هل للتقدم معني؟ يحيى الجمل
ما الذي نعنيه عندما نتحدث عن التقدم ونقول هذه أمة متقدمة وتلك أمة متخلفة؟ في تقديري أن الأمور اختلطت اختلاطاً شديداً وأن ما كان يطلق عليه "التقدم" في أوائل هذا القرن لم يعد هو نفسه ونحن نقترب من نهاية القرن. هل معيار التقدم هو معيار اقتصادي؟. أم معيار سياسي أم اجتماعي أم غير ذلك كله؟. وهل ينسب التقدم إلى الأفراد أم ينسب إلى المجتمعات؟.
كلها تساؤلات لا يستطيع أحد أن يدعي أن لديه الإجابات النهائية عنها، ومع ذلك فإن هـذا لم يمنع المفكرين في شتى أنحاء العالم من أن يجتهدوا اجتهاداتهم التي يقترب بعضها من البعض ويبتعد بعضها عن البعض ابتعاداً شديداً.
بين التقدم والقوة
في البدء كانت الأمور واضحة وكان يمكن أن يقال إن هذه الدولة الأوربية أو تلك هي أكثر بلاد العالم تقدماً. وكان ظاهر الأمور يؤيد ذلك. ولكن لا أحد يسطع أن يطلق مثل هذا القول الآن.
لا أحد يستطيع أن يقول - مثلاً - إن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر بلاد العالم تقدماً. ليس هناك من مفكر له وزن يستطيع أن يجازف بمثل هذا الحكم. قد يقول إن الولايات المتحدة هي القوة الأولى في العالم، وقد يقبل كثيرون منه ذلك وقد يختلف معه البعض حول معيار القوة ولكن الذي لا شك فيه أن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر بلاد العالم تقدما وتحضراً سيثير عاصفة صاخبة من الجدل والاختلاف بين المفكرين الأمريكيين أنفسهم وغير الأمريكيين.
لماذا؟ لأن معيار التقدم لم يعد بالوضوح القديم ولأن المعايير تداخلت ولم يعد المعيار الواحد البسيط كافيا للحكم على الأمور كما كان الأمر في الماضي القريب.
من أكثر المعايير التقليدية انضباطاً لقياس التقدم المعيار الاقتصادي. وهذا المعيار بدوره - حتى في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة - كان معياراً مركباً. وكان معياراً يأخذ متوسط دخل الفرد ومتوسط استعمال الكهرباء - بعد أن كان يكتفى بمعيار متوسط الدخل - لقياس مدى التقدم وللقول بأن هذه دولة متقدمة دان تلك دولة متخلفة.
ومع ذلك فإن هذا المعيار فقد انضباطه وأهميته فبعض الدول وصل فيها مستوى دخل الفرد إلى حدود بالغة الارتفاع - قاربت العشرين ألف دولار في العام - ووصل متوسط استهلاك الكهرباء فيها بالنسبة للفرد إلى مستويات غير مسبوقة في أغلب بلاد العالم ومع ذلك فإن هذين العاملين غير كافين لدى كل المفكرين المحدثين للحديث عن التقدم والتخلف. على حين أنه منذ بداية القرن وحتى منتصفه كان هذان العاملان بل أحدهما كافيا للدلالة على مدى التقدم. وعلى العكس من ذلك يمكن أن يقال الآن إن بعض البلاد التي وصل فيها متوسط دخل الفرد إلى هذا المدى وبلغ فيها متوسط استهلاك الفرد من الكهرباء حدوداً بالغة الارتفاع يمكن القول إن بعض هذه البلاد رغم ذلك تعيش في بحار من التخلف. وبعض البلاد في وطننا العربي شاهد صدق على ذلك.
لم يعد المعيار الاقتصادي إذن هو المعيار السهل المنضبط الذي ترد إليه الأمور ويأمن صاحبه الزلل. وإن كان ذلك بطبيعة الحال لا يستبعد المعيار الاقتصادي من كل قياس. إن التقدم لا يمكن أن يتعايش مع الفقر. وهكذا يمكن أن نقول الآن إن المعيار الاقتصادي - الذي يضم العوامل التي أشرنا إليها - هو أمر ضروري ولكنه ليس كافيا. لا يتحقق التقدم بدونه ولكنه وحده لا يحقق التقدم.
التقدم وحقوق الإنسان
وفي سبعينيات هذا القرن وما بعدها اتجه معيار التقدم اتجاها آخر. اتجاهاً إنسانياً. إذا كان الإنسان هو ما تسعى الأنظمة إلى رفاهيته وسعادته، فإن حقوق الإنسان الأساسية تكون هي الأولى بالانتباه والتركيز فحيثما تحققت وازدهرت حقوق الإنسان وأصبحت جزءاً من النسيج الاجتماعي بعبارة أخرى جزءاً من الحياة نفسها أو محور الحياة نفسها أمكن القول بتحقق التقدم. فأيما مجتمع مهما بلغ دخل الفرد فيه لا تتأكد فيه حقوق الإنسان الأساسية فإن هذا المجتمع لا يعتبر بحال من الأحوال مجتمعا متقدماً. ولما كانت حقوق الإنسان الأساسية ترتبط ارتباطاً عضوياً بسيادة القانون فوق إرادات الحاكمين والمحكومين جميعاً ولما كان ذلك كله لا يتحقق إلا في ظل الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على السيادة الشعبية والتعددية وتداول السلطة ووجود مؤسسات حقيقية فإن الدول التي يتحقق فيها ذلك تعتبر دولاً متقدمة وما عداها لا يعتبر كذلك. وهكذا انتفى وصف التقدم وفقا لهذا المعيار عن الدول التي تخضع لأنظمة شمولية أياً كانت مسميات تلك الأنظمة.
وهنا ثار جدل طويل: هل حقوق الإنسان الأساسية تنحصر في الحقوق السياسية دون غيرها؟ وما جدوى حرية التعبير إذا كانت إمكانية التعبير غير قائمة؟ وما جدوى المشاركة السياسية لمن لا يجد قوت يومه؟ ومرة أخرى اتسع معيار التقدم الذي يعتمد على مقولة حقوق الإنسان لكي يشمل في نطاقه إلى جوار الحقوق السياسية نوعاً آخر من الحقوق هو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والفرص المتكافئة لبني البشر أجمعين.
التقدم التكنولوجي
وما يكاد القرن يقترب من نهايته في أيامنا هذه حتى يبرز معيار جديد لا ينكر المعايير السابقة وإنما يضيف إليها: معيار التقدم التكنولوجي واستخدام هذا التقدم لجعل حياة الإنسان أكثر راحة وأكثر بهجة وأكثر أمناً.
وتحقق ذلك كله في بلدان في الغرب وبلدان أخرى في الشرق - اليابان - ومع ذلك ظل السؤال مطروحاً: هل تحقق معنى التقدم في عالمنا هذا الذي نعيش فيه وعلى مستوى ذلك العالم؟.
إن العالم ما زال يضم بين جنباته بؤراً رهيبة من العنصرية والتعصب والعدوان. مازال البشر في العالم يقتتلون، وهم يفعلون ذلك في بلاد متقدمة بكل المعايير ويفعلون ذلك في بلاد متخلفة بكل المعايير. فهل يمكن أن يقال مع ذلك إن التقدم قد تحقق؟!. هل يمكن أن يقال إن عالما تتعدد فيه الموازين ويخضع الميزان للهوى لا للقسط ولا يكون الهوى إلا هوى الأقوياء هل يمكن أن يقال إن هذا العالم عالم سوي؟ وإذا لم يكن كذلك فهل يتصور التقدم في عالم لا سواء فيه؟.
لقد كانت الأنظمة الداخلية التي تقوم على حكم الفرد والتي تنتفي فيها المؤسسات وسيادة القانون وتنتفي فيها بالتالي حقوق الإنسان، لقد كانت تلك الأنظمة بعيدة عن التقدم فهل العالم الذي نعيش فيه - على مستوى المجتمع الدولي كله - ينعم بسيادة القانون وبمؤسسات دولية فاعلة أم أن العالم الذي نعيش فيه ونحن نقترب من نهاية القرن هو عالم يتحدث عن سيادة القانون ولا يمارسها ويقيم مؤسسات ومنظمات دولية هي أشبه بخيال المآتة - كما يقولون - يحركها من وراء ستار عضو واحد أو عدد محدود من أعضاء الأسرة الدولية؟ وهل يمكن أن يقال في ظل ذلك كله إننا قد حققنا معنى التقدم؟.
أم أن التقدم قد فقد معناه؟.
وهنا يقول البعض إن التقدم ليس معنى مطلقاً. إننا في عالم محدود وكل شيء فيه نسبي وكذلك التقدم. إننا أكثر تقدماً ممن كانوا قبلنا وهذا يعني أن الإنسانية في جملتها تسير إلى الأمام.
هل تعلو قيمة الإنسان؟
ولكن كثيرين يشككون في ذلك ويقولون إن العالم اليوم لا يحكمه إلا معيار واحد هو معيار القوة. وهذه القوة هي قوة امتلاك أسلحة الدمار الشامل التي تهدد البشرية كلها وتهدد حضارة الإنسان حيث كان. وإذا كان ذلك كذلك فقد تراجع كل شيء. تراجع القانون وتراجعت الحقوق وتراجع الإنسان ولم يبق على المسرح إلا قوة الدمار تعربد كيف تشاء. ولكن رويدك. لقد كانت هناك دول تملك هذه القوة ومع ذلك دالت وباءت وانتهى أمرها وأصبحت دولاً في خبر كان. إذن قوة الدمار الشامل وحدها ليست المعيار.
ويتصور البعض أن الصراع الإنساني قـد حسم بصورة نهائية لصالح أنظمة دون أنظمة. لصالح من يرفعون شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون على غيرهم في تنكروا لذلك كله.
ويبقى السؤال حائراً: هل الذين بقوا يمارسون هذه شعارات فعلاً أم يكتفون برفعها عندما يحين الحين؟ والممارسة لا يمكن أن تكون في مواجهة البعض دون البعض.
إن سيادة القانون وحقوق الإنسان لا تتجزأ، فالإنسان هو إنسان حيث كان. فهل البشرية مقبلة في نهاية هذا القرن وبداية القرن الذي يليه على عصر تعلو فيه القيمة الحقيقية للإنسان لكونه إنسانا وليس لكونه أمريكياً أو أوربياً أو إفريقياً أو آسيوياً، وليس لكونه مسيحياً أو مسلماً أو يهودياً وإنما لكونه إنساناً فقط؟.
هل سيكف الإنسان عن قتل الإنسان وتعذيب الإنسان؟ وهل سيختفي القلق المدمر والضياع وتختفي معه عصابات ترويج المخدرات بمختلف أنواعها؟ وهل سيختفي أولئك الحكام الذين لا يجدون سنداً لوجودهم إلا المدفع والبندقية ويحصلون في كل انتخابات على 99% ثم يسقطون فلا يذكرهم أحد بخير قط ومهمتهم الأساسية هي استنزاف ثروات بلادهم لوضعها في البنوك الأجنبية؟.
هل سيقبل القرن القادم لكي يتحقق للبشرية ذلك كله أو كثير من ذلك كله وعندئذ نستطيع أن نقول إن البشرية تتقدم تقدما حقيقياً أم سنظل هكذا نتساءل: هل للتقدم معنى؟.
ونكتفي باجترار المرارة والألم وهز الرءوس.