الشُّورى الإسْلاميَّة

مفاهيم إسلامية

هذه نظرات معاصرة على المفاهيم الأساسية في الإسلام يعرضها باحثنا الإسلامي الذي عرف بتجديده واستنارته من وجهة نظره كعالم مجدد.

الشورى: مصطلح إسلامي خالص وأصيل، وهو اسم - من "المشاورة" - التي تعني، في اصطلاح العربية: استخراج الرأي، فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود "التطوع" بالرأي، بل يزيد على "التطوع" إلى درجة "العمل" على استخراج الرأي استخراجا واستدعائه قصدا!!

وإذا قلنا: أشار فلان على فلان بالرأي، فإن معناه - في اصطلاح العربية -: أمره به!، وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأي فقط؟!..

والشورى، في الفكر السياسي الإسلامي، هي فلسفة نظام الحكم، والاجتماع، والأسرة، لأنها تعني إدارة أمر الاجتماع الإنساني، الخاص والعام، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي الذي هو سبيل الإنسان للمشاركة في تدبير شئون هذا الاجتماع.. فالشورى، أي الائتمار المشترك، هي السبيل إلى الإمارة، أي القيادة والنظام والسلطة والسلطان، إمارة الإنسان في الأسرة وفي المجتمع وفي الدولة، أي في تنظيم المجتمع وحكمه، صغيرا كان المجتمع أو كبيرا.

الخليفة عن سيد الكون

ولما كان التصور الفلسفي الإسلامي لوجود الإنسان في هذه الحياة، ولوظيفته ومكانته فيها، ولعلاقته بالآخرين، قائما على حقيقة أن هذا الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى، ومستخلف عنه في عمارة الكون، كانت مكانة الإنسان في العمران هي مكانة الخليفة عن الله، فهو ليس سيد الكون حتى تكون حريته مطلقة، دون حدود، وشوراه وائتماره وإمارته وسلطته دون ضوابط وأطر، وفي ذات الوقت، فإن خلافته عن الله سبحانه تعني وتقتضي أن تكون له سلطة وإرادة وحرية وشورى وإمارة تمكنه من النهوض بتكليف العمران لهذا الوجود، فهو، لهذا، ليس الكائن المجبر المسير المهمش بإطلاق.

إنه في المكانة الوسط، ليس سيد الكون، وليس العبد المجرد من الحرية والإرادة والاستقلال والمسئولية، وإنما هو الخليفة عن سيد الكون، وله في إطار عقد وعهد الاستخلاف السلطات التي تمكنه من النهوض بمهام هذا الاستخلاف.

وانطلاقا من هذه الفلسفة الإسلامية، في مكانة الإنسان في هذا الوجود، يتميز المذهب الإسلامي في "إطار الشورى"، فبنود عقد وعهد الاستخلاف الإلهي، التي هي قضاء الله الحتمي في كونه، وكذلك أحكامه التي جعلها إطارا حاكما لحرية الإنسان وسلطاته، هي "الوضع الإلهي"، الذي تظهر فيه عبودية المخلوق للخالق، وقضاء الله الذي لا شورى فيه ولا خيار ولا اختيار وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا

هنا، وفيما يتعلق بهذا الإطار الحاكم، نحن أمام "سيادة الله، وحاكميته"، المتمثلة في قضائه الحتمي، وشريعته الممثلة لبنود عقد وعهد الاستخلاف، على الخليفة أن يجعلها الإطار الحاكم لحريته وشوراه، والسلطته وإمارته، ولحركته أثناء قيامه بالوكالة والاستخلاف.

موضع الشورى البشرية

أما ما عدا ذلك من الشئون، التي هي مقدورة للقدرة الإنسانية، ولازمة لتنفيذ وتطبيق وتفصيل كليات عقد وعهد وأمانة الاستخلاف، فإنها موضع وموضوع للشورى البشرية، وموضع وموضوع لسلطان الإنسان وسلطاته، فهو حر، ومصدر للسلطة وللسلطان، اللذين يقيم دعائمهما بالشورى، في إطار الحلال والحرام. إنه الوكيل الحر، الذي يدبر شئون الوكالة بالشورى، شريطة ألا يتعدى إطار عقد التوكيل!..

هذا عن إطار الشورى في فكر الإسلام السياسي وفلسفته في الاجتماع الإنساني..

إن قضاء الله وأمره: سيادة، وحاكمية إلهية، أما قضاء الناس وأمرهم فهو شورى بينهم، يقيمون بها إمارتهم وسلطتهم في مختلف دوائر الاجتماع، من الأسرة إلى المؤسسة إلى المجتمع. إلى الدولة، إلى الاجتماع الإنساني ونظامه الدولي!.

ففي مجتمع الأسرة، يعتمد الإسلام الشورى فلسفة للتراضي المؤسسة عليه المودة والنظام والانتظام. والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير

إدارة شئون الناس

وفي شئون الدولة يوجب الإسلام أن تكون الشورى هي الفلسفة التي تدار وفقا لها أمور الناس فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.

فالعزم، أي اتخاذ القرار، هو ثمرة للشورى، أي اشتراك الناس في إنضاج الرأي الذي يتأسس عليه العزم - القرار - وهذا هو الذي جعل مفسري القرآن يقولون، في تفسيرهم لهذه الآية - بلسان واحد من أئمتهم - ابن عطية [481 - 542هـ 1088 - 1148م]، -: "إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا مما لا خلاف فيه.."

فهي من قواعد الشريعة، ومن عزائم الأحكام. أما أهلها، فهم كل من هو أهل لها، بحسب موضوعها، وما يتطلبه الموضوع من خبرات، ولذلك كانت كلمات ابن عطية تتحدث عن استشارة أهل "العلم" و "الدين"، وليس فقط، أهل "الدين"!..

وإذا كانت المشاورة هي استخراج الرأي، الذي يتأسس عليه العزم والقرار، فلقد جعل الإسلام "العصمة" للأمة، فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم: إن أمتي لا تجتمع على ضلالة - رواه ابن ماجة - وذلك لتطمئن القلوب إلى حكمة وصواب القرار إذا كان مؤسسا على شورى الأمة في أمورها، ومن هنا كانت الشورى صفة من صفات المؤمنين!. فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون

إحدى أخص صفات الرسول

بل إنها - الشورى - واحدة من أخص صفات رسول هذه الأمة، عليه الصلاة والسلام، وفيما يرويه أبوهريرة، عن صفات الرسول، يقول: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - رواه الترمذي -.

ولقد كان الصحابة، في دولة الإسلام الأولى، التي قادها النبي والرسول، صلى الله عليه وسلم، دائمي السؤال عن طبيعة القرار: "أهو الوحي؟" - فيكون من وضع الله وقضائه وأمره - "أم الرأي والمشورة؟" - فتكون فيه المراجعة والشورى، التي يتأسس عليها العزم والقرار؟. فكأنهم يسألون عن "طبيعة الاختصاص" في القرار، أهي "السيادة الإلهية"؟، أم "السلطة البشرية"؟. وعندما كان ينبئهم الرسول بأنه "الوحي"، كانوا يلتزمون التزام السمع والطاعة لله ولرسوله. أما إذا كان "الرأي والمشورة"، فإن الالتزام يكون بثمرات الشورى، ليس بالنسبة لهم فقط، بل وبالنسبة للرسول، صلى الله عليه وسلم، لأنه في هذه الأمور "مجتهد" لا "مبلغ".. وفي ضوء هذه الحقيقة الإسلامية نفهم معنى قوله، صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما - رواه الإمام أحمد - وقوله لو كنت مُؤَمِّراً أحدا دون مشورة المؤمنين لأمّرتُ ابن أم عبد- [عبد الله بن مسعود]- ! رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد -.

فجميع أمور الناس وسائر الدنيا، التي لم يقض فيها الله، سبحانه وتعالى، قضاء قطعي الدلالة والثبوت، هي شورى بين أهل الشورى.. وفي مقدمة هذه الأمور دولة الإسلام والمسلمين.. فالرسول المعصوم في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى هو في شئون الدولة حاكم "مجتهد"، وهو لا يولي واليا "دون مشورة المؤمنين"!.. وعمر بن الخطاب هو القائل: من بايع أميرا من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه! فالخلافة "شورى" وولاية الأمر في الإسلام جماعية، ولذلك تحدث القرآن عن [أولي الأمر] - بصيغة الجمع - ولم تذكر آياته "ولاية الأمر" بصيغة المفرد أبدا!.

تلك هي الشورى الإسلامية.

  • فلسفة الاجتماع الإسلامي، في الأسرة، والمجتمع، والدولة.
  • وإطارها وميدانها: كل ما لم يقض الله فيه قضاء حتم وإلزام للإنسان، مما ترك له كخليفة عن الله في عمران هذا الوجود.
  • والأمة فيها وبها هي مصدر السلطة والسلطان في سياسة الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران.
  • وهذه الأمة تختار ممثليها العارفين "بالواقع" و"بالشريعة" معا، وهم أهل الاختيار، الذين يختارون رأس الدولة الإسلامية، وكذلك أهل الحل والعقد - أي أهل الشوكة والرأي - الذين يحفظون اتساق "الوا قع" مع "الشريعة" بتطوير "القانون - فقه الفروع" ليواكب الواقع الجديد، وبتطويع "الواقع" كي لا يخرج عن الحلال والحرام - اللذين هما حاكمية الله -