا غير عروبي، بمعنى من المعاني هو ينظر إلى العروبة كأيديولوجيا وهو الوجه المقلوب للعروبة الأيديولوجية، وبالتالي يتخذ موقفًا منها في حين هي تمثل فضاء ورابطة لاعلاقة لها بالأيديولوجيا، وهو جزء منها، لكن القراءة الخاطئة لفكرة العروبة دفعت الأمور بهذا الاتجاه من الفريقين.

وبقدر شوفينية واستعلائية بعض الذين يحوّلون العروبة إلى قومية أو قوموية، يوجد ماركسيون استنكفوا عن فكرة العروبة. لعلي ألتقي باستمرار مع ماركسيين أو شيوعيين من أمم شتى، وكنت ألاحظ أن الماركسي التركي يعتز بتركيته ومثله الماركسي الفارسي يعتز بفارسيته والماركسي الروسي يعتز بروسيته، والماركسي الفرنسي يعتز بفرنسيته، والماركسي الكردي يعتز بكرديته، في حين أن الماركسي العربي هو أقل اعتزازًا بعروبته، وأحيانًا مستنكفًا عن عروبته لاعتقاده خطأً أن هذه العروبة شوفينية، ولعل المقصود بها «العروبة الأيديولوجية»، في حين أن العروبة انتماء، ورابطة حقوقية طوعية طبيعية متكوّنة، بغض النظر عن إرادة البشر أحيانًا.

وبسبب بعض هذه المواقف، هناك مَن ينظر إلى الماركسية باعتبارها فكرة وافدة، وتيارًا غربيًا اغترابيًا يتناقض مع فكرة العروبة، في حين يمكن للمرء أن يكون ماركسيًا، وأن يكون عروبيًا صميميًا، ولذلك كنت على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من الزمان دائمًا أُشعِر الآخر باعتزازي بعروبتي وانتمائي إلى هذه الأمة العظيمة وشعوري بأن ذلك لا يتعارض مع ماركسيتي أو علمانيتي التي دعوت وأدعو إليها، بل هي من صميمها، ولعلّي كنت الأكثر انتقادًا لما أسميته الماركسية البدوية أو الريفية تلك التي وصلتنا بطبعة معلّبة أو حاولنا قراءتها بما ينسجم من تكييف أو تشويه لقيمها المعيارية الجمالية، بإضفاء شيء من البهارات عليها، على نحو خاطئ ولا علاقة له بالماركسية.

وإذا أردت أن تحسب هذا الأمر على الجواهري، ففي محطتين رئيسيتين: المحطة الأولى كانت في بدايات شبابه وتفتح وعيه الأول خلال الحرب العالمية الأولى، وكنت أحاور الجواهري وسألته: كيف سمع بثورة أكتوبر الاشتراكية؟ فقال لي: لأول مرة كنت قد استعرت كتابًا من الشيخ عبدالحميد الدجيلي في النجف، وكان ذلك أواخر عام 1917 أو عام 1918، وعرفت لأول مرة أن هناك حكومة للعمال: قلت مع نفسي يا الله حكومة للعمال، كيف هذا، حكومة للفقراء وأنا منهم فقير، فتأثرت عاطفيًا ووجدانيًا لفكرة أن يكون للفقراء في يوم من الأيام حكومة، وأنا أعرف أن الحكومات للأغنياء دائمًا، ولعل هذا التأثير الوجداني العاطفي كان التأثر الأول.

أما التأثير الثاني، فقد كان انتصارات الجيش الأحمر، حيث كان يجري مقارنة بينه وبين سلوك البريطانيين والألمان، وكان يجد في الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ومبادئ المساواة الأقرب إليه من الأفكار والمفاهيم الأخرى، وكان انهيار الفاشية والنازية قد هزّه من الأعماق، وهو الذي تنبأ في قصيدته التي يأتي فيها على ذكر ستالين:

يا ستالين وما أعظمه في
التهجّي أحرفًا تأبى الهجاء
وعلى الجرفين عظمان التقى
رمز عهدين انخفاضًا وارتقاء

ويقصد بذلك صعود الاشتراكية وسقوط النازية، وما زاد من هذا التأثر محاولة الشيوعيين احتواء الجواهري، ودفعه للمزيد من الراديكالية وهو العصيّ، لكنه أحيط بأجواء مشجعة وداعمة، وذلك ما ساعد على إقامة جسر بينه وبينهم، لاسيما في مناكفة العهد الملكي له ومناكفته للعهد الملكي، ويمكن استذكار قصيدته «آي طرطرا» التي يسخر فيها من الاصطفافات التي تسبق الدولة وتتجاز عليها، لاسيما الشيعية - السنيّة.

أي طرطرا تطرطري
تقدّمي، تأخّري
تشيّعي تسنّني
تهوّدي تنصّري
تكرّدي تعرّبي
تهاتري بالعنصر
تعمّمي، تبرّنطي
تعقّلي، تسدّري

ولعل التغيير الكبير الذي حصل للجواهري هو بعد أن أراد أن يصبح نائبًا، وقد تحقق له ما أراد، لكنه استقال، بعد 04 يومًا حين حصلت وثبة يناير عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث، حيث قتل شقيقه جعفر، ولعل هذه الحادثة ألهبت حماسة الجواهري ودفعته بالاتجاه اليساري الراديكالي، لكنه لم ينتظم في هذا الإطار، وكان قبل ذلك على صلة وثيقة بعبدالفتاح إبراهيم، ودخل معه في حزب واحد أُسميَّ حزب الاتحاد الوطني، وكان عبدالفتاح إبراهيم معروفًا براديكاليته اليسارية وانفتاحه الديمقراطي أيضًا. وكان ميل الجواهري له أكثر من الآخرين، فانتمى إلى حزبه عام 1946، مثلما أسسا مع بعضهما بعضًا الحزب الجمهوري عام 1959 بعد ثورة 14 يوليو عام 1958، وأعتقد أن سنة 1948 كانت حدّا فاصلاً في حياة الجواهري، لاسيما قصيدته النارية:

أتعلم أم أنت لا تعلم
بأن جراح الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدّعي قولةً
وليس كآخر يسترحم

وفي هذه الفترة أقيم مؤتمر اتحاد الطلبة العراقي العام في 14 أبريل عام 1948، الذي كان بدعم من الشيوعيين، ودعوه إلى المؤتمر، والجواهري ينتهز هذه الفرص، فقال قصيدة نارية أيضًا في هذا المؤتمر، ورفع اسمه إلى الأعلى.

هناك رواية تقول إن بعض الشيوعيين أرادوا من الجواهري أن ينتظم معهم، أو أرادوا أن يؤطروه، فما كان من أمين عام الحزب الشيوعي فهد إلا أن قال: لا، لا تطلبوا من الجواهري أكثر مما يمكن أن يقدمه، هاتوا انتفاضة يغنّي لها الجواهري، لا تطلبوا من الجواهري أن يتخذ موقفًا لكي نسير خلفه، نحن علينا أن ننظّم شيئًا وسيكون الجواهري حاضرًا آنذاك، أو كما قيل «الشعب يثب والجواهري يغني أو يغرّد».

ولعل هذه الأجواء وانفتاح الجواهري وسفره بدعم من الشيوعيين إلى العالم، وحضوره مؤتمر المثقفين، ولقاءاته مع بيكاسو وآخرين، دفعته إلى الاقتراب أكثر فأكثر من التوجه اليساري، لكنه ظل يضع مسافة بينه وبين الحزب الشيوعي، وكان يرفض أن ينصاع أو ينضوي في إطارات داخلية تابعة للحزب الشيوعي. ومع أنه اقترب منهم في فترة الخمسينيات، إلا أنه ظل قلقًا، وحين حصلت ثورة 14 يوليو 1958 كان في مزرعته في علي الغربي، وحاول عبدالكريم قاسم استقطابه، ولكنه كأيّ قائد سياسي لا يرتضي أن يكون هناك مثقف بموازاته. وكان الجواهري يقود السلطتين الإعلامية والثقافية (رئيسًا لنقابة الصحفيين ورئيسًا لاتحاد الأدباء) في حين كان قاسم قائد السلطة السياسية والعسكرية، فحصل الاحتكاك المشهور الذي رويته في كتابي «الجواهري - جدل الشعر والحياة»، الأمر الذي أدى إلى تصدّع العلاقة، فاضطرّ معه الجواهري إلى مغادرة العراق بنصيحة من جمهورية ألمانيا الديمقراطية ليحلّ المشكلة، حيث التقاه ممثلها في بغداد وطلب منه مغادرة العراق، لأن هناك خطرًا على حياته، وغادر الجواهري إلى لبنان لحضور حفل تكريم للأخطل الصغير، وقال قصيدته المشهورة:

لبنان يا خمري وطيبي
هلاّ لممت حطام كوبي
هلاّ أعدت لي الهوى
نشوان يرفل في الذنوب

إلى أن يقول:

أبشارة وبأيّما
شكوى أهزّك يا حبيبي
شكوى القريب إلى القريب
أم الغريب إلى الغريب؟
هل صكَ سمعك أنني
من رافديّ بلا نصيب

غادر بعدها إلى جمهورية تشيكوسلوفاكيا، وكانت الطائرة تمر عبر صوفيا - براغ - برلين، وعندما وصل إلى جمهورية تشيكوسلوفاكيا جاءه مَن يستقبله من اتحاد الأدباء التشيك واعتبره ضيفًا على تشيكوسلوفاكيا، وقد بقي فيها «السبع العجاف» كما قال، وفي هذه الفترة حصل انقلاب 8 فبراير عام 1963، وقداستمر الانقلابيون في اتهامهم للجواهري بالشعوبية، ومنعوا دواوينه، وصادروا من المطبعة ديوانًا كان يطبعه بما فيه قصيدة:

حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين

اتخذ الجواهري موقفًا منهم وانخرط في لجنة الدفاع عن الشعب العراقي التي أسسها الحزب الشيوعي بالتعاون ما بين عدد من الشخصيات، بينهم د.نزيهة الدليمي، د.فيصل السامر، وعزيز الحاج وآخرون، ولكن سرعان ما اختلف مع الحزب الشيوعي لتدخلاته، في حين هو الذي كان يرأس هذه اللجنة، وكنت قد سألته وماذا كان هناك يا أبا فرات في الغربة: زمهرير المنفى أم فردوس الحرية؟ قال لي: الاثنان معًا أي والله. وبعد انقلاب 17 يوليو 1968 حصل نوع من تبادل الرسائل والزيارات بينه وبين قيادة الحكم الجديد، خصوصًا بينه وبين صالح مهدي عماش، وذهبت إليه وفود كثيرة، فعاد الجواهري معزّزًا مكرّمًا إلى العراق آنذاك، ومنح راتبًا مقطوعًا بمعايير تلك الأيام كان أكثر من راتب وزير (150 دينارًا عراقيًا)، وهذا شيء بسيط بالنسبة للجواهري، لكنه كان تكريمًا من الحكومة له واعترافًا بمنزلته ورغبة في تصحيح العلاقة معه، واستمرت هذه العلاقة إلى نهاية العام 1978 أو بداية العام 1979.

كتب الجواهري بعد عودته إلى العراق قصائد كثيرة، أول قصيدة كتبها كانت:

أرح ركابك من أين ومن عثر
كفاك جيلانِ محمولاً على خطرِ
كفاك موش دربٍ رُحتَ تقطعهُ
كأن مغبرّة ليلٌ بلا سَحر
ويا أخا الطير في وردٍ وفي صدر
في كلِّ يوم له عشُ على شجر
عريانَ يحملُ منقارًا وأجنحة
أخفَّ ما لمَّ من زادٍ أخو سفرِ

وكتب على القافية ذاتها صالح مهدي عماش وزير الداخلية، قصيدة يقول فيها:

أرح ركابك من أين ومن عثر
فمالك بعد اليوم من سفرِ

قال له الجواهري «يعني تمنعني من السفر؟»، وقد نشرت مطارحات بين الجواهري وعماش. وربطته علاقة ودية مع الرئيس أحمد حسن البكر. وكتب قصيدة عن ابن البكر «محمد» الذي قتل حينها، لكنه بعد افتراق عد التحالف الوطني في العراق وتوجّه الحكم لإقصاء الآخرين وملاحقتهم واعتقال نجله د.كفاح وكريمته د.خيال الجواهري، غادر العراق ولم يعد إليه.

  • كنت أعرف ابنه فرات الذي كان يعمل في جريدة الجمهورية...

- فرات كان أكبرهم وظل في العراق، لكن الجواهري بعد تصدّع علاقته، غادر العراق وكان قبلها بين براغ وبغداد، وبعد أن عرض عليه وزير الإعلام السوري أحمد إسكندر استضافته في دمشق بطلب من الرئيس السوري حافظ الأسد أصبح مقرّ إقامته، لاسيما الشتوية في دمشق، وظلت علاقته ببراغ مستمرة.

الجواهري وعبد الناصر

كان انتماء الجواهري للعراق صميميًا، وحتى عندما دعيّ إلى مؤتمر المعارضة عام 1991، في البريستول في بيروت، قال كلمة دافع فيها عن الوجود العراقي وضد العدوان على العراق وضد العمليات التي استهدفت تحطيم الكيان العراقي أو القضاء على العراق على الرغم من أن موقفه كان ضد النظام الديكتاتوري الاستبدادي آنذاك، وما وصلت إليه البلاد، وهذا الأمر يجعلني أقول إن الجواهري له علاقة متوازنة إلى حد ما مع الكتل والتيارات السياسية العراقية، ولكن يعتمد على حساسيته كشاعر لموقف هذه الكتل منه أيضًا، ولم يهاجمه أحد من الشيوعيين على سبيل المثال مع أنه يختلف معهم وينتقدهم، وظلّوا يحترمون خياراته حتى عندما مدح بعض الملوك، فكانوا يجدون له التبريرات، أما القوميون والبعثيون فقد هاجموه في مرّات غير قليلة، فاضطر للردّ عليهم.

ومن أهم قصائد الجواهري عن عبدالناصر:

أكَبرتُ يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء
لا يعصم المجدُ الرجالَ، وإنما
كان العظيمَ المجد والأخطاء
تحصى عليه العاثرات، وحسبه
ما كان من وثباته الإحصاء

كنت قد سألته لمن كنت تتمنى أن تكتب هذه القصيدة لو لم تكتبها عن عبدالناصر قال: كنت أتمنى أن يكتبها أحد عني، وهي من أجمل القصائد وأرقاها، وكان في منهجه واتجاهه عروبيًا، لكنه عروبي غير أيديولوجي، وكانت عداوته - بالطبع - مع ساطع الحصري، عداوة لا يمكن أن ينساها، ولا أظن أن قضية جرحت الجواهري أو آذته في الأعماق مثل هذه القضية، فهو الذي خدم اللغة العربية والأمة العربية بقصائده، وإذا به يصبح موضع شبهة أو تشهير، ولعل موقفه إلى جانب الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة كان سببًا آخر للتشكيك بعروبته أو محاولة النيل منها.

ومع الأسف الشديد، بعض المتشددين والمتعصّبين يضربون على الوتر الحسّاس بالنسبة للجواهري، وكأن هذه القضية هي التي تشكّل مشهد الجواهري، ويتناسون أو يهملون ما قدّمه في تاريخه الذي اقترب من مائة عام وهو أطول من تاريخ الدولة العراقية عندما تأسست إلى أن توفي في 27 يوليو 1997. أريد أن أقول إن عائلة الجواهري التي عاشت في العراق وكان أحد أعلامها الذي كتب كتابًا فقهيًا اعتمد للتدريس في الحوزة العلمية اسمه «جواهر الكلام»، وهو الذي ينتمي إليه الجواهري وهذه مسألة طريفة. وجدّه مدفون في العراق عام 1850 (في منطقة العمارة - القباب الزرق)، كما أن جامع الجواهري في النجف مضى عليه أكثر من 200 عام.

لاحظ أن رؤساء مثل الرئيس الأمريكي أوباما ينتمي إلى جيل قبل هذا الجيل إلى إفريقيا، ورئيس فرنسا ساركوزي من أصل هنغاري، إضافة إلى وزراء خارجية الولايات المتحدة ومستشاريها مثل مادلين أولبرايت (التشيكية الأصل) إلى كيسنجر (الألماني الأصل) إلى بريجنسكي (البولوني الأصل) مستشار الأمن القومي، كلهم ينتمون إلى أمم أخرى وجيل أسبق، بعضهم مولود في بلدان أخرى، ويصبحون رؤساء ووزراء، في حين أن عائلة الجواهري مضى عليها أجيال في العراق تعيّر أحيانًا أو يعاب عليها أو يتم الغمز بها، لأنها كانت كذا وكذا وكذا... ومع الأسف فإن هذا الأمر دليل انحطاط في الرؤية إزاء الإبداع أولاً وإزاء الانتماء ثانيًا، لاسيما الانتماءات الضيقة والاعتبارات الأيديولوجية، وإزاء فكرة الهوية ثالثًا، تلك التي لايزال البعض يتشبث بأسسها الشوفينية أو بالانتماء العرقي أو الإثني أو يذهب البعض الآخر للتمترس بالانتماء المذهبي أو الديني أو غير ذلك.

فقه التسامح في الإسلام

  • لكم كتاب جميل عن فقه التسامح في الإسلام وفي العالم، والعنوان والكتاب يسيران عكس السائر في مجتمعاتنا على الخصوص، فكأن ما تدعون إليه يؤلف حلمًا لا ينتمي إلى واقع.

- الحلم صفة ملازمة للإنسان، وفي كل فلسفة أحلام وإلاّ تحولت إلى يباب. ولعل الإنسان من دون الحلم لا مستقبل له. الحلم مرادف للإنسان وملازم له، وكل الأفكار الجميلة كانت في عالم الأحلام، حتى وإن كان الحلم أقرب إلى السراب أحيانًا، لكن علينا أن نستمر نحلم، لأن الحلم يمثل حصيلة منظومة قيمية. كان مكسيم غوركي يصف أحد كبار ثوريي عصره قائلا: إن نصف عقله يعيش في المستقبل. وكان آينشتاين يردد: «المُثل التي أنارت طريقي ومنحتني المرّة بعد المرة الشجاعة لمواجهة الحياة، هي الحب والجمال والحقيقة. الحلم وحده هو الذي يمنحنا إذن هذه القدرة العجيبة على الاستمرار على الرغم من المرارات والخيبات.

عندما أدعو إلى التسامح أدعو ضمنًا إلى التمسك بالحقوق وعدم التنازل عنها، وهنا لا بد من توضيح مهم، أن بعض الأفكار المسبقة أو الدارجة حول مبادئ التسامح قد تنصرف، إلى أنه يعني إمكانية التنازل عن الحق أو المساومة مع العدو، لاسيما فيما يتعلق بإطار الصراع العربي - الإسرائيلي.

إن فكرة التسامح لا تعني المساواة بين الجلاد والضحية، إنها تعني عكس ذلك، لاسيما لجهة التمسك بالحقوق، أي أن يتمسك الجميع بحقوقهم وقيمهم ذات الأبعاد الإنسانية المدنية الحضارية والثقافية، لأنها تمثل المشترك الإنساني بين بني البشر، ولهذا ينبغي ألا ينصرف الذهن مرة أخرى إلى أن مفهوم التسامح هو صناعة غربية مريبة أو مشبوهة، لاسيما فيما يتعلق بالتطبيع أو التنازل عن الحقوق أو المساومة مع العدو.

أستطيع أن أذكر على الأقٍل خمس محطات رئيسية بالتاريخ العربي والإسلامي في قضية التسامح، هي:

المحطة الأولى - حلف الفضول: الذي كان قبل الإسلام، عندما اجتمع فضلاء مكة في دار عبدالله بن جدعان واتفقوا على ألا يدعوا شخصًا من أهلها أو ممن دخلها، إلا نصروه على ظالمه وأعادوا الحق إليه، ولعل إعادة الحقوق بمعناها السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ستعين التعامل مع الإنسان بصفته إنسانًا، وهذه المسألة في غاية الأهمية، فعندما سئل الرسول «صلى الله عليه وسلم» عن حلف الفضول الذي أبقى عليه من بين جميع أحلاف الجاهلية قال: «لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت».

المحطة الثانية - دستور المدينة الذي سنّه الرسول «صلى الله عليه وسلم» وكان دستورًا تعدديًا، يقبل بالتنوّع، والإقرار بوجود الآخرين واحترام حقوقهم، أي قبولهم واحترام عاداتهم وشعائرهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية. أما المحطة الثالثة فهي صلح الحديبية الذي اعترف بالآخر حتى وإن كان مشركًا وأسس لنظرية جديدة في إطار العلاقات الدولية أيضًا.

وكانت المحطة الرابعة: العهدة العمرية التي منحت للبطريرك صفير نيوس عام 15هـ للمسيحيين، تحديدًا، لاسيما الحق في حفظ ممتلكاتهم وشعائرهم ودينهم وطقوسهم وعدم التجاوز عليهم، وعندما حان موعد الصلاة رفض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يصلي في كنيسة القيامة خوفًا ممن سيأتي بعده أن يعتبرها أرضًا للمسلمين، فصلّى بجوارها في مكان بني عليه جامع سمّي جامع الخليفة عمر بن الخطاب بناه أو وسعه الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز. ويمكنني أن أشير إلى المحطة الخامسة، وأعني بها «وثيقة القسطنطينية» وهي شاهد كبير على الاعتراف بحقوق الآخرين مسيحيين، أو غير مسيحيين لاسيما حياتهم وحقوقهم وطقوسهم وشعائرهم إلى آخره.

وفي التاريخ المعاصر أيضًا هناك أمثلة غير قليلة، لكن مع الأسف فإن نبرة اللاتسامح والعنف والتعصب والغلو والتشدد والتطرف والإقصاء سادت لاحقًا، حتى وصلنا إلى تبرير للإرهاب والعنف والقتل تحت باب «الجهاد» وهو ما روّج له تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن وهو أمر لا علاقة له بالجهاد، وعلى الأقل كما نفهمه، مثلما ورد في التعاليم الإسلامية وفي إطار الدين الإسلامي الحنيف.

الدعوة للتسامح بتأصيلها الفكري الديني والاجتماعي والسياسي هي دعوة للمستقبل أيضًا، هي دعوة لرفض العنف، والتبشير بضده لثقافة اللاعنف، ويمكن استخدام المقاومة باللاعنف أيضًا، والمقاومة باللاعنف هي مقاومة مدنية سلمية، ونعني الاعتراف بالآخر كما أشرت، والاعتراف بحقوق الآخر، وهذه مسألة مهمة ليس على صعيد أوضاع الحاضر، وإنما على صعيد أوضاع المستقبل، هي تبنى لبنة لبنة.