ملف الأدب والفن والثورة: معرض عبد الناصر.. والحلم شذرات من جيل مشروع النهضة العربية

ملف الأدب والفن والثورة: معرض عبد الناصر.. والحلم شذرات من جيل مشروع النهضة العربية

لم يكن الشعار الذي أطلقه شباب ثورة 25 يناير 2011 «ارفع رأسك فوق.. أنت مصري» مختلفاً في جوهره عن شعار الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر في ثورة يوليو 1952 «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد».. بل لقد رأينا صورة «ناصر» مرفوعة بكثرة بأيدي المتظاهرين خلال مليونيات ميدان التحرير، لتعكس معنى التواصل والتماهي بين الثورتين، خاصة مع بروز مبادئ الحرية والعدالة والكرامة على رأس شعارات ثورة يناير الأخيرة، وهي المبادئ نفسها التي قامت لتحقيقها ثورة يوليو 1952.

في هذا الزخم الثوري استرجع الفنانون التشكيليون في مصر من خزائن أعمالهم بعض اللوحات والتماثيل التي أنتجوها في عهد عبد الناصر، والتي واكبت إنجازاته وعبرت عن أهداف الثورة، مستجيبين لدعوة قاعة بيكاسو بحي الزمالك في شهر أكتوبر الماضي بعد أقل من شهر على ذكرى رحيله عام 1970، لإقامة معرض تذكاري تحت عنوان: «عبد الناصر والحلم».. ليس فقط إثبات للوفاء للزعيم وثورته، بل إثباتاً كذلك للنسب الشرعي والإبداعي بين الثورتين، ورسالة إلى الأجيال الجديدة من الفنانين ممن لم يعيشوا فترة الثورة الأولى، مفادها: هاقد جاء دوركم للتعبير عن ثورة جيلكم بأساليبكم الخاصة.

ضم المعرض الذي استمر حتى 25 أكتوبر قرابة 40 عملاً بين النحت والتصوير لعشرين فناناً ممن عايشوا فترة عبدالناصر وعبروا عنها، ومن ثم فإن أعمار أغلبهم قد بلغت سن السبعين، وإن لم يكن قد تجاوزها بكثير عدد منهم، مثل الفنان محمد حامد عويس الذي توفي بعد افتتاح المعرض بأيام عن 92 عاماً، والفنان محمد صبري الذي يقاربه في السن، والفنانين الراحلين جمال السجيني وعبد المنعم القصاص وصبري راغب، ويليهم أبناء جيل لاحق تجاوزوا الخامسة والسبعين، منهم المصور الراحل كمال يكنور والمصوران حلمي التوني وعبد الوهاب مرسي ورساما الكاريكاتير مصطفى حسين وجورج البهجوري والنحات الراحل محمد رزق والنحات عبد الهادي الوشاحي... وصولاً إلى المصورين محمد حجي ومصطفى الرزاز وعصمت داوستاشي وسمير فؤاد وإسماعيل عبد الله وكاتب هذه السطور.. وغيرهم من أبناء جيلي الستينيات والسبعينيات..

وهذا المعرض لا يعد تمثيلاً كافياً لكل الفنانين الذين انفعلوا بعبد الناصر وعصره، فثمة عشرات آخرون من كبار الفنانين، أغلبهم رحلوا عن عالمنا، وبعضهم لم يتح لقاعة بيكاسو الحصول على بعض أعمالهم لأسباب مختلفة، مما يجعل من المعرض تعبيراً رمزياً قد يظلم الفن والفنانين في تلك المرحلة، أمثال حسين بيكار، وسيف وأدهم وانلي، وعبد الهادي الجزار، وحامد ندا، وصلاح طاهر، ويوسف سيده، وعفت ناجي، وتحية حليم، وإنجي أفلاطون، وجاذبية سري، والحسين فوزي، وصلاح عبد الكريم، ومحمد هجرس، وفتحي أحمد، وعلي دسوقي، وسعيد العدوي، وغيرهم وغيرهم ممن عبروا عن رؤى وأحلام، وكذلك أحزان تلك المرحلة، ليس فحسب بمضامينها الثورية، بل الأهم من ذلك: بأساليب حداثية تمردت على الفن الأكاديمي والتقليدي، أسسوا بها حركة الحداثة في الفن المصري منذ منتصف القرن الماضي، مواكبين روح العصر بآفاقها المتسعة.

وأعمالهم توجد الآن في حوزة متاحف وزارة الثقافة وكليات الفنون، أو لدى ذويهم ومقتني الفن، ما كان يستدعي تعاوناً بين المسئولين عن المتاحف وأسر الفنانين وحائزي الأعمال والقاعة، لكننا نقدر لأصحابها شرف المبادرة وخوض المحاولة، بحسب إمكاناتهم الذاتية المحدودة، فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله.

عبد الناصر بفرشاة الفنانين

ويمكن تصنيف المعرض إلى ثلاثة أنواع أساسية، أولها يقتصر على تسجيل وجه عبد الناصر، وفي مقدمته تمثال النحات العظيم الراحل جمال السجيني، وهناك بورتريهات بالألوان الزيتية للفنانين صبري راغب، وجورج البهجوري ومحمد حجي وإسماعيل عبد الله، ورسوم بألوان الجواش أو بالأحبار الملونة أو بالحبر الأسود وحده لكل من الفنانين مصطفى حسين، وحلمي التوني وعصمت داوستاشي وسمير فؤاد ورسام الكاريكاتير الراحل زهدي... وتتراوح أساليب هؤلاء الفنانين بين الواقعية المباشرة في محاكاة ملامح الزعيم بالاستعانة بمساقط الضوء للتجسيم ثلاثي الأبعاد وبأساليب الأداء الكلاسيكي، مع إضفاء روح البطولة والشموخ على شخصيته المميزة، خاصة في لوحات محمد صبري ومحمد حجي وإسماعيل عبد الله، وكذا في تمثال جمال السجيني، وبين النزعة التعبيرية بخطوط قوية موجزة وأحياناً رامزة «لكاريزما» الزعيم، مثل أعمال مصطفى حسين وحلمي التوني وعصمت داوستاشي وسمير فؤاد، وقد تصل إلى المبالغة الكاريكاتيرية خاصة في لوحتي جورج البهجوري.

إنجازات عصر الثورة

النوع الثاني يمثل موضوعات من إنجازات العصر الناصري ترتبط بالقضايا الوطنية والسلام العالمي والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وبناء السد العالي وخطوط السكك الحديدية، بأسلوب واقعي رصين يحتشد بالتفاصيل وبالقوة ورسوخ البناء ومتانة التكوين وزهد الألوان، وفي مقدمة هذا الاتجاه لوحتان للفنان الراحل محمد حامد عويس، أولاهما رسمها عام 1956 وتمثل عبد الناصر في صورة عملاق تحيط به جماهير الشعب في حشود هائلة، والثانية تصور فلاحاً شامخاً كالطود، وهو يحتضن منجزات الثورة ويحميها بمدفع، فيما تمثل اللوحة الثالثة مشهد عبور حرب أكتوبر 1973، التي مهد لها «ناصر» بحرب الاستنزاف الطويلة، ونرى جندياً مدججاً بالسلاح حاملاً شوكة هائلة ينقض بها على دبابة للعدو، في جو من المهابة الأسطورية.

إلى هذا الاتجاه ينتمي كذلك الفنان محمد صبري، بلوحته العملاقة «مؤتمر باندونج» التي يسجل فيها جلسة تاريخية لمؤتمر عدم الانحياز، حيث يقف ناصر شامخاً يلقي خطابه من منصة المؤتمر، وأمامه يصطف قادة عدم الانحياز من دول آسيا وأفريقيا، وفي مقدمتهم الزعماء التاريخيون نهرو ونكروما وسوكارنو وتيتو وغيرهم، وقد نفذت بأسلوب شديد الواقعية والدقة، في جو تاريخي ينقلنا إلى مستوى مبادئ المؤتمر.

وإليه أيضاً ينتمي الفنان الراحل عبد المنعم القصاص (1924 1995) بلوحته التي تصور مشهد جنازة الزعيم، بحشود بشرية بغير حصر، يتوسطها الجثمان ملفوفاً بالعلم المصري محمولاً فوق الأعناق، جامعاً بين مشاعر الحزن والمهابة والجلال.

وكذلك لوحات الفنان الراحل كمال يكنور (1925 حوالي 1997) بأحجامها الكبيرة وألوانها الداكنة الموحية بعراقة التاريخ.. وتصور إحداها عمال السكك الحديدية وهم يثبتون القضبان أو ربما يحولون الطريق أمام القطار القادم وكأنه قطار التنمية والرخاء والتقدم، والثانية تصور شهداء لمقهى شعبي يتجمع فيه الكادحون خلال فترة الراحة، فيما تصور الثالثة عروساً شعبية قمرية الوجه، ترمز لمصر كشجرة وارفة وقد أحاطت بها الزخارف الفلكلورية، وربما يشوبها قدر من التنميط الزخرفي الجامد.

مضامين مركبة

النوع الثالث يتجاوز فكرة الموضوع البسيط إلى المضمون المركب، متفاوتاً بين الملحمية والتعبيرية التجريدية والرمزية.

في لوحة مصطفى الرزاز ذات الحس الملحمي، نرى صفوفاً بشرية وعرائس شعبية، تحلق فوقها وجوه أسطورية غامضة، وينتصب أمامها جسم شخص هائل الحجم، وبالرغم من شدة الزحام فإن نــــظاماً صارماً يوحد بين الجموع ونكاد نسمع من خلاله صوت هديرها وهي تهتف بحياة الزعيم الذي لا تتضح معالمه. وفي لوحة أخرى أنجزها بعد ثورة 25 يناير اعتمد على أسلوب القص واللصق (الكولاج) لقصاصات مجتزأة من صور فوتوغرافية لأعماله القديمة. وشكل بها جموعاً بشرية وفرساناً وخيولاً تصطف في صفوف أفقية ممتدة ومتوازية، بلون واحد هو الأسود الرمادي، وثمة عنصر وحيد بالألوان الثلاثة للعلم المصري تتوزع وحداته كرقع متفرقة بين الصفوف المتوازية، دالة على مسيرة الشعب منذ 1952 حتى 2011.

ويقدم عبد الوهاب مرسي لوحة واحدة توحي بالبناء بمعناه الشامل، نفذها بأسلوب «التعبيرية التجريدية» ومعتمداً على عناصر واقعية من عوارض الحديد والأخشاب وهي تتقاطع وتتوازى مكونة زوايا مختلفة، فيما تتخللها وتشتبك معها أشكال عضوية توحي بأشخاص. وأعطى اللونان الوحيدان في اللوحة (البني والأسود) نوعاً من التغريب والغموض التعبيري مولداً الدهشة والإثارة.

وتأتي لوحة النحت البارز على النحاس للفنان محمد رزق (1937 2008) في إطار تعبيري حول مضمون البناء والتعمير، وقد تداخلت العناصر البشرية مع أدوات العمل والبناء بخطوط ديناميكية جياشة بالحركة كالدوامات، دون الإفصاح المباشر عن ملامح واقعية.

كما يأتي التمثال الوحيد لعبدالهادي الوشاحي مثل رمح يشق الفضاء وينطلق عمودياً بجناحين.. سامقا متطاولاً دون أي تفاصيل، باستثناء نتوء بين الجناحين يوحي برأس إنسان أو طائر، وقد قام فوق ساقين قصيرتين كقاعدة صاروخ، وكأن الفنان يلخص بتمثاله فكرة حلم الثورة المستمرة.

وفي سياق رمزي يقدم كاتب هذه السطور لوحتين، إحداهما من مرحلة بناء السد العالي، والأخرى بعد نكسة يونيو 1967، وفيها يرمز لمصر فترة حرب الاستنزاف بفتاة تقدم وشاح النصر إلى عامل يحمل ثقلاً على كتفه، وإلى شهيد مسجى بامتداد أعلى اللوحة، وفي بؤرة التكوين نرى مغنيًا يحتضن عوده وقد تدفقت من خلاله حروف أغنية للصمود تغطي الوشاح الأخضر والفضاء الدائري بين المغني والفتاة.

هذه الأعمال جميعاً.. ما هي إلا شذرات خاطفة من حقبة تاريخية بالغة الأهمية في مسار الفن التشكيلي المصري، تمثل الحلم النبيل للمشروع القومي للنهضة العربية، كما تمثل عمود الارتكاز لحركة الحداثة الفنية بانفتاحها على العالم الجديد، والتي ولدت من رحمها أجيال متلاحقة من الفنانين.
---------------------------------
* فنان تشكيلي من مصر

 

 

عز الدين نجيب*