ملف الأدب والفن والثورة: من «كوخ العم توم» إلى «أجنحة الفراشة»

 ملف الأدب والفن والثورة: من «كوخ العم توم» إلى «أجنحة الفراشة»

160 عامًا من تسويق الثورة وإثراء الرواية

بدت حياة الإنسان منذ فجر تاريخه حافلة بالكفاح، يناضل الطبيعة ويناضل الإنسان أيضًا. صاد ليأكل، وحفر ليشرب، وتزوج ليأنس، وثار وتمرد لكي يعيش.

كانت حركة الإنسان نحو النور، أو سعيه لتأكيد إنسانيته، مرهونة على الدوام بثورة يمارسها ضد قيود نفسه، قبل أن يعلنها في مواجهة الآخر، ثورة متنامية نحو هدف وحيد هو تجاوز المحظور، تجاوز هو في حقيقته إماطة للثام عن الواقع وكشف الحجب عن المستقبل وخوض طريق طويل في أعماق صناعة التاريخ.. يقول نهرو: «إن قراءة التاريخ أمر حسن، ولكن الأفضل منه أن يساهم المرء في صنع التاريخ».

بيد أن الثورة الاجتماعية التي يقوم بها مجموع الناس كانت في حاجة إلى المحرض والمثير والمعبئ، ذلك أن معظم الأفراد يبقى محتاجًا لمن يرى له همومه، ثم يمنحه رؤاه، ويقدم له الحلول ويهديه الأمل.

ولصدارة المشهد الثوري تقدمت وسائل التأثير الاجتماعي، لتقوم بفعل التحريض، وتختصر الوقت وتختزل المكان، فتمهد التربة، وتحشد البذور، وتراهن على عطايا المطر، يروي ويغسل ويطهر، ويهدم ويزيل ويشيد.

الأدب بفنونه كان الوسيلة الناعمة والمدهشة للتواصل والحشد والتأثير عبر تاريخ الثورات الإنسانية. وكل فن أدبي قطع المسافة نحو الثورة التي اندلعت في عصر ازدهاره، فدفعها إلى الوجود بعد أن هيأ لها عوامل النجاح والعبور.

وعاشا معًا الثورة والأدب في حالة فائرة من الأخذ والعطا، من التأثير والتأثر، من التمهيد والتحريض والتنبؤ إلى الإلهام والإثراء والمصداقية. أعطى الأدب الثورة الرؤية والفكرة والفلسفة، وهيأ الناس ووحد وجدانهم وأحيا حبهم للحياة، وأهدت الثورة للأدب التجربة الواقعية شديدة الخصوبة والمصداقية، والتفاصيل والأحداث المدهشة والنماذج الإنسانية الفريدة.

إسقاط النظام قبل ثلاثة آلاف عام

الثورة إذن سلوك بشري حتمي فردي أو جماعي -، وإذا كانت الثورة الفردية قديمة قدم الإنسان، فإن الثورة الشعبية أو الاجتماعية قد ظهرت للمرة الأولى في التاريخ البشري منذ نحو3195 عامًا، وهي ثورة المصريين القدماء على الملك بيبي الثاني في أواخر الأسرة السادسة، وهو الملك الذي حكم مصر 94 عامًا، بدأها وعمره ست سنوات وأنهتها الثورة الشعبية الجارفة وعمره مائة عام. وكانت تلك الثورة انتفاضة شعبية على الملك وحكام الأقاليم الذين فسدوا، وضاعف من فسادهم فتاوى الكهنة الكاذبة التي أباحت لهم كل منكر، وكان لكبر سن الملك دور رئيس في تمرد حكام الأقاليم الذين امتنعوا عن دفع الجزية، وظلموا وبغوا، فأهملت القوانين وسادت الفوضى وانتشر السلب والنهب، وانهار النظام الاجتماعي. والطريف أن الثورة كانت عنيفة إلى حد بعيد، ما دعا المؤرخ المصري «سليم حسن» إلى تشبيهها بالثورة البلشفية «1917في روسيا» حيث حطمت كل شيء، وتوحشت التماسيح في نهر النيل من كثرة الجثث الملقاة فيه.

روح الثورة تسري في جسد الرواية

وإذا كانت هذه الثورة الرائدة قد أنهت عصر الدولة القديمة، فقد بدأ معها عصر ازدهار الأدب لاسيما القصصي، وهو ما انتشر في الدولتين الوسطى والحديثة، حيث قدم الزخم الثوري - وما صاحبه من أفكار وقيم منهارة وقيم جديدة تسود - أرضًا خصبة لأدبٍ أخذ موقع الريادة للقصص العالمي.

ومن القصص البارزة في الفترة التي تلت الثورة قصة «القروي الفصيح» وهي قصة مازالت تستهوي الأدباء المعاصرين ما يدفع البعض إلى التناص معها. وقدمت الدولة الوسطى القصة الواقعية الاجتماعية «سنوهي» وقصة «نجاة الملاح». وفي الدولة الحديثة قصة «فتح يافا» عن الحربية والبطولة المصرية، والقصة الملحمية «ون آمون»، التي أرّخت لتدهور الإمبراطورية المصرية القديمة وغروب شمسها.

إن اختصاص عصري الدولتين الوسطى والحديثة بازدهار الفن القصصي ليؤكد بجلاء الأثر البارز للثورة التي أنهت عصر الدولة القديمة، والتي لم يعثر فيها على نصوص قصصية مكتملة التكوين كالأمثلة السابقة بالدولتين التاليتين، تلك القصص التي تدين في ولادتها لنطفة الثورة التي أحيت وجدان الأدباء كما سبق أن أحيت آمال العوام.

تاريخ الثورة.. جغرافيا الرواية

وإذا كان للثورة كل هذا العمر، وإذا كان لها هذا الارتباط الراسخ بالأدب، فإن الرواية بشكلها الفني الحديث قد ركبت قطار الثورة قبل عدة قرون، كما دعت الثورة لتركب قطارها في حالات أخرى.

وكان لظهور الرواية في العصر الحديث دور بارز في التعبير عن المجتمع، ومن ثم الوقوع في غرام الثورة. وكان ظهور الرواية في فرنسا منذ القرن السابع عشر في روايات مثل «لاستريه» لأونوريه دورفيه، ورواية «أميرة كليف» لمدام دي لافاييت. كما كان ظهور رواية «باميلا» عام 1740م لصمويل ريتشاردسون بداية واضحة للرواية الإنجليزية. غير أن هناك سرودا حكائية ظهرت في أوربا في القرن السادس عشر مثل «دون كيشوت» لسيرفانتس، و«أركاديا» لفيليب سدني، مثلا معا البدايات المبكرة لما يمكن أن يصبح فنًا روائيًا في أوربا بعد ذلك.

وفي أمريكا ظهرت أول رواية أمريكية «قوة الحنان» من تأليف «وليم هيل براون» عام 1789م أي بعد نجاح الثورة الأمريكية التي امتدت 8 سنوات (1774-1782م) بسبع سنوات فقط، وهي وإن مثلت قصة حب يكتشف بطلاها في النهاية أنهما شقيقان، فقد دلت على الاتجاه الإنساني الجديد الذي ساعدته الثورة ليولد ويزدهر بعد ذلك. وتبوأت الرواية مكانة جديدة ودورًا تحريضيًا في حياة الشعب الأمريكي ذي اللونين بعد بضع وسبعين عامًا، حين برزت الرواية المعروفة «كوخ العم توم» لصاحبتها «هيريت ستاو» عام 1851 م، وعرضت فيها الأزمة العنصرية في أمريكا وبشاعة التمييز ضد الزنوج ،كما دعت ستاو إلى تحرير العبيد. وهي الرواية التحريضية بامتياز، فلم تمض عشر سنوات إلا واندلعت ثورة العبيد في أمريكا، والتي تعرف بالحرب الأهلية الأمريكية «1861-1865م»، ليتحرر على إثرها العبيد أو زنوج أمريكا، ما دعا الرئيس الأمريكي الأسود «إبراهام لنكولن 1809-1865م» إلى القول عند لقائه بكاتبة الرواية: «هذه هي السيدة الصغيرة التي أشعلت الحرب الكبيرة». ثم ظهرت روايات مهمة في تاريخ الرواية العالمية كانت من ثمار الحرب الأهلية الأمريكية منها: «ذهب مع الريح» لمارجريت ميتشيل عام 1939م، و«غير المهزومين» لوليم فوكنر عام1940م.

الرومانسية هدية الثورة الفرنسية للأدب

لم تقدم الثورة الفرنسية للأدب مجموعة روايات عظيمة تصورها وتؤرخ لها فحسب، بل شقت الأرض الأدبية لتطلق تيارًا أدبيًا جديدًا ما لبث أن انطلق في أنحاء العالم. فبعدما رفعت الثورة الفرنسية «1789-1799م» شعارها «حرية إخاء مساواة»، فقد ظهرت روايات عظيمة طهاها روائيون عظام على نار هادئة، منها أعمال فيكتور هوجو «1802-1885م» مثل: «أحدب نوتردام 1831م» و«البؤساء1862م»، التي استغرق هوجو في كتابتها اثني عشر عاما. كما قدم ألكسندر دوماس الابن «1824-1895م» روايته الخالدة «غادة الكاميليا 1848م» والتي مجدت القيم الإنسانية التي رفعتها الثورة وأكدت على كرامة الإنسان وآدميته .

ومن خارج فرنسا ظهرت أكثر الروايات التي جسدت الثورة بين مدينتي «لندن وباريس»، مصورة آلام ومعاناة الفلاحين والبسطاء، وكذلك الضرر الذي لحق بمن يطلق عليهم ضحايا الثورة من الأغنياء والنبلاء، وهي رواية «قصة مدينتين 1859م»، للروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز «1812-1870م». وهذه الروايات قد استفادت من الثراء السياسي والاجتماعي الذي صاحب الثورة الفرنسية، كما كان للفكر الجديد الذي بشرت به دور بارز في انعطافة كبرى ومرحلة جديدة للنوع الأدبي بوجه عام، ليس في فرنسا وحدها، بل في العالم كله.

«الأم» حبلى بثورة الروس

بعد ثورة مجهضة ضد القيصر عام 1905، نجح الروس في ثورتهم التي تأخرت اثني عشر عاما، لتنجح الثورة البلشفية عام 1917م، وهي الثورة التي توجت الحلم الاشتراكي، وهي أيضا حققت النبوءة التي حملتها رواية «الأم 1906م» لمكسيم جوركي «1868-1936م»، والتي بناها على محورين، إنساني شديد البساطة، تمثله الأم، وإيديولوجي يعبر عن الواقعية الاشتراكية، يمثله الابن الذي انخرط في العمل السري الوطني بمشاركة زمرة من زملائه العمال، ويتحول موقف الأم تدريجيًا من الضد إلى التعاطف إلى خلافة ابنها في مواصلة النضال، ما يفضي إلى حتمية الثورة، وهو ما تحقق بعد أحد عشر عامًا. ولعل هذا الاستشراف للثورة قد وضع رواية الأم نموذجًا باهرًا لروايات الواقعية الاشتراكية.

ومن الروايات التي عاشت على طعام الثورة البلشفية بعد ذلك رواية «دكتور زيفاجو 1957م» لبوريس باسترناك «1890-1960م»، والتي جاءت في إطار عمل ملحمي في ظلال الثورة البلشفية، وعبر خط إنساني انتهى بفشل الشاعر والطبيب زيفاجو في أن يعيش كريمًا يتمتع بالحرية، حين حالت الحرب والثورة بينه وبين طموحه المتواضع.

ثورة الياسمين وروايات عبر اللغة والحدود

اشتعلت النيران في جسد البائع المتجول محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر 2010، لتشب النار المقدسة في الوطن كله، قبل أن تتخطى الحدود، ولم يحتجْ بعدها الرئيس التونسي إلى أكثر من خمسة وعشرين يوما حتى يرحل في 14 يناير 2011م. وقدم الروائي المصري أسامه حبشي روايته «مسيح بلا توراة» عن تجربة البوعزيزي صدرت بالقاهرة 2011 .

وظهرت بعض الروايات التي حملت نبوءات بثورة الياسمين مثل رواية «الخوف» عام 2009م للمغربي رشيد الجلولي، بدت الرواية مستشرفة المصير الذي يمكن أن تندفع إليه الأوضاع غير العادلة في ظل حكم يهدر الكرامة والحرية.

ومن داخل تونس فاض الزخم الثوري على رواية «برج الرومي» لسمير ساسي السجين السياسي أيام بن علي، والذي صور فيها التعذيب في السجون التونسية حسب تجربته الشخصية في سجن «برج الرومي» مدة عشر سنوات بدءًا من عام 1991، وتعتبر الرواية التي طبعت أربع طبعات قبل اندلاع الثورة التونسية من روايات التحريض الثوري، وكانت السلطات التونسية قد حظرت تداولها قبيل اندلاع ثورة الياسمين 14 يناير 2011م .

كما قدم الكاتب التونسي المهاجر إلى فرنسا الحبيب السالمي روايته «نساء البساتين» عام 2010م، عرض فيها لعشرين يوما من حياة شاب تونسي مهاجر إلى فرنسا قضاها بطنه تونس في إجازته، ويكشف السرد عن تفاصيل الأسرة والمجتمع التونسي، حيث أقام عند أخيه الذي يقطن حي البساتين، ويتطور السرد وصولا إلى الصدام بين الشاعر «يمثله أبو القاسم الشابي رمز الحرية والثورة التونسية» وجهاز الشرطة القمعي بما يمثله من دلالة على بطش النظام واستبداده. هذا الصدام الحتمي الذي ولد على أرض الواقع بعد عدة شهور في تونس جعل رواية «حي البساتين» من الروايات التي تحمل سمة التنبؤ بثورة الياسمين.

ولم يقتصر لهيب النار التي اشتعلت في البوعزيزي على الحدود التونسية، بل تخطت الحدود، ليقدم الأديب المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون رواية بالفرنسية بعنوان «بار لو فو» أو «بالنار»... أهداها بن جلون للضحية التونسي، وفيها تناول واقعي ليوميات الواقع التونسي في الفترة السابقة على إقدام البوعزيزي على إضرام النار في نفسه في منطقة سيدي بو زيد وسط تونس. كما ظهرت في مصر رواية «مسيح بلا توراة» عن تجربة البوعزيزي أيضًا لصاحبها المخرج والمصور أسامه حبشي منتصف 2011م.

ثورة مصر.. وعادت الروح سالمة على أجنحة الفراشة

ثمانية عشر يومًا فصلت بين خروج جماهيري بدا مدهشًا كحلم، غريبًا ككائن فضائي، صادمًا كيوم القيامة، هائل المفاجأة بالرغم من انتظاره في كل لحظة.. بعدما انقطع الأمل في ردة فعل تجاه عصر من الفعل السياسي الفاضح.

وإذا كانت أرض مصر قد شهدت الثورة الشعبية الأولى في التاريخ قبل 3195 عاما، فإن رواية محمد حسين هيكل «1888-1956م» «زينب» عام 1914م قد مثلت الرواية المصرية الأولى في العصر الحديث.

وشهد عام 1933م صدور رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم «1898-1987م»، وفيها بشر الحكيم بظهور ما يمكن أن يمثل المنقذ والمخلّص لمصر، والذي يمكنه العبور بها نحو الحرية.

وهي الرواية التي تأثر بها الرئيس جمال عبد الناصر «1918-1970م»، بما يمكن معه القول بأن رواية الحكيم قد حرضت الضباط الأحرار للقيام بالثورة، وتحقيق نبوءة توفيق الحكيم. وكان نجاح الثورة في يوليو 1952م، و دعم الشعب لها بعد ذلك، وتمهيد الحكيم لها روائيًا قبل ذلك كله قد جعل الرئيس جمال عبد الناصر يتوج توفيق الحكيم أبًا روحيًا للثورة المصرية.

رواية تعدل 50 كتابًا

كانت مناظرة فكرية قد جمعت عباس العقاد «1889-1964م» وعبد الرحمن الشرقاوي «1920-1987م»، تباهى فيها العقاد بكتبه الفكرية التي بلغت الخمسين كتابًا، فرد عليه الشرقاوي بقوله: «إن هذا كتاب أدبي واحد كان له دور مهم في ثورة التحرير» في إشارتين من الشرقاوي إلى روايته «الأرض» عام 1950م، وإلى ثورة يوليو 1952م. وكانت رواية الأرض قد عرضت لظروف الفلاحين بالغة القسوة والظلم، ومهدت من خلالها لحتمية تغير أحوال الفلاحين، ومن ثم أحوال الوطن، وهو ما حققته الثورة بعد عامين من صدور الرواية، فأنصفت الفلاحين، وأصدرت قوانين الإصلاح الزراعي التي جعلت «الأرض» مَلكًا لأصحابها.

روايات التحريض تواتر وتدفق

وبعد الثورة وجدت الرواية المصرية نفسها أمام أمرين: العزف على أوتار الثورة وتوثيقها، مثل رواية يوسف السباعي «1917-1978» «رد قلبي» عام 1954م، ورواية إحسان عبد القدوس «1919-1990م» «في بيتنا رجل» عام 1957م. أما الأمر الآخر للروايات التي تلت ثورة يوليو فكانت روايات التحريض من أجل الثورة على الثورة، لما رآه أصحابها من انحراف للثورة، مثل «ثرثرة على النيل» عام 1966م، و«الكرنك» عام 1971م وكلتاهما لنجيب محفوظ.

الرواية في اتجاه حتمية الثورة

كانفجار بركاني جاءت ثورة 25 يناير 2011 م بمصر، بعد غليان شعبي دفعه وآزره رصد وتحريض ثقافي وروائي متراكم.

وقد ظهرت في مصر روايات عدة حامت حول الثورة، تنوعت بين التحليق حول الفكرة الثورية، والدعوة المباشرة لها. فقد تحدثت بعض الروايات عن الفساد السياسي والاقتصادي لمصر بشكل علني مباشر، واضعة الثورة حلاً حتميًا وحيدًا للخلاص من أسر النظام. ولجأت بعض الروايات إلى استلهام التراث للتعبير بشكل خافت ومغاير للنوع السابق من روايات التحريض المباشر، وما قدمته ما يمكن تسميته «استنفار المروي عليه».

مدفعية الرواية تدك الحصون الأربعة

شهدت السنوات التي سبقت ثورة يناير 2011م ظهور عدد من الروايات التي مهدت للثورة، وغلب عليها السرد الواقعي المباشر. وقد أشارت مضامين هذه الروايات إلى محاولة السرد دفع الجماهير الشعبية نحو مواجهة أركان الفساد التي وجب التخلص منها، وهي: الرئيس وجهاز الشرطة القمعي والحاشية الفاسدة والحزب الوطني الحاكم.

ففي عام 2007م أصدر علاء الأسواني «1957- » روايته «شيكاجو»، عرض فيها لمشكلات المصريين مع أمن الدولة ،وعلاقة الأقباط في المهجر بالوطن، كما أشار إلى توتر العلاقة بين مصر والمصريين ما يعرض قيمة الانتماء للخطر.. غير أن الرواية تحدد الهدف المباشر الذي يتحتم التخلص منه وهو «رئيس الجمهورية»، ولعل ما جاء في البيان الذي صاغه المصريون المقيمون في شيكاجو لعرضه على الرئيس خلال لقائه بهم ضمن أحداث الرواية.. لعل هذا البيان - بما تضمن من مطالب - صورة تتطابق مع بيان ثورة يناير 2011م:

«نحن الموقعون أدناه المصريون المقيمون في مدينة شيكاجو بالولايات المتحدة، نشعر بقلق بالغ من أجل ما آلت إليه الأوضاع في مصر من فقر وبطالة وفساد وديون داخلية وخارجية، نحن نؤمن بأن بلادنا تستحق نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا. نؤمن بحق المصريين جميعًا في العدل والحرية.. وننتهز زيارة الرئيس إلى الولايات المتحدة لنطالبه بما يلي:

أولاً: إلغاء قانون الطوارئ.

ثانيًا: تطبيق إصلاح ديمقراطي وكفالة الحريات العامة.

ثالثًا: انتخاب جمعية وطنية لصياغة دستور جديد يكفل ديمقراطية حقيقية للمصريين.

رابعًا: تخلي الرئيس عن منصبه الذي شغله لفترة طويلة، وعدم توريث الرئاسة لابنه، وإتاحة الفرصة لمنافسة حقيقية على الرئاسة تخضع لانتخابات تحت إشراف دولي». الرواية ص 320. كان الهدف الثاني الذي توجهت نحوه سهام الرواية هو «جهاز الشرطة»، والذي مثل في الحقيقة السبب الرئيس للثورة المصرية، ودليل ذلك اختيار يوم الخامس والعشرين من يناير لانطلاق شرارة الثورة ،وهو اليوم الذي يوافق العيد السنوي للشرطة، فكانت الثورة عليهم يوم عيدهم.. ونحو هذا الهدف جاءت رواية «شماوس» لأشرف أبو اليزيد عام 2008 ليوجه فيها السرد المروي عليه إلى أن خلاصه يكمن في التخلص من الشرطة. وقد وضع السرد الشرطة في مواجهة المجتمع المصري بكل طبقاته، فقتلت الفتاة «نرجس» متوسطة الطبقة التي عاشت طامحة لحياة كريمة، وقهرت الشرطة الأكاديمي والفنان التشكيلي، بل مارست ابتزازه وتصويره في أوضاع مهينة.. فكان القهر والتجسس والتعذيب، وبالإضافة إلى القتل هناك جرائم مارستها الشرطة في الرواية، وجميعها من أدبيات الشرطة المصرية في النظام السابق. وتنتهي الرواية نهاية تتسق مع مشهد الثورة المصرية التي هاجم ثوارها أقسام الشرطة، وأحرقوا السيارات التي تقل جنود مكافحة الشغب، فقد خرج أهل «شماوس» ليهاجموا فيلا اللواء المتقاعد ثم أحرقوها، كما أشعلوا النيران بالسيارة التي حاول اللواء الهروب بها بصحبة نجله الضابط الشاب، إلا أن هبة الشعب كانت أقوى وأسرع حين أضرموا النار في السيارة والشرطة بأجيالها محاصرة داخلها.

أما الضلع الثالث في مربع الشر فكان الحاشية الفاسدة، تلك التي أحاطت بالنظام، فكانت تثري وتتنفع، والشعب حولهم يتحول إلى مشاريع ثورية.

وإذا كانت الصفة التي اشترك فيها الرجال الذين أحاطوا بالحاكم في الفترة السابقة لقيام الثورة هي أنهم رجال أعمال فاسدون، فقد جاءت رواية «هيلتون» للصحفي الشاب سامي كمال الدين «1978» التي نشرت طبعتها الأولى 2010م جاءت مصورة لواقع هذه الحاشية الفاسدة، حتى إن شخصيات الرواية قد تماهت إلى حد مدهش مع الشخصيات الحقيقية، فهو يقدم الشخصية البارزة في الرواية «سامي عبد الوهاب» على أنه «إمبراطور الحديد»، وأنه قد بدأ حياته عازفًا للدرامز.. وهي صفات مطابقة لركن النظام «أحمد عز». كما أننا لن نحتاج إلى تأويل حتى نربط بين شخصية «عبد اللطيف ناصيف» صاحب العبارة التي غرق على متنها أكثر من ألف مصري وشخصية ممدوح إسماعيل أحد رجال الحزب ورموز النظام السابق. كما أن الرواية تتطور لتبين التداعي الذي حل تدريجيًا بالنظام حتى اشتعال الثورة الشعبية في ميدان عبدالمنعم رياض وسط القاهرة. وكان علاء الأسواني قد قدم روايته المعروفة «عمارة يعقوبيان» عام 2002 م لتمهد لتدمير قلعة الحاشية. وظهرت رواية محمد سلماوي «أجنحة الفراشة» في ديسمبر 2010م، لتكون الرواية المهمة التي سبقت انطلاق الثورة بأيام، وفيها توجه السرد نحو قلعة الحزب الوطني الحاكم قبيل قيام الثورة.

وفيها أقام سلماوي اتجاهين متوازيين بين الحزب الحاكم المتهالك في جوهره والمفلس في عقيدته ورسالته من جهة، وبين التيار الليبرالي الذي يتحرك بدافع الإخلاص لقضيته والاتكاء على قوة المعرفة من جهة أخرى. ومن خلال علاقة بين القطب الليبرالي وزوجة القيادي البارز في الحزب الحاكم التي فتنها بذكائه وحيويته وإخلاصه لمعتقده، ساعدها على ذلك جفاف وفراغ حياتها مع القيادي الوطني، بالإضافة إلى تكوينها وميولها الفنية التي جعلتها تعشق تصميم الأزياء وفنون الموضة لدرجة الذهول عن حياتها الزوجية.. ويتطور السرد في صعود للاتجاه المعارض وفي انحسار وتداعى للحزب والنظام بشكل عام، لتنجح الثورة الشعبية التي ظهرت في الرواية منذ الصفحة الأولى ليكون ميدان التحرير لها مسرحًا، ولتشهد الثورة إحراق المقر الرئيسي للحزب الوطني بالقاهرة، وانتصار الثورة التي عمت ربوع مصر، وهو ما شهدته مصر في الواقع بعد عدة أيام من صدور رواية «أجنحة الفراشة».

 

«حصاد الثورة» وازدهار «أفعل التفضيل»

تشهد الأزمنة المتاخمة لقيام الثورات حالة من الرواج والازدهار بل والغطرسة تمارسها صيغة «أفعل التفضيل»، فتتصارع الروايات الصادرة قبيل الثورة على لقب «أول رواية تنبأت»، وتلهث الروايات بعد الثورة للحاق بلقب «أول رواية تؤرخ». وهكذا وجدنا ناشر رواية محمد سلماوي يضع عنوانًا ملاصقًا لاسم الرواية في طبعتها الثانية الصادرة في يناير 2011 «الرواية التي تنبأت بثورة 25 يناير».

وبعد الثورة ظهرت عدة روايات منها رواية «شمس منتصف الليل» في مارس 2011 لأسماء الطناني، بعد نجاح الثورة بتنحي الرئيس المصري السابق بنحو شهرين فقط صدرت الرواية التي أطلق عليها «أول رواية مصرية عن الثورة»، وهو منطلق رواية سلماوي السابقة نفسه «الرواية التي تنبأت بثورة يناير». وعرضت الطناني للثورة في أربعة أجزاء في سرد مزج التاريخي بالإنساني بالوثائقي، فتحدث الجزء الأول عن عصر الفساد ومدى انتشاره في أرجاء الدولة خلال العصر السابق، واختص الجزء الثاني بفساد الجهاز الأمني وقمعه المواطنين، فيما أفرد الجزء الثالث الحديث عن شباب الثورة وقيمهم النبيلة، وعودة للبعد الإنساني في الجزء الأخير في تصوير العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر.

والنموذج الثاني لرواية «حصاد الثورة» كان رواية «7 أيام في التحرير» صدرت في أبريل 2011م لهشام الخشن، وتأتي بعد شهر من رواية الطناني. وفيها يعرض الخشن للثورة من خلال رصد السرد لسبعة أيام فارقة في تطور الثورة ونجاحها، تبدأ بيوم 24 يناير 2011م وتنتهي بيوم التنحي 11فبراير 2011م، وهي رواية الفصول السبعة التي حمل كل فصل فيها تاريخ يوم حافل بالأحداث، فيما ينسج السرد قصة إنسانية يسد بها فجوات الحكي التسجيلي. وتمثل رواية «أجندة سيد الأهل» الصادرة أيضا في النصف الثاني من 2011م لأحمد صبري أبو الفتوح تنويعة في فكرة حصاد الثورة، إلا أن «أبو الفتوح» بدا فطنًا لطفولة عمر الثورة ما يصعب الكتابة البانورامية عنها في وقت لم تكتمل فيه تجربتها، بحيث يمكن القول، وبعد مرور عام على الثورة المصرية : إنها لاتزال في طور تحقيق الأهداف وتأكيد نجاحها. وبناء على هذا التصور جاءت رواية « أجندة سيد الأهل» عارضة لسيرة بلطجي يستأجره أحد رموز الحزب الوطني السابق بمصر، وترصد الرواية تحركات هذا البلطجي ونشاطه في ظلال الثورة، ومعه تبدو الثورة إطارًا وخلفية وتتصدر التجربة الإنسانية المشهد الروائي في نحو من الوساطة الفنية التوثيقية.

التهام الثمار النيئة

تجدر الإشارة إلى أن الروايات التي أرخت للثورات السابقة، مثل «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز قد صدرت عام 1859م أي عقب الثورة الفرنسية بنحو 70 عاما. كما صدرت رواية «دكتور زيفاجو» عام 1957م أي مرت 40 عاما على قيام الثورة البلشفية قبل أن تصدر رواية «باسترناك». وهكذا يصبح السباق على حصد صيغة «أفعل التفضيل» في روايات الثورة المصرية والربيع العربي - عمومًا - شَرَكًا يهدد قيمة العمل الروائي الذي آثر تحصيل اللقب على تحقيق القيمة.
-----------------------------------
* ناقد أدبي من مصر

 

محمد أبو السعود الخياري*