أنغام كلاسيكية ثروت عكاشة

أوربا تقاوم نابليون بالموسيقى

علامات تاريخية صنعت تحولات بارزة في الفن: الثورة الفرنسية، هروب نابليون، استقلال أمريكا، كل هذا صنع اتجاهات فنية جديدة تصاعدت في تلك الأنغام الكلاسيكية التي حاولت أن تلمس قبة السماء

يطلق مصطلح الكلاسيكية المحدثة "النيوكلاسية" بصفة عامة على الطراز الفني والمعماري في الفترة من حوالي عام 1770 إلى قرب عام 1835، والمنبثق تحت تأثير دفقة الحماسة نحو الحضارة الكلاسيكية من جديد بعد أن اطرح الفنانون طراز الروكوكو المفرط الأناقة والتنميق مؤثرين العودة نحو صيغ العصر الكلاسيكي القديم وموضوعاته. وقد بات من المظاهر التي لا تفتأ تتكرر في الفن الأوربي منذ العصور القديمة تلك الالتفاتة من حين لآخر إلى روائع اليونان وروما حتى لا يخلو قرن من مرحلة كلاسيكية محدثة من أي نوع كانت. وحتى في قرننا الحالي شهد عام 1920 وما تلاه انقلابا حاسما نحو هذا الاتجاه فلقد كان للتطرف الوجداني لبعض التيارات الفنية مثل نزعات "التعبيرية التصويرية" وانفجارات "البدائية المحدثة" الفضل في الكشف خلال مرحلة الهدوء النسبية التي أعقبت عاصفة الحرب العالمية الأولى عن أن النظام والوضوح أجدى من العنف في التعبير، تماما مثلما حدث في أعقاب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. ففي عام 1917 قصد بيكاسو إيطاليا حيث تأثر كل التأثر بتصاوير الرومان الجدارية في بومبي، والتقى في روما بالفنان الموسيقي إيجور سترافنسكي والفنان الروسي دياجليف الذي كان يدير وقتذاك في روما فرقة الباليه الروسي الشهيرة. وأثمر هذا اللقاء تعاونهم في إنجاز باليه سمي "بولتشينللا" أخرج لأول مرة في باريس سنة 1925 على نص موسيقي لسترافنسكي جاء بناؤه وفق نهج متتابعة رقصة كلاسيكية من مطلع القرن الثامن عشر، ولحنه مقتبس عن برجوليزي، على حين صمم بيكاسو الثياب وفق نهج ثياب شخوص "الملهاة المرتجلة" بعد تحويره، واشتملت مخاطره على ستار خلفي يفيض برسوم تشيع فيها الزوايا تمثل طريقا في نابلي يطل على الخليج وبركان فيزوف تحت ضوء القمر.

وفي عام 1922 ظهر بباريس اقتباس لمسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس على يد جان كوكتو، قام بيكاسو أيضا بتصميم مناظره وأقنعته، على حين قام آرثر هونيجر بتأليف مقاطع موسيقية لآلتي الهارب والأوبوا تتخلل العرض.

إحياء الأنماط القديمة

وفي عام 1927 انتهى سترافنسكي من إعداد موسيقى الأوبرا - أور اتوريو "أوديب ملكا" التي تولى دياجيليف إخراجها. وبلغ التعلق بالكلاسيكية حدا جعل جان كوكتو، الذي اقتبس مسرحيته عن سوفوكليس وكتبها أصلا بالفرنسية، يعيد صياغتها في لغة لاتينية لتقديم المسرحية بلغة عتيقة عريقة ذات إيقاع شاعري يوحي بالمناخ الكلاسيكي القديم، حتى لقد فرض على الممثلين وضعات ساكنة تخلع عليهم سكون الأعمدة الإغريقية، ووضع جوقة الكوروس وراء لوحة من النقش البارز بحيث لا يبدو منهم غير رءوسهم. واستمر النهل من الكلاسيكيات حتى عام 1930 حين عاد سترافنسكي إلى التعاون من جديد مع أندريه جيد في عمل للأوركسترا والكوروس والتينور أطلق عليه اسم "بيرسيفوني" عام 1934، وقد انعكست الكلاسيكية المحدثة أيضا في تصاوير بيكاسو خلال تلك الفترة وخاصة صورته الشهيرة "ربات الحسن الثلاث"، وأكدت تماثيل مايول وديسبيو من جديد الأهمية التعبيرية للجسد الإنساني العاري سواء في النحت الكامل أم في النقش البارز، ومن ثم كانت هذه التماثيل هي النظير النحتي للحركة الكلاسيكية المحدثة في التصوير بفرنسا.

وشاركت الموسيقى بدورها في أعمال الباليه وبعض المؤلفات الموسيقية الآلية مثل "ضراعة إلى بان" لكلود ديبوسي والسيمفونية الكلاسيكية لبروكوفييف التي صاغها على نهج أسلوب القرن الثامن عشر السيمفوني، وحذا في خاتمتها حذو هايدن. ولم يقتصر هذا النشاط على الفنون وحدها بل تعداها إلى الأدب الذي أسهم في إعادة تأويل الأساطير الإغريقية القديمة بعبارات لبقة لتقديم مقابلات أخلاقية وسياسية بين الماضي والحاضر واستيحاء العبرة منها، وهو ما نراه في أعمال أندريه جيد منذ رواية "بروميثيوس الذي لم يحكم وثاقه" 1899 إلى "ثيسيوس" 1946 التي تتضمن سيرته الذاتية، ثم في أعمال فرانز فرفل النمساوي مثل مسرحيته المعادية للحرب "نساء طروادة" 1914، وأعمال جان بول سارتر مثل مسرحية "الذباب" 1943 التي مثلت في باريس أثناء الاحتلال النازي وتضمنت تلميحا واضحا إليه بأسراب الذباب التي جاءت كوباء لتمتص دماء البطل أوريستس حسب ملهاة أرستوفانيس الشديدة المرارة.

وخلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر (1750 - 1820) ظهر أسلوب موسيقي عرف بالأسلوب الكلاسيكي المحدث، استمد أفكاره من الفلسفة اليونانية القديمة، واتسم بالموضوعية ووضوح القالب والالتزام بخصائص بنائية محددة. على أن الفلسفة الموسيقية الكلاسيكية لا تقتصر على النصف الأخير من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر فحسب، فقد ظهرت بوادرها في الفن القديم خلال العصور الوسطى، كما أنها تمتد إلى مشارف القرن العشرين كما قدمت، فضلا عن أنها نهاية انطبع بها عصر الباروك إلى حد ما عند كل من يوهان سباستيان باخ وهيندل. وليس اليسير التمييز بين كلاسيكية بدايات القرن الثامن عشر ونهايته، غير أن كلاسيكية النصف الثاني من القرن الثامن عشر تعرف أحيانا باسم كلاسيكية "فيينا" حيث كانت فيينا العاصمة الموسيقية لأوربا وقتذاك.

وقد تميزت الفترة من سنة 1755 إلى سنة 1820 بازدهار الطبقتين المتوسطة والدنيا وسط مناخ ديمقراطي أكد ذاته بنشوب الثورة الفرنسية، حيث تتصدر هذه الثورة وحروب نابليون أحداث هذه الفترة التي سادتها حرب السنوات السبع وثورة إعلان الاستقلال الأمريكي. وكان المذهب العقلاني هو الفلسفة السائدة في هذا العصر، وقد تجلى في مؤلفات كانط بألمانيا. وديدرو والموسوعين في فرنسا. وكان فولتير وروسو أهم كتابه وفلاسفته، كما كان المصور جويا الإسباني ودافيد الفرنسي ورينولدز الإنجليزي أئمة فنانيه التشكيليين.

وقام الأسلوب الكلاسيكي المحدث على بساطة النسيج الموسيقي وسلاسة المادة الموسيقية والحرص على توازن البناء الموسيقي واتساقه، وهو ما انتهى بالكلاسيكيين إلى ابتكار النماذج الموسيقية المحددة الأجزاء في بنائها، والتي لا تحاكي الطبيعة بل تعمد إلى التعبير الرمزي، فصاغوا الجانب الأعظم من موسيقاهم في نموذج "الصوناتا" و"السيمفونية" اللتين أصبحتا النموذجين المختارين لمعظم المؤلفات الموسيقية إلى أيامنا الحالية، وما لبث نطاق مفهوم الصوناتا أن اتسع عند الكلاسيكيين، فلم يعد مقصورا على النموذج المحدد الذي كان سائدا من قبل، بل شمل "السيمفونية" باعتبارها صوناتا كتبت للأوركسترا، وكذلك الرباعية الوترية باعتبارها صوناتا كتبت لأربع آلات وترية، والكونشيرتو أيضا باعتباره صوناتا لآلة منفردة بمصاحبة الأوركسترا، كما كتبت معظم الافتتاحيات وفق نموذج الحركة الأولى للصوناتا. وعلى حين يقتصر إطلاق اسم الصوناتا بصفة عامة على المؤلفات المكتوبة لآلة منفردة بمصاحبة البيانو الذي ابتكره كريستوفوري عام 1711 أو بدون مصاحبته، فإن الصوناتا تكتب لآلة واحدة تسمح إمكاناتها بأداء المركبات الهارمونية الكاملة كالبيانو، باستثناء الصوناتا لآلة منفردة كالفيولينه التي لا تسمح بأداء المركبات الهارمونية إلا في حدود معينة. أما في حالة الآلات الميلودية البحتة، أي التي تعجز عن عزف أكثر من صوت واحد في وقت واحد كالفلوت والكلارينيت مثلا، فإن الصياغة الموسيقية لها تحتم استخدام البيانو أو أية آلة هارمونية أخرى كالهارب لملء الحيز الهارموني الذي تعجز أمثال تلك الآلات عن أدائه، ويكون البيانو في مثل هذه الحالة آلة مساوية في الأهمية للآلة المنفردة الأخرى إن لم يفقها في الأهمية ولا يصبح مجرد آلة مصاحبة.

من الصوناتا إلى السيمفونية

والصوناتا هي التكوين الدرامي في مجال الموسيقى، وقد تكون الصوناتا مؤلفا مستقلا من ثلاث إلى أربع حركات يضمها جميعا مقام واحد، وإن استقلت كل حركة بذاتها من حيث البناء والسرعة والإيقاع والطابع الوجداني، أو قد تكون الصوناتا الحركة الأولى فقط من السيمفونية أو الكونشيرتو إذ يصاغ كلاهما في قالب الصوناتا.وتتكون الصوناتا عادة من موضوعين موسيقيين مختلفي الصفة، يتفاعلان ويتداخلان ليعاد عرضهما في تلخيص يعيد أصل الموضوع إلى وجدان المستمع. ويطلق اسم الصوناتا على الأعمال الموسيقية التي تكتب للبيانو المنفرد أو آلة النفخ المنفردة أو الآلات الوترية، والتي تعزف عادة بمصاحبة إحدى الآلات ذات لوحات المفاتيح كما سبق القول. والواقع أن جميع المؤلفات للآلات الموسيقية التي تنتهج قالب الصوناتا سواء كانت موسيقى للحجرة أو سيمفونية أو كونشيرتو هي في حقيقة الأمر صوناتات، وإن سميت بأسماء مختلفة تكون رهن ما تضمه من عدد مجموعات العزف، فتسمى مرة "ثلاثية" ومرة "رباعية" أو "خماسية" أو أوركسترا سيمفونيا.. وكان هايدن وموتسارت هما أول من ابتكر الصوناتا الكلاسيكية خلال القرن الثامن عشر إلى أن أدخل عليها بيتهوفن في القرن التالي تعديلاته فصاغ ما يعرف بالحركة الموسيقية في قالب الصوناتا التي تتكون من ثلاثة أقسام: العرض والتنمية أو التطوير ثم الإعادة، يليها أحيانا قسم رابع يسمى المقطع الختامي أو التقفيلة.

وفي البداية أطلقت لفظة "السيمفونية" على افتتاحية الأوبرا الإيطالية في القرن الثامن عشر والتي كانت تتشكل من ثلاث حركات: سريعة وبطيئة وسريعة. ثم أطلقت بعد ذلك على المقطوعة الموسيقية التي تعزف تمهيدا لعمل غنائي أو التي تجيء في ثنايا الإنشاد الشعري. ومنذ عهد هايدن الذي يقال له "أبوالسيمفونية" أصبح هذا اللفظ يعني عملا أوركستراليا كبيرا قائما بذاته مكونا من عدة "حركات" هو في حقيقة أمره صوناتا للأوركسترا، وأخيرا أصبح يطلق على ما نعرفه اليوم باسم "السيمفونية"، وهي قمة التأليف الدرامي في مجال الموسيقى، وما من شك في أن هايدن هو صاحب الفضل في بلورة قالب السيمفونية من ناحية وعلى تطوير فن التوزيع الأوركسترالي من ناحية أخرى، وكانت أعماله هي المدرسة التي لقن عنها موتسارت وبيتهوفن وسائر مؤلفي التراث الموسيقي، فهو الذي بدأ باستخدام "الوحدة اللحنية أو الخلية اللحنية"، وهي لحن قصير مميز له شخصية إيقاعية هي وحدها التي تمكن المؤلف من تشييد بناء موسيقي لا نهائي بتكبيره أو تصغيره أو قلبه أو عكسه والانتقال به في مقامات عديدة إلى غير ذلك من أساليب التأليف الموسيقي وإمكاناته. وعندما ارتقى هايدن بالأسلوب السيمفوني الكلاسيكي إلى مرحلة النضج كان العمر قد تقدم به، فواصل موتسارت العمل على نهجه وكساه مرحا وشبابا وتفاؤلا. وما لبث بيتهوفن أن تسلم نموذج السيمفونية بعد أن طوره هايدن وموتسارت في الإطار الكلاسيكي، وقدم على نمطه سيمفونيتيه الأولى والثانية ثم إذا هو يصب في هذا القالب البنائي المحدد مادة أصيلة ذات شحنة شعورية مكثفة حتى تميزت سيمفونيته الثالثة بقوة التفاعلات والاستطرادات التي وسعت حدود أقسامها وزادتها عمقا عن حدود أقسام سيمفونيات هايدن وموتسارت الكلاسيكية. وتنتظم معظم السيمفونيات حركات أربع - وأحيانا خمس وهذا في القليل النادر - أو حركة واحدة تتمازج فيها وتتداخل حركات عدة. وتعد الحركة الأولى هي الحركة الأساسية، وتكون عادة أشد الحركات عمقا في الفكر الموسيقي، وهي التي تضفي طابعها على السيمفونية كلها. وقد يتقدمها تمهيد بطيء أو لا يتقدمها، ثم لا تلبث الحركة أن تتخذ طابعها السريع Allegra والذي عادة ما يكون في قالب الصوناتا أو ما أصبح يسمى "قالب الحركة الأولى". وتكون الحركة الثانية ذات طابع بطيء غنائي متهاد. وقد تكون الحركة الثالثة من نوع المينويت أو السكيرتسو. وعادة ما تكون الحركة الرابعة مثل الأولى ذات طول ملحوظ وإنما أشد خفة منها وفي صيغة الروندو أو قالب الصوناتا أو أي طابع آخر يتفق ومقطوعة موسيقية طويلة.

وقد تسمى السيمفونية باسم ما كما هي الحال في السيمفونية الريفية (السادسة) لبيتهوفن والسيمفونية الشاجية (السادسة) لتشايكوفسكي، وسيمفونية جبال الألب لريتشارد شتراوس، كما قد تتضمن مقاطع غنائية فردية أو جماعية كما هي الحال في السيمفونية التاسعة لبيتهوفن ومعظم سيمفونيات جوستاف مالر. وأحيانا يقصد بالسيمفونية التعبير عن فكرة أدبية أو درامية أو تصويرية كما هي الحال في السيمفونية الخيالية لهكتور برليوز التي تحمل عنوان "مراحل من حياة فنان"، وهي نموذج "للموسيقى ذات البرنامج" التي يعد فيها "القصيد السيمفوني" وليد السيمفونية.

موتسارت والسيمفونية

ولم تنبثق السيمفونية من نماذج موسيقى الآلات أو من قاعات الحفلات الموسيقية وإنما من الافتتاحية التي كانت تعزف في الأوبرا الإيطالية وتسمى "سيمفونيا تتصدر الأوبرا"، واشتملت هذه "السيمفونيا" - كما شكلها أليساندرو سكارلاتي - على ثلاثة أجزاء: سريع - بطيء - سريع. وما لبثت هذه الافتتاحية أن انفصلت عن الأوبرا ومضت تعزف وحدها في الحفلات الموسيقية وسميت السيمفونية، ثم زيدت حركاتها إلى أربع كما سبق القول، فإذا أهم فرق الأوركسترا السيمفوني في ذلك العصر بين عامي 1743 و 1777 - وهي فرقة مدينة مانهايم - تقدم أعمالا جديدة للمؤلفين الذين سبقوا هايدن وموتسارت تتضمن ابتكار عدة عناصر مثل التصعيد التدريجي في شدة العزف "الكريشندو" والتخافت التدريجي المقابل "ديمينوندو" وذلك عن طريق التجربة الجديدة في إمكانات التأليف الموسيقي الواعي والتوزيع الأوركسترالي المدروس، إلى جانب عدة تعديلات تراوحت بين الشدة والاعتدال والضعف عند إخراج الأصوات أثناء أداء الألحان.. وقد صاغ هؤلاء النسيج الموسيقي العام في سيمفونياتهم بأسلوب الميلودية الواحدة ومعها إطارها الهارموني فكان أقرب إلى أسلوب الأوبرا الغنائي الخفيف منه إلى الأسلوب الكونتربنطي الثقيل، ثم جاء هايدن وموتسارت فأكملا بناء أسلوب السيمفونية بالتدريج على هذا الأساس المبسط على نحو ما نرى في سيمفونية هايدن رقم 88 من مقام صول الكبير التي كتبها عام 1787 وبلغ فيها الذروة في كمال الإبداع. ونستطيع بالمثل أن نلمس مدى إسهام موتسارت في بناء السيمفونية من الحركة البطيئة في سيمفونيته رقم 40 من مقام صول صغير التي استغل فيها الأسلوب الكونتربنطي في لمسات فائقة الجمال. وأخيرا بلغت السيمفونية قمة تطورها على يد بيتهوفن، فقطعت كل صلة بنشأتها من الأوبرا واتسع نموذجها كما انفسح مجالها الشعوري، وتألق عزف الأوركسترا في أسلوب جديد لم يعرف من قبل.

ومع اكتمال بناء السيمفونية نشأ الأوركسترا السيمفوني مختلفا عن أوركسترا عصر الباروك، إذ بات يتميز بالتنوع داخل كل فصيلة من فصيلتي الآلات الموسيقية وهما فصيلة الأسرة الواحدة وفصيلة الأسر المختلفة. وكانت كل من أسرة الوتريات وأسرة المزامير المزدوجة الريشة (من فصيلة الأوبوا) تضم مجموعة مختلفة الأحجام والطبقات الصوتية أكبر عددا مما يضمها الأوركسترا الحديث.

من القتال إلى الأوبرا

ولقد ظفرت الموسيقى باهتمام الحكومات التي تعاقبت في أعقاب الثورة الفرنسية، وحلت الدولة محل الطبقة الأرستقراطية المنهارة في تشجيع المؤلفين الموسيقيين وعازفي الأوركسترا ومغني الاوبرا، وأشرف نابليون بنفسه على جميع شؤون الأوبرا حتى خلال وجوده في جبهات القتال، إذ كان يرى أن الموسيقى تستأثر من بين الفنون الجميلة بسطوتها على المشاعر، وهو ما يحفز المشرع على تشجيعها. وكان يؤمن بضرورة استغلال الدولة للفنون التي تملك التأثير في الجماهير، فدفع بفرقته الموسيقية العسكرية الخاصة للعزف في الاحتفالات الجماهيرية والمناسبات الشعبية، كما عني بالأوبرا الإيطالية. احتضن كلا من بايزيللو الذي كتب له موسيقى صلاة الشكر التي أقيمت احتفالا بإبرام اتفاق الكونكورد مع الفاتيكان، وسبونتيني الذي وضع أوبرا سادنة المعبد "الفستالة" التي أضافت تطورا هائلا إلى الإخراج الأوبرالي، وإن لم تضف شيئا إلى المقومات الدرامية الموسيقية لنموذج الأوبرا نفسه كإضافات موتسارت البارعة وختاماته الحافلة لكل فصل ومشهد من مشاهد الأوبرا وفصولها.

وقد أطلق بيتهوفن على سيمفونيته الثالثة اسم سيمفونية البطولة وكتبها إعجابا بشخصية نابليون أيام كان قنصلا بحكومة الإدارة "الديريكتوار"، ثم ما لبث بعد ذلك أن ضرب بريشته على اسم نابليون حتى كاد أن يمزق الصفحة الأولى، وكتب بدلا منه "سيمفونية بطولية كتبت لتمجيد ذكرى رجل عظيم" بعد ما نصب نابليون نفسه إمبراطورا وفرض على وطنه والبلاد التي فتحها حكما استبداديا مطلقا. غير أن تشابه اللحن الأساسي للموضوع الأول في الحركة الأولى الذي يستهل به السيمفونية ويرمز إلى البطولة مع لحن افتتاحية موتسارت "باستيان وباستين" الذي يحتمل أن بيتهوفن قد استعاره منه يرجح أن فكرة البطولة قد راودت بيتهوفن بعيدا عن إعجابه بنابليون. ثم إن مفهومه عن البطولة كما نلمسه من موسيقاه ليست هي بطولة المعارك الحربية بل بطولة الإنسان في صراعه للظفر بحريته، لقد ارتبط بيتهوفن في موسيقاه بأنبل الأهداف الإنسانية معبرا عن إيمانه بالحرية والإخاء والمساواة في جميع نماذجه الموسيقية، منيرا الطريق أمام الإنسان لينطلق في ركب التقدم والكمال البشري، وقد تألق بيتهوفن حين بعث الروح الكامنة وراء هذه الأهداف في موسيقاه دون أن يلجا إلى برامج تصويرية، فارتفع بموسيقاه دون إضعافها بإخضاعها لمقتضيات تصويرات أو برامج خارجة عن كيانها الموسيقي وأفكارها الموسيقية المطلقة، وهو ما يدعوه النقاد "بروح بيتهوفن" التي تجلت أحسن ما تكون في سيمفونيته التاسعة والتي حاول ريتشارد فاجنر نقل روحها إلى الأوبرا فابتكر "الذراما الموسيقية".

وتجسد السيمفونية الثالثة البطولية اللحظات المثيرة التي يمر بها البشر في حياتهم، كما تعكس صورة الصراع الهائل بين الاتجاهات المتعارضة: بين السلبية والإيجابية، بين التسليم والتحدي، وكذا تعلي من شأن انتصار الروح على المادة والإرادة على الانهزامية وانتصار الإنسان على القمع والقهر. وتبرز بطولتها في روحها وطابعها، في الحانها ونسيجها الموسيقي ومعالجة أفكارها الموسيقية، كما تتوازن حركاتها مع بعضها البعض بالرغم من استطرادها فيما يفوق طول حركات سيمفونيته الأولى والثانية. وتتميز التقسيمات الفرعية لكل حركة بالدقة في توازن بعضها مع بعض، وبالمضمون الموسيقي المكثف المتسق مع الحدود البنائية، وهو ما عجز عنه جميع مؤلفي السيمفونيات الرومانسيين الذين ترسموا خطاه في ضخامة الحدود، وفشلوا في إقامة التوازن بين أجزاء السيمفونية الأربعة وبين نظائرها في سيمفونيتيه السابقتين. وتتميز الحركة الأولى بطابع القلق الذي يتجلى في موسيقاه، وفي ضخامة حدوده البنائية لنموذج الحركة السريعة للصوناتا بأقسامه الثلاثة: العرض والتفاعل والتلخيص، فقد اشتمل قسم التفاعل على مائتين وخمس مازورات وطال ذيل ختامه (الكودا) حتى تحول إلى تفاعل ختامي استنفد مائة وأربعين مازورة، وهو ما جعل الأديب الفرنسي رومان رولان يقول عنه: إنه الجيش الهائل للروح الذي لن يتوقف حتى يطأ بأقدامه أنحاء الأرض. وتتضمن الحركة الثانية البطيئة الحركة "المارش الجنائزي" فكرة شاعرية عن تأليه البطل يعد إدخالها في عالم السيمفونية المجرد أمرا فريدا وإن كان شائعا في عالم التصوير والنحت والشعر والمسرح والأوبرا. على أن هذا التأليه يعد هنا مرثية مشبوبة لبطل الإنسانية الذي يضحي بحياته في سبيل الأهداف التي كافح من أجلها باعتباره ممثلا للجماعة، فهو تعبير جماعي مطلق لا يقتصر على بطل فردي معين رغم ما تنطوي عليه كل حركة تقدمية للبشرية من ماس شخصية. وينبض الإيقاع الرصين وأنغام المارش المكتومة الرنين بآلام الأبطال في عصر بيتهوفن والعصور السابقة عليه، وبالعذاب الذي لقيه أمثال سقراط واستشهادهم على أيدي مجتمعاتهم التي عجزت عن إدراك أهدافهم ورسالتهم، فإذا الموسيقى تبلغ في القسم الأوسط من هذه الحركة ذروة قوتها لتذكر المستمع بارتباطها ببطل عظيم صاحب رسالة سامية. وتحمل الحركة الثالثة اسم سكيرتسو (أي الدعابة أو الملحة) تعبيرا عن نموذج الموسيقى الخفيفة النشطة الذي ابتكره بيتهوفن والذي يعد استخدامه له بدلا من المينويت التقليدي عملا ثوريا في عصره، حتى لقد اكتشف هكتور برليوز في إيقاعات هذه الحركة النشطة إشارات مسرحية توحى باحتفالات المحاربين الإغريق حول أضرحة زعمائهم وقادتهم على نحو ما جاء بالإلياذة. ويشمخ بناء الحركة الختامية كقوس نصر منيف تمر من تحته البشرية جمعاء متحررة منتشية بانتصارها. ومع أن ختام هذه السيمفونية لا يرقى برغم طوله وضخامته إلى الكمال الذي حققه بيتهوفن في ختام السيمفونيتين الخامسة والتاسعة إلا أن هذه الحركات الختامية الثلاث هي أعظم ما كتبه بيتهوفن من نموذج الختام السيمفوني، متطورا من ختام الثالثة إلى الخامسة إلى التاسعة، التي يطالعنا ختامها بعاصفة مدوية لموسيقى جد سريعة في حركاتها، غير أنها لا تتلبث غير زمن وجيز. وهنا يبدو بيتهوفن وكأنه بعد أن استنفد قدرته على الابتكار في الأجزاء الأولى من السيمفونية لايزال غير مطمئن إلى ما حققه، وأن عليه أن يمضي في رحلته المقدسة طارحا جانبا ما يساوره من هم وحزن ليستلهم في تعبيراته أحاسيس البهجة والغبطة، فيوجز لنا ما سبق أن عرضه علينا في كل جزء من الأجزاء الثلاثة السالفة في بضع عبارات موسيقية، ثم يسوق في أثر هذا التعبير الموجز عن كل جزء جملة موسيقية في أسلوب خطابي إلقائي تعكف على أدائها مجموعتا التشيللو والكونتراباص. وتمثل هذه الجملة الموسيقية مقابلا يعارض به الجمل الثلاث الموجزة، فيبدأ بخشونة تعارض الجملتين الأولين ثم يميل إلى النعومة في معارضته للجملة الثالثة في حركة موجزة وبطيئة، إلى أن يبدأ الإنشاد بصوت مغن من طبقة الباص منفردا بقصيدة شيلر: نشيد الفرحة.

 

ثروت عكاشة