د. كمال أبوديب ومحمد عبدالسلام العمري

  • الهيمنة الأمريكية تعيد صياغة العالم بالصورة التي تخدم مصالحها.
  • إننا مجموعة من الأقطار المتناثرة المفتتة التي لا تملك القدرة على الرفض!
  • لسنا بحاجة إلى سند من الماضي من أجل أن نرى مشروعية ما ينبغي أن نفعله.

يعتبر الدكتور كمال أبوديب العربي الأول الذي يشغل أستاذ كرسي الأدب العربي في جامعة لندن منذ أن تم إنشاء هذا الفرع، ولقد فاز بهذا المنصب على كل الأساتذة الذين تقدموا لشغله من كل جامعات العالم بمن فيهم من أساتذة إنجليز وأمريكيين. وبالإضافة إلى ذلك فهو مفكر وناقد وشاعر سوري الجنسية تشغله قضايا الوطن، وتشظي العروبة، قام بترجمة كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد الذي يعتبر أحد أهم الكتب التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وهو مهتم بالتراث اهتماما خاصا، تلك القضية التي تطرح نفسها الآن بإلحاح، مثلها مثل قضية الاستشراق. نال درجة الدكتوراة في الآداب من جامعة أكسفورد في إنجلترا، وعمل زميلا للأبحاث العليا في كلية سانت جونز في أكسفورد، وعمل في جامعة اليرموك بالأردن، وجامعة صنعاء باليمن وجامعة و محمد عبدالسلام العمري نيويورك، وله حضور دائم في المؤتمرات الأدبية والفكرية العربية والعالمية. له ديوان شعر "من مراثي أرميا" وله ديوان آخر لم يطبع بعد، يحمل أغرب وأطول اسم في دواوين العربية (اسم الديوان موجود داخل المواجهة). له عدة كتب في الدراسات "في البنية الإيقاعية للشعر العربي" و "جدلية الخفاء والتجلي" و"الرؤى المقنعة" و"جماليات التجاور". يقوم الآن بترجمة كتاب "الثقافة والإمبريالية" لإدوارد سعيد. وقد أجرى معه الحوار محمد عبدالسلام العمري وهو قصاص مصري صدرت له ثلاث مجموعات قصصية ورواية وكتاب في فن العمارة.

  • إن الحالة الراهنة للعالم العربي تدعو إلى الرثاء، وهو موضوع حديثنا في أغلبه، وأعرف أن هموم هذا الوطن هي همومك الشخصية، وعلى ذلك هل نستطيع أن نتساءل عن هذا الذي يحدث في عالمنا العربي الآن، إننا في دهشة وغير مصدقين، هل هناك تركيبة خاصة بالعقلية العربية تجعلها تتصرف هذه التصرفات اللا معقولة، احتلال دولة عربية، اقتتال بين دولتين، اقتتال في كل مكان، استسلام ومذلة، ومهانة، ثم رضا وقبول؟!

- السؤال في الحقيقة يثير شعور الإنسان بالكثير من الأسى، لكنه في الوقت نفسه يدفع إلى الكثير من التأمل، واسمح لي أن أبدأ من منتصف السؤال، هل هناك تركيبة خاصة بالعقلية العربية؟ أنا شخصيا أميل للابتعاد عن تحديدات جوهرانية. العقلية العربية مثلا لا أعتقد أن بمقدرونا أن نتحدث عن جوهر ثابت اسمه العقلية العربية، وإذا فعلنا ذلك فسنتعرض لبعض الأخطار الكامنة في التصورات الاستشراقية للآخر، للثقافة العربية بالذات وللمجتمع العربي، إضافة إلى ذلك يبدو لي هذا التغير المفاجئ الذي يحدث الآن، والذي عبرت عنه بحق بإحساس الدهشة، وعدم التصديق، يكاد يكون العالم بأكمله في السنوات الثلاث الأخيرة، وحين نتأمل صورة العالم كما تبدو الآن، نصاب بشبيه ذلك من الدهشة والاستغراب، فما كان يبدو لنا عالما استقطابيا تتصارع فيه الأقطاب، يبدو فجأة عالما من جهة مفتتا تماما إلى مجموعات ووحدات صغيرة أو كيانات صغيرة منفصلة، ومن جهة أخرى على السطح على الأقل خاضعا لهيمنة قطب أو قوة واحدة في العالم، مما يسمح بتسمية الزمن الذي نعيش فيه إلى حد ما بأنه الزمن الأمريكي. في هذا الإطار يبدو ما يحدث في الوطن العربي الآن مدهشا وغير مدهش في آن واحد، يبدو مدهشا لأن الأشياء تتحرك بسرعة فائقة فجأة، وتتطور وتأتي بوقائع جديدة ما كان يمكننا أن ندرك قابليتها للتحقق قبل سنوات قليلة، لكن من جهة أخرى يبدو ما يحدث غير مفاجئ ومتوقعا، لأنه يجسد هذه الهيمنة الأمريكية شبه التامة الآن على قطاعات واسعة مما يحدث في العالم، ومن الواضح أن الهيمنة الأمريكية تعيد صياغة العالم بالصورة التي تخدم مصالحها، ومن الواضح أيضا أننا مجموعة من الأقطار المتناثرة المفتتة التي لا تملك القدرة على الرفض، ولا تملك الرغبة في الرفض، مع استثناءات محدودة جدا وضئيلة، تسود الآن رغبة في السلام والسعي من أجل السلام، لكنني شخصيا لا أرى أن هذه اللغة السياسية الطارئة الآن، هي بالفعل اللغة الواصفة السليمة للتعبير عما يحدث.

نحن والهوية الغربية

  • كيف اكتسبت الثقافة الغربية المزيد من القوة والهوية بوضع نفسها موضع تضاد مع الشرق باعتباره ذاتا بديلة؟

- من الصعب أن نناقش هذا السؤال الدقيق بما يستحقه من التفصيل، ولقد ناقشه إدوارد سعيد بشكل مفصل في عدد من دراساته، وبينها الاستشراق، لكن في خطوط عامة يمكن أن نرى موضع الغرب لنفسه بازاء الشرق باعتبارها عملية زادت من تماسك الهوية الغربية وأنا أضع الهوية الغربية بين قوسين لأنها لاصقة عامة تحوي داخلها درجة عالية من اللا تجانس، بمعنى أن الغرب لا يملك هذه الدرجة الكلية من التجانس التي تفترضها الكلمة، لكن مع ذلك، مع التحفظ يصل المرء إلى أن يقول إن هذه الموضعة للذات مع ما تصورته الذات نقيضا وبديلا أسهمت إلى حد بعيد في خلق نمط من التماسك الداخلي والصلابة الداخلية، على مستوى الهوية، والإحساس بالأنا، وتبدو هذه العملية تاريخيا عملية متكررة، بمعنى أنها ليست سمة للغرب بشكل خاص، ليست سمة تقتصر عليه فقط، لكنها تبدو سمة متكررة في الثقافات والمجتمعات، وقد يكون قانونا من قوانين تشكل الذات واكتسابها الإحساس بالتماسك والصفاء والنقاء أن تموضع نفسها بإزاء ذات أخرى تتصورها خطرا أو بديلا أو نقيضا أو تتصورها أحيانا دونية، لكنها بشكل أو بآخر تمثل آخر، بمعنى أن عملية تحديد للأنا لا يمكن أن تتم إلا في شرط من التصور الضدي للعلاقة بين الأنا والأشياء والآخر.

  • هل معنى هذا أنه توجد حدود معوقة فرضها الاستشراق على الفكر والعقل؟

- طبعا هناك حدود معوقة جدا، قد يكون أهم هذه الحدود المعوقة هو قدرة الغرب نفسه على رؤية عالمنا رؤية متزنة، أو رؤية تنبع من المكونات الملموسة الحقيقية للعالم الذي نعيش فيه. وبهذا المعنى فإن خطر الاستشراق على الغرب أشد بكثير من الخطر علينا، أنا أقول هذا الكلام وأنا أعرف أن الأطروحة المقبولة هي العكس تماما، وهي أن الاستشراق والرؤية الاستشراقية مصدر خطر بالنسبة لنا نحن، لكنني شخصيا أراها مصدر خطر بالنسبة للذات المعاينة لأنها تحجب العالم الذي تسعى إلى معرفته وتغلفه بسرابيل من المعطيات التي يفتقر إليها الواقع، تلك التي لا توجد في الواقع الفعلي، فتكون رؤية مضطربة، ومصدرا لكثير من الأخطار الناشئة من انعدام القدرة على التعامل مع الواقع الذي تعانيه تعاملا يتكافأ أو ينبع من معطيات هذا الواقع.

لذلك ترى مثلا أن سلوك الغرب ضمن التحفظ الذي أشرنا إليه سابقا من الدول الغربية بما فيه الولايات المتحدة، الآن بإزائنا هو دائما سلوك مرضي، في اللحظات التي تتم فيها مواجهة حقيقية إلى حد ما، وليس سلوكا عاديا نابعا من طبيعة المعطيات القائمة.

في كل مرحلة وصل فيها التعامل بين الغرب وبيننا إلى درجة من الصرامة، كان سلوك الغرب غير متكافئ على الإطلاق، مع ما يتطلبه الواقع من أجل معالجته وقد لا يكون من الحكمة أن تسمى الآن لحظات معينة، لكن مثلا آخر الأحداث التي حدثت تشعر بذلك، فردة فعل الغرب لم تكن على الإطلاق نابعة من إدراك صلب حقيقي للواقع، بقدر ما كانت نتيجة لعملية تاريخية من الاستيهامات والتصورات التي غزتها الرؤية الاستشراقية لمفاهيم قد يكون لها بذور في الثقافة العربية، لكنها ضخمت بهذا الشكل المرضي فاكتسبت الصورة التي اكتسبها من قبل مفهوم البطل المنقذ، والمهدي المنتظر والقائد العظيم.

كل هذه الأمور لا شك أنها ذات بذور في الواقع الذي نعيشه، لكن فكرة الخطر المدمر الذي سيكتسح العالم، وأنا شخصيا عشت هذا الجو في نيويورك أثناء الأزمة، كانت تبدو فكرة خارقة للعادة، أن دولة عربية صغيرة ستستطيع أن تهدد أمن نيويورك والولايات المتحدة الأمريكية.

  • في هذا الوقت نحن في أمس الحاجة إلى الدفاع عن النفس، ولن يأتي هذا إلا في صورة جماعية تعبر عن الوطن العربي كله، في الوقت الذي يتفتت فيه العالم إلى دويلات ومنه بالطبع الوطن العربي - كما ذكرت - ولقد كانت هناك تجربتان تستحقان الوقوف أمامهما مثل تجربة محمد علي وتجربة عبدالناصر، وكان مآل كلتا التجربتين الفشل، إما بضربها من الداخل والإجهاز عليها بعد ذلك، أو بالتدخل المباشر. كان دائما الغرب مباشرة أو بأدواته، إلى أي مدى صحة هذه الملاحظة التي يتحدث عنها الجميع؟

- اسمح لي بأن أعبر عن شيء من الاختلاف مع الفكرة المطروحة، أنا شخصيا لا أعتقد أن مشروع محمد علي أو مشروع عبدالناصر أصيبا بالفشل فعلا، وأنا أعرف أنني أختلف مع كثير من المفكرين في مثل هذا التقويم.

تجربة تاريخية أو مشروع تاريخي كبير كهذا يصعب أن يحكم عليه بصيغة واحدة لأنه من التعقيد بحيث لا نستطيع أن نرى جوانبه الكثيرة.

أنا أعتقد أن كلتا التجربتين أصابت قدرا كبيرا من النجاح في مجالات معينة وأصابت قدرا من الإحباط والإخفاق في مجالات أخرى، لكن بصورة عامة يصعب جدا أن نحكم عليهما بالفشل، كل منهما أسهمت في تغيير المناخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في عصرها، لكن يمكن أن نقول إن كل الرؤى استنفدت طاقاتها التحويلية والتغيرية في زمن معين.

حين ننظر إلى الوطن العربي في الأربعينيات وننظر إليه في الستينيات لا بد أن نتردد قليلا في القول إن العالم لم يتغير، لا شك أن العالم قد تغير.

  • نحن نعلم أنك دارس للتراث، وقارئ له ومهتم به، نريد أن نخوض في هذه المنطقة الحرجة، وأعرف رأيك في ما يدور حولنا، وبنا، فأنت تعلم أن البعض من مفكري الوطن العربي ومثقفيه وأدبائه وشعرائه، وفي ظاهرة غير مسبوقة قد بدأوا البحث في التراث كل في تخصصه، وكل في اتجاهه، ورؤيته ولصالح أهدافه، خاصة بعد أن استغل التراث من قبل الأصوليين والسلفيين، ونحن الآن في بداية القرن الواحد والعشرين، ولقد ازدادت مشاكلنا وتشعبت لأسباب كثيرة، كان أحدها قراءة التراث بشكل مغرض، واستغلاله لأهداف تحريضية ضد المجتمع بكامله، وأن هذه المشاكل التي تلاحقنا لا يمكن حلها أو التعبير عنها بنص تراثي - كيفية التعبير والتنبيه والمحافظة في نفس الوقت على هويتنا وجذورنا - ألا يمكن تنقية هذا التراث؟

- سؤال معقد ويتناول جوانب عديدة قد لا أستطيع الحديث فيها جميعا، ولكن أود أن أتناول بعض هذه الجوانب، أول ما أود التعليق عليه هو هذه الحالة التي يمكن أن نسميها حالة الدخول فيما أسميته بصدمة التراث، كان أدونيس يتحدث عن صدمة الحداثة، لكنني شخصيا أيضا أتحدث عن صدمة التراث بمعنى أن العديد من المفكرين يبدون وكأنهم اكتشفوا فجأة أن لدينا تراثا، وبدأوا ينظرون في جوانب منه وكأنه فعلا اكتشاف جديد، بهذا المعنى تبدو لي الآن ردة فعل حادة جدا، وقد أسميتها سابقا حالة مرضية، بمعنى أن وعي الثقافة بالتراث إلى هذه الدرجة الحادة حالة مرضية، وليست حالة طبيعية، في الثقافة المتفتحة الحية المليئة بالحركة وقلق المعرفة، لا تطغى هذه الدرجة من الوعي بالتراث والاهتمام بمشكلاته، التراث قائم في حياتنا، فينا، بمعنى تتابع الماضي العرقي والثقافي، والسياسي والاجتماعي، والاقتصادي، في وضع متزن للمجتمعات يكون جزءا طبيعيا، مكونا طبيعيا من مكونات وجود المجتمع، ووجود الإنسان، أما حين يتجاوز الأمر ذلك ليصبح هما شاغلا، وينتج عملية بحث تبدو فيها عناصر كثيرة من محاولة إعادة إنتاج الماضي، فإن ذلك يبدو لي حالة مرضية تماما، والخطورة في مثل هذه الحالة المرضية آن التراث يصبح ألعوبة، بمعنى أن كل ذي مرض يريد أن يبحث عن شفاء له فيما يسميه التراث، المشكلة الأساسية هي أن التراث ليس متجانسا فنحن لا نملك تراثا "وكأننا نملك مثلا جهاز تلفزيون"، التراث ليس جهازا جاهزا، وليس آلة، وليس قطعة أثاث نضعها في بيوتنا، لأن التراث تاريخ مليء بالإشكاليات والمشكلات، والتناقضات أيضا، فالماضي كالحاضر لا يملك هذه الدرجة من الدرجات التي ننسبه إليها أو نتوهمه بها، انظر إلى تاريخنا الثقافي العربي، ستجد مثلا في الشعر أطرافا متناقضة متعددة، تناقض أبي نواس وأبي الهندي مثلا مع المتنبي، أو تناقض شعراء الجسد العربي بكل ما في الجسد الذي نقتنع به وما في التجربة الجنسية من أبعاد مثل أبي الحجاج وغيره، وستجد أيضا شعراء الأخلاق الرصينة والمظاهر والحكم، ستجد شعراء التصوف، وستجد شعراء الإلحاد، ستجد حسان بن ثابت وستجد أبا نواس، بهذا المعنى يبدو من السذاجة أن نتصور أن لدينا تراثا بهذه الصيغة.

انظر إلى الفكر الديني في تناقضاته الهائلة التي وصلت حتى التشذر الكامل والتشظي وإراقة الدماء مما يسمى أزهى عصور الفكر حين ساد فكر المعتزلة، تجد أن الصراعات كانت قائمة وأن العنف والقمع يمارس من طرف على آخر، في وضع من امتلاك السلطان ليمارس من جديد على آخرين في وضع آخر.

بهذا المعنى ينبغي أن ندرك فعلا أن التراث عالم معقد، والماضي معقد تعقيد الحاضر، بل أحيانا إلى درجة أكبر، هذا الانعدام التجانسي خصيصة أساسية من خصائص التراث.

هناك ما يمكن أن نسميه الثقافة الرسمية وهناك الثقافة المضادة، وهناك النصوص الرسمية التي أنتجت حول البلاطات مثلا، وهناك نصوص الثقافة المضادة التي مثلها فن السيرك الذي ينتجه الخيال الشعبي من ألف ليلة وليلة إلى الحكايات العجيبة إلى عشرات الأشياء الأخرى، هناك في كل مجالات الفكر وفي كل مجالات الثقافة - دع عنك مجالات السياسة - التناقضات والصراعات السياسية التي دارت في التاريخ العربي مثله مثل غيره من التواريخ، مكونات حقيقية وأساسية في هذا الماضي، ومن هنا وهم التراث التراث وهم كبير، والذين نشأوا في مدارس واتجاهات فكرية معينة ذات مصادر غربية الآن، ثم اكتشفوا فجأة أن لديهم تراثا فأصابهم بما أسموه صدمة التراث، أما الذين عملوا من داخل هذا الماضي، ومن داخل هذا الفكر ومن داخل هذا التراث سنوات حياتهم كلها، فإنهم على الأقل ليسوا مصابين بصدمة اكتشاف أن لهم ماضيا، أنا أعرف أن لنا ماضيا ثقافيا مليئا بما هو بديع وجميل، ومليئا بما هو ساقط ولا يستحق الحديث عنه أيضا، لأنني نشأت ضمن هذا العالم، وعملت فيه وكتبت عنه وعرفت لغته وقرأت عنه، لكني فعلت ذلك كله من خلال وعي أيضا بالعالم المعاصر ومشكلاته وقضاياه وأطروحاته الفكرية، ولذلك فإن عملي كدارس داخل الإطار الثقافي العربي يتم في اللحظة نفسها التي يتعامل فيها مع الإنتاج الثقافي العالمي ولا أشعر أن التراث مصدر خطر أو أنه مصدر إنقاذ، التراث ليس هذا ولا ذاك.

  • إننا نتحدث عن مفهوم وجود الثقافة، أنه مفهوم مقيد. هل هو مفهوم مقيد، أم أنه ينتهي دائما إلى أن ينشبك إما في تهنئة الذات "حين يناقش المرء ثقافته" أو في العدائية والعدوان "عندما يناقش الآخر"؟

- هناك ميل إلى اعتبار مفهوم الهوية في ذاته مفهوما خطرا ويؤدي إلى نمط من الشعور بالضدية والعدائية تجاه الآخر، وهناك مفكرون كثر يميلون إلى الإلحاح على إلغاء مفهوم الهوية من التعامل النقدي مع الأشياء، ومفهوم الثقافة يطرد مفهوم الهوية، بمعنى وجود ثقافة تشكل وحدة مختلفة عن الثقافات الأخرى مرتبط بمفهوم الهوية وبين المفكرين الذين يميلون إلى ذلك إدوارد سعيد، ويدور بيننا نقاش طويل حول هذه الأمور تقريبا كلما التقينا، فمحاولة تجاوز الهوية والثقافة الوطنية مرتبطة بالتيارات الفكرية التي بزغت خلال السنوات العشرين الأخيرة بشكل خاص، فهناك ميل إلى الحديث عن عالم واحد، عن عالم تتداخل فيه الثقافات والهويات أو يضمحل بعضها أو ينبغي أن يضمحل بعضها، كي تزول هذه الدرجة من الرؤية الإقليمية الضيقة. أود أن تعتبرني شخصيا لست شديد التعاطف مع مثل هذا الفكر، لأننا نعيش في عالم مهما بلغت رغبتنا المثالية فيه، فإنه عالم من التناحر والصدام والعدوان والصراع على موارد أساسية في الحياة الإنسانية، نعيش في عالم نحن بالذات في الوطن العربي رغم الاتفاقيات الأخيرة التي حدثت في عالم مهدد فعلا، مهدد ثقافيا باجتياح حقيقي وطغيان أشكال من أنماط إنتاج ثقافي غربي عليه، نعيش في عالم مهدد بالخضوع السياسي للهيمنة التي أشرت إليها سابقا، ونعيش في عالم لم نصل فيه إلى تحقيق إنجازات، إلى بلورة واضحة للهوية بشكل نستطيع أن نرى فيه ترفا، بهذا القدر يبدو لي أن ما يتضمنه مفهوم الهوية والثقافة الوطنية على خطورته، وما يتضمنه من أخطار يشير إليها من أمثال مفكرين ممن ذكرتهم مقبول بالمثل لي، لأن البديل له وهو إلغاء مفهوم الثقافة الوطنية ومفهوم الهوية، والانحلال في عالم نحن لسنا فيه طرفا قادرا على الحضور حضورا متكافئا مع الآخرين، خطر هذا المفهوم أقل من الأخطار القائمة في مثل هذه الحالة في الثقافة الوطنية.

تطويع اللغة العربية

  • إننا نتواصل في استحضار همومنا، لقد كان كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد في مستوى القدرة المدهشة على استخدام أكثر مستويات التحليل صعوبة وأكثر التصورات غموضا، في مناقشة ما يبدو موضوعا عاديا، ثم القدرة المماثلة على الوصول إلى رصد دقيق لأبعاد الظاهرة العاينة يضيئها إضاءة فذة، ولقد كانت الترجمة التي قمت بها أيضا من الصعوبة في فهم بعض التعبيرات والمصطلحات، ولقد استعنت أنا شخصيا ببعض القواميس لفك محتوى مفردات عربية، ولفت نظري وضعكم لكشاف مصطلحي بدت فيه صيغ عربية ليس لها استخدام في الواقع اللغوي الآن، لقد كانت الصعوبة متعددة تكمن في الاستشراق بقدر ما تكمن في وضع اللغة العربية الآن، من حيث هي لغة تعبير عن مشكلات الفكر المعاصر والحضارة المعاصرة، ترى ألا توجد صيغة مناسبة؟

- ما تم في "الاستشراق" كان ترجمة صعبة جدا، لكنها كانت تمثل تحديا كبيرا، وتمثل هذا التحدي في أنني كنت أتعامل مع نص ونتاج لحضارة منتجة الآن، هي الحضارة التي تنتج المعطيات الثقافية والصناعية والتقنوية السائدة في العالم، من واقع لغوي نسبيا فقير، لأنني لا أؤمن شخصيا بأن اللغة العربية في ذاتها قاصرة كما يشيع الكثيرون، فقد وجدت من الضروري أن أبذل أقصى ما أستطيعه من جهد لكي أطوع ما أستطيع تطويعه من هذه اللغة التي أفكر بها، وأكتب بها، والتي تمثل نتاج الفكر الإنساني المهيمن في زمن سابق، ولكي أسعى إلى إنتاج نص يكافئ في طاقاته اللغوية ومبدياته التعبيرية النص الأصلي، ويبدو لي من ردود الفعل الكثيرة أن التجربة قد نجحت فعلا وأن التجربة درست وقرئت، ودرست في الجامعات، وكتب عنها، وأخذ بجوانب كثيرة مما حاولت. وإذا كان في ذلك من دلالة على شيء بما فيه دلالة على ضرورة المجازفة والمغامرة في التعامل مع اللغة، حين تضمر الطاقات الإنتاجية للثقافة والحضارة، فإن اللغة تبدأ بالمرور بحالة من الضمور هي نفسها، وحين تكون عوامل الحيوية والإنتاجية عالية في الثقافة، فإن اللغة هي أيضا تكتسب هذه الطاقات والعكس صحيح بمعنى أن اللغة التي تمتلك زخما داخليا وثراء وحيوية تسهم جوهريا في خلق المناخ الثقافي والحضاري الذي يتسم بهذه السمات، هذه العلاقة الجدلية بين اللغة وبين الحضارة بشكل عام أحد المنطلقات الأساسية لعملي.

الواقع الفعلي هو أن الإنتاج الثقافي - والحضاري بشكل عام - العالمي بلغ من التعقيد والضخامة والسرعة، بحيث إن مقدرة الكاتب العربي الآن على إنتاج هذه المعرفة التي تتشكل في العالم، ويضاف إليها يوميا بالعربية، مقدرة تقف في وجهها عوائق حقيقية، وكلما تمسكنا بمفاهيم أصولية عن اللغة ازدادت درجة هذه العوائق، ولذلك فقد رأيت ضرورة المجازفة والمعاناة الحقيقية والابتكار، وقلت ذلك في مقدمة الكتاب لأننا إذا لم نبتكر كما ابتكر غيرنا لمعالجة ميزان الأمور، وكما ابتكرنا نحن بأنفسنا في الماضي وكما فعل كثيرون كابن سينا وغيره من الفلاسفة، فعلوا ذلك في الممارسة اليومية، والعلماء العرب فعلوا ذلك، لكننا لسنا بحاجة إلى سند من الماضي من أجل أن نرى مشروعية ما ينبغي أن نفعله، ينبغي أن نجازف ونغامر وألا نخشى ممن يميل البعض إلى تسميتهم شيوخ اللغة ومجاميعها، كلما ازدادت خشيتنا من الأصوليين في كل شيء من الدين إلى اللغة، ازددنا عجزا عن مواجهة العالم الذي نعيش فيه، وكلما ازدادت جرأتنا على التعامل مع هذا العالم.

نجيب محفوظ والإبداع

  • قال نجيب محفوظ لسامي خشبة في مواجهة بالعربي: لست متعصبا لا للتحديث ولا للأصالة، لكن للأكثر صدقا.

- أنا شخصيا مليء بالتقدير لنجيب محفوظ وآرائه في الإبداع وأمور كهذه، لكن أرجو أن تسمح لي باعتراض بسيط على وضع التحديث والأصالة موضع الثنائية الضدية، أنا لا أرى تضاربا بين التحديث، والأصالة، إلا إذا كان المرء يحدد الأصالة بتحديد معين يربط بينه وبين اللا تحديث، فتجربة التحديث لا يمكن أن تكون تجربة غنية حقيقية، إلا إذا كانت تتم في سياق من الأصالة بالمعنى الثقافي والحضاري للمجتمع، والأصالة الإنتاجية الإبداعية، يصعب أن نتصور مجتمعا يقوم بعمل التحديث في فراغ، اليابان أحد الأمثلة المعاصرة، ونحن لا نعرف إلا القليل القليل عنها، ولكن من معرفة عامة يبدو أن المجتمع الياباني من بين أكثر المجتمعات امتلاكا لهذا الوعي التاريخي لوجوده، أما الجزء الآخر من السؤال "الأكثر صدقا" فيبدو لي أنه قابل للتساؤل، لا أعرف بالضبط معنى الصدق في العمل الأدبي، أنا فعلا لا أعرف معنى الصدق في العمل الأدبي، ولا أميز عملا أدبيا على عمل أدبي آخر بأنه أكثر صدقا، لا أستخدم لغة كهذه في نقدي فأنا واثق أن الأستاذ نجيب محفوظ يستخدمها بطريقة محددة بالنسبة له، ويراها كذلك، وأنا أقدر ذلك وأحترمه ولكن هذا ليس مما يدخل في تصوراتي الشخصية للأدب والفن والإبداع. وحين أقرأ نصا لا أعرف كيف أتساءل عن صدقه، لا أعرف كيف أقول إن هذا صادق، وهذا غير صادق، فأنا أنظر إلى العمل من حيث هو عالم معقد، بنية قد تكون منبنية، وقد لا تكون منبنية، وأبحث عن أشياء أخرى فيه.